شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
اللون الأخضر (1)
بقلم: محمد عمر توفيق
عرفته شاعراً من الرعيل الأدبي الأول في هذه البلاد، ولم أقرأ له كما أذكر الآن إلا ما نشر في ((وحي الصحراء)) وهو مجموعة من الشعر والمقالات جمعها ونشرها الفقيد محمد سعيد عبد المقصود يرحمه الله.
وأذكر اليوم أن ما نشر في ((وحي الصحراء)) من نظم فقيد اليوم لم يكن كثيراً ولكنه رقيق يذوب حس الشاعر فيه..
ثم انطوى الشاعر على نفسه فلم يرفع صوته بين أصوات أخرى كانت ترتفع من جماعة الرعيل الأول أحياناً في ((صوت الحجاز)) - وأحياناً في غيرها، ثم لم يلمع اسمه في دنيا الشهرة كما لمعت أسماء بعضهم. وكنت كذوي الأعصاب الحارة في تلك الأيام - لا أؤمن بأن الشهرة أو النجاح قد تبررهما مواهب أخرى (؟!) غير موهبة الثقافة أو المعرفة لو لم يكن في الموازين خلل واضطراب.
ومضت أيام.. وضمني مجلس بعمر عرب.. وأخذ يقرأ عليّ شعراً من نظمه لم اقرأه له من قبل فازددت إيماناً بالشاعر الرقيق، وتذكرت بعض شعراء العصر العباسي ممن لعلّه قد تأثر بهم، ولكنه لم يذب فيهم كما يذوب بعض المقلدين فلقد كان حياً في شعره، ولن يفوت قراء هذا الشعر أن ناظمه من أبناء هذه البلاد في عهد معين هو العهد الذي عاش فيه عمر عرب.
ثم ماذا؟
لقد خيّل إليّ أنه كان يضغط مشاعره لتبدو ملامحه رقيقة باسمة وأنه كان ينتزع صوته من قلبه وهو يترنم بالشعر.
ما الذي وراء هذه اللامح.. في قلب الشاعر الرقيق؟ وظل الجواب غامضاً..
ومضت أيام وما أسرع ما تمضي الأيام وقدر الله أن ترتبط حياتي بنفس المجلة التي ارتبطت بها حياة عمر عرب وسأذكر دائماً أنه هو الذي رشحني لهذا الارتباط وأنه كان فيه الرئيس المباشر وإن لم يتركني قط أعاني هذا الشعور، فلقد كان يضع الزمالة بيننا فوق كل اعتبار وهي مزية فاضلة منذ كان للشكليات اعتبارها غالباً.
واتخذت علاقتي بعمر عرب طابع الصداقة، فكنت أنزله من نفسي منزلة الأخ الأكبر، إلا أنه كان يقدم الزمالة.. بيننا في هذه العلاقة ايضاً على كل اعتبار.
وعرفت بالتدريج من دخائله الكثير، فعرفت الذي كانت تخفيه ملامحه ويتنفس به صوته من قلبه؛ حتى لقد أحسست أنه يعيش معنا بظاهره أما ما وراء ذلك فقد كان حيا ويعيش في دنياه، وهي دنيا يمتحن الله بها الكثيرين غير أن المزاج الذي انطوت عليه نفس الشاعر الرقيق كان من نمط شعره يذوب في دنيا الأسى والامتحان..
وهو بالإضافة إلى مزاجه لم يكن شريراً بل كان يخاف الشر وكل ما قد يؤدي - أو يحتمل أن يؤدي إلى الشر؛ ولهذا كان يبعد عن الناس وإن اقتربوا منه، لا لأنه مغرور أو على كبرياء بل لأنه كان يتطلب النجاة في دنيا القال والقيل وهي دنيا لا يسلم فيها إِلا المصانع أو المداجي. ولم يكن في طبعه هذا النفاق ولهذا لم يدس أنفه في كل شيء حتى ما قد يلوح أنه يمسه أو يمس من يعنيه أمره. كان يتورع عنه إِلا بما لا يتعدى اللمس والإيماء، كان يكره الشر ويخاف الأذى وندر أن يسلم من الشر والأذى من ترتبط علاقاته بالآخرين في نظامها المعروف.
ثم افترقنا.. ومضى في اتجاه.. ومضيت فيما أنا فيه غير أنه ظل حيث هو في قوقعة نفسه ودنياها الصامتة حتى استحال وكأنه شبح توارى عن الأنظار.
وأشهد اليوم أنني قصرت فيما له عليَّ من حق الصديق للصديق إن تجاهلت حق الزميل والرئيس فكأنما كان حسبي من الوفاء إنه بين الأحياء حتى وافاه أجله المحتوم.
ولا يفاجئ الموت أحداً بشيء جديد في الواقع لأن الحقيقة الثابتة فيه هي أنه آت لا محالة وإن تعددت الصور والأسباب، غير أنني - وأنا أسمع نعي الناعي لعمر عرب - شعرت بهول المصاب وكأنه لم يكن متوقعاً في نظري.
وعندما مضينا لنواريه التراب خيل إلي أن الشعور بالمفاجأة يملأ نفوسنا.. من يدري لعلّ هذا كان من شعورنا المشترك بمدى الوفاء الذي كان حسب الفقيد منه إنه كان معنا على وجه الأرض.. ولعلّ هذا كان في نفس كل من شيعه لمثواه الأخير فما كان بينهم من يمشي - كما أظن إلا لشخص الفقيد بعامل الوفاء الذي كان حظه منه في حياته كحظه هو من هذه الحياة.
لقد عاش وحده وأشهد الله أنه لم يؤذ أحداً ولم يتعرض لأحد بما يكره.. عاش في نفسه. ومات فيها أيضاً، فلم تسبق موته مقدمات طويلة يتناقل الناس أخبارها، فيكون لهم منها شاغل بالفقيد وبما شذ به عن قاعدة الذهب في علاقاته بالناس وهو موشك أن يستدبرهم.
وعبرة الموت في مفاجأته وصورته الخاطفة هي أن من يصبح قد لا يمسي ومن يمسي قد لا يصبح وهذه قاعدة يعرفها الحي بغريزته وكل ما فيه، أفتراه يحيا على ضوء هذه القاعدة؟ كلا لأنه يجهلها أيضاً بغريزته وكل ما فيه، حتى تهزه مفاجأة كمفاجأة موت الفقيد عمر عرب ثم لا يلبث أن يصحو بعد أن يواريه التراب ليعيش فوق التراب وبمنطق التراب. وبعد فإن كل ما أرجو به الوفاء للفقيد الراحل على حسرة في نفسي لأنني قصّرت في هذا الوفاء من قبل - هو أن أسأل الله له المغفرة والرحمة من كل قلبي.
اللَّهم يا غافر الذنب يا قابل التوب يا من تغفر لمن تشاء وتعطي من تشاء بدون حساب إرحم عمر عرب واغفر لعمر عرب وأعطه برحمتك - من خيرك المكنون في دار النعيم ما تدّخره لكل من ترضى عنه. يا الله!!
رددوها معي وقولوا آمين.
محمد عمر توفيق
 
طباعة

تعليق

 القراءات :803  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 29 من 37
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة بديعة كشغري

الأديبة والكاتبة والشاعرة.