شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
نقد المطلع
بقلم الشاعر الأستاذ الكبير محمد حسن عواد
(كتبه عام 1369هـ)
لقد جاوزنا الطور الذي كانت تملي علينا فيه الظروف ضرورة الشرح الطويل لإقرار معاني الشعر والشاعرية في نفوس قراء الأدب الحديث وتركيز أهداف الشاعر الفني في أذهان الذين كانوا - وما زال قليل منهم - لا يفرقون بين الشعر والنظم، وبين القيم الفنية وأغراض القول الرخيص الممسوخ.
جاوزنا ذلك الطور، لأن عشرين أو خمسة عشر عاماً من الزمن أكدنا فيها هذه الرسالة كانت كافية جداً لأن ترفع المستوى الأدبي إلى درجة يرتاح لها المخلصون بعض الارتياح، ولأن تبرز نتائج تلك الرسالة في أعمال فنية تختلف قوالبها بين القصيدة والقصة، والمقالة والبحث، كما يكيفها الهدف الأدبي أو كما تكيفها طبيعة الدافع الفني. وتلاشى أو ضآلة على الأقل ذلك الفريق الذي كان يعرِّف الأدب - والشعر بأنهما ضروب من القول موزونة أو مقفاة أو مرسلة، وحل محله - كما كنا نتمنى ونحاول أن يكون - الفريق الذي يعرِّف الشعر والأدب بأنهما ضروب من الفكر والشعور يعتز بهما الإنسان، ويسعى لأن يرفع بهما شؤون نفسه أو شؤون قومه أو شئون العالم سواء كانت نفسية أو اجتماعية أو فنية.. هذه الشؤون ولا شأن لها بعد ذلك بالوزن والقافية إلا كشأن الرجل بلباسه الخارجي الذي لا تتوقف على لونه وشكله إنسانيته ولا رجولته.
ذهب الفريق الذي كان يقول: إن الشعر هو الكلام الموزون المقفى.
ووجد الفريق الذي أصبح يقول:
وما الشعر إلا الشعور العميق تصعد في النغم الساحر (1) .
فالشعر روح عات متمرد - كما قلت في كتابي "خواطر مصرحة"، وليس هو جسماً من اللفظ تسكنه المعاني العابرة، فإنما هو الذي يسكن النفوس بدلاً من أن تسكنه المعاني، ولا كل النفوس يسكنها الشعر.
كان يكفي لكي يسمى المرء شاعراً أن يأخذ قرطاساً وقلماً ويجلس منفرداً أو غير منفرد وقتما يريد، ثم يتصنع التفكير أو السهوم أو تصيد الخيال من حيث لا يعلم، لأنه لا يحس في داخل نفسه بدافع يوحي إليه أي شيء ثم يأخذ بعد ذلك في كتابة سطور ممسوخة الأوساط متشابهة الأواخر لا فكر وراءها ولا شعور، ثم هذا هو الشعر وهذا هو الشاعر، وعلى الفكر والفن العفاء، وويل للكافرين بهذا الهراء (2) .
فإذا قلت لهؤلاء وأشباه هؤلاء إن الشعر الذي يخلق الشاعر وليس الشاعر الذي يخلق الشعر.. حملقوا إليك بعيون حائرة تصور دهشة واستنكاراً لأن أفهامهم لم ترتق إلى تصور أن الشعر شيء أكبر من الألفاظ والمعاني والأوراق والأقلام.
لا.. لا.. نقولها ونفعلها.
بل إننا قد قلناها قوية الصوت وفعلناها سارية التأثير أيها المؤمنون بهذا الأدب الفسل والعاضون بنواجذهم على ذلك الحطام.
والآن وقد خنق العصر هذا الفهم المرتكس، ونشر جهاد الثقافة على انقاضة الفهم الصحيح المستوى لحقيقة الشعر والأدب ودرج الناس على قبول هذه الحقيقة التي روضت نفوسهم بعد الحجاج، وأخذ بعض الشبان المتأثرين بهذا الجو العبق ينشر شعره، على هذا الأساس فلم يكن ظهوره مفاجأة تستوجب الدهشة والاستنكار.
من هذا الشعر ديوان صديقنا الفاضل الأديب الأستاذ إبراهيم فودة الذي بين أيدينا وهو ديوان يمثل البساطة في الأداء الشعري كما يمثل الطبيعية في الشاعرية، ويعبر في أكثر القصائد ومقطوعاته الوجدانية والنفسية عن إحساس صادق لا يفسده التمويه الذي يَنُمَّ عن نفسه ويحسبه أصحابه أنه لا يَنِم كما في كثير من القصائد المبذولة التي ينكرها الشعر وينكر أصحابها كشعراء إلا في المظهر العام الذي يشترك فيه الشعر الحقيقي والشعر المُدَّعي اشتراك القرد والآدمي في الهيكل العظمي.
وفي الديوان حسن استجابة وحسن تلق لرسالة الأدب الحي التي كرس له عباقرته، وهذا ما حمل الأستاذ الشاعر على أن يصرح في مقدمة ديوانه أنه لم يتتلمذ على أحد الشعراء. نعم إنه لكذلك بالنسبة للدراسات المباشرة، ولكنه ليس كذلك بالنسبة للإطلاع على ما نشر من الدعوة الحارة للفن، وبالنسبة للتزود من حقل الحياة الأدبية الذي زرعته قبله وأمام عينيه جماعة قوية من كبار الزارعين. وإن هذا الحقل لمفتوح الأبواب غير محصن بالسياج لمن شاء دخوله من الأذكياء والمستعدين. ومن أفضل مزايا هذا الحقل أنه لا يطالب أحداً بالانتساب إليه لأنه لا يخرج عن حدوده إلا أولئك الذين يرعون الكلأ كما ترعاه الماشية.
وأسس التجديد في شعر صديقنا إبراهيم هي الأسس التي لمسها الناس في شعر إخوانه من رجال المذاهب الشعرية الحديثة وهم معروفون هنا، معروفون بعد أن كانوا منكورين، ومحترمون بعد أن كانوا مطاردين، بل هم اليوم رجال الأدب الذين يشرفون سمعته بعد أن كان ما كان مما لست أذكره.
فيا لسخرية الأقدار التي تضحك حين يقدر الناس ما يُقَدِّرون مما ليس يدخل في حسابها المرسوم.
وبعد هذه التحية الحارة لرفيق من رفقاء مذهبنا في الأدب، لا يسعني إلا أن أكون معه صريحاً ناصحاً للفن في أثره هو وفي أثر الفن العام فألفت نظره إلى ما في الديوان من تهافت مندس بين بعض قصائده تاركاً الشرح لأستاذية الشاعر الصديق ولفن القارئ الأديب، وأكاد أجزم أن ليس مصدر هذا التهافت شاعرية الشاعر الحاضرة فقد يكون هذا الشعر مما نظمه الشاعر قبل العشرين ولم تمكنه ظروفه النابتة التي وصف بعضها في مقدمة الديوان أن يراجعه بعد أن جاوز منتصف العقد الثالث. وقد يكون للمطبعة يد سيئة جداً في إلقاء هذه المزالق على غير عمد في طريق الديوان (*).
ومقطوعته التي عنوانها "إلى شاعر كبير" لا ندري لماذا لم يصرح باسم هذا الشاعر مع أنه لمح لبعض صفاته النفسية فيما نظن بقوله عنه أنه "شاعر الحجاز" وذكر لوازم ربما كانت من مظاهر فن هذا الشاعر لأنه أحاطها بأقواس كلفظتي (أبلو)، و (الالمب) ولا نحب أن يزعم كل شاعر في الحجاز أنه هو المعني بها انتهازاً لفرصة هذا الابهام وعدم التصريح بالاسم، وحبذا لو صرح به وخلصنا من الظنون وخلص نفسه من الأسئلة في هذا المجال. ثم ما معنى قوله تحت العنوان أنها (أي المقطوعة) لم ترسل لأحد.. فهل نظمت لغير غرض إذن؟ (*).
ولكن كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه فمن ذا الذي ترضى سجاياه كلها؟ كما يقول الشاعر القديم الذي عكسنا وضع مصراعي بيته عن غير قصد وما كنا راضين بهذا النقد لولا أن صداقة الشاعر تحتم علينا الإخلاص له، ومتانة خلقه وجنوحه إلى الصراحة يسمحان له بتلقي هذه الملاحظات بحلم وقوة، والثقة المتبادلة بيننا وبينه توحي إلينا تلافي جوانب الضعف من قريب قبل أن تؤخذ من بعيد على الشاعر والناقد على حد سواء.
ومهما يكن من شيء فهذا شعر حديث يستحق القراءة والدرس ويستحق الإصغاء بالأذن التي تصغي للموسيقى وهو مستحق بعد ذلك أن يعتز به في شعر الجزيرة العربية فيما تعتز به هذه الجزيرة من شعر شعرائها الحديثين.
فمرحباً بالشعر. ومرحباً بالشاعر.
ومرحباً بالحياة الفنية الصادقة التي لا يكذب الناقد على نفسه وعلى الناس إذا استقبلها بقوله يصف هذا الأثر منها:
هذا شعر!…
محمد حسن عواد
28/11/1369هـ- 11/9/1950م
* البيت لصاحب الديوان.
* للحقيقة: فإنني أقدم للقارئ الذي يجد من حديث الأستاذ تجنياً على هذا الديوان الماثل بين يديه معذرة عن الصديق فلعل له عذره فيما قال بالنسبة لبعض ما حذفته أو هذبته، ولكنني أبقيت رأيه هنا على ما قال أثر مطالعة لنسخة غير متكاملة من الديوان في صورته المطبوعة عام 1369هـ بما فيها من أخطاء مطبعية لم يجعل لها (جدول تصويب) آنذاك ويكفيني من كرم الأستاذ الصديق ما قاله في آخر حديثه عن تلك النسخة نفسها.
* للتاريخ: داعب الشاعر صديقه الأستاذ العواد بهذه القطعة مرتين: مرة حين نظمها مداعبة له على أثر صمت طويل عن نشر إنتاجه، ولكن هذه المداعبة لم تكمل إذ لم يرسلها إليه بالفعل. ومرة ثانية حين تفضل الأستاذ الصديق فاقترح أن يكتب مقدمة لهذا الديوان فعلق عليها الشاعر بأنها لم ترسل لأحد مريداً بذلك استثارة الأستاذ الصديق إلى النقد، وقد أفلح فيما أراد، ومزح ولم يكذب، وبَعُدَ بذلك عن استعطاء الثناء أيضاً.
* للحقيقة والتاريخ: ناقش الناقد الشاعر في التلمذة المباشرة وغير المباشرة، فإذا أراد المعنى العام فليس موضع خلاف ولا حديث، أما... إذا أراد التخصيص المحلي.. فيؤسفني أنه منذ الخلافة العثمانية لم نجد لمن سبقونا ما يكون مادة ثقافة أدبية بمعناها الخاص، أما الذين أدركناهم ونعتبرهم في المعاصرين رواد النهضة الأدبية الحديثة في بلادنا، والفرق بين الشاعر ولِداته وبينهم لا يزيد عن عشرين عاماً مما يجعلهم امتداداً لمجموعتهم ويجيء الأستاذ العواد مقدمتهم بلا شك، فلم يكن لهم إذا لم تكن بين بعضهم تلمذة مباشرة ما يصح أن يكون مادة ثقافة للآخرين وإن اعتبر من الحوافز الزمنية والاجتماعية، ومع الأسف مرة أخرى فإنه حتى الآن ليس لنا ولا لأحد من بعدنا ما يعطي هذا المعنى، وإننا لنتطلع في شوق إلى اليوم الذي تسهم فيه بلادنا بما يصبح مورداً من موارد الثقافة العربية المعاصرة كما أسهمت من قبل فيما كان مقومات الثقافة العربية العامة.
وقد تهيأت لنا منذ الآن - بالرغم من كل الظروف - وسائل للمعرفة والنشر والصحافة والإعلام، فلنأخذها هذا المأخذ ولا نضيعها تزجية وملء فراغ من النفس والوقت.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1195  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 9 من 1288
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

محمد سعيد عبد المقصود خوجه

[حياته وآثاره: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج