شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أين مكان الأدب، عندما تهيمن الأحداث
ظل هذا السؤال يهاجسني - إنِ صح التعبير - طوال تلك الفترة التي توهّمت أني أستطيع أن أفرغ فيها لدراسة عطاء أبنائنا، الذي أصبح كثيراً وكبيراً بكل معيار طوال ما يقرب من عقد من السنين.. وأقول (توهّمت)، لأني زعمت لنفسي شيئاً من الحق في أن أترك الأحداث في أيدي أولئك الذين أشعر أنهم بلغوا - بما بذلوا من جهد وما أتيح لهم من إمكانيات الاتصالات والعلاقات العامة المتطورة تكنولوجياً - درجة التخصص الذي لم يعد في وسعي، أو في وسع أستاذنا محمد حسين زيدان أن نقترب منه إلاّ متطفلين. ولكن قد يحسن بي أن أعترف، بأني (مدمن تعاطي) الكتابة عن الأحداث السياسية إدماناً أشعر أنه يمتلكني إلى حد قد لا يختلف كثيراً عن حالة الاستعباد التي يقع فيها مدمن تعاطي المخدرات.. بمعنى أني حين ألجم قلمي عن الكتابة عن الأحداث السياسية، أجد نفسي، أتعقّب الأخبار، في الصحف، والإذاعات، والتلفزيون، تعقباً فيه من اللهفة أكثر مما فيه من الرغبة، في الاستماع أو القراءة أو المشاهدة.
ولهذا الإدمان سببه المتمكن، أو المتعمق، أو الرابض في تلافيف الذهن، وهو أني - كما قد يعلم الكثيرون ومنهم معالي الأستاذ جميل الحجيلان أيام وزارته للإعلام - كنت المَعنيَّ بكتابة التعليق السياسي يومياً، ليذاع من إذاعة المملكة، والسياسة في تلك الأيام كانت صراعَ (ديكة) بيننا في المملكة، وبين (أحمد سعيد في صوت العرب) ومحمد حسنين هيكل في مقاله (بصراحة) في الأهرام.. وقد استمرت مسؤوليتي عن كتابة هذا التعليق، ليذاع أو ينشر في الصحف، طوال فترة ربما تجاوزت خمسة عشر عاماً. وصراع الديكة كما كنت، وما زلت أسميه، يحتاج أول ما يحتاج إلى التمكن من فن استعمال المخلب، مع القدرة على اقتناص الثغرة، فيما يجعجع به في صوت العرب (الأستاذ أحمد سعيد)، وما يتفنّن في اللف والدوران حوله من القضايا الأستاذ محمد حسنين هيكل في مقاله في الأهرام، حتى لو كانت قضية عدم وجود (الفول) في الأسواق، لأنّ الدولة تصدّره طلباً للعملات الصعبة.
ومع الأحداث، في أيامنا هذه، أجد نفسي أتساءل أين.. وكيف يمكن أن يكون للأدب مكان، ونحن نواجه أحداثاً ضخمة ومتفجّرة، يتزايد انتشار رائحة البارود وما في حكمه منها ليس يوماً بعد يوم، وإنما لحظة بعد لحظة من ساعات الليل والنهار؟
والسؤال الذي يفرض نفسه - في نفس الوقت - هو، ما هي جدوى الكتابة عن هذه الأحداث، رغم ضخامتها وتفجّرها؟ ما هو الأثر الذي يمكن أن يتركه مقال أو سلسلة مقالات، تكتب عن هذه الأحداث؟ وللإجابة عن سؤال كهذا، لا أتردد في أن أصفه (بالسخف والغباء).. إذ لا يعني أقل من إلغاء أخطر سلاح من أسلحة أي دولة تواجه تحديات، لا بد من التصدي لها، وهو سلاح (الإعلام)، وإذا قلنا (الإعلام) فلا مكان في هذا الجهاز إلاّ لهذه الأقلام التي يجب أن تجد مواقعها في ساحة الوغى، وأن تؤمن - وأضع خطاً أحمر تحت كلمة تؤمن هذه - بانتمائها الصلب والعنيد لهذه الأرض.. والأرض هي الدولة، حكومة ومواطنين.
وبطبيعة الحال، تتفاوت درجات الخطورة أو الأهمية بين هذه الأحداث، ولكن لا شك إطلاقاً في أن أهمّها في تقديرنا - في المملكة العربية السعودية - مواقف الدولة الشقيقة المسلمة، التي قدّر لها أن تقع بين براثن نظام حكم تهيمن عليه طائفة وجدت مصلحتها في أن تسلم قيادها لمخلوق أسبغ على نفسه، أو أسبغت عليه طائفة المنتفعين من صفات التقديس و (الروحانية) المزعومة، ما كاد يبلغه عند العوّام من أبناء إيران، درجة (الألوهية) المطلقة، بحيث لا ترد له كلمة، ولا يناقش في حكم، ولا يرفض له رأي، ومن حقوقه التي سلّمت له بها الطائفة أن يسيّر مئات الألوف من أبناء الشعوب الإيرانية إلى مطحنة الحرب مع العراق، وقد ضمن لكل منهم - بغض النظر عن سنه، وقدراته، واستعداده - (الجنّة) في نفس اللحظة التي يسقط فيها قتيلاً في أرض المعركة.
وقد سيّر مئات الألوف فعلاً.. ومن هذه المئات من الألوف أطفال، (بمعنى الكلمة) لا يزيد عمر الواحد منهم على تسع إلى عشر سنوات.. وأقنع الآباء والأمهات أن كل من يقتل منهم مصيره إلى الجنة.. وانطلت المزاعم الباطلة على المتخلفين - وهم النسبة الكبرى من أبناء الشعوب المغلوبة على أمرها، فبلغ من الاقتناع الذي وسوس به هذا الإبليس أن كثيراً جداً من بيوت الأطفال الذين قتلوا في المعارك كانت تحتفل بأخبار القتلى الأبرياء، احتفالها بأفراح الزفاف.
لنا أن نقول إن تلك قضية لا علاقة لنا بها من أي نوع.. إن من يريد أن يقتل مقتنعاً بأنه ذاهب إلى الجنة على أساس من وثيقة أو شهادة أو جواز الخميني قد اختار ما يطيب له.. ولكن علاقتنا بهذه الحرب التي استمرت ثماني سنوات، وقد صمد لها العراق العظيم ببطولات أبنائه، صموداً سجّل التاريخ أنه النادر المثال، في تاريخ الحروب العربية، بل والإسلامية، منذ مئات السنين.. علاقتنا بها أصبحت علاقة عضوية مباشرة، منذ شهد وادي إبراهيم، ورحاب بيت الله الحرام، تلك المغامرة الحمقاء يمارسها عملاء إيران أو هم أبناؤها، فيستبيحون أعظم مقدسات الإسلام بالعبث الأحمق، الوحشي، فأريقت دماء ذلك العدد الكبير من القتلى، ولا غرض أو غاية إلاّ (الدعوة) لخلافة الخميني، أو سلطانه على الحرمين أولاً ثم على الإسلام والمسلمين.
قُتل الذين قتلوا في ذلك الحادث الأرعن وكشفت أجهزة الأمن، بالصورة والصوت، محاولة سبقت أحداث العام الماضي.. فيها - لولا أن الله لطف بالمسلمين - تفجير تلك الكميات الهائلة من المتفجرات، في ساحات البيت الحرام، أو في شوارع الوادي، ولا غرض مرة أخرى، سوى (فرقعة) تقول للحمقى من الذين آمنوا بألوهية هذا الدجال الكبير أنه هو أمل الأمة الإسلامية، وحكمُه هو الحكم الذي يجب أن يسود ويهيمن، وذلك هو محتوى ومفهوم (تصدير الثورة الإسلامية) إلى المسلمين.
وهنا يحسن بي أن أقف وأستوقف القارئ، متسائلاً عن المنطق في اقتناع طوائف من المسلمين، في أكثر من بلد إسلامي، بمبادئ هذه الثورة التي يعمل على تصديرها الخميني.. ما الذي وعدت أو تعد به هذه الثورة؟ لم أر أي كتاب من كتبه التي يقال إنها انتشرت في أكثر من بلد من بلدان العرب والمسلمين.. ولكن أذكر أن من قرأها قال لي - وباقتناع أيضاً - إنها الثورة التي تعود بالمسلمين إلى ما كان عليه المسلمون في عهد النبوة والخلفاء الراشدين..) ثم يضيف هذا الذي يعتقد أن الخميني سيحقق هذا الحلم: (إن الخميني يا أستاذ.. لا ينام على سرير.. وإنما على (لحاف قديم، على الأرض، وكل ما يكسو أرض الغرفة (حنبل) مهترئ يستقبل عليه من يطلبون لقاءه من كبار وأعيان الشخصيات السياسية الأجنبية.. على هذا الحنبل.. وهو على هذا اللحاف.. أليست هذه هي صورة للخليفة عمر بن الخطاب، الذي رآه مندوب إحدى الدول نائماً عند باب المسجد على الأرض، متوسّداً ذراعه.. فلم يملك المندوب إلا أن يقول تلك الكلمة التي ما زلنا نحفظها وهي (عدلت.. فأمنت.. فنمت). أليس هذا هو الإسلام على حقيقته وفي جوهره الأصيل؟ إن الخميني يصدِّر هذه الثورة، بمواصفاتها التي يجسّدها هو نفسه وقد رآه مئات من زائريه، بهذه الصورة دون أي تغيير). ثم يسترسل من يقول هذا الكلام فيضيف: (لقد طال بالمسلمين ما يعانونه من بؤس.. وظلم، وامتهان للكرامة، وجوع وتمزّق.. وضياع في الأزقة والشوارع، جرياً وراء كسرة خبز يسدّون بها رمقهم.. بل لقد طال انتظارهم لمن يمارس الحكم بصدق مع نفسه، ومع من يحكمهم من البشر.. فإذا ظهر الخميني، بمبادئ العدل، وبكل ما في الإسلام من جوهر سلوكياته، فأهلاً وسهلاً بثورته. وها هم الذين آمنوا بمبادئه.. هاهم في بلدان المسلمين، يتكاثرون يوماً بعد يوم، وسوف لن يطول انتظار اليوم الذي تخفق فيه راية الخميني، على مدن الدول الإسلامية كلها.
ويزيدني محدّثي أفكاراً، وهو يقول: (أمّا هذه الحرب بينه وبين العراق - بغض النظر عن حكاية الذي بدأها - فهي البداية.. هي التمهيد لزحفه على الأرض العربية كلها. وليس ليستعمرها كما يقول الذين يقولون، وإنما ليعلّم المسلمين كيف يكون الحكم الإسلامي، وليزحف، بعد أن يقضي على أنظمة الحكم الفاسدة الفاسقة في هذا العالم العربي.. ليزحف إلى فلسطين.. فيقذف باليهود في عرض البحر).
ولا يرى محدثي ما يستحق التنديد أو الاستنكار في تلك الخزعبلات، والدجل والشعوذة التي يمارسها الملاّوات، على أبناء الشعوب الإيرانية.. لا يرى ما يستحق الملاحظة على جواز المرور إلى الجنة للذين يسقطون في ساحات المعارك الخاسرة التي ظل يدفع فيها وإليها زهرة الشباب الإيراني.. وأشعر أني أكاد (أنفلق)، حين يقول محدّثي - بمنتهى الثقة - إنهم الشهداء.. والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون..
تلك صورة، كان لا بد من رصدها، ونحن نسمع ما يتناثر عن استخدامه طوائف من المؤمنين به وعملائه، للقيام بأكثر كثيراً مما قاموا به في العام الماضي، والأصح والأشد حزماً أن لا نستبعد شيئاً من ذلك، فعملاء هذا الدجّال الكبير متواجدون في كثير من بلدان المسلمين.. وهم عملاء من نوع خاص متميّز.. ربما ليسوا عملاء مكافآت مالية، وإنما هم عملاء (استشهاد)، في جيوبهم جوازات المرور إلى الجنة، إذا قتلوا في رحاب البيت بمكة أو رحاب المسجد النبوي الشريف في المدينة.. عملاء فدائيون، انتحاريون.. شأنهم شأن أولئك الذين يرتفقون القوارب السريعة في مياه الخليج يهاجمون بها الناقلات أو حتى البوارج.. إنهم يهاجمون، وهم يعلمون أن مصيرهم الموت.. ولكنهم راضون بالمصير المحتوم.. لأن ذلك هو طريقهم إلى الجنة.
لا سبيل إطلاقاً إلى الشك في أن أجهزة الأمن عندنا قد أخذت أهبتها لجميع الاحتمالات، ولا أشك أن قواتها تظل في وضع الاستنفار إلى أن ينتهي الحج، بل إلى ما بعده.. لأنهم الآن في هاجس وحافز الانتقام.. ولأن الهزائم التي منيت بها قوات إيران تزيد من نيران الحقد، وتدفع إلى أضعاف أضعاف ما كان مخططاً له قبل هذه الهزائم، ولذلك فإن أجهزة الأمن قادرة - إن شاء الله وبحول الله - على أن تُطْبق بكمّاشتها على كل محاولة مهما كانت. وهو ما ستسفر عنه الأيام القليلة الباقية لحج هذا العام.
وبعد.. فأين مكان الأدب، مع هذه الأحداث؟ أعتقد أن مكانه يجب أن يظل في الأذهان.. في الصدور.. وأن تتبارى الأقلام، في الوقفة الصامدة اليقظة، أمام هيمنة الأحداث..
وحين فرغت مما كتبت، في السطور السابقة، سمعت خبر موافقة إيران على قبولها لقرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار.. وبدون شروط مسبّقة من أي نوع..
والتفسير عند الكثيرين أنها الهزائم، أو هي الانتصارات التي حققها الجيش العراقي البطل.. ولكني أتردد كثيراً.. وألف مرة، في تصديق أن إيران جادّة في قبول هذا القرار.. وأميل إلى ترجيح احتمال أنها خدعة.. فإذا صح أنها كذلك فهي التي سوف يسجّل التاريخ أنها (الخدعة الدولية الكبرى) في القرن العشرين.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :735  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 17 من 19
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ خالد حمـد البسّـام

الكاتب والصحافي والأديب، له أكثر من 20 مؤلفاً.