شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ـ في ذاكرتي: الأمير شَكيب أرسلاَن
أبو غالب بن ماء السماء: الأمير شكيب أرسلان.. جمع المتناقضات، لكنها قد تناسقت واتسقت فإذا هو أمير البيان، فلو وضعناه أمام المرآة نتقصى مسيرته.. تتضح بها سيرته، لوجدناه العربي نسباً، الإسلامي جماعة، الدرزي سنيًّا، الإسلامي قوميًّا، الخصيم لزعيم يوماً ما، الصديق له في أيام بعدها.
سعة الإدراك، وعجيبة الاستدراك أقصت التزمت والجمود، فالذين لا يعرفون عظمة الرجال.. لا ينقلبون على أحوالهم بالرفض والندم.. وإنما هم، وفي نطاق الالتزام وحرية المسؤولية، يسيرون مع الواقع ليعطوا أمتهم وبحتمية الواقع مسيرة الإلزام.. فرضها عليهم ما التزموا به من قبل.
* * *
مقدمة لا بد منها نستضيء بها. ليتضح عنها شرح ما عرفناه، والحب لمن أحببناه.. فالعظيم بما أعطى يفرض علينا أن نحبه، وحب العظماء ليس فيه شيء من الغزل وإنما فيه كل شيء من التغازل له ومعه احتراماً وإعجاباً بل وقدوة.
شكيب أرسلان.. عرفته على أكثر من صورة: القادم إلى المدينة المنورة مع زميليه الشيخين عبد القادر المغربي الدمشقي، وعبد العزيز شاويش المغربي المصري.. وصلوا إلى المدينة يؤسسون كلية إسلامية في محلة العنبرية بين التكية المصرية، ومحطة السكة الحديد.
وعرفته كيف ذهب إلى استامبول، ثم المعرفة له حين قرأته وحين أفعمت ذاكرتي بما جاء به وعنه في أكثر من رحلة.
لبناني قومي، ورث إمارة الدروز، بل ومشكلات لبنان، إنه يعرف لماذا تنصر بشير الشهابي؟ لماذا كان بشير الشهابي واليوسف في دمشق والجزار في عكا يجتمعون لتنظيم ثورة على الدولة العثمانية.. عطلهم عنها فتفرقوا مسيرة قبائل من نجد قالوا إنهم (الوهابيون) - ذكر ذلك ساطع الحصري حين قال:
ـ موجة القبائل من نجد أنقذت الدولة العثمانية من ثورة شامية.
وعرف المجزرة في لبنان.. تحركت بعصبية الطائفية فأخمدتها وساطة الأمير عبد القادر الجزائري طاردته فرنسا واحتضنته دمشق.
كل هذا هو الطفل رجلاً. والرجل عقلاً، والعقل مسؤولية.. فإلى أين يذهب؟
كانت الآستانة هي المذهب.. عظم فيها شاميان: عزت العابد، وأبو الهدى الصياد. فلماذا لا يذهب شكيب أرسلان لينال مقاماً، وليصون قيماً لعلّه يفعل تقويماً للبنان؟ ولكن كل ذلك لم يكن.
كان رجل الجامعة الإسلامية تزامن مع جمال الدين الأفغاني أو تزامل معه.. فرغم اشتعال الطورانية - قومية تركية - والشعلة في الشام - قوميين عرباً - ثبت الأمير شكيب أرسلان على قوميته الإسلامية. فلم يكن مع ثورة العرب وقوميتهم.. لأنه أنكر تحالفهم مع الإنكليز والفرنسيين، فتنكر زعماء من العرب عليه.. ليس أولهم عبد الرحمن الشهبندر. وليس آخرهم أستاذنا عبد القادر الكيلاني.
ولكنه لم يكن متآمراً عليهم كأسعد شقير. وإنما كان يأمر نفسه أن لا يكون معهم في بداية الأمر. وإن كان بعد صار لهم وساروا إليه: رياض الصلح، وإحسان الجابري، وأخوه عادل.. كلهم كان القومية العربية مجسداً، والثائر الشامي في غربة المنفى.
فآل الأمر به أن أصبح صديقاً سنداً للذين لم يكن معهم أول، فإذا هم معه آخر الأمر. كان في لوزان يبيع ما ملك.. ينفق على نفسه لئلا يهلك.. أخذ على نفسه أن يكون الصديق للرياض، والقاهرة، وبغداد، وكل الشمال الإفريقي.. يتلقى الأخبار والرسائل حتى عده بعضهم سيد الكهنوت للقومية العربية.
يقاتل الخصام بين زعيم وزعيم في المودة والنصيحة.
حين أقام أياماً في المدينة المنورة في أوائل الثلاثينات الهجرية، يضع هو وزملاؤه حجر الأساس للكلية الإسلامية. لم يبتعد عن المسجد، يصل بعلماء المدينة.. فإذا هو التلميذ لحمدان الونيسي، والصديق لحسين أحمد المدني الدوبندي. أعجباه.. لا يتزمتان، ولا يتراخيان.
ذهب إلى ((البقيع)) مرة وكان معه دليله أستاذنا السيد أحمد صقر فوجد على باب البقيع لوحة بخط الثلث مكبراً ومذهباً مكتوب عليها:
ـ (هؤلاء بقيع الشريف).
ـ فقال: ما هذا؟ عبارة لا تركية ولا عربية. ما أشد الخسارة لهذا الخط الجميل! وعهد هو وزملاؤه إلى شهبندر التجار حينذاك (كامل الخجا) أحد أعيان دمشق وأحد أعيان المدينة.
كان أمين صندوق يتلقى التبرعات، وذهب إلى الأمصار المسلمة يجمعون التبرعات، وكان من بينهم الشيخ الفقيه المعلم زاهد أفندي والد الأستاذ أبي الضياء عزيز. ذهب ولم يعد. ولكنه أعطانا ابنه العزيز عزيز أديباً وكاتباً من الرعيل الأول.
واشتعل الاستعمار، وقام ملوك وزعماء. صدق مع الجميع وصادقه الجميع، ولكن صداقته وصدقه ترسخا عميقاً مع الملك عبد العزيز.. يثق به ويصدق معه وينصح بالالتزام به؛ ذلك أن عبد العزيز بن عبد الرحمن كان الأمين في نظر الأمير شكيب على هذا التزاوج بين قومية العرب لا تكون إلا مسلمة وبين الجامعة الإسلامية لا تكون إلا قرآنية.. كأنما لغة القرآن سورة في الصلاة يرتفع جرسها في المحراب، ويتضح معناها على المنبر، ويشبع وجدان المسلم بالإيمان العميق.
وجاء الأمير شكيب إلى مكة وإلى الطائف.. عضواً في وفد المصالحة بين الملك عبد العزيز والإمام يحيى.
ثلاثة شاميون: هاشم العطاس (الأتاسي) وأمين الحسيني، وشكيب أرسلان، ومصري عربي من صعيد مصر من أسيوط: محمد علي علوية باشا.
وتمت معاهدة الطائف... فانجلت كربة وتأصلت قربى.
وأين نزل في مكة؟ وليس فيها فندق. فهل ينزل في بيت ماجد الكردي كما نزل قبله شاميون كثر أم ينزل في بيت آخر؟!.
من هنا جاءت حصافة "فيصل بن عبد العزيز": لا ينزل ابن ماء السماء حفيد النعمان بن المنذر إلا في بيت بني عبد الدار بيت الشيبي.
كان "فيصل" ذواقا وحصيفاً أن جعل العروبة ممثلة في شكيب.. تستضيفها العروبة الشامخة في بيت عبد الدار.
استقبله "الشيبيون" أحسن استقبال. وحين صلاة المغرب أو صلاة العشاء.. صلى الشيخ عبد القادر الشيبي إماما... يقرأ السورتين: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ و لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ وبعد السلام قال أبو غالب:
ـ أشهد أنك مكي. قرأت السورتين المكيتين.
وقام بالزيارة للبيت صديق البيت أستاذنا عبد الوهاب آشي يرحمه الله.
وحين سمع أبو غالب اللقب (آشي) قال لعبد الوهاب شامخاً:
ـ (هل أنت من وادي آش). يعني الوادي الجميل في الأندلس.
ـ فقال الآشي: لا.... أنا مكي، ومن أندونيسيا.
شكيب حين سأل عن ذلك، أراد أن يسمع الرنين من جرس الكلمة: (الأندلس). وادي آش.. هو ذلك الوادي وصفه الشاعر هكذا:
وقانا لفحة الرمضاء وادٍ
سقاه مضاعف الغيث العميم
نزلنا دوحه فحنا علينا
حنو المرضعات على الفطيم
نزوع حصاه حالية العذارى
فتلمس جانب العقد النظيم
وعاد شكيب إلى لوزان. ومات عبد القادر الشيبي فرثاه بقصيدة جاء منها:
((سلاني.. هل على بعد سلاني
وهل كان المغيب سوى العيان
وكيف يكون من ينميه أصل
لعبد الدار أو عبد المدان))
واعتلى ذكر شكيب في مصر.. صديقاً للكبير والكبير، فأغاظ ذلك سلامة موسى الذي كان حرباً على الشاميين في مصر، فسب شكيباً بقوله: ((القذر)) قال: شكيب أرسلان كاتب شامي وغد!!
فانتفض السيد رشيد رضا، شاميًّا لبنانيًّا، يدافع عن شامي لبناني، فكتب يقول: (بل أنت الوغد).. إن شكيب أرسلان ليس وغداً.. والوغد من يتطفل على الموائد. أما شكيب أرسلان فأكل على مائدته الملوك - يعني فيصل بن الحسين - حينما زاره في لوزان.
لقد كان سلامة موسى سليط اللسان على الرافعي أيضاً، كما ورث ذلك عنه تلميذه الحقود.. يشتم الرافعي متستراً وراء العقاد بينما هو سلامة موسى.
وأبو غالب شكيب أرسلان لم يكن الكبير في مصر وحدها. بل هو أمير البيان، أكبره كل العرب. لقد خاض الحرب ضد الاستعمار الإيطالي في ليبيا، كان رفيقاً للسيد أحمد الشريف السنوسي في حومة الحرب حتى إذا كانت الهزيمة خرج من ليبيا أحد رجال أربعة أحمد الشريف السنوسي، وأنور باشا، وعمه خليل باشا، وشكيب أرسلان.
خسروا حرب السلاح وخسروا الأرض، ولكن شكيب أمسك بالقلم سلاحاً يدافع عن الإسلام والعرب، وفاتني أن أعرف مدى العلاقة بينه وبين عبد الرحمن عزام، وحافظ عفيفي، وسيد كامل، فقد كانوا جنود حرب في ليبيا.
لا أدري هل كان بينه وبين عزام وصل المجاهد للمجاهد، أم عبد الرحمن عزام كان العروبة مصريًّا، والعروبة مغربيًّا وسعوديًّا وفلسطينيًّا، أما غير ذلك فلم أعرفه عن عزام.
وحين غادر شكيب الحجاز في رحلته الأخيرة ألّف كتاباً عن هذه الرحلة تحت اسم ((الارتسامات اللطاف في خاطر الحج إلى أقدس مطاف)) وحين زار الشفا من شماريخ السراة على الطائف كتب يقول ما معناه: رأيت الشفا وكأنه لبنان قبل خمسين عاماً. كأنما رائحة الشجرة ((العثم)) أشتمُّ منها رائحة الصفصاف أو الأرز، أو تمثل في الشفا الشويفات.
وترجم شكيب مباذل أناتول فرانس أفكاراً ممتعة، مجنحات طائرة، فأخذت عليه أنه اختزل المباذل، حذف بعض ما يتنافى مع تقاليدنا، مع أن أمانة الترجمة ينبغي ألا تشوبها شائبة اسم الكتاب ((أناتول فرانس في مباذله)) ولكنه الوقار من عنعنة الأعراق.
وعلمنا من بعض ما نشر أن الأمير شكيب أرسلان وهو يعرف أرضه طلب من أنور باشا، وكان صاحب السلطان في تركيا حيناً أكثر من طلعت باشا وحيناً يترك لطلعت التقدم عليه، طلب إليه الأمير شكيب أن يمتد خط حديدي لسكة حديد الحجاز من ((هدية)) التي يمر بها الخط ليصل إلى خيبر، فهدية وهي على الخط لا تبعد عن خيبر كثيراً.
أراد شكيب أن يتصل العمران إلى خيبر أو إلى أكثر من ذلك. وليته عاش ليرى العمران الآن في خيبر، تمتد إليها الصلة بالخط المعبد المسفلت.
يرحم الله الأخيار، وأسأل الله الهداية لمن أرجوهم أن يكونوا أخياراً.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :930  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 618 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور عبد الله بن أحمد الفيفي

الشاعر والأديب والناقد, عضو مجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود، له أكثر من 14 مؤلفاً في الشعر والنقد والأدب.