شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الجنسية، الوطنية، وموقفنا إزاءها
جهود الحكومة في هذا السبيل:
لا تكاد تقرأ لمؤرخ من كتاب العصر الحديث إلا وتراه يعزو بكل قوة وتأكيد أسباب التأخر والانحطاط الذي لازم الحجاز في أدواره الأخيرة في القرن الفائت إلى تفكك الروح القومية في سكانه تفككاً محا الروح الوطنية الصحيحة فيهم، وأبعدهم كل البعد عن الالتفاف حول الغاية الوطنية المقدسة والفناء والاضمحلال في سبيلها، وهذا بالطبع عندهم راجع إلى الاختلاف العنصري في سكان الحجاز الذين نزحوا إليه للغاية الدينية المحضة ثم استكانوا بحكم الظرف والواقع إلى ما يبذله - للغاية الدينية نفسها - رواد هذه البلاد من مصالح وخيرات فعاشوا عيشة زهيدة كانت في بدء أمرها أقرب إلى الانقطاع عن الدنيا منها إلى الاحتفاء بها، وكثيراً ما حافظ كل جنس من هؤلاء النازحين على أسلوب حياته وتقاليده في بلاده لييسر للرواد من أبناء قومه أمر قيامه بينهم ويخفف عنهم وطأة الغربة والسفر، ثم هو في نفس الوقت يضمن بذلك عطفهم ورعايتهم أكثر من لو انسلخ عن تقاليده ومزاياه الجنسية، وبذلك ضاع التمازج والتآلف وتكونت مجموعة هي أبعد ما تكون غاية وأغراضاً وأقرب ما تكون تنازعاً وشقاقاً. وهذا الكلام وإن كان يبدو وجيهاً في ظاهره فإننا نعتقد أنه على النقيض تماماً مما يراد به، فما كانت الجنسية يوماً لتمحو الوطنية أو حتى أن تترك أثراً واضحاً فيها، بل إن امتزاج العناصر المختلفة في الوطن الواحد أدعى في نظرنا إلى ازدهار الحضارة القومية فيه وأثبت في تعدد مظاهرها من أي حضارة أخرى ذلك لأن كل عنصر من هذه العناصر المختلفة يحتفظ بميزة قل أن تجدها في غيره، فالعنصر المغربي مثلاً يمتاز بالشجاعة والإقدام، بينما يمتاز العنصر الهندي بالفلسفة والدرس وهكذا دواليك، ولا يشك أحد أن هذه المميزات متى عملت مجتمعة فإنها سوف تنتج أرقى الحضارات العالمية.
ولماذا نذهب بعيداً؟ فهذه الحضارة الإسلامية التي كانت ولا تزال صاحبة المقام الأول بين الحضارات العالمية المختلفة أزهى حضارة عرفتها الأمم حتى الآن، ولا أخالك إلا مقرراً معي أن ذلك إنما يرجع في الفضل إلى الترابط الإسلامي الذي أنشأ كتلة مختلفة الميزات متحدة المقصد والغرض فأنشأت ما نسميه اليوم الحضارة الإسلامية.
والسبب الوحيد في جمود الروح الوطنية التي يقرره المؤرخون المتأخرون في الشعب الحجازي في رأينا، يرجع إلى أسباب سياسية تتصل بالخلافة وأمرها أكثر مما تتصل بالوطنية الحجازية واختلاف عناصرها. فقد كان رجال السياسة في تلك العهود يطاردون كل فكرة وطنية ويعدونها جرماً لا يغتفر جزاؤه إلا أن يكون في دائرته السياسية المحدودة وقد أبدع رجال ذلك العهد كل الإبداع في تكييف الوطنية على حسب الطلب واستعملوا الطرق العملية في إفنائها ومحاربتها فقتلوها شر قتلة ومزقوها شر ممزق، ولا أرى المجال يتسع لأكثر من هذا التفصيل، وكان من جراء ذلك ما عاناه الحجاز أشد المعاناة في هذا الباب من التفكك وركود الروح الوطنية فيه إلى أقصى حد وانبعاث عوائد وتقاليد كانت كفيلة لإبقاء كل هذا يتغلغل في النفوس مدى الزمن ويهيئها لإيجاد بذور الفتنة والشقاق كلما عنّ للمصلحين أن يعالجوا هذا الأمر.
بقي علينا فيما نظن أن ندلل على قولنا إنه ليس هنالك تعارض بين الجنسية والوطنية ونثبت ذلك بدلائل حال واقعية قد لا يستطيع القارىء إنكارها ولو أنه استطاع تحويرها وتدويرها.
جرت سنة الله في خلقه منذ نشأ الكون أن أودع في النفوس حب التحول والانتقال ثم إنه أودع فيها حباً لبعض البقاع وتفضيلها والتفاني في سبيلها وبذل النفس والنفيس في ترفيعها وترقيتها فما كانت أمريكا في الأصل منشأ لهؤلاء الذين يسكنونها اليوم والذين يمثلون في مجموعتهم أكثر أجناس الدنيا بكل ما فيها من معنى الاختلاف، لكن حضارتهم مع ذلك أرقى حضارة عصرية وحكومتهم أعز وأمنع حكومة على وجه الأرض.
ولم يكن محمد علي في مصر ممن نشأ على أرضها ولكنه هام حباً فأنشأ حضارتها الحديثة التي تبني عليها مجدها اليوم وتملأ شدقيها بالمفاخرة بها في كل وقت وحين، وهكذا قل في الأمويين بالنسبة إلى سورية والعباسيين بالنسبة إلى بغداد والعرب بالنسبة إلى الأندلس، وهكذا قل في انتساب كثير من الأدباء والشعراء الذين طبق ذكرهم الآفاق، فالوطنية على هذا القياس تستند إلى الجهود المستمرة التي يبذلها الوطنيون في سبيل الموطن الذي نشأوا فيه، وبقدر هذه الجهود ولمعانها في تاريخ هذا الموطن يكون صدق الوطن والتهاب عقيدته الوطنية، وكثيراً ما يرفع هذا الجهد إلى الذروة - في تاريخ بلاد ما - أسماء أبطال لم يكن لهم حتى شرف المولد في هذه البلاد، وكثيراً ما يطرد هذا التاريخ أسماء رجال عريقين في انتسابهم لموطن ما بسبب خيانتهم لذلك الموطن، وموقفهم الموقف السلبي إزاءه في أحرج ساعاته.
والحجاز مهجر العالم الإسلامي وموطن شعائره الدينية لا يمكن أن تتحقق الوطنية فيه - في رأينا - إلا بهذا المعنى الذي فصلناه، وهو معنى سام لو صرفنا الجهود متحدين إلى اقتطاف ثماره واستغلال مواضع الاستفادة فيه.
وقد أحسنت الحكومة عندما شرعت في تطبيق نظام الإقامة الذي أصدرته سنة 1356هـ فهو خير كفيل لضمان الوحدة الوطنية بالمعنى الذي شرحناه، فكل إنسان رغب بطوعه واختياره أن يدخل في تبعية الحكومة العربية السعودية يجب عليه أن يتنازل بطوعه واختياره أيضاً عن النعرة الجنسية ويوجه جهوده الوطنية الصادقة في خدمة وطنه الإسلامي العام الذي أصبح بدخوله في تبعية حكومته وطناً خاصاً له.
إن مستقبلنا يتوقف بصفة خاصة على جهودنا في إيجاد الوحدة الوطنية وإثبات عقيدتها المقدسة في نفوس النشء والشباب والشيوخ على السواء.
يجب علينا أن نفتح أعيننا لنرى مدلولات الزمن، ففيها الدرس القاسي لكل من تصفح آياتها البينات. إن التغاضي عن الحقيقة الواقعة وإغماض العيون عن رؤيتها لا يغير من جوهريتها ثم هي إن لم تقابل بالشجاعة والإقدام قمينة بأن تنتج أسوأ النتائج وتؤثر اقبح التأثير.
إن الواجب يقضي علينا أن نكون عمليين، فقد كنا بعيدين عن إدراك المخاطر التي تحاك حولنا وذلك كان السبب الأول في بقائنا في غفلاتنا. أما وقد كشف الزمان لنا القناع وكتب لنا بحروف بارزة ما كان وما يظن أن يكون ولم يبق حتى من المبتدئين في التهجي منا من لم يقرأ ذلك، فما علينا إذاً إلا أن نكون عمليين في إيجاد الوحدة الوطنية فلا نفرق بين أي فرد وفرد ممن يحمل تبعية حكومتنا، فعلى هذه الوحدة يتوقف تسلحنا ضد الطوارىء مادة وأدباً، فقوة الأمة في قوة عقيدتها، ونجاحها إنما يكون بقدر تضحيتها وإخلاصها لعقائدها المقدسة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :599  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 66 من 124
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور معراج نواب مرزا

المؤرخ والجغرافي والباحث التراثي المعروف.