حديث الجدات والعجائز |
• يظهر أنني منذ زمن ما سمعت كلام العجائز.. لا لأني فقدتهم، وإنما لأني بعيد عنهم نوعاً ما!.. |
لكن العجائز من الرجال يظهر - مرة أخرى - أنهم تركوا كل شيء وانشغلوا بأنفسهم.. أما جداتنا فأكثر ثباتاً على ((الدقة القديمة))!!. |
ـ قالت إحداهن لواحدة من البنات: ((اعقلي يا بنت.. ترى المرعة ما تنفع!!)). |
ـ قالت البنت: ((ليه يا ستي.. أنا ممروعة؟!.)). |
ـ قالت: ((فيه أكثر من هادي مرعة.. تكسري كلامك زي ما تكسري أجفانك.. هوا لسانك اللي يتكلم ولا أجفانك؟!! المرعة ما تصلح.. ترى اللي يشوف بخته.. لا يسويها تحته !!((. |
ضحك غيري حينما سمع ذلك حتى الفتاة ما بكت.. اعتبرته كلام جدة ((مخرفة)) وراحت تلعب الحبلة، أو تتكلم في التلفون.. تسأل زميلتها سؤالاً في الجبر.. اليوم البنات جدهن جد، ولعبهن لعب!! |
لهذا.. النجاح أصبح ظاهرة فيهن.. أما أنا فحين سمعت كلام العجوز تذكرت بعضهن.. تعطي إحداهن الفرصة لتفعل ما تجيد، وهي تفعل ذلك وتجيد إذا ما بقيت على ما تحسن.. أما إن تخطت ذلك لتقلد غيرها.. إما برغبة في التفوق، أو بدافع من الغيرة التي هي في المرأة أكثر.. فإن هذا يصبح ((مرعة)) أكثر!! |
لتدع أن تكون ظاهرة، فإنها حينما تدع ذلك تصبح ظاهرة.. بالوقار.. بالإجادة.. بالسلوك المتزن!.. |
وذهبت استقرئ حالات أخرى.. وجدت الكثير لكني ما زلت في الكبير أعيش.. ذلك هو حكمة العجائز.. حكمة الجدات.. أما الرجل العجوز فأصبح خاوي الوفاض لأن ((الدوشة)) والقلق النهاري أضاعا منه حكمة الليل.. في ((البلوت)) حيناً، أو في أي شيء آخر.. |
لقد سلمت جداتنا إلا من الجد.. فهن أشد صرامة، وأشد ملاحظة للحكمة.. |
إن الجدة في البيت رحمة وصيانة.. لقد رحمت فتاتها حينما انتبهت إلى أن ((المرعة)) ما ترعى.. ((المرعة)) ما هي صنعة.. يمكن تكون صرعة تتستر بها القرعة!! |
• بعد ظهر أمس رنّ جرس التلفون، وجرى الكلام بين جدة وجدة.. |
ـ قالت الطالبة للجدة في بيتنا: ((من العائدين.. كل سنة وأنتم بخير!..)) فأجابتها: |
ـ ((محرم خلص، فبأي عيد؟!)) قالت: ((بإبريل.. أنت لا تعرفين أن اليوم أول إبريل؟!)). |
ـ قالت: ((وما شأني بإبريل؟..)) فأجابتها العجوز الطالبة التي تقلد أحفادها في تفاهات أول إبريل: ((ألم يكذب عليك أحد اليوم، أو لم تكذبي على أحد؟!)). |
ـ قالت جدتنا: ((الكذب حرام.. أعوذ بالله، أتريدين أن أكذب تقليداً لغيرنا واتصرف بهذه الرقاعة؟!)). |
ـ قالت لها: ((ما هو ضحك، أنا اليوم صحيت من النوم على التلفون وجدت فلانة تنادي: تعالي يا استيته أنا وجعانة جداً.. ماني قادرة أتكلم.. فأسرعت إليها فإذا هي تضحك.. كذبة إبريل!)). |
هذه المحادثة التليفونية جرت حقاً بين جدتين.. لم أتزيد فيها، لكن المفجع أن تأتي كذبة ليس فيها مثل هذه الدعابة.. كذبة مفجعة تصيب بالصدمة العصبية، أو بالشلل، أو بالإغماء، أو بالنكد المفزع، فمن الظلم أن نكذب هكذا.. |
سمعت ما وقع للأخ ((يوسف شابو)).. ناداه أحدهم بالتليفون وقال له: |
((الأتوبيس العائد للمدرسة اصطدم، واتكسروا البنات، وقالوا إن بناتك نقلوهم إلى المستشفى!..)) فصعق الأب يوسف شابو، وصعقت الأم، وأغمي على الجدة، وخرج الأب والأم لا يعرفان طريقهما.. يطرقان أبواب المستشفيات يسألان عن الأتوبيس المصطدم والبنات.. لم يجدا شيئاً، فاطمأنا قليلاً، وذهبا إلى المدرسة، فوجدا البنات في خير ونعمة.. ولم ينته الحادث بعد. أحدث عقابيله السيئة من ردود الفعل في نفسيهما، ومن فعل الفعل في جدتهم.. أخذوها إلى المستشفى يعالجون إغماءها!.. |
أهذا يليق؟! لو كنت مكان الأخ يوسف شابو لسألت عن هؤلاء الرقعاء وتقدمت بشكوى إلى الإمارة ليأخذوا جزاء ما صنعوا.. وسألني أحدهم: ((هل تجازي الحكومة من يفعل ذلك؟..)) قلت: ((لقد دفع الجزاء عمر على نفسه من نفسه حينما فعل ما هو حق.. لكن الرحمة فيه جعلته يدفع الجزاء)) عمر أمير المؤمنين حاكم دعا امرأة لقضية لكنها روعت بدعوته فأجهضت فلما سمع عمر سأل أصحابه: ((لقد دعوتها، فروعت فأجهضت فهل أنا قتلت جنينها؟)) قال الكثرة من الصحابة: ((لا.. ليس عليك شيء.. إنما أنت حاكم دعوت امرأة في قضية)). وكان عليّ كرم الله وجهه حاضراً لم يتكلم، فسأله عمر: ما تقول يا أبا الحسن؟ قال: ((أنت روعتها فقتلته)). |
• وجلست إليّ أفسر لها حلماً رأته. كانت جدة قد وصلت إلى سن اليأس. |
ـ قالت: ((رأيت في المنام موسى.. سألت من هذا؟ قالوا: موسى عليه السلام فارتعدت هيبة وإجلالاً لاسم نبي وصوت نبي)). |
ـ قلت: ((هذا خير.. كنت كاربة في ضيق وشدة، وهذا فرج لها.. فموسى كان فارج الكرب عن قومه)).. فارتاحت وطفح سرور على أسرتها. |
وتذكرت لتقول: ((وقبلها رأيتني مع الناس وهم يقولون لي: أنت مكروبة، حبلى، ستلدين)).. وكنت أقول لهم: ((لست حاملاً، لا أشعر بحركة الجنين)). فما صدقوا وأصروا على أني حامل.. ثم رأيتني نفساء.. |
ـ قلت: ((لماذا لا تسلكي السرد الزمني؟)). |
ـ ((هذه مفسرة لرؤيتك موسى.. فالنفاس فرج، ما تأكد بولادة الطفل. فأكدته رؤيتك لموسى)). |
ـ ((أبشري فسيأتي إليك الفرج تسرين به وتحملين معه ثقلاً.. فموسى حمل قومه أثقالاً وإن كان فرجاً عليهم.. والطفل يحملك أثقالاً وإن كان فرجاً لك.. لكنها أثقال مسؤولية وتبعات تحملينها في سبيل ولد أو زوج أو قريب)). |
ورضيت فرحة بهذا.. |
فهل عند مفسر الرؤيا خبر يصدق به تفسيري أم لا؟.. |
قد يقرأ واحد لا يصدق الحلم والرؤيا فهذا لا شأن لنا به.. |
ولكنا من المؤمنين بصحة الرؤيا، لقد جاء مصداق ذلك في القرآن والسنة.. |
حتى صاحبهم فرويد لم ينكر ذلك وإن جاء يعلل.. ليكن ما يقوله صحيحاً في اجترار المختزن في الشعور الخفي.. وليكن ما يقوله صحيحاً في الأحلام العضوية.. لكن الصحة في عقيدتنا عن الأحلام الروحية في كشف الروح من صفاء الروح.. |
هذا هو ما نصدق وما نؤمن به.. |
فكم رأى أناس فصدقوا الرؤيا، شيء واقع لا ينكره إلا من فاته صفاء النفس. |
ـ صورة في حكاية ترويها لنا جداتنا حيناً، وأشياخنا حيناً آخر.. نتعلم منها حرصهم على صون ما ورثوا، ونصحهم للذين ورثوا.. |
أشياخنا في القصيم يقصون علينا هذه الحكاية: |
قالوا: إن رجلاً أتاه الله صحة في الجسم، وكفاءة في العمل، وإرادة للعمل.. يملك مزرعة في كل عام يزيد فيها وينميها.. قدم لها كل فنه وعلمه، وماله، فنمت وأمرعت وأفرعت، وأثمرت، وأنبتت من كل زوج بهيج، وكان يعشق النخلة كأي عربي يحب عماته النخل، وفي أواخر عمره خاف على مزرعته إهمال الأبناء ينصرفون عنها.. إما بإسراف يضيع، وإما بكسل يميت!. ففكر في موعظة يعظ بها أبناءه.. لكن المواجهة بما يريد صعبة لأنها لا تفيد، فاحتال عليهم.. قال لهم: |
ـ ((هذه المزرعة نامية، وفيها خير كثير، وهي لا تحتاج إلى جهد كبير، وقد زرعت لكم بين كل نخلتين أثمرتا وكبرتا نخلة تحل محل السحوق التي تسقطها الريح، وتعرفون حبي للنخل، وقد دفنت تحت نخلة من هذا النخيل ((الزلعة)) وفيها كل ما أملك.. ريالات برم، ومجايدة، وفرانسا وذهب مسكوفي، وبنتو، وجورج أيمن، وأبو فرج الله.. كلها في الزلعة، فإذا تواريت في قبري احفروا تحت هذه النخلة التي لا أعينها لكم، واقتسموا المال..)). |
وعاش مدة، وهم يفكرون أين النخلة التي تحتها الزلعة؟! |
كان يعرف تفكيرهم، فيذهب إلى نخلة بعيدة.. يقف عندها يوماً، وإلى نخلة أخرى، وإلى نخلة أخرى ليبعثر التحديد عليهم.. |
وتوفاه الله، ونزلوا إلى المزرعة، وأمسكوا بالمساحي، والفواريع، والمناجل يحفرون الأرض.. يكسرون الصخر.. يزيلون الأوساخ.. حفروا تحت كل نخلة.. يعني جددوا التربة.. حفروا كل النخل.. لم يجدوا الزلعة.. تعبوا أياماً، وشهوراً، ولكن النخل أفلح، وأمرع، وزاد حسناً من خدمة التربة التي لم يقصدوها، وجاءهم جارهم، وكان شيخاً كبيراً يعرف السر.. قال لهم: ((هل وجدتم الكنز؟!..))
((قالوا: ما وجدنا شيئاً.. أبونا أضاع الكنز.. حفرنا تحت كل النخل لم نجد شيئاً!..)) قال: ((يا هؤلاء.. لقد وجدتم الكنز.. إنه في أيديكم.. أليست هذه الفلاحة للمزرعة، وخدمة التربة بهذه الحفريات قد أحسنت إلى المزرعة، وجعلتكم تألفون خدمة النبات؟.. هذا هو الكنز الذي أراده أبوكم.. أراد منكم أن تفلحوا الأرض..)). |
• رب كلمة قالت لصاحبها: دعني! |
وضربوا لذلك مثلاً.. جعلوا منه حكاية، تحكيها عجوز من كثرة ما تحمل أصبحت تتخفف بسرد الحكايات. |
وهكذا الفراغ والسأم يصنعان قاتلهما.. مع أنهما ما دخلا نفساً إلا أرادا قتلها. |
فقاتل الفراغ والسأم هو المشغلة بشيء.. أي شيء فالعجوز مثلاً لا تعرف القراءة، ولا تقدر على عمل اليد، فالمخرج هو في عمل اللسان، في حكايات. تجمع دنيا حافلة بمسرة من هؤلاء الأحفاد، تسمع منهم وهي تحكي.. آه.. أيوه.. كمان.. كل تأمينة، كل استزادة شحنة قوية تقوي بها نفس العجوز فلا يبقى لديها فراغ، ولا يبقى في نفسها سأم، أو قلق أو كآبة. |
والفراغ باعث الجنون ألاَّ يقصيه، فإن عز العمل لطرده، أو الكلام لقتله فهناك أحلام اليقظة (!!) فقد تكون وسوسة، همسات النفس لذاتها. لكنها على خفيف فهي طاردة الجنون. |
إن أحلام اليقظة قصور في الهواء، وثروة من سراب، لكنها تقضي على أوجاع الحسرة واليأس. |
سرحة النفس والخاطر في الأماني تطرد الموجعات. |
ـ قالت العجوز: |
ـ كان الفلاح يثني على حمار وثور.. يسقي نخيلات.. غير أن الحمار الذي يثني عليه يزيده كرباً بعمل خارج ((المجار)) السماد، الماء للشرب، الحجارة، فشكى إلى الثور حاله. فأشفق عليه الثور، وقال كلمة: |
ـ قال: ((تمارض. لا تأكل فإن صاحبك يخشى عليك الهلكة فتستريح أياماً)). |
وسمع صاحبهما الكلام، فالعجوز تفترض أن صاحب الحمار فهامة للغة الحيوانات. |
فجاء وشد على الثور عربته، وجره يعمل بدلاً من الحمار، فنهق الحمار شامتاً في الثور. |
فخار الثور بصمت يعترف لمالكه ويعتذر له، فعفا عنه وجر الحمار على قفاه يشغله مضاعفاً جزاء له. |
وهكذا، كلمة قالت لصاحبها: دعني، لهفة الشماتة، أعادت الأحمق إلى الإرهاق. |
• وحكايات العجائز من جداتنا تبدو وكأنها من لوازم (كلمة ونص) نعود إليها ضرباً لمثل نذكره ونبصره. لعلّه إن لم يطبق الفعل، أو لم يأت على المجز يصل إلى حد الإشارة تغني عن العبارة. |
ـ قالوا.. إن رجلاً أعوزته الحيلة في بلدة، ففتق له ذكاؤه أن يهجر أرضه إلى بلدة مجاورة فيها أناس يمكن التفاهم معهم أو استغلالهم. |
واتخذ سمة الدرويش، فوثق به كثيرون.. هذا يضع عنده أمانة، وهذا يأخذ النصح منه.. الأمانات ترد والنصح يفيد. عملية الذكاء وعن خط مرسوم.. عشرات تعاملوا معه فما أنكروا عليه شيئاً! |
وحان الوقت ليستغل السمعة الحسنة غرست له في مهجره. فأخذ يتربص، يتحين فرصة حتى واتته على يد رجل جاءه يحمل كيساً فيه ألف دينار. يضعها أمانة عند الدرويش! فأخذها منه. وأحضروا له سجلاً يقيد فيه الأمانة، ومضى يكتب وهو لا يكتب. يصور لصاحب الأمانة أنه حريص بينما هو لم يضع رقماً أو حرفاً على القرطاس. |
وعاد الرجل يبغي أمانته، ففتش الدرويش الدفتر فلم يجد فيه شيئاً لأنه لم يكتب فيه شيئاً. فأغلظ الدرويش القول لرجل يطلب ما ليس عنده! |
وذهب صاحب الأمانة يعض ناجزيه. يأكل أصابعه، ويشكو لطوب الأرض. |
وسمعت سيدة كريمة قصته فأرسلت إليه تقول له: ((إسمع إني ذاهبة إلى الدرويش فاتبعني. ولا تمكث دقائق بعد أن أدخل إلا وأنت داخل تطلبه الأمانة، فإنه في الحال يعطيها لك، ولا تسأل عن السبب!)). |
وحزمت أمرها على صندوق جواهرها - تذهب إلى الدرويش، ومعها تمشي وراءها جارية معلمة - علمتها ماذا تصنع حين تكون هناك. |
ودخلت عليه. تقول له: ((إني امرأة وحيدة، بعلي مسافر، وخشيت أن تسرق جواهري. لهذا أضعها أمانة عندك)). وبسطت الجواهر ليعدها الدرويش. ليسجلها في السجل. وبينما هما كذلك دخل صاحب الألف يسأل أن يعطى أمانته. فالتفت الدرويش يوازن بين الألف والآلاف. ففتح جرابه ونقد الألف لصاحبها. |
ولم يكد يخرج بألفه حتى دخلت الجارية تقول: ((ستي.. ستي.. ستي.. سيدي جاء)) ولها صوت له رنين الذهب من الفرحة المعلمة للصناع. |
ونهضت السيدة تلم جواهرها. تضعها في صندوقها شاكرة الدرويش ونظر إليها نظرة حسير كسير. ونظرت إليه نظرة فاحصة. كأنما هي تقول له: في حارة العرج وتعرج؟. |
وجمع الدرويش أثوابه وركب حماره يذهب إلى مكان ليس فيه امرأة ذكية. |
وهكذا جداتنا يحكين، ولعلّ الحكاية تصل إلى مضربها بذكاء الفاهمين أو غباء المتغافلين. |
• وعن الموت والكفن والشباب والعجائز، نحاول أن نبرز خطرات نفس أو هو الحوار مع نفس أخرى. |
ـ قالت لي عجوز عندنا: ((خذ هذه الريالات البيض من الفضة خزنتها في صرة، أيام كان المجيدي والبشلك والريال، وصرفتها سعودية.. احفظها ليومها وهذا يومها... |
خذها اشترِ لي كفناً وحنوطاً وليفاً وصابوناً والباقي تصدق به بعد إعطاء وارثي الوحيد ما يستحقه من إرث! هذا ولد لا تعرفه ولد قبل أن تكون، وهو بعيد عني حيث يكون، لا أدري أين هو؟ لعلّه حي.. لعلّه ميت. فحقه يحفظ له)). |
ـ وقلت لها: ((حساب طويل.. لماذا الكفن من البفتة أو الحرير ومعه القطن؟ لقد كان مصعب بن عمير شهد أحداً في ثوبه، وقد كانوا إذا غطوا رأسه انكشفت رجلاه، وإن غطوا رجليه انكشف رأسه فأمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يغطوا رأسه بالثوب ورجليه بالأذخر)). |
ـ قالت: ((تلك منزلة.. وهذه حيطة.. ولا فرق إلا في حسن الختام.. رضي الله عن مصعب وأسأل الله الرحمة لي ولك)). |
وأخذت أذكر أن الشبان يطردون التفكير في الموت وهم الأقربون إليه من هوجهم.. من سرعتهم.. من عدم مبالاتهم.. كان طرد التفكير فيه.. يعني نسيانه.. فلولا نسيانهم الموت لما غامروا بهذا النشاط. |
والشيوخ الكبار في السن أكثر تفكيراً في الموت لا يطردون ذكره، فهم بتذكره أكثر تباعداً عنه، بالتعقل والمشي على العكاز والدواء والعلاج والنزهة والراحة. هم الذاكرون له.. المبتعدون عنه.. كأنما التذكر له قربى، فكر ونفس ويقين، والتباعد عمل العقل والرزانة. |
ولا هؤلاء ولا أولئك بالناجين من الموت.. حال يلابس بعض النفوس.. وحال يلامس الآخرين.. كجدتنا هذه، والعجوز تخزن ريال الكفن، وكفتانا ذلك السابح في أبحر! |
((وكم فاطر شربت بجلد حوار)). |
• الجدات يعلمن البنات شيئاً ليس في كتب التدبير المنزلي!.. |
وحملت البنت الحفيدة - وقد كانت عروساً - الدلة تصب القهوة، فذاقتها الجدة.. ثم نظرت إلى البنت، وقامت إلى موقد النار لم يكن ((وجاقاً)) ناره حطب.. وإنما كان ((بوتوجاز)). |
يا خسارة!.. القهوة ما تصلح إلا على وهج الحطب، أو على الجمر!.. لكن ما باليد حيلة.. |
وأسرعت البنت تريد أن ترى ماذا تصنع الجدة!. |
ـ وقالت الجدة: ((تعالي.. ما أحببت التكلم أمام العريس خصوصاً أن أمه جالسة معانا.. ما شفتها حين ذاقت القهوة مدت بوزها)). |
ـ ((إيش بها القهوة؟ أنا طبختها وأصلحتها مثل ما تعلمت منك)). |
ـ قالت الجدة: ((هات الدلة أشوفها.. الدلة يا بنتي طرشت.. صارت طرشة.. يعني ما تتجاوب مع البن والهيل.. ينبغي أن تعرفي أن البن مثل الشاي يريد التجاوب. سريع الالتقاط لروائح جيدة، أو روائح كريهة)). |
ـ ((الدلة تصير طرشة من الإهمال والركنة!..)). |
ـ ((هيا خذيها.. فوريها أولاً بماء وملح.. وثانياً فوريها بماء وقرنفل تنظف من أي رائحة زنخة)). |
ـ ((وثالثاً أتركي الحثل فيها، فالقهوة تطيب القهوة.. إذا أبقيت الحثل في القهوة، تسمعك الدلة، لأنها تطرد أي رائحة تعلق بالدلة)). |
وجاءت الجدة، فسألتها أم العريس: ((هيه علمتيها كيف تسمع الدلة))؟. |
فقالت الجدة ((سامعه.. يا فاغيه.. ترى الحيطان لها آذان.. أسمعي كلام ستك.. أهي عرفت عيب القهوة!..)). |
ـ وقال العريس: ((الدهن في العتاقي. علميها يا ستي، علميها تشرب قهوة. وتصنع قهوة)). |
ـ قالت أمه: ((وليه ما علمتها أنت.. أنا ما علمتك الكثير من شغل البيت حتى لا تغلبك العروسه)). |
ـ قال العريس: ((حلو على قلبي أن تغلبني الفاغية في شغل البيت. وأنا أغلبها في شغل السوق.. البيت ستر وغطاء علينا.. كبب وليس يطلع كويس!)). |
وتهامست الجدتان.. ((أهو نحن أدينا ما علينا. ربنا يهنيهم ببعض.. متى تبغين نتم الزفاف؟)). |
زفاف ريم على أحمد! |
ـ قالت: ((لما تمصعي إذن أحمد.. ويقول هاتوا عروستي..)). |
ثم قالت أم ريم لأم أحمد: ((أهو أخوان وسلائف وأختان وسلفتان؟!)). |
• ونسي بكاء جدته، تركها تحضر ثوبه فقد سلم الثوب يصنع من قماش يصبغونه بلون ((الكميت)) وقد لا يشتريه بلونه المصنوع قبل نسجه، فيتخذ المصبوغ بالعرعر، فهو أقل ثمناً وأشد تحملاً لغبار الحوش المشبع بدهن الأباعر، وجلة البقر، أو روثها. |
وذهب يلعب مع صبيان الحوش ((جزي، ومطلق، وبادي!! وتوقف اللاعبون يسمعون دق النقرزان)). |
لقد رجعوا غالبين.. هذه أهازيج النصر.. الباشا سيعطي قائد الجلك نيشاناً، ويزيده رتبة والشواويش يرفعون إلى أومباشية!! |
وذهب ((ينطح)) الرجال.. منهم من ذهب إلى حوش الباشا في أول الساحة، ومنهم من ذهب إلى زقاق الطيار.. أما القائد ((سيف)) وخال الفتى وزميله ((صالح القرفلي)) فقد رجعوا إلى حوشهم.. حوش خميس.. |
واجتمع الرجال في بيت جدته، ينثرون الغنائم.. كل واحد يباهي بمغنمه ونحن الصغار.. نقول: الحذبة الحذبة، ويقولون أبشر بالعطية!! وأخرج أحد الرجال خاتماً يلمع بفص. ولم يكن خاتماً هذا الذي نظروه في يده! ماذا كان؟. |
كان إصبع أنثى.. قطعه لأن الخاتم استعصى عليه.. فقطع الإصبع يلتصق فيه الخاتم.. |
وصرخت الجدة، تبصق عليه، وتقول: ((إنها أم، إنها أخت، إنها مني ومنك.. كيف أطقت أن تفعل؟ أتركتها تموت؟ قتلتها؟)). |
ولم يسمع.. فقد كان الخاتم لماعاً مغرياً.. فخرج به.. يلتفت إلى خال الفتى.. ((أمك خرفت.. لقد كان هؤلاء الآلهة في قيادة الذين جلونا من أرضنا، وحرقوا زرعنا.. وقتلوا ما في القصيم وفي كل الربوع)) وذهب يعرض الخاتم على صائغ.. فقال الصائغ: ((هذا الخاتم مسروق.. قطعت إصبعها فسرقته)) فقال: ((لا.. لا.. هذا كسب!!)). |
وصرخ الصائغ: ((هذا أنا صنعته وبعته قبل يومين لها، أنها بنت الفلانية كانت عروساً يوم اشترته!! أتعرف كم يساوي؟)). قال ((خمسة عشر ريالاً مجيدياً.. القيمة للفص.. هل تشتريه؟..))
((لا.. لا.. أشتري نكد العيش.. لو رأيتها بثوبها البناوي لقتلت خنجرك قبل أن تقطع إصبعها.. اذهب يا قاتل دمك، ومهلك الجمال!!)). |
وذهب بالخاتم، يكسره بين حجرين: ليذهب الإصبع.. ورمى الإصبع في الطريق. |
وكان الطفل يتبعه. فأخذ الطفل الإصبع يدفنه في التراب، كأنه غراب هابيل يواري سوءة قابيل. |
لكن الطفل قد وارى سوءة هابيل هذه المرة. |
|