شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
شعر وأغان وأمثال
• ونقلاً عن الأغاني.. قالوا:
مات كثير ((عزة)) وعكرمة مولى ابن عباس في يوم واحد، فاجتمعت قريش في جنازة كثير. ولم يوجد لعكرمة من يحمله!
اليوم الواحد كان في سنة خمس ومائة.
هكذا ولع الناس بمن يدغدغ عواطفهم.. وهكذا ترك الناس لفقيه إمام يعلمهم.. يربي مداركهم وعقولهم!
حتى قالوا: مات اليوم أفقه الناس، وأشعر الناس.
ـ وقالوا: مات عكرمة وكثير عزة في يوم واحد، فأخرجت جنازتاهما، فما علمت تخلف امرأة بالمدينة ولا رجل عن جنازتيهما.
ـ قال: وغلب النساء على جنازة كثير يبكينه، ويذكرن عزة في ندبتهن له.
ـ فقال أبو جعفر محمد بن علي: ((يعني محمد الباقر)): افرجوا لي عن جنازة كثير لأرفعها.. فجعلنا ندفع عنها النساء، وجعل يضربهن محمد بن علي ((علي زين العابدين)) بكمه.
ـ ويقول: تنحين يا صواحبات يوسف.. فانتدبت له امرأة منهن فقالت: يا بن رسول الله لقد صدقت: إنا لصواحبات يوسف وقد كنا خيراً منكم له!
ـ فقال أبو جعفر ((جعفر الصادق)) لبعض مواليه: احتفظ بها حتى تجيئني بها إذا انصرفنا.. فلما انصرف أتى بتلك المرأة كأنها شرارة نار!
ـ فقال لها محمد بن علي: أنت القائلة أنكن ليوسف خير منا؟
ـ قالت: نعم! أتؤمنني غضبك يا بن رسول الله؟
ـ قال: أنت آمنة من غضبي فأبيني.. قالت: نحن يا بن رسول الله دعوناه إلى اللذات من المطعم والمشرب والتمتع، والتنعم، وأنتم معاشر الرجال ألقيتموه في الجب، وبعتموه بأبخس الأثمان، وحبستموه في السجن، فأينا كان عليه أحنى وبه أرأف؟
ـ فقال محمد: لله درك! ولن تغلب امرأة إلا غلبت.. ثم قال لها: ألك بعل؟ قالت: لي من الرجال من أنا بعله!
ـ فقال أبو جعفر: صدقت.. مثلك من تملك بعلها ولا يملكها..
فلما انصرفت قال رجل من القوم: هذه زينب بنت معيقيب.. أو هو معيقيب..
حلم الإمام.. وترف في البيان.. ورجعة إلى جواب في ظاهر اللفظ.. وإلا فالتحية جاءت من يوسف بما صنع الرجال.. وبما امتنع عنه من عطاء النساء.
كلمة طريفة ليس فيها فرض الحقيقة.. وإنما منها افتراض المران لصناعة الكلام.
ـ المعري شاعرنا البصير المتبصر.. لا أعرف - وهو لم ير نجماً واحداً - كيف ملأ شعره بالكلام عن النجوم؟!.. لعلّه قد اعتصف نفسه بعاصفة حجبت عنه النسمات فاشتهى أن ينجم.. لا بطريقة المنجمين. وإنما بطريقة عشاق النجمة!..
المعري أحسبه عاشق نجمة.. كأنما كان يجري وراء الزهرة.. يطرد عنه زحل!.. لكنه لم يستطع، فقال:
وقال السهى للشمس أنت ضئيلة
وقال الدجى للصبح لونك حائل
أعمى ويرى السهى.. نجم صغير لا يراه المبصرون.. تمهل قليلاً، بعض المفتحة عيونهم كما يقول المتنبي لا يرون الشمس!.. لا يعرفون عنها أنها نجم.. لكن لأنه يحرق يهربون منه!
كثير هي النجمات التي تحرق.. ((بس بعضها يحرق على الناعم))!!..
وقال:
لا تطلبن بآلة لك رتبة
قلم البليغ بأي حظ مغزل
سكن السماكين كأن كلاهما
هذا له رمح وهذا أعزل!
كم منا نحن المبصرين يعرف السماكين؟!.. دعونا من معرفة الرؤية، ودعونا من معرفة العلم.. أريد أن تعطوني معرفة الوجدان.. يناغي النجم.. هذا الزينة في السماء!
القمر أصبح وقد ((تبحلقت)) عيناه يهرب منه الحالمون.. لكن النجمة ساهية غير لاهية.. وإنها آمرة ناهية تسمع منها حلو اللاغية.. تشتم منها في وهدة الليل شذى الفاغية!.. حلوة هذه النجمة عشقها حتى العميان!!
ليس ضرورياً أن أكون أنا الأعمى، فما زلت والحمد لله مبحلق العينين.. لكني حينما أرى بأذني، وأسمع التعابير بعيني، وأتعلم الوجدان من الوجدان لا يعنيني أن أكون في عماية عنها لأني في صحوة منها.. ((بس يا ليت ما توريك النجوم في الظهر))!!
ويظهر أن القاضي عياض رحمه الله لم يلتفت إلى القمر إلا أنه ذكرى لها.. فهي في نظره أجمل من القمر!.. قال:
رأت قمر السماء فذكرتني
ليالي وصلها بالرقمتين
كلانا ناظر قمراً ولكن
رأيت بعينها ورأت بعيني!
على فكرة.. القاضي عياض الإمام لم ير الرقمتين. لكنه حن إليهما حنين العلم، والمعرفة!
((يا قمرنا يا مليح شد حصانك واستريح..)).
ولا أدري بما أجاب القمر، فالذين كانوا يسمعون همسات الأقمار ذهبوا..
والذين يناغون القمر شحوا بالخبر عنهم.. أين هم؟ ما لهم؟ هل تناولتهم الفزعة من الذين زعموا أنهم قد كشفوا القمر؟!
هم كشفوا. وما كسفوا.. البديل لا يصلح إلا ((يدك)) ((واستبن)) يعني تصبيرة، تسلية.. لقد جربوا حينما هانت عليهم الكلمة التي قالوا، أو يقولون. كأنهم في مكان لشموخ من المتنبي! وما دروا أن شمخة المتنبي ليست في الحب، حب القمر.. وإنما هو كان عتاباً للصداقة مع الشمس. كان صديقاً للسيف والقلم والقرطاس والشمس.. فما رأى القمر..
كانت ((خولة)) هي القمر.. ولكن المتنبي صادق الشمس بديلاً أو دليلاً فما ظفر إلا بهذا يسير في دنياه الشاعرة به.
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا
ألا تفارقهم فالراحلون همو
كلام فخم لجرسه رنين، وينفح فخراً، ولكن ليس فيه أنين الحنين. وإنما فيه رنة الذي خسر البديل.
ولكنه لا ينفع عتباً ولا وعيداً.. فعاشق القمر لا يتوعده، هكذا قالوا: ((لنا كهنة الليل، سدنة الحب، سمار القمر، الذين لا يتبدلون، ولا يستبدلون)).
حينما يصبح الوعيد لفظة بين جبين، يسمج حتى الصدى والندى والمكان والليل والسكون.
الصلة في هدأة من ظلمة نيرة في ليلة مقمرة، همس، مناغاة، صدى مناجاة يعني: السكون، في حركة الشعلة التي تسعرت في قلبين.. السكون يتحرك. وحركته تسكن بقدر يوقته الوميض المرئي لهما. المحجبون عن غيرهما، فإذا نفر نافرهما بكلمة أخرى ذات موضوع على غير موضوع الوميض.. الحب فإن السماجة تصبح هي الحركة لا سكون فيها، يسقط الوميض، يذهب النور، في ظلمة دامسة عليها ((برجكتور)) يحدد أبعاد البعاد طويلة المدى.. الوعيد، والبديل، وهز الأكتاف غشاوة أرسلها وهج لم يحبس بعداد خطاب القمر.. أسلوب ذهب مع أهله، وبقي أسلوب فاضح كعملية الكشف بسفن الفضاء.
((يا عيني ع الصبر..)).
أصبحت على لسان المكلومين بالحرمان.. الواجدين كل ما يجدون.. المحرومين المتعة بهذا الموجود..
عذاب أن تجد، وأن تفقد في الوقت نفسه!!
وعذاب آخر أن تتفقد ما لا تجد حتى إذا وجدته فقدك هو!!
((يا عيني ع الصبر..)).
صبها في آذان المكروبين.. في قلوبهم.. في ألسنتهم.. في الوجود المفتقد هذا المغني الخشن المتمرس ((وديع الصافي))..
الصبر قوة، القوة وحدها قد لا تكفي.
الصبر برهان الحق ينتصر به، أيما حق لك ليس برهانه شهادة أحد عليك لأن الباطل يمتلك أقوى البراهين.. بسرعة يتحكم لأنه، وقد أنهك الحق، قد امتلك كل الوسائل التي جعلته يتطاول على الحق!.
الصبر يعطيك الفسحة، والتروي.. يفطنك بالغرة.. يحتفظ الحق بوجود لأن انتصار الحق استمرار، فوز الباطل مؤقت.. كالحب.. الحب كالحق استمرار لأنه حقيقة نفسين، وما يعتري هذا الحب من شوائب باطل، وعجل.. فالصبر علاج لهذا الحب الحق!!
ـ قالت لي، ومن زمن بعيد: لو كنت تقدمت لما كنت لغيرك!.
ـ قلت: أنت لست لغيري الآن.. فامتلاك الزوج لك يعني الحرمان، لكنه حرمان الشخوص.. أما الوجدان.. القلب فيعيش مع الحقيقة المستمرة.. مع الحب!.
من هنا.. لا ألوم، وإنما أقدس..
الكبار في الحب يعيشون في رهبانية الشخوص كشيء ((براني)) لكنهم يحيون ((بجوانية)) السلوك الممتص لخيال يتجسد.. المقتص من حرمان يذوب!
وخطرت على بالي.. لو بقيت حية لكانت في وهم الشخوص مثل ((كرامة بنت عبد المسيح)) في نظر الصحابي شويل.. أعني حياة التجسد، لكنها ما زالت حية في صومعة راهب أمام محراب يستكنه.. يشتم يذوق حتى ليعربد نفسه مع نفسه. كأنه هي.. كأنها هو!..
ـ ((أشوف خيالك في الوحدة دي قدامي أكلمك واسمع حسك وأشكي غرامي وأقوم أضمك.. مالقاش غير أوهامي))!! في قلب الرهبة قداسة ليست أوهاماً.. يصنع ذلك الصبر!
ما أجمل وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ.. إنها مشاعر ظهر فيها شيء من القهر لكن ليس فيها هذا الشيء من الهزيمة!!
ـ جعلني أطبق جفني.. أطرق حسرة من فجيعتي على الكلام الفصيح والرجيح كيف يظل محبوساً في صدر شاعر، أو على أسطر قرطاس!!
جعلني أتحسر كأنما أراد أن يكسر شيئاً من الفرحة في نفسي.. به.. وبأمثاله، وحتى بنفسي!!
جلس يقرأ لي كلاماً لغيره.. كأنما هو يفاخر به نفسه.. حينما تعجب الكاتب المفتن الكلمة البيانية تكون لغيره يصبح من إعجابه بها كأنما هو قائلها.. لأنه - على الأقل - يحفظها.. ينشدها كالمشائين.. بينما صاحبها لأسباب لا يستطيع أن يكون مشاء بها يكتمها.. هو لا يقتلها، وإنما هو يذبح نفسه أجزاء أجزاء.. فالحبيس وراء قضبان قد ينطلق الكلام منه على لسان مشاء، أما الحبيس كلامه فليس هو بالمنطلق.. حين ذاك لا يكون الجسد وراء قضبان إنما يكون القلب والوجدان وراء هذه القضبان التي يصنعها غيره له، أو هو يصنعها لنفسه.. لأنه ليس هو مصنوع زمانه. وإنما يريد أن يكون صانع زمانه.. هذا القسر يحترفه.. لا يستطيع أن يغترف منه إلا الصمت الناطق لأن الفنان تصنعه الروعة التي تملك وجدانه ليصنع بها الروائع يملك بها وجدان الآخرين.. فالفنان - أي فنان - هو مصنوع بالفتنة، وصانع الافتنان!
الفتنة.. في صورة.. في أسطورة.. في لقاء.. في وداع، بعض الوداع لا يرخي الستور على شيء. وإنما هو يفضح المستور.. هذا الوداع الفاضح حينما يكون اللقاء فيه لا يعني إلا أنه حب الحب.. أما اللقاء السرمدي فهو ملالة للحب، وإن أمتع المحبين!!
حتى في اللفظة العامية تجد سحر البيان لأن قائلها أحب الحب حينما أرخى عينيه للحظة الوداع.. يتكلم بما جاش في نفسه حتى إنه ليرى في البعد ساعة الوداع قرب الغرب!!
اللفظة العامية التي تناغي هذا ((المصندق)) في أضلاعه.. المهندم بكل مشاعري.. هو قلبي.. يرفع يديه تحية لما أسمعني صديقي المفضض من شعر لشاعرين.. ما أباح لي أن أذكر اسميهما.. كما يصفق ساكن الجوانح لهذا المعنى جاء بلفظ عامي في قصة سيد درويش.. حوار بينه وبين البطلة هكذا!
ـ جليلة تقول لسيد - أعني الموسيقار العظيم - ((يعني انفتح لي قلبك يا سيد؟!)). فيأتي الجواب من الموسيقار بمسكنة المحبين، وعظمة الوالهين يقول: ((هو بقيلوا ضرف يا جليلة؟!)) أي أصبح قلبه دون باب، ينفتح بالجروح.. جروح الحب للفتنة القاتلة حتى يسمع اللحن الفاتن!!
أي بيان في هذه الكلمة العامية؟..
ـ وهذه صورة رائعة من مناظر المخابر في نفوس شاعرة نقلناها من الذخيرة، لتكون ذخيرة قارئ راوية.. قال:
ومن أحسن ما جاء من توقع أهل التمائم، والاحتيال لكتمان الدموع السواجم، ولا سيما قد أزف الفراق، وعصت بما فيها من الدمع الآماق، قول بعض العرب:
ومما شجاني أنها يوم ودعت
تولت ودمع العين في الجفن حائر
ولما أعادت من بعيد بنظرة
إليّ التفاتاً أسلمتها المحاجر
وقال آخر:
ولما أبت عيناي أن تحبسا البكا
وأن يمنعا در الدموع السواكب
تثاءبت كي أبقى لدمعي علة
وكم مع لوعاتي بغاء التثاؤب
أعرضتماني للهوى ونممتما
علي، لبئس الصاحبان لصاحب
وأنشد ثعلب:
ومستنجز بالحسن دمعاً كأنه
على الخد مما ليس يرقأ حائر
ملأ مقلتيه الدمع حتى كأنه
لما انهل من عينيه في الماء ناظر
فعيناي طوراً تغرقان من البكا
فأعشى وطوراً تحسران فأبصر
وقال آخر:
وقفنا والعيون مثقلات
يغالب طرفها نظر كليل
نهته ريبة الواشين حتى
تعلق لا يفيض ولا يسيل
وأنشد:
ومن طاعتي إياه أمطر ناظري
إذا هو أبدى من ثناياه لي برقا
كأن دموعي تبصر الوصل هارباً
فمن أجل ذا تجري لتدركه سبقا
والبيت الأول من هذين البيتين كقول المتنبي:
تبل خدي كلما ابتسمت
من مطر برقه ثناياها
وقال أبو الشيعي:
وقائلة وقد نظرت لدمع
على الخدين منحدر سكوب!
أتكذب في البكاء وأنت خلق
قديماً (قد) جسرت على الذنوب
قميصك والدموع تجول فيه
وقلبك ليس بالقلب الكئيب
نظير قميص يوسف حين جاءوا
على لباته بدم كذوب
فقلت لها: فداك أبي وأمي
رحمت بحسن ظنك في العيوب
أما واللَّه لو فتشت قلبي
يسرك بالعويل وبالنحيب
دموع العاشقين إذا تلاقت
بظهر الغيب ألسنة القلوب
• أهداني الموسيقار الأستاذ طارق عبد الحكيم كتابه عن مشاهير المغنين من العرب، فشكرت له التذكر والتأليف، فتح به طريقاً لأمثالنا من المحجمين عن مثل ما صنع.
ثم وجدتني أتذكر طارقاً وما أعطى!
لقد أعطى للغناء في هذه الحقبة التي عشناها ونعيشها ما أعده من أجله رائد الموسيقى في هذا البلد.. منح زمانه وإخوانه فرصة أمسك بها فلم يفلتها حتى نشر الآلة، كل الآلة، فجمع الهواة ليصبحوا المحترفين. كنا لا نعرف ضارب القانون إلا سعيد شبانة وتلميذه حمزة، ونادراً أن نجد غيرهما، ومثلهما الضارب على العود، والعازف على الكمان.
كان هذا الشيء من الموسيقى خاصاً وخفياً، يمارسه علية، ولا يعرفه إلا جماعة من صحاب كونوا لأنفسهم شيئاً من ذلك فجاء طارق فإذا هو يعطينا الكثير من هؤلاء وهؤلاء.. ولا أحسبه حينما ترجم لكثير ممن ذكرهم الأصفهاني في موسوعته الكبيرة ((الأغاني)) إلا وقد أعطى للعين ما تقرأ كما أعطى للأذن ما تسمع. وللسان ما يهندم بالنغم.
طالعت الكتاب فإذا هو تراجم فهرست، لا أمثلة، لا تاريخ، هو فهرست يحمله قارئ ليهتدي إلى الأصل. ولقد أهمل كثيرين من أبناء القصور. كما نسي أن يضع للأثر من المجتمع وأحواله الأسباب التي جعلت الغناء أول ما يطلع في فترة ما في المدينة ذلك من أثر الدعة والترف والفراغ والإرزاء.. والحقن العمد تعطى جرعات على صورة من بدرات الدنانير وما إليها، ثم الأثر للترف وما يجره في قصور بغداد.. واللقاء الفارسي بالعربي وما إلى ذلك من لقاءات مع ثقافة اليونان والهند. هذا ينبغي أن يذكر. ولعلّه يتبعه بعد.
والشيء الثاني الذي أحسبه سيأتي به في جزء تالٍ.. هو الكلام عن البارعين في الغناء هنا ممن عرف أو سمع عنهم. من أمثال: حسن جاوى، أحمد شيخو، الحلواني، إسماعيل كردوس، سعيد أبو خشبة، الخطابين آل شاكر من مؤذني مكة، حسن لبنى، محمد علي سندي.
وفي المدينة كان هناك من يعرف النغم على أوسع وأشد من القباني وسلامة حجازي وزكريا أحمد وعلي محمود. من أمثال: البناني وكامل توفيق، أسد توفيق، عبد الستار بخاري، عمر عبد السلام، محمود نعمان، عبد الرزاق نجدي، وطالب توفيق، عقيل توفيق، حمزة حبش.. وغيرهم هنا وهناك ممن كتموا غناءهم فلا يعرفون إلا عند حملة الأسرار وكاتمي الأخبار.
كما لا أنسى ضاربي العود والكمان.. حمزة شحاتة. طلعت وفاء، عثمان خميس.
• قرأت الـ ((قطوف)) أمس.. أورد فيها أستاذنا ضياء الدين رجب شعراً حلواً للشاعر الإنسان.. شاعر الناس للناس ((بيرم التونسي)).. ذلك الذي يمنعه أن يرى الحق مزهقاً للباطل ويرهقه أن للباطل سوقاً رائجة..
ويهمني من ذلك في تعليقي اليوم هذا البيت.. ورد في مختارات الأستاذ:
يصمت الطائر المغرد في الدو
ح إذا كان تحته ثعبان
لعلّ طائر بيرم كان من الطيور الزقاق المترفة.. بلبلاً، أو عندليباً، وهي ليست من طيور أرضنا..
الصورة رائعة من شعر بيرم.. غير أني أريد أن أدافع عن بعض الطيور كالعصافير - مثلاً - فإنها لا تصمت حينما ترى الثعبان.. بل تهيج به.. تهيجه.. يتلمظ.. تهاجمه وهي توصوص.. تجمع - أول ما تجمع - العصافير كلها كأنما كل عصفور يلبي النداء. ويسكن الثعبان كلما اقترب عصفور منه يريد أن ينقره ابتلعه، والعصافير تشاهد صرعاها في فم الثعبان ولكنها لا تبالي.. تنهال عليه رديفاً وراء رديف لتنبه إنسانها أن يعينها على قتله فلا تنصرف.. أعني لا تهرب لأنها لا تخاف.. لا تعرف الجبن.. حتى إذا انتفخ الثعبان من كثرة البلع أصابه وهن في الحركة يتضخم سحره وتتفتق أضلاعه، وينتفخ كرشه فيأتي الإنسان يقتله، وإن لم يكن الإنسان فيجيء العصفور النجدة ذلك الطائر الأسود واسمه ((المجبية)) أسود غطيساً.. يحرك ذيله كأنه مروحة يابانية من صناعة هيروشيما!.. فينقض هذا العصفور النجدة على الثعبان.. لا يأتيه من أمامه وإنما هو يعلو فوق رأسه يسقط عليه ويطير عنه أكثر من مرة.. يسلط منقاره على رأسه يحفره حفراً حتى يقتل الثعبان!
هذه العصافير تصمد أمام عدوها.. لا تصمت صموت الطائر عند بيرم!!
العصافير.. لم يملكها الترف، ولم يبطرها صوت الناعي.. ليس فيها الصداح، وإنما فيها المهاجم للثعبان لا يبالي بمن يبتلع الثعبان منها لأنها ستقتله في النهاية لتعيش آمنة في أعشاشها.. والعصفور ((المجبية)) عرف بمقاتل الأفعى يصب النقر على رأس الأفعى فيقتلها كأنه أحد الفدائيين.. لا يبالي بالموت وإنما هو صائن الحياة لجيل من العصافير قد ابتلاه اللَّه بثعبان فتجمعت عليه تقتله بسلاح هو أضعف السلاح أمام الثعبان: منقار عصفور!
كم في دنيا الحيوان من عظات.. لو عرفها الإنسان لما صمت أمام العدو صموت العنادل، ولصمد في جماعة أمام عدو يقتله، ولو بأضعف السلاح.. أضعف السلاح لا شيء.. قوة السلاح هي الإيمان، والتجمع، ومنقار المجبية!
• على غصون البان.. عصفورتان.. تتناجيان.. بأعذب الألحان.. أغاني الوجدان!! أغنية.. فطن الشاعر إلى حب العصافير.. كان غيره يتخذ من اليمامة، أو الحمامة أو القمرية معلماً لدروس العشق.. غره من هؤلاء بطيء الحركة.. ثبات الملامح.. لا يتغير منهن شيء عليه!! فلم يعر العصافير التفاتاً.. العصافير لم تضع أمام المشاهد من الناس صوراً من حبها كما تصنع الحمامة، ومن إليها.. لأن العصافير سريعة التحرك.. تقفز من غصن إلى غصن.. تنتقل من مكان إلى مكان.. تتعمد إخفاء الرؤية على الإنسان.. كأنما كل حركة فيها مفرضة للتعمية.. فالعصفور المشهور بالحرص يعرف فضول الإنسان.. يريد أن يعجزه بالتخفي.. تبعد الرؤية عن الناظر بسرعة الحركة، ويحكم التشابه السرمدي في العصافير.. لا يستطيع أن يضع علامة على واحد ليعرفه حتى إذا رأى عصفوراً وعصفورة. وإن استطاع أن يميز بين الذكر والأنثى، فإنه يحكم أنهما ليسا زوجين في علاقة دائمة بينهما.. بل إنهما يزدوجان في لحظة.. يحكم عليهما بإباحية لا تعرفها حياة الطيور، ولا حتى حياة بعض السباع!!
يرى في كل عصفور يطارح عصفورته أنشودة الصباح.. يناغيها.. تساعده في بناء العش إنه عصفور طارئ عليها، أو هي عصفورة طارئة.. حتى أنكر إنسان ما أن العش لا يضم زوجين، وإنما هي عصفورة تائهة.. تاهت فبرز لها عصفور ناجاها.. جاءت تبرك على بيض تلك التي شاركت في بناء العش ثم تاهت.. حتى لعلّها، وفي اللحظة نفسها، قد احتضنت بيض التائهة الأولى!
إن رؤية الإنسان لن تعطيه الحكم الصحيح على هذه العصافير.. لكنه لو عرف أن السرعة، والتنقل، والوصوصة كلها قبل بناء العش عش حياة مزدوجة بين عصفورين حبيبين!
لقد ضاع حكم الإنسان برؤية غير صادقة.. يأنف الأجرام الكبيرة، والحركات البطيئة، والجمود الثقيل، فيصدر حكمه على تلك بالرضا، وعلى العصافير بالملامة!
العصافير أصدق من الحمام.. بين الحمام أحمق وبليد، وليس من الحماقة والبلادة صدق.. أما العصفور فذكي، وسريع، وحريص، ومتقن لبناء العش.. يعني أنه ((حريف)) حياة!!
• وكنا لا نفهم السبب في جريان هذا المثل على ألسنة أهل الطائف وأحبابه.. ((الطائف رخا)).
اليوم فهمتها تاريخاً مضى وحالاً يحكى عنه بأسلوب الرضا..
لقد كان الطائف قرية يصل إليها بعض ما هو ضروري وكل ما هو كمالي أو ضروري عند الصاعدين إليه بطريق ((القدو)) قافلة الجمال، وبطبيعة الحال لا يطلب تاجرها أو لا يرسل تاجر إليها إلا ما يباع بكثيره وما يصبر على الحمل والشدة والزمن..
أما اليوم فأصبحت مدينة كبيرة.. وخاطئ من يقول إنها من صغرى المدن في بلدنا.. لقد استطالت واستعرضت وكثر سكانها وكثر القادمون إليها.. سواء من أتخذها طريقاً، أو من صاف فيها..
في عصر الخميس ألزمتني ضرورة أن أطلع ببعض ولدي إلى الطائف فلمحت الخربز.. فتلفت أشتهي أن أشتريه هدية للطائف.. ثم انتهيت إلى أن الخربز في الطائف موجود مثلما هو في مكة وجدة..
وقلت لولدي: أصبح الخربز لا يهدى إلى الطائف.. فقال: وحتى السمك الناشف فالأخضر أغنى عنه. وهكذا، تقارب المدن بالمواصلات والسرعة بالسيارات أراحت الطائف من تكاليف التفضُل عليه بهدية خربز، أو حوت يابس، أو غير ذلك مما كنا نحمله معنا إلى المصيف.
إن الطائف رخا كل يوم الآن.. فذاب المثل وصفا لحال واقع الآن.. وإن بقي إشارة في التاريخ على وضع كان قبله..
ولكني رأيت في طريق الهدا ((بكس ونيت)) يسوقه طفل تعثرت السيارة وراءه، عجز أن يدفعه بسرعة لازمة وقوة لصعود النقب الأحمر.
فلما مررت بجانب ((البكس)) ورأيت الطفل أشرت إلى أبيه، أمسك ذقني، إشارة أن هذا عيب.
وسرت.. فإذا بي أجد ((البكس)) يلحقنا بسرعة يسوقه الأب.. سمع النصيحة..
• شدت القافلة وشد خالي معاها..
وأصبحت في الفِريش يا ليت عيني تراها
أغنية شعبية سمعناها أطفالاً فلما أفقنا لأنفسنا بالإغماءة في بحبوحة من الولع والشدو والألم والبوح والنوح والضحكات فإذا بنا نصحو على شيء مليح ومريح.. يسوقنا إلى التمسك بتراث ورثناه من أعراق أصيلة ممتدة إلى زمن بعيد.. نمسك به إبقاء على حياته وتنويعه بالارتفاع.. لا نرفض أغنية عربية هي للجميع، ولا نميت الشعبية.. فإنا حينما نحييها ونرتفع بها تصبح شاملة منتشرة يسمعها الجميع من كل الناطقين باللغة الشاعرة.
آذان من أجيال لم تألف هذا الأسلوب الشعبي ((الفلكلوري)) قد لا ترتاح إليه، لأنها لم تتعود السماع له.. نعذرها تساهم، ونكرانها لا نرفضه دون معالجة.. فالتكرار عليها يثقل في مسامعها ما لم تألف لتتآلف، فتستسيغه بعد. وأجيال أكثر تعرف، سمعته من قبل، فلماذا نهملها فلا نسمعها هذه الألحان؟.. إن محمد علي سندي ومن غنى بعض ما يغنيه له ولهم آذان تسمعهم، فهم في سوق رائجة وقبول واسع..
شاهد بعض النابهين من المخضرمين ومن جيل بعدهم الحلقة، الأغنية الشعبية، ترجيع أهل الهدا، أو ترجيع الحاضرة في مكة، فصفقوا لها، مسرة بنغم، احتراماً لتراث، مباهاة بأنموذج يمكن أن يعرض في عالم غير عربي دليلاً على حضارة وذوق.
هذا شيء.. وهناك أغاني البحارة.. والنماذج يمكن تسجيلها في الرويس أو في ينبع أو في الوجه.. ولا أنسى جيزان، فهناك في العشاش في جيزان وصبيا وعريش فن، وحضارة..
فلو دخلت عشة لرأيت ديكوراً بسيطاً، عوداً، كمنجة، طبقاً.. كل أعصاب الساكنين هناك نفس سامعة أو أنشودة، كل هذا إذا تكون بأسلوب فني وتلحين متقن موائم لا يخرج عن الأصل ليضم مع العرضة وأغاني الخليج.. إنه سيكون عندنا فناً نباهي به.. ونغني.. ويصلح بعده نواه لشيء أكبر، يأتي به الزمان من الأغاني الرفيعة والتمثيليات والقصص..
إن الأغنية هذه، نواة أسطورة، روح شعب، ثمرات أمة، فحبذا لو عنى الناجحون من المغنين والمطربين، فعملوا لذلك يجمعون ويزينون ويستحلون وينشرون..
إنهم إن فعلوا ذلك كسبوا الشيء الكثير حتى المال الوفير.. ولربما بيعت ((شرائط لبلاد بره)).
• ونكتب اليوم عن وادي ((آش)).. جاء استطراداً في ((كلمة ونص)) فلأخذ السائلون يتراسلون بينهم هامسين، أو جاهرين: من ابن زيدون؟ وما هو وادي آش؟!
وجدير بي وأنا أحب الحب، ولا أنغمس في أخبار الحب.. فالحب ليس خبراً، إنما هو - الخبر - بضم الخاء وسكون الباء!
وابن زيدون.. كان حب الحب حينما يقول:
أما رجا قلبي فأنت رجاؤه
يا ليتني أصبحت بعض رجاك
يدنو خيالك حين شط مزاره
وهم أكاد به أقبل فاك!
كان نظيفاً.. فحزنت أن يتسخ شارع لاسم نظيف!
وابن زيدون.. شاعر الفردوس المفقود ((الأندلس))، وفي هذا الفردوس ((جنة)) بستاناً في الأرض اسمه وادي ((آش)).. لا أريد أن أصفه من ياقوت. ولا أريد أن أرجع إلى عاشق الأندلس.. شكيب أرسلان، فإن الصورة يجلوها شاعرنا الذي يقول.. ويصف وادي آش:
وقانا لفحة الرمضاء وادٍ
سقاه مضاعف الغيث العميم
نزلنا دوحه فحنا علينا
حنو المرضعات على الفطيم
تروع حصاه حالية العذارى
فتلمس جانب العقد النظيم
أي صورة أبلغ من هذه؟.. تخيلوا كيف أن العذراء ترى الحصى وسط الماء كأنما هو حبات من عقدها، فترفع يديها تتلمس عقدها.. تحسب أنه هو الذي انتثر!
أليست هذه نظافة في جمال أنيق؟!!
إنها نظافة في وجدان الشاعر.. من نظافة من وجود الأرض.
الإنسان ابن بيئته.. جمالها جمال في نفسه.. جلالها جلال في كبريائه!
ولوادي ((آش)) قصة أخرى.. جلس أستاذنا أبو إبراهيم عبد الوهاب آشي إلى أمير البيان.. حفيد ابن ماء السماء شكيب أرسلان، قال الأمير شكيب لعبد الوهاب آشي بفرحة عاشق الأندلس: هل أنت من وادي آش؟! كأنما هو يريد أن يقبض عليه فقال عبد الوهاب: لا.. أنا من آش الأخرى: في الشرق الأقصى.. لا في المغرب الأدنى.. آش الذي أنتسب إليه هو في سومطرة! وضحك الأمير، وضحك عبد الوهاب. لكن عبد الوهاب لا يدري أن صلته اليوم كرجل بيان هي الأعمق لآش الأندلس كما هي العميقة لآش سومطرة وهكذا.. لا تمنع قرابة النسب قرابة السبب.. السبب دين واحد. ولغة شاعرة.. الأمير وعبد الوهاب فيها شاعران!!
• هما كلمتان في كلمة.. أولاهما عن مثل.. والثانية عن رسالة من لبنان!
المثل يقول: ((والولد اللي ما بال على كراعي ما أخليه لشاتي راعي))! سمعته من صديقنا فهد المارك.. في تلافيف حديث ذي شجون.. على طريقة: ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة يواسيك أو يسليك أو يتوجع! قالته عجوز من جداتنا المكتويات بنار التجربة. والظامئات الراويات من عد القلوب الخيرة.. فأعجبني كأنما هو كية أصابت المجنون.. كان يحس بوخز من ذات الرئة ((الجنبة)).. فلما وضعوا المسمار الأحمر المشتعل على الوخزة طرقع لها صوت.. فسمعها مثلي كاوية.. فقال: قم.. قم سالماً، وقمت سالماً أتلمظ المثل.. أذوقه.. أشربه.. أشبع من معانيه حتى عدوت وكأني حامل القصعة.. أطوف بها على أصدقائي أرويه لهم.. لأرويهم به.. هو أحد وأشد وأوقع من المثل الفصيح:
ما حك جلدك مثل ظفرك.. فتول أنت جميع أمرك.. وهو ألصق وأدق من المثل أخيه:
النار ما تحرق إلا رجل واطيها!...
لأن في تلك صرخة بالذات.. أما في هذا فصرخة الذات ونداء الأم، وترف التعبير، وتحديد الحاجة، والنص على الشاة.. أمنا على هذه الأرض!
أترك لكم تفسيره على طريقة: كل يغني على ليلاه، متخذاً ليلاي من الناس أو ليلاي من الخشب، كاد العكاظيون أن يهربوا رسالة لا أراها في أيديهم!.. تواضع جميل، ولكنه مخيف!
الجميل ألاّ تبخس الناس أشياءهم، والمخيف أن تبخس نفسك!.. فتستجري بعد الممارسة لبخس النفس على أن تبخس الناس!
فتاة من لبنان كأنما هي أملت من قلم ((فارس الشدياق)) أو ((اليازجيين)) أو ((الخوريين)) أو من قلم أبي محمد ((مارون عبود))!.. لترجع إلينا تقرؤنا.. ثم تكتب لنا.. تشيد بما تقرأ.. عددت الأبواب والأسماء، واشتكت بكبرياء أنها لا تقرأ عكاظ إلا مجموعة في أسبوع، وليته كل الأسبوع.. تريد أن تقرأها يومياً، ولدينا القدرة على ذلك.. أريدها أن تتصل بالخطوط السعودية، فيرسلون لها نسخاً توزعها على صديقاتها من عكاظ! أنا فرح بهذا.. لا من أجل عكاظ، ولا من أجل الكاتبين فيها.. ((ظلاليين)) و((موقفيين)) و((فجريين)) ومقطري ((قطرات)) و((قطوفيين)) حتى إنها لم تنس الإشادة بالصفحتين السابعة والثامنة.. وإنما من أجلها هي قارئة رجعت إلينا! أحييها وأستزيدها أن تزيدنا من عدد القارئات لنا!!
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه
فكل رداء يرتديه جميل
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها
فليس إلى حسن الثناء سبيل
ليست هي وقد أنشدت هذين البيتين.. مطلع القصيدة من قصائد اللغة الشاعرة.. كأنما هي إحدى المعلقات.. قائلها عربي تهود، أو يهودي تعرب اسمه ((السموأل)) هكذا عرفه العرب.. لم ينطقوا اسمه بالعبرانية ((صومائيل)) وأنا مع العرب في ذلك فلا أحسب السموأل في مروءته ووفائه وفصاحته يهودياً تصليب، وإنما هو عربي تهود، وكثير من العرب دخلوا في اليهودية.. لأن اليهود كانوا في حاجة إلى تكثير سوادهم في وادي القرى. وما إليه، في المدينة، وفي نجران أن يقبلوا العربي إذا تهود، وأن يدخلوا في ظل حلف مع القبائل.. اعتزازاً وصوناً لهم.
ليس من همي ذلك، وإن قدمت بعض الشرح، وإنما همي أن أتكلم عن اللؤم والضيم!
الرجل اللئيم لا مروءة له.. لا نجدة عنده.. لا كرم.. لا وفاء.. كل هذه أخلاق المروءة، والمروءة ضد اللؤم حتى إن اللئيم ليبخل على نفسه.. يأكل موائد غيره.. واغلاً يلحس كل صحن حتى إذا شبع ذهب إلى الصحن الآخر ليلغ فيه، فهو الواغل الوالغ، وصاحب المروءة هو الذي يحمل الضيم إذا ما انصب عليه صبراً في كبرياء الرجال، وارتفاعاً عن الشكوى، فلا يجهر بها إلى أحد!
الرجال الذين يتحملون الضيم عافون.. من شيمة الصبر فيهم، ويعفون من سيمة الكبرياء!
الذين يتحملون الضيم في سبيل الهدف الكريم دفاعاً عن عقيدة.. دفاعاً عن وطن.. اندفاعاً لنجدة صديق، أو إغاثة مكروب، أو عوناً لضعيف، هم الكرام.
إن هؤلاء الرجال يصبحون على الألسنة.. كل لسان يثني عليهم، فالسموأل تحمل الضيم والحرب، والحصار من أجل الوفاء، والوفاء مروءة بل هو في الذروة منها:
الذين لا وفاء لهم لا خير فيهم، لا يؤتمنون على شيء خشية العقوق! لإن الجفاء عدم الوفاء.. يجلب الأذى!
احذر عدوك مرة واحذر صديقك ألف مرة
فلربما انقلب الصديق فكان أعلم بالمضرة
من أين تأتي مضرة الصديق؟ لأنه لا يعرف كيف يتحمل الضيم في سبيل صديقه، أو من صديقه.. لأنه قد حرم نعمة الوفاء!!
• يقول أحمد بن الحسين شاعر الدنيا المتنبي:
ستألف فقدان الذي قد فقدته
كإلفك وجدان الذي أنت واجده
ولكني ما ألفت غيرها. ولا كلفت إلا بها!!
هي.. يا بنات الهنود يا فاغية في العمائم.
الفاغية زهرة الحناء.. هي التي تكلفني كثيراً فيما تحملني من النظرة إلى بياضها، والروحة إلى روحها.. رخيصة الثمن والتكليف، غالية العطاء، شذا. عطراً، ما أحلاه. لها رائحة جمالها في التجمل بها. ولاسمها في أذني جرس لأحرفها كأنها المناغية بالفتنة المليحة.
أحبها.. اسمي الغوالي باسمها إذا ما كتبت عن واحدة منهن لا تريد أن تصرح باسمها.
عرفتها.. هذه الفاغية طفلاً في أحواض في المبارك، الخيف في سفح رضوى من ينبع النخل.
أحواض يجملها أهلها بزراعة الحناء.. يتخذون من ورقها خضاباً، ومن زهرها عطراً، وشارات على العمائم.
الخضاب في اليد نقشاً، نقشاً يساوي فيه النقش حتى تسود ((كأنها)) ((الروميل)) في اليد لا في العين. فالعين العربية لا تحتاج إلى سواد.
والخضاب في القدم تحت الخلاخيل والحجل يحمر. حتى لتحمر خدود الناظرين.
زينة كانت مغنية من الأحمر والأسود والأزرق الجليب المجلوب بالدولار.
وسرقتني هذه الحلوة المحلاة بالحناء تلويناً لجمال. وتلويحاً بشذى العطر جمالاً في الجميلات.
سرقتني وأنا راكب جملاً يتهادى راكبه من ينبع إلى بدر، فالمربع الأخضر الفوّاح في وادي الصفراء، أعاد الله إليه بالغيث ماءه إليه.
شنفت سمعي بخرير الماء في عين بعدها عين.. وفاحت بأريجها الفاغية، فإذا هي تسرق النوم، وتعطي الوسن.
حلم غرقت فيه ((جوانيا)) اغتسلت نفسي بعطر الفاغية في ليل صحا فيه النسيم. وصمت هامساً النغم.. يعطي نسمة تناغي من بعيد، كما يناغي صداح باغمه. نسمة تلمس منها البوح، لأنها لا تكتم الفوح.
وصافت نجمة بخيط من شعاع بين سعيفات النخيل، نخيل نصف.. لا هي بالباسقة، ولا هي بالواطئة إلى مستوى اليد الجانية ((القاطفة)).. تنحسر عنها العاصفة، وتتكسر عليها روائح النسمة.. بسطر نور لا يفضح، ولكنه ينفح بشيء عجيب الفتنة. تكون لك فيه ((فيك)) المؤنسة من وحشة أثارتها عاصفة أبعدت عنك النسمة فجاءت النتيجة تقرب إليك البعيد عن نفسك.
وحينما أيقنت بدورة الفلك هذه النجمة، أرسلت نورها في عطر الفاغية.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1480  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 571 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الأستاذة صفية بن زقر

رائدة الفن التشكيلي في المملكة، أول من أسست داراُ للرسم والثقافة والتراث في جدة، شاركت في العديد من المعارض المحلية والإقليمية والدولية .