شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
طفولَة الحسْ المرْهف
اضطرت ظروف العيش زعيم العائلة أن يسافر إلى الخارج في طلب الرزق فسافر إلى الهند وتبعه أبي إلى "أندونيسيا" فأقام بها عامين كانت نفس الصبي خلالهما مسرحاً للعواطف النفسية العنيفة.. وكان هو محل عجب أساتذته وزملائه، ومحل تسخطهم أحياناً.. فهو نجيب ذو خلق فاضل ولكن عزلته تبديه أنانياً متعجرفاً، وكآبته تفضُّ الناس من حوله وتنفرِّهم من مخالطته وإن كان هو لا يبغي إلاّ هذا..
لقد فقد كثرة الأصدقاء ولكنها كثرة كفقاقيع الصابون أو كحبات الماء تتكاثر لتتلاشى في نفس الوقت.. ولكنه لم يفقد قلَّة مختارة نفذت إلى أغوار نفسه وحنايا سريرته أعجبت به وأحبته ومحضته أخلاقها وعونها.. وانتقل من نجاح إلى نجاح وخلف وراءه ثللاً من الراسبين يكبرونه سناً ويصغرون عنه فهماً وإدراكاً..
وعاد أبوه من سفرته الطويلة فألفى ابنه دون الفتوة وفوق الصبا.. أينع عقله بأكثر مما نما جسمه.. وان كان الطابع الحزين ما يزال يكسو وجهه ويتحكم في تصرفاته..
وسأل عنه أهله وأساتذته فتلقى أجوبة مختلفة منها حمد كثير وثلْب قليل لم يتطاول قط إلى مستوى السلوك الخلقي فحمد الله وتمتم له بدعاء وابتهال..
كانت سفرته قد أيسرت حاله بعد إملاق، فسدَّ الدين وأكرم الأهل ثم استعد للأوبة إلى مكة -مسقط رأسه- فقد كان دائم الحنين إليها وإلى من تضمه ربوعها من أهل وخلان.. إنه جزء من تربتها فكيف لا ينازعه حنينه إليها ولا يغلبه هواه؟ وأن أربعاً من السنين قضاها بعيداً عنها نازحاً إلى بلاد الغربة قد ضاعفت من شوقه اللهيف إليها فليس غريباً أن يستعد لأوبة طالما – شغلت فكره ووجدانه..
فأما الغلام فلم يكد يشعر بهذه الفكرة الحبيبة حتى استطار لبه شوقاً إلى البلد الذي يحب وقد كانت تربطه بمكة روابط ما تنفصم.. وما كانت حياة البؤس والفاقة التي يكتوي بنارها وهو لما يزل طفلاً بالتي تؤثر فتيلاً في هذه الرابطة الوثيقة..
وعاد إلى مكة وهو لما يبلغ الحلم وبيده شهادة دراسية تخوِّله دخول مدرسة تماثل المدرسة التي كان ينتمي إليها بجدة. أو هي أختها بتعبير صريح، فقد كان مؤسسها وراعيها واحداً من الرجال يعدل ألفاً كما يقول الشاعر وقد يرجح عليهم كما نعرف نحن عنه ويعرف الناس..
واستبق الغلام الريح ليسقط على مربياته سقوط الندى تنتعش به التربة العطشى..
لقد كن يحببنه كثيراً أو يحببن برَّ أبيه بهن أكثر وان الغلام لا يعرف من دنياه إلاّ الجانب المضيء بنور الروح والمعاني الكريمة.. وعرف بعد العناق الحار واللثم والترحيب أن عجوزاً شمطاء هي أم كبرى مربياته -وكانت تناهز التسعين من العمر- قد اختارها الرفيق الأعلى إليه فلم تخلِّف في نفوس بنتها وحفيدتيها إلا حزناً رقيقاً عابراً لم يلبث أن محته الأيام..
أن الموت بالهرم لهو أخف الموتات وقعاً في النفوس وأدعاها إلى العزاء السريع فهو نهاية طبيعية لا مفاجأة فيها ولا إرجاء.. ولولا الألفة لكان في مثل هذه الموتة ما قد يدعو إلى الرضى المطمئن والارتياح المؤثر.. ولكن غُلامنا كان نمطاً فريداً بين الناس لا تخضع نفسه لما تخضع له نفوسهم ولا يستقيم منطقه مع منطقهم ولا تجري عواطفه مع عواطفهم في مضمار واحد.. إن له وجدانه وأحاسيسه وأفكاره الخاصة، فهو دنيا وحده بما يضطرب في نفسه ويعتمل فيها ويوجهها.. فما كاد يسمع بالنبأ السيئ حتى اربدِّ وجهه وغام.. واحتوشته الأفكار السود الحزينة فخلطت فرحة اللقاء بمرارة الفراق، وأخذ يبكي بكاء متواصلاً أدهش مربياته وأخجلهن.. فقد دهشن لهذا الغلام الصغير الغريب الذي كرثه من الحزن على الرائحة ما لم يكرثهن وهن أهلها الأقربون. وخجلن لأن الفرح الذي كان يترقرق في وجوههن وهن يقابلن الغلام بالترحاب لا يوحي بأي معنى من معاني الحزن بل هو على العكس يوحي بمعان قوية واضحة من المرح والسلوان..
والطبيعة البشرية كانت وما تزال لغزاً ربّما أماته الفكر والعجز.. لقد عرفت المربيات أن الغلام أرقى منهن حسّاً وأرهف عاطفة وأسمى نفساً فاحتقرن نفوسهن ونظرن إليه نظرة فيها مزيج من إكبار وحسد وغيظ.. إننا إذا احتقرنا نفوسنا فإننا نطالب من حملنا على هذا الاحتقار بالثمن ونضمر له حسداً بل غلاً وكيداً.. وما الحسد إلاّ إعجاب معكوس.. وليس الحب والكراهية إلاّ جارين ما يفصل بينهما إلاّ حاجز رقيق..
وهكذا كان موقف الغلام المسكين مع مربياته..
هو فريسة للألم يحزّ في نفسه ويلهب مشاعره ويقرح أجفانه وهو لما يزل يانع العود غضَّ الإهاب لم تتفتح نفوس لداته إلاّ على لهو ومرح وعربدة بريئة..
وهن حنقات مغيظات مما يواجهن من عظمة نفسية رائعة تتضاءل أمامها نفوسهن ولولا بقية من حنان وتأميل لزجرنه وتطاولن عليه ولحقه منهن أذىً وشر..
قالت كبراهن لبناتها. أنها الطفولة فلا تعجبن.. وغداً سيكبر ويشتدَّ عوده وينضح عقله وتصلب إرادته فما يأبه بمثال هذا ولا يستكين أمامه..
إننا نفضله بالتجارب والجلد ومواجهة الحقائق فلا تدهشن لخياله الصبياني المشبوب وهو حَدِثٌ إن الواحد كلما كبر وتقدم به العمر فما يحزن حزنه هذا المبرح أو ينفجع فجيعته هذه ونحن أقرب إليه من الرائحة وألصق بها منه..
واحتفلن بالغلام في تسلية ساخرة ماكرة. إنها جناية الحس المرهف على الغلام المسكين فلا تثريب عليه وهن غير ملومات..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :675  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 5 من 18
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج