شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مــىّ أديبة الشرق والعروبة (1)
كان سقوط بغداد في يد التتر (656هـ) بداية فترة مظلمة في تاريخ الشرق والعروبة. شمل ظلامها جهات الحياة وضروب النشاط في هذه الأمة العربية، وترادفت عوامل الضعف وأسباب الفساد في مختلف نواحي ذلك النشاط فيها مما أدى إلى تخلفها في السياسة والاقتصاد والاجتماع، وكذلك في العلم والفن، وسائر المقومات التي كانت تختص بها.
وقد لف ذلك الظلام فيما لفت المرأة العربية فأخمد ريحها. وطوى ذكرها. بعد أن كان المجتمع العربي يعرف تلك المرأة في كثير من سطور تاريخه الماجد الطويل. فقد رآها وراء الرجل في كثير من الأحداث تشد أزره، وتدفعه إلى مواطن المجد، وإلى ميادين البطولة.. ورآها تنهض معه بأعباء الحياة وأثقالها وآمالها.. وقرأها شاعرة تعبر في حرارة عن عواطفها، وعن أمانيّ قومها.
والممعن في تاريخ الحضارات يرى أن أمجاد النساء كانت مقترنة بأمجاد الرجال، وأن انحطاط المرأة كان مقترنا أيضا بانحطاط الرجل وخموله، أي أن الأزمان التي حظيت فيها المرأة بالذكر ونباهة الشأن، هي الأزمان التي عظم فيها شأن الرجل أو نبه أمره.
ولم يحدث أن نباهة المرأة وبروزها كان على حساب الرجل، أو كانت نتيجة لخموله، فإنهما كانا يسيران تقريبا في طريقين متوازيين.
ولا يخل بهذه القضية البعد الملحوظ في النسبة العددية بين الذين برزوا من هذا الجنس أو ذاك، لأن لذلك البعد أسبابه الطبيعية والاجتماعية، واختلاف المجالات الصالحة لإجادة كل جنس من الجنسين.
وأصلح تسمية للعصر الذي نعيش فيه، أنه عصر الإنسانية، أو عصر الإنسان، نال فيه كل جنس من الجنسين حظه من العناية.
ولم يحدث أنّ دعوة من دعوات الإصلاح أو دعوات العناية بالإنسان اختصمت الرجال دون النساء بوجوب تلك العناية.
والنهضة النسوية المشهودة في عالمنا، والتـي أدت إلى سطـوع نجـم المرأة ونباهـة شأنها، وخوضها بنجاح ميادين العمل والبحث والفن، مدينة إلى حد كبير لعدد من النساء، كن الروائد اللائي رفعن لواء المرأة في بلادنا، وقدنها إلى تلك المجالات التي برزت فيها المرأة، ونجحت إلى حد كبير .
* * *
وإذا ذكرنا أولئك الروائد فإنّا نجد في طليعتهن أديبة كبيرة طار صيتها في العالم العربي، وتجاوزه إلى ما وراء البحار، وكتب للمرأة العربية ذكرا بعد أن كانت الأحداث التي ألّمت بالأمة العربية وبالوطن العربي قد طوت ذكرها، وجعلتها نسيا منسيا. وتلك الأديبة الكبيرة هي"مريم إلياس زيادة" أو "ماري إلياس زيادة" التي اشتهرت في عالم الفن والأدب باسم "الآنسة ميّ".
ولم تكتب هذه الكلمة للحديث عن "ميّ" ولا عن دورها في نهضة المراة العربية، ولا عن أدبها ومنزلتها بين أدباء عصرها ومفكريه، ولا للإشادة بنزعتها الإنسانية، فقد كفانا مئونة ذلك كله صديقنا الأستاذ محمد عبد الغني حسن - رحمه الله - في كتابه الجديد "ميّ أديبة الشرق والعروبة".
ومؤلف الكتاب شاعر مرموق، أعرب بقوة عن مواهبه الفياضة وشاعريته الخصبة منذ سنوات بعيدة، ورجعت أصداءه أعواد المنابر، وجداول الصحف، واستطاعت شاعريته أن تأسر الأسماع، وأن تجتذب القلوب، في الوقت الذي كانت تملأ جو الحياة الأدبية أنغام شوقي وحافظ ومطران والعقاد وشكري والمازني وأبي شادي، ومن إليهم من طبقة الفحول، وممن يتسامون إلى طبقتهم، ثم عرفه عالم التأليف كاتبا وناقدا ومحققا ومؤلفا.
وأنت حين تقرأ لمحمد عبد الغني حسن لن ترى إلا الصورة، أو إلاّ المرآة التي انعكست عليها نفسه الصافية، ولن ترى إلاّ عفة القلم تستقي من عفة القلب وسلامة الضمير، يزين ذلك علم أصيل، ومعرفة مستنيرة، فلا تحس أثر الالتواء ولا الغموض، وإنما ترى في كل ما تقرأ له الفكرة العميقة والرأي السديد، والبيان المشرق.
وآثار ذلك كله واضحة في آخر ما قرأنا من آثاره "ميّ أديبة الشرق والعروبة" وقد قسم المؤلف بحثه إلى ثلاثة أقسام، جعل عناوينها:
1- دراسات وملامح .
2- أحاديث عن ميّ.
3- منتخبات من ميّ.
وشرح لنا في مقدمة الكتاب تطوره في تتبع ميّ ودراستها، فذكر أن مجلة "المقتطف" كانت قد انتدبته عقب وفاة ميّ لأحاديث يديرها مع طائفة من بقايا الكرام من أساتذة ميّ وأصدقائها، ورواد ندوتها الأدبية الرقيقة منذ أن تولت ميّ إنشاء تلك الندوة من أمثال المرحومين: مصطفى عبد الرازق، وعباس محمود العقاد، وأنطون الجميل، والدكتور منصور فهمي، وإبراهيم عبد القادر المازني، والشاعر خليل مطران، والدكتور طه حسين رحمهم الله.
وقد أغرت الأستاذ محمد عبد الغني حسن تلك الأحاديث التي أدارها بالنهوض بكتابة بحث عن "ميّ" يدرس فيه أدبها بسماته الشرقية، وحفاظها على العربية، وقوتهـا الخطابيـة، وندوتها الأدبيـة - أو صالونها - الذي كان ملتقى الأعلام من رجال العلم والأدب والفن.
ثم كان من تلك الدراسة ومن الأحاديث السابقة كتابه "حياة ميّ" الذي ظهر سنة 1942، حتى كان هذا الكتاب الجديد الشامل الذي أفاد من طول التجربة ومن الملاحظات والتوجيهات التي جاءت من بعض العارفين، كما ضمّ نماذج نادرة من أدبها وكتاباتها وخطبها ورسائلها.
وفي القسم الأول من أقسام الكتاب الذي جعل المؤلف عنوانه "دراسات وملامح" فصل القول في ميّ في نحو مائة وأربعين صفحة من كتابه البالغ 332 صفحة. وقد بدأ برسم صورة خاطفة لميّ في صفحتين، وهذه الصورة الخاطفة على وجازتها، ترسم معالم حياة "ميّ" وتتحدث عن شخصيتها. وقد أحسن المؤلف بذلك الإيجاز ليكون القارئ على بيّنة من الموضوع، وليلهب شوقه إلى التفصيلات الوافية في الصفحات التالية التي يوضح فيها ملامح الصورة، ويتحدث عن اسمها الذي تحول من "ماري" إلى "ميّ" وهو الاسم العربي الجميل الذي تخيرته لنفسها. وفي عرض أدبي رائع يشير المؤلف إلى خصائص هذا الاسم ونغماته الصوتية ودلالته التاريخية والعاطفية.
وفي ذلك المجال يذكر المؤلف حقيقة كانت خافية على أكثر المعاصرين، وهي أن التغيير من "ماري" إلى "ميّ" لم يكن أول تغيير أو انتقال، فقد سبق للآنسة ميّ أن اختارت لنفسها اسما وضعته على أول كتاب أصدرته بالفرنسية، وهو كتاب "أزاهير حلم". أما الاسم الذي اختارته لتضعه على هذا الكتاب الفرنسي اللغة فهو "إيزيس كوبيا" ويتساءل الكاتب عن السر في تخير هذا الاسم الأعجمي، ويعرض ضروبا من الاحتمالات لا يسع القارئ إلا أن يوافقه عليها واحدة واحدة أو مجتمعة.
ومن هذه الاحتمالات: فقدان الثقة بالنفس، خشية أن يصاب ذلك العمل الأدبي بالإخفاق، فتسلم حينئذ من معرة الانهزام، ولوم اللوام. ومنها الرغبة في إثارة فضول الناس وأسئلتهم حول هذا الاسم الغريب: من تكون صاحبته؟ حتى تخلق بذلك جوا من الاهتمام بها، عن طريق الشك والارتياب. ومنها توخي المواءمة بين اللغة المؤلّف بها الكتاب واسم مؤلفه، فإن الناس في ذلك الحين (سنة 1911) لم يكونوا قد ألفوا أن تكتب أو تؤلف فتاة عربية باللغة الفرنسية، وخشية الفتاة الناشئة الطموح أن يقول الناس عنها إذ كتبت اسمها الصريح - ما لهذه الفتاة المتحذلقة واللغة الفرنسية؟ لغة "جورج ساند" في دنيا النساء، و"أناتول فرانس" في دنيا الرجال !.
وكل احتمال من تلك الاحتمالات مقبول، ولا يخرج واحد منها عن دائـرة المعقـول، وإن كان الاضطراب وفقدان الثقة بالنفس أو بالعمل مجتمع تلك الفروض، وملتقى تلك الاحتمالات! فقد كانت هذه الأسماء المتعاقبة: ماري، فإيزيس كوبيا، فميّ، دليل الحيرة والاضطراب والقلق، فلم يسلم كما يقول المؤلف من حيرتها حتى اسمها !.
ولكن الأستاذ المؤلف في مجال الإحصاء والاستقصاء، لم يذكر للقارئ شيئا عن اسمها الحقيقي الأول، وهو "مريم" وأن اسم "ماري" كان نداء التدليل أو التشبه بالعلم الأجنبي في زمان الشعور بضعف العربي أو الشرقي !.
وقد أشار إلى اسمها الأول "مريم" الأستاذ الشاعر الكاتب طاهر الطناحي في تقديمه للابتسامات والدموع، وللظلمات والأشعة. وكتاب الأستاذ محمد عبد الغني حسن مظنة هذا الاستقصاء قبل أي مرجع سواه.
وينتقل المؤلف بعد هذا التحقيق إلى الطبيعة وأثرها في نفسية ميّ وفي أدبها، ويتحدث عن كآبتها وابتسامتها في تحليل نفسي دقيق عميق، كما يتحدث عن محنتها وغروب شمسها بعد وفاة أبيها الصحفي المعروف "إلياس زيادة" صاحب جريدة "المحروسة"، ووفاة عدد من أساتذتها وأصدقائها. ويشرح المؤلف بعد ذلك عواطف ميّ الوطنية التي كانت "لبنانية بأصلها، مصرية بنشأتها، عربية بلغتها".. ومن هنا تنازعها وطنان: لبنان وجباله، والنيل وجماله.. "إلا أنها آثرت أن توسع نظرتها في التقسيم السياسي فجعلت الشرق كله لها وطنا، وكلمة الوطن عند ميّ تعني الشرق كله" ثم يتكلم عن اتجاهها نحو الوطنية العالمية بعد الحرب العالمية الأولى.
ولكن تطور هذه الأفكار كان تطورا طبيعيا للغربة التي كانت تحسها، وللرحلات التي قامت بها، والثقافة الواسعة التي كانت تتمتع بها.
ثم يشرح الأستاذ المؤلف تعلم ميّ اللغة العربية ودراستها آدابها. وفي فصل نقدي بارع يتحدث عن أسلوبها في الكتابة والخطابة، وأشار إلى أسلوبها التهكمي، ثم درسها خطيبة ومحاضرة وشاعرة وناقدة، كما أشار إلى ولوعها بفن الموسيقى. وانتقل عقب ذلك إلى دور ميّ في النهضة النسوية ثم تحدث عنها كاتبة، وعن منتداها الجميل الذي كانت تختلف إليه الوفود بين عالم وأديب ووزير، فيزول التفاوت بينهم، ويجمع بينهم الأدب اللباب، ويؤلف بينهم على اختلافهم في المراتب، وتفاوتهم في المناصب . وميّ في وسط الجمع تدير الحديث، وتوجه الكلام، وتقبل على الزوار في بشاشة تنسيهم أنهم ضيوف، وتقدم لهم شراب الورد سائغا للشاربين.
ويتحدث عن ولوع ميّ بالكتاب منذ طفولتها الواعية في المدرسة حتى ماتت على سرير الردى، والكتب منثورة على النضد بجانبها، وكأنها أبت أن تودع العالم دون أن تكون آخر نظرة من عينها ملقاة على دفتي كتاب.
ويختم الأستاذ المؤلف هذه الدراسة العميقة الواعية بكلمة الشعر في رثاء ميّ، فينقل قصيدة العقاد أو خماسيته التي يقول في أولها:
أين في المحفل "مي" يا صحاب؟
عودتنا ها هنا فصل الخطاب
عرشها المنبر مرفوع الجناب
مستجيب حين يدعى، مستجاب
أين في المحفل "ميّ" يا صحاب؟
سائلوا النخبة من رهط الندي
أين "مي" هل علمتم أين "مي"؟
الحديث الحلو واللحن الشجي
والجبين الحر والوجه السني
أين ولى كوكباه؟ أين غاب؟
وقصيدة خليل مطران التي ألقاها في حفل تأبينها وأولها:
قد تولى رفاقنا وبقينا
يعلم الله بعدهم ما لقينا
هل من الصاب في كئوسك سؤر
قد سقينا يا دهر حتى روينا
* * *
وهذا القسم التأليفي من أقسام الكتاب الثلاثة هو الذي يبدو فيه الجهد الذي بذله الأستاذ المؤلف في التعريف بشخصية "ميّ" وأدبها، والعوامل المؤثرة في تخريجها.
وقد استبدل المؤلف في هذا القسم العناوين المتزاحمة، بالفصول الجامعة التي كان من الممكن أن يستوعب الواحد فيها أكثر من موضوع، وينتظم تحته أكثر من عنوان من العنوانات المتشابهة والمتقاربة. فيكون فصل لميّ، وفصل لعصرها، وفصل لأدبها تجتمع فيه دراسة شعرها، وكتابتها، وخطابتها ونقدها. وفصل لرأي المعاصرين في أدبها أو في شخصها، وفصل لأثرها... الخ، حتى تلتئم حلقات الدراسة، ولا يفصل بين دراسة "ميّ" الشاعرة الخطيبة، ودراسة "ميّ" بالعناوين المميزة الدالة على موضوع الكتابة و "ميّ" والموسيقى، ودور "ميّ" في النهضة النسوية..
وفي القسم الثاني "أحاديث عن ميّ" مع مصطفى عبد الرازق، وهدى شعراوي، والدكتور طه حسين، وعباس العقاد، والسيدة إيمي خير، وأنطون الجميل، والدكتور منصور فهمي، وإبراهيم عبد القادر المازني، وخليل مطران.
وقد أحسن الأستاذ، ووفى للبحث وللحقيقة بإثبات هذه الأحاديث التي تتم بها معالم الصورة مع الذين رأوها عن كثب.
كما قدم للقارئ مجموعة كبيرة من رسائل "ميّ" ومقالاتها وخطبها في القسم الثالث من الكتاب. وكان في إثباته تلك الأحاديث والمنتخبات موقفا إلى أبعد حـدود التوفيـق، حتى يعيـن القارئ على استجلاء الفكرة من ينابيعها الأولى، ومواردها الأصلية، ويفتح الطريق لكل دارس يريد أن يعالج ناحية من النواحي المثيرة التي تتصل برائدة كبيرة من روائد نهضة المرأة العربية في عصرنا.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :716  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 23 من 25
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

محمد سعيد عبد المقصود خوجه

[صفحة في تاريخ الوطن: 2006]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج