شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
بواكير حركة التجديد في الشعر العربي
لا أعرف قضية من قضايا الأدب شغلت الناس في هذا القرن العشرين كما شغلتهم قضية التجديد في قوالب الشعر وأشكاله الموروثة حتى أصبحت هذه القضية الشغل الشاغل للشعراء والكتاب والنقاد الذين ملأت كتاباتهم جداول الصحف وصفحات المجلات، وألفت فيها كتب مستقلة كثيرة، كما كانت موضوعاً لبحوث ورسائل جامعية عنيت بها الجامعات في أرجاء الوطن العربي.
وقد أفاضت تلك الكتابات والبحوث والدراسات في تناول أبعاد تلك القضية وسبر أغوارها، وشرح أهدافها.
ونشبت معارك قلمية شعواء بين المجددين وأنصارهم والرافضين ومن يشايعهم من أهل الحفاظ على المثل المأثورة الذين لم يجدوا سبباً يدعو إلى العدول عن ذلك القديم، أو النفور منه، أو الخروج على سننه وتقاليده.
وليت ذلك الحوار وقف عند الأبعاد الفنية التي تقتضيها طبيعة الفن الأدبي، والخصائص التي يتميز بها كل جنس من أجناسه كما يعرفها الخبراء العليمون بهذه الصناعـة، وبمدى تقلبها للتعديـل أو للتجديد، ولكن ذلك الحوار تطاول وامتد واتسع، حتى تجاوز حدود الحوار الفني حول قضية أدبية أدّت إلى معارك حامية وإلى سباب ومهاترات، عمد أصحابها إلى النيل من كرامات مخالفيهم في الرأي، وحسبوا أن المخالفة عداوة يجب أن يشهر في وجهها كل سلاح !
ولو أن واحداً من المتتبعين استطاع أن يحصي ما كتب حول هذا الموضوع لملأ به مجلدات ضخاماً تنوء بها مكتبة الأدب في العصر الحديث.
* * *
وفن الشعر هو أبرز الفنون الإنسانية عند العرب، وهو أصلها وأعرقها، حتى لو أن قائلاً قال إن الشعر هو فنهم الأوحد لم يبعد عن الصواب، فقد احتفوا به وبقائليه احتفاء منقطع النظير، وهو السجل الباقي الذي نقرأ فيه تاريخهم البعيد، ونعرف منه أحوال بيئاتهم وأسلوب حياتهم، وعاداتهم وتقاليدهم، فقد وصفوا فيه ما وقعت عليه أعينهم، وما يجيش في صدورهم من الأماني والآمال، وما يشغل عقولهم من الأفكار، وما يملأ قلوبهم من المشاعر والعواطف، إذ كان الشعر كما يرى فلاسفة اليونان الأقدمون فن المحاكاة الذي يحاكي الطبيعـة الخارجية أو طبيعة الوجـود كما يتمثلها الشاعر والطبيعة الداخلية كما تتفاعل في أعماق الشعراء.
وليس يعنينا في هذا المجال الحديث عن منزلة الشعر وأثره في نفوسهم وتصويره لحياتهم أو مشاعرهم، ولا يتسع المجال لشرح فكرة المحاكاة أو نظرية المحاكاة، واختلافها بين أفلاطون وأرسطو، ولا الإشارة إلى اختلاف النقاد في إدراك مراميها.
وإنما الذي يعنينا في هذا السياق أن نقرر أن فن الشعر جنس من أجناس الأدب يتوافر فيه ما ينبغي أن يتوافر في سائر الأجناس الأدبية من جودة العبارة وأناقة التعبير التي تحيل الكلام إلى تعبير فني، ويتميز بها من لغة التخاطب بين أصحاب اللسان الواحد.
ولكن فن الشعر يمتاز من بين هذه الأجناس الأدبية بخضوعه لأنساق موسيقية توارثتها الشعراء. وتتمثل تلك الأنساق في أوزانه وبحوره المعروفة التي اهتدى إليها الشعراء بفطرتهم بها هذا المبلغ من الوحدة والإحكام الذي ارتضته أذواق صناع الشعر ومنشئيه.
على أن النثر الفني قد لا يعدم هذه الموسيقى التي تأخذ بالألباب وتنشأ عن افتنان الكتب وتأنقهم في صوغ الألفاظ، ولكنها موسيقى غير ملتزمة التزامها في الفن الشعري التي تتميز موسيقاه بجريانها وفق نظام خاص محدود.
وتحتل "القافية" في مفهوم الشعر العربي مكاناً ملحوظاً، ونرى منزلتها في هذا الشعر في اقتران القافية بالوزن في جل ما أثر من حدود للشعر عند العروضيين والنقاد العرب منذ أقدم العصور، والشعر عندهم جميعاً هو "الكلام الموزون المقفى" وأضاف قدامة بن جعفر إلى هذه الخصائص المميزة للشعر عبارة "يدل على معنى". والمقصود بالتقفية عندهم الالتزام بروي واحد.
وعرف ابن خلدون الشعر بذلك التعريف "الكلام الموزون المقفى" وفسر "المقفى" بأنه الذي تكون أوزانه كلها على روي واحد، وهو القافية.
وقال ابن رشيق في "العمدة": إن الوزن أعظم أركان حد الشعر وأولاها به خصوصية، وهو مشتمل على القافية، وجالب لها ضرورة، إلا أن تختلف القوافي فيكون ذلك عيباً في التقفية لا في الوزن. وقد لا يكون ذلك عيباً في نحو المخمسات وما شاكلها..
وقال في موضع آخر إن القافية شريكة الوزن في الاختصاص بالشعر، ولا يسمى شعراً حتى يكون له وزن وقافية.. والمصرّع أدخل في الشعر، وأقوي من غيره.
وقال علي بن عثمان الإربلي في كتابه "القوافي":
"اعلم أن العروض مرتبط بالقوافي كارتباط البدن بالقدمين".
ويستفاد من هذا وأمثاله التي لا تحصى أن القافية الموحدة داخلة في مفهوم الشعر العربي، وأنها لازمة في كل أبيات القصيدة حتى أنهم لا يسمون الكلام شعراً إلا إذا بنيت جميع أبياته على روي واحد، أو قافية واحدة.
ولذلك وضعوا لكل مخرج على هذا النسق من وحدة الوزن ووحدة القافية اسماً خاصاً به، فكانت هنالك الموشحات والمربعات والمخمسات والمسمطات وغيرها مما يختلف فيه نظام القوافي، أو يخرج بها عن النسق المعروف.
* * *
وإنما تحدثت في هذا السياق هذا الحديث الموجز عن القافية ومنزلتها في عالم الشعر العربي لأن محاولات التمرد على نظام هذا الشعر وأنساقه المعروفة كانت أولى محاولات التجديد أو التحلل من القيود في الفن الشعري من نظام القوافي.
ولم يكن الشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي كما زعم أول من استحدث القافية المرسلة أي غير المقيدة في الشعر العربي.
ذلك أن "الشعر المرسل" فيما نعلم، وفيما سجلناه في كتابنا "نظرات في أصول الأدب والنقد" قد بدأت تجربته والدعوة إليه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي. وقد قلنا في ذلك الكتب ما نصه:
"وربما كان رزق الله حسون الحلبي الأرمني الأصل (1825 ـ1880م) أسبق صانعي هذا "الشعر المرسل" وأقدم الدعاة إليه، وذلك في ترجمته المنظومة للفصل الثامن عشر من سفر أيوب الذي سماه "أشعر الشعر" (Poems Of Poems). وقد طبعت الطبعة الأولى من هذا الكتاب في لندن سنة 1869م، مع مقدمة باللغة الإنجليزية. وقد أهداه إلى "صاحب الجلالة الإمبراطور الإسكندر الثاني إمبراطور روسيا". ثم أعيد طبع ذلك الكتاب بعد ذلك في بيروت سنة 1870م.
وقال رزق الله حسون في مقدمة ترجمته "وقد سنح لي أن أنظم الفصل الثامن عشر من سفر أيوب على أسلوب الشعر القديم بلا قافية، لأن حد الشعر عندي "نظم موزون" وليست القافية تشترط إلا لتحسينه، فقد كان الشعر شعراً قبل أن تُعرف القافية، كما هو عند سائر الأمم ولم يسمع للعرب بسبعة أبيات على قافية واحدة قبل امرئ القيس، لأنه أول من أحكم قوافيها" !
وليس يعنينا الآن التعقيب على هذه المقالة، وإنما الذي يعنينا في هذا المجال أن هذه الدعوة إلى "الشعر المرسل" كانت فيما نعلم أسبق الدعوات إلى التخلص من القافية الرتبية في الشعر العربي، وأن دعوة رزق الله حسون الحلبي الأرمني وجدت استجابة لدى بعض شعراء هذا العصر، إذ كان جوهر هذه الدعوة وغايتها التخفف من نظام القوافي الذي يقتضي ثقافة واسعة عميقة، تعين على تخير الألفاظ الملائمة للمعاني، والملائمة لبناء القوافي بما يتوافر لها من وحدة الإيقاع الصوتي والموسيقي الذي يتكرر في آخر كل بيت من أبيات القصيدة.
وكان الهدف الحقيقي هو التيسير على من يحاولون صناعة الشعر قبل أن تستوي عندهم الملكة، وقبل أن يستكملوا العدة اللازمة لها، وهي الثروة اللغوية الواسعة فإن اللغة هي أداة المحاكاة الشعرية، كما أن الألوان هي أداة المحاكاة في الرسم، والألحان والأنغام هي أدوات المحاكاة في الموسيقى…
* * *
ثم كانت دعوة الشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي، الذي بدأ دعوته بتأليف عدد من القصائد التي لم يلتزم فيها بما التزمه شعراء العرب من القافية الموحدة في سائر أبيات القصيدة، ولكنه أرسلها "مرسلة" متحررة من ذلك القيد.
ومن أطرف ما ساقه الزهاوي ليؤيد به رأيه أو دعوته إلى "الشعر المرسل" الذي يتحلل من قيد وحدة القافية في القصيدة العربية تشبيهه القوافي في الشعر بالخلاخيل التي كان النساء إلى عهد قريب يتزيَّن بها في أرجلهن، وقد يضربن بأرجلهنّ ليعلم ما يخفين من زينتهن.
وكان النساء يتنافسن في اقتناء الخلاخيل، وتخير مادتها بحسب اختلاف قدراتهن المادية، ومنزلتهن في الحياة، فقد تتخذ تلك الخلاخيل من الذهب الخاص المحلى بالأحجار الكريمة، وقد تتدلى من تلك الخلاخيل جلاجل أو أجراس صغيرة تفتن بوسواسها أو بجلجلتها السامعين، وقد تكون من الفضة أو من النحاس أو مما دون ذلك من المعادن ذات الرنين.
وإذا كانت المرأة المتحضرة قد عزفت عن "الخلخال" أو تحررت منه لأنه كان في رأي بعض الناس رمزاً لعبودية المرأة للرجل، أو لأنه كان يشغل الناظر إليها عن التأمل في محاسنها، فإن الزهاوي كان يخشي أن تشغل موسيقي القافية الموحدة المتلقي للشعر عن التأمل فيه، وعن الاستمتاع بصوره ومعانيه، وسحر إيقاعه الموسيقي الذي يتجلى في أوزانه العروضية.
ولذلك أرسل الزهاوي بعض شعره مطلقاً إياه من قيد الالتزام بالقوافي الموحدة. وقال إنه هو الذي استحدث هذا الشعر المرسل في الشعر العربي. وقد تبين مما سبق وما سيأتي بطلان تلك الدعوى.
ووصف الزهاوي القوافي في الشعر العربي بأنها قيد ثقيل، طالما تبرم به الشاعر، وقال إنه لم يحبب هذا القيد الثقيل إلى الأسماع إلا ألفتها إياه، وعده من "نكد" الشعر العربي، إذ أن قيد القافية أثقل منه في الشعر العربي، لضرورة مراعاة الإعراب، ومقدار الحركات قبله، وتماثلها فوق التزام الروي وحركته.
وذلك في رأي الزهاوي هو السبب الذي جعل الشعر العربي بطيء التطور، عاجزاً عن تلبية متطلبات العصر، لأنه - كما يقول - لا يمنح الشاعر الحرية الكاملة لإيراد القصص، وبث الآراء، والافتنان في الوصف كما ينبغي، ولأن هذا القيد - أي قيد القافية - لا أثر له في الموسيقى التي تجعل الشعر شعراً، ألا وهي الوزن. قال: وحسبك دليلاً أن البيت الواحد يتمثل به الكاتب، فيلذه القارئ، عارفاً أنه شعر من غير أن يسأل عن موافقته لرديفه في القافية !
ثم يقول الزهاوي:
"ما أغنى أرجل غواني الشعر عن خلاخيل القافية، وما أغنى السامع عن سماع وسوستها التي تشوش عليها موسيقي الوزن" !
* * *
على أن الزهاوي مع ذلك لا يرى رفع القافية أو إلغاءها في كل أقسام الشعر، لأن ذلك المطلب عسير على الأذواق العربية التي عرفت القافية وألفتها منذ عصور طويلة وأحقاب بعيدة.
وأي بأس في أن يوجد نوع من "الشعر المرسل" كما يوجد "المقيد" وأن يكون هذا النوع المرسل خاصاً بالقصص والوصف والجدل والحكم حيث لا ينبغي أن يسير على موسيقى الوزن حراً طليقاً في أوسع المجالات، ولا يرسف في قيوده مثقلاً بأعباء القافية.
وقد يستطيع الشاعر العربي التخفف من عبء القافية بأن يحافظ في قصيدته على البحر أو الموسيقى التي تخضع في إيقاعها للنسق العروضي الموروث، وينتقل بعد بضعة أبيات إلى روي جديد، فإن القصيدة لا تخلو من مطالب متعددة يتناسب بعضها مع بعض، فيجعل الشاعر لكل مطلب من تلك المطالب رويا يختلف عن سابقه ولاحقه.
ويبدو من هذا العرض لرأي الزهاوي في قوافي الشعر أنه لم يصرح في أمرها برأي واحد يؤمن به، ويصر عليه، ثم يدعو إليه. ولكنه يتردد كما ذكرنا بين اتجاهات ثلاثة.
أولها (القافية المرسلة) التي صاغ عليها بعض شعره، وهي القافية التي تحرر فيها الشاعر من الالتزام بالقافية الموحدة.
وثانيها (القافية المتنقلة) من روي إلى روي بعد كل مجموعة من الأبيات تتناسب في غرضها.
وثالثها (القافية الموحدة) في جميع أبيات القصيدة الواحدة، وقد صاغ أكثر شعره عليها، والتزمها الشاعر العربي في جل ما أثر من الشعر العربي !
وفي رأيي أن الشاعر الفيلسوف قد سجل فيما أسلفنا مجموعة من خواطره الشاردة في فن الشعر، وأنه لم يأت بجديد يحسب لـه في مجالات التجديد.. حتى القوافي "المرسلـة" التي زعـم أنه استحدثها في الشعر العربي سبقه إليها بعض الشعراء المعاصرين.
* * *
وكان عبد الرحمن شكري واحداً من فرسان حركة التجديد في الأدب، وركنا من أركان المدرسة الحديثة في الشعر العربي التي سميت خطأ "مدرسة الديوان"، وقد سبق أن رفضت هذه التسمية، وفندت حجة القائلين بها، والمروجين لها، وشرحت أسباب اعتراضي عليها مما لا يتسع المجال لتكراره، وإعادة أسباب التجوز أو التجاوز في ذلك الإطلاق. وقد أثرت تسميتها بالمدرسة الإنجليزية في الأدب العربي التي تزعمها عباس محمود العقاد، وإبراهيم عبد القادر المازني، وعبد الرحمن شكري (1) .
وما أريد أن استطرد إلى أكثر من ذلك، مع اعتقادي أنها استطرادات مفيدة، ولكني أريد ألا أتجاوز حدود الموضوع الذي أنا بصدد البحث فيه.
ولقد جمع شكري في ديوانه خمس قصائد من الشعر المرسل، وهذه القصائد هي:
(1) كلمات العواطف (من 85).
(2) الجنة الخراب (ص200).
(3) عتاب الملك حُجر لابنه امرئ القيس (ص201).
(4) واقعة أبو قير (ص203).
(5) نابليون والساحر المصري (ص205).
والحقيقة أن عبد الرحمن شكري لم يلتزم الترسل في هذه القصائد، بل أننا قد نجد في القصيدة البيتين يتواليان على قافية واحدة. وقد يزيد عدد الأبيات المتوالية المقفاة على عشرة أبيات.
وللمازني قليل من ذلك الشعر المرسل، ومنه قصيدة عنوانها "إلى صديق"، وفيها يقول:
لا تزرْ إن قضيتُ قبري ولا تبـ
ـكِ عليه كسائر الأصحابِ
خلّ عنـك الوفاء واسمعْ لـد
اعي العذر فينا فلاتَ حين وفاءِ
وقبيحٌ أن تسحب الذيلَ مختا
لاً وتمشي على رقاب الصحابِ
مزعجاً بالسلام رُوحَ كريـمٍ
أنتَ غيَّبتهُ بجـوف العراءِ
قد نضتْ منكم الليالي هواناَ
ونفضْنا أكفّنـا مـن غرامِكْ
فدع السحبَ تسحب الذيلَ فينا
وتروّي ثرايَ، وامضِ لشانكْ
وللمازني قصيدة أخرى عنوانها "ولثمته"، وقد جعل فيها لكل بيت قافية، وله قصيدة ثالثة مرسلة القوافي وعنوانها "حواء والمرأة" وقد ترجمها عن "الفردوس المفقود" للشاعر الإنجليزي "ملتون، وفي أولها يقول:
وما أنسَ ذاك اليومَ لا أنْسَ طيبهُ
وقد بعثتني من منامي المقادرُ
فالفيتُني وسنانةً تحت وارفٍ
من الظلّ في أكنافه الظلُّ يبْسمُ
أسائل نفسي أين أنتَ؟ ومن أنا؟
وأعجبُ مما أجتلي وأشاهدُ
وقد أحدث صنيع شكري والمازني صدى في أعماق العقاد، فصفق لصنيعهما تصفيقاً حاراً، وإن لم يفعل ما فعلا، كما سنعرض لذلك بعد قليل. ولا غرو في ذلك، فهما صديقاه الأثيران، وشريكاه في الحماسة لدعوة التجديد في الشعر العربي..
وقد وصف العقاد نفسه وزميليه بأنهم "فتية لا عهد لهم بالجيل الماضي نقلتهم التربية والمطالعة أجيالاً، فهم يشعرون شعور الشرقي ويتمثلون العالم كما يتمثله الغربي. وهذا مزاج أول ما ظهر من ثمراته أن نزعت الأقلام إلى الاستقلال، ورفع غشاوة الرياء، والتحرر من القيود الصناعية، هذا من جهة الأغراض والأنساق. وأما من جهة الروح والهوى فلا يعسر على البصير أن يلمح مسحة القطوب للحياة في أسارير الشاعر العصري الحديث، ويتفرس هذا القطوب حتى في الابتسامة المستكرهة التي تتردد أحياناً بين شفتيه..
ويستطرد العقاد فيقول: وحسب الأدب العصري الحديث من روح الاستقلال في شعرائه أنهم رفعوه من مراغة الامتهان التي عفرت جبينه زمناً، فلن تجد اليوم شاعراً حديثاً يهنئ بالمولود وما نفض من تراب الميت، ولن تراه يطري من هو أول ذاميه في خلوته، ويقذع في هجو من يكبره في سريرته، ولا واقفاً على المرافئ يودع الذاهب ويستقبل الآيب، ولا متعرضاً للعطاء يبيع من شعره كما يبيع التاجر من بضاعته، وما بالقليل من هذه الروح الشماء في الأدب أن تجهز على آداب المواربة والتزلف بيننا، أو تردها إلى وراء الأستار، بعد أن كانت تنشد في الأشعار، وينادي بها في ضحوة النهار !
وينتقل العقاد من الحديث عن أغراض الشعر ومعانيه إلى بيت القصيد، فيبسط رأيه في ضرورة تجديد قوالب الشعر وأشكاله فيقول:
"ولا مكان للريب في أن القيود الصناعية ستجري عليها أحكام التغيير والتنقيح، فإن أوزاننا وقوافينا أضيق من أن تنفسح لأغراض شاعر انفتحت مغالق نفسه، وقرأ الشعر الغربي فـرأى كيف ترحب أوزانهم بالأقاصيص المطولة والمقاصد المختلفة، وكيف تلين في أيديهم القوالب الشعرية، فيودعونها ما لا قدرة لشاعر عربي على وضعه في غير النثر.
ألا يرى القارئ كيف سهل على العامة نظم القصص المسهبة والملاحم الضافية الصعبة في قوالبهم المطلقة؟ وليت شعري بم يفضل الشعر العامي الشعر الفصيح إلا بهذه المزية ؟ .
ويشير العقاد بعد ذلك إلى صنيع زميليه شكري والمازني في إطلاق بعض شعرهما من قيد القافية، وهو تجديد محدود، فيرى أن صنيعهما ليس الغاية المرتقبة التي يطمح الثلاثة إليها من وراء تعديل الأوزان والقوافي وتنقيحها، ولكنه يعد ما كان منهما بمثابة تهيئة المكان لاستقبال المذهب الجديد إذ ليس بين الشعر العربي وبين التفرغ والنماء سوى ذلك الحائل، فإذا اتسعت القوافي لشتى المعاني والمقاصد، وانفرج مجال القول بزغت المواهب الشعرية على اختلافها، ورأينا بيننا شعراء الرواية، وشعراء الوصف، وشعراء التمثيل، ثم لا تطول نفرة الآذان من هذه القوافي، لا سيما في الشعر الذي يناجي الروح والخيال أكثر مما يخاطب الحس والآذان، فتألفها بعد حين، وتجتزئ بموسيقية الوزن عن موسيقية القافية الواحدة..
ويحاول العقاد أن يستظهر لرأيه بدليل يدل على أن العرب لم تكن تنكر القافية المرسلة في الشعر كما يتوهم المعاصرون، بل كان شعراؤهم يتساهلون في التزام القافية، ويورد لذلك مثالاً من قول الشاعر:
ألا هل ترى إن لم تكن أمُّ مالكٍ
بملْكِ يـدي أنّ الكفـاءَ قليلُ
رأَى من رفيقيه جفاءً وغلظةً
إذا قـام يبتـاع القلوصَ ذميمُ
فقال أقلا واركبا الرحل إنني
بمهلكةٍ والعاقباتُ تدورُ
فبيناه يشري رحله قال قائلٌ
لمن جملٌ رخوُ الملاط نجيبُ
ويقول إن بعض هذه القوافي كما يراها قريبة مخارج الروي وبعضها تتباعد مخارج حروفه، ولو أتيح لهم لتوسعوا في القافية المرسلة وطرقوا في موضوعات الشعر ما تتسع له هذه القافية الفسيحة، غير أنهم كانوا على حالة من البداوة والفطرة لا تسمح لغير الشعر الغنائي بالظهور والانتشار، وكانوا لا يعانون مشقة في صوغ هذه الأشعار في قوالبهم فلم يلجئوا إلى إطلاق القافية ولاسيما في شعر يعتمد في تأثيره على رنته الموسيقية..
ثم يقول إن مراعاة القافية والنغمة الموسيقية في غير الشعر المعروف عند الإفرنج بشعر الغناء فضول وتقيد لا فائدة منه، ونعتقد أنه لا بد أن ينقسم الشعر على التدريج إلى أقسام يكون الشعر في بعضها أكثر من الموسيقى، فتزول أو تضعف هذه القيود اللفظية التي هي من بقايا الموسيقى الأولى في الشعر..
* * *
ذلك رأي العقاد الذي كتبه انتصاراً لصاحبيه أو دفاعاً عنهما، وقد رأى صنيعهما في القليل من شعرهما الذي جنحا فيه إلى إرسال القافية لا يمثل الهدف المنشود من التجديد الذي كان يطمح إليه الثلاثة الأنصار، ولكنه يراه تمهيداً يفسح الطريق إلى ذلك الهدف من التحرر من قيود القوالب والأشكال التقليدية.
وقد نُشر رأي العقاد كاملاً في صدر الجزء الأول من ديوان الشاعر إبراهيم عبد القادر المازني الذي طبع سنة 1914م تحت عنوان "خواطر عن الطبع والتقليد في الشعر العصري"، ثم سجله في كتابه "مطالعات في الكتب والحياة" الذي طبع سنة 1924م.
وقد أبدى العقاد كما رأينا حماسة شديدة في الدفاع عن ذلك الاتجاه والانتصار له، والتمس له الأدلة المنطقية المقنعة من شعر القدماء، ومن أحدث الآراء، لنقاد الغرب، وقد تنبأ العقاد لهذا الاتجاه بالبقاء والتفرع والنماء.
ولا بأس بهذا سواء أكان دافعه الرغبة في نصرة الصديق، أم كان رأيا يؤمن به إذ ذاك، أو أملاً في مستقبل الشعر العربي.
ولكن العقاد يفاجئنا في عام 1944م أي بعد ثلاثين عاماً كاملة من نشر هذا الرأي في مقدمة ديوان المازني عام 1914م بنكوصه عن هذا الرأي وعدوله عنه بعد معاناة وتجارب يقر أنه أخفق فيها، ولم يصل إلى ما كان يرجو، فقد صرح أنه هو وصديقه المازني كانا يشايعان زميلهما شكري بالرأي في إهمال القافية، دون استطابة إهمال القافية بالآذان، وأنه هو نظم القصائد الكبار من شتى القوافي ولكنه طواها كلها، لأنه لم يستسغها، ولم يطق تلاوتها بصوت مسموع، وإن قل نفوره من قراءتها صامتة.
ولكنه كما يقول أراد إفساح الفرصة للتجربة عسى أن تكون النفرة عارضة لقلة الألفة، وطول العهد بسماع القافية.
أشار إلى أنه كتب هذه المقدمة سنة 1914 كان يحسب أن المهلة لانتشار القصائد المرسلة لا تطول حتى تألفها الآذان، وما هي إلا سنوات عشر أو عشرون، ثم نستغني عن القافية حيث نريد في الملاحم والمطولات والمعاني الروحية التي لا تتوقف عن الإيقاع، ثم ذكر أنه اليوم سنة - 1944 -بعد انقضاء ثلاثين سنة على تلك المقدمة - لا يزال ينقبض لاختلاف القوافي بين البيت والبيت عن الاسترسال في السماع، ويفقد لذة القراءة الشعرية والنثرية على السواء، إذ هي لا تطرب بالموسيقى ولا بالبلاغة المنثورة التي لا تترقب فيها القافية بين موقف وموقف، لسهونا عنها بمتابعة القراءة.
ثم يقرر العقاد رأيه الأخير في التقفية الشعرية، وهو رأي يقضي برفضه النهائي لما كان قد ارتضاه ودافع عنه بحرارة منذ عهد بعيد، فيرى أن سليقة الشعر العربـي تنفر من إلغاء القافيـة كل الإلغاء، وأن الأبيات الأربعة التي نقلها عن الشاعر القديم اختلف فيها حرف الروي، ولم تختلف فيها الحركة في جميع الأبيات للزوم الضم فيها جميعاً، والضم حركة كالحرف في الآذان، وإن لم تكن مثله عند العروضيين والنحاة.
ثم يشرح العقاد أثر الألفة والارتياح إلى سماع القافية، فيجعله يتفاوت بين مراتب ثلاث:
فالقافية تطرب حين تأتي في مكانها المتوقع، وإهمال القافية يصدم السمع بخلاف ما ينتظر حين يفاجأ بالنغمة التي تشذ عن النغمة السابقة. والمرتبة المتوسطة بينهما هي التي لا تطرب ولا تصدم، بل تلاقي السمع بين بين، لا إلى الشوق ولا إلى النفور.
فانتظام القافية متعة موسيقية تخف إليها الآذان.
وانقطاع القافية بين بيت وبيت شذوذ يحيد السمع عن طريقه الذي اطرد عليه، ويلوي به، لما يقبضه ويؤذيه.
إنما المتوسط بين المتعة والإيذاء هو ملاحظة القافية في مقطوعة بعد مقطوعة تتألف من جملة أبيات على استواء في الوزن والعدد، أو هو ملاحظة الازدواج والتسميط وما إليها من النغمات التي تتطلبها الآذان في مواقعها، ولو بعد فجوة وانقطاع.
وربما زاد هذا التصرف في متعتنا الموسيقية بالقافية، ولم ينقص فيها إلى حد التوسط بين الطرب والإيذاء، فالأذن تمل النغمة الواحدة حين تتكرر عليها عشرات المرات في قصيدة واحدة، فإذا تجددت القافية على نمط منسوق ذهبت بالملل من التكرار، ونشطت بالسمع على الإصغاء الطويل، ولو تمادى عدد الأبيات إلى المئات والألوف.
ونكتفي بهذا القدر من الحديث عن القافية ومنزلتها في الشعر العربي، وهو كما رأينا حديث مستنير يكشف عن المعرفة الواعية، وينم على الإدراك العميق لأصول الفن الأدبي، وأثره في الإثارة والإمتاع.
وكان بوسع العقاد أن يركب الموجة التي يتعلق بها المبحرون عن غير وعي أو بصيرة، يتبعون كل ناعق، ويقلدون كل من زعم أنه من المجددين، ولا يدرون ما إذا كانت هذه الموجة تسلك سبيل النجاة، أم تؤدي بهم إلى الغرق والهلاك.
ولكننا رأيناه يعي ويتأمل ويناقش ويستثير ملكاته الأدبية، ومواهبه الفنية، وحسه المرهف، ويفلسف الأدب، ويكشف عن طبيعته وخصائصه، وعن أهدافه ومراميه في مثل ذلك البيان الرائع، وذلك الأسلوب العلمي التحليلي الذي يبحث عن الأصول والجذور، ولا يتعلق بالقشور.
وما رأيت واحداً من العالمين بالشعر أو بالعروض تكلم عن القافية في الشعر العربي بمثل مـا رأينا من السعة والتفصيل، واستكناه الأصول الفنية، وشرح أثر الحس والذوق في دعم الرأي الحر بالمنطق العلمي السليم.
وذلك ما نراه واضحاً في جل كتابات العقاد التي تناول فيها الحياة الأدبية والفنية، وموضوعات السياسية والاجتماع، وأصول العقائد والأديان، وسير النابهين في كل مجال، واستحق بذلك أن يكون في طليعة الأدباء والنقاد والمفكرين في عالمنا الحديث.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2202  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 10 من 25
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

البهاء زهير

[شاعر حجازي: 1995]

عبدالعزيز الرفاعي - صور ومواقف

[الجزء الثاني: أديباً شاعراً وناثراً: 1997]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج