شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
3- التوازن في النحو:
أ- العلل النحوية:
لو بحثنا في العلل النحوية، لوجدنا أن علماء النحو كانوا يعللون معظمها بطلب الخفة والبعد عن الثقل في الكلام، وليس المجال هنا لاستعراض هذه العلل، ولكنني سأكتفي بما يسد الغرض من هذا المبحث.
ويحكي لنا "ابن جني" هذه الحكاية يقول: سألت يوماً أبا عبد الله محمد بن العساف العقيلي الجوثي التميمي فقلت له: كيف تقول: ضربت أخوك؟ فقال: أقول: ضربت أخاك. فأدرته على الرفع، فأبى، وقال: لا أقول: أخوك أبداً. قلت: فكيف تقول: ضربني أخوك؟ فرفع. فقلت: ألست زعمت أنك لا تقول أخوك أبداً؟ فقال: إيش هذا! اختلفت جهتا الكلام.
فهل هذا إلا أدل شيء على تأملهم مواقع الكلام، وإعطائهم إياه في كل موضع حقه وحصته من الإعراب، عن ميزة، وعلى بصيرة، وأنه ليس استرسالاً ولا ترجيماً؟ (1) .
ولنأخذ مثالاً يبين فيه تعليلهم لبعض العلل النحوية: "قال أبو إسحاق في رفع الفاعل ونصب المفعول: إنما فعل ذلك للفرق بينهما، ثم سأل نفسه فقال: فإن قيل: فهلا عُكست الحال فكانت فرقاً أيضاً؟ قيل: الذي فعلوه أحزم؛ وذلك أن الفعل لا يكون له أكثر من فاعل واحد، وقد يكون له مفعولات كثيرة، فرفع الفاعل لقلته، ونصب المفعول لكثرته، وذلك ليقل في كلامهم ما يستثقلون، ويكثر ما يستخفون" (2) .
وأكتفي بهذين المثالين لأقول: إن الحركات الإعرابية في اللغة العربية لم ينطق بها العربي اعتباطاً وإنما كانت تسير وفق أسس صوتية ألفها الحس، وهذه الأسس تقوم أيضاً على "التوازن" ففي المثال الأول: عندما كان موقع الكلمة الرفع رفعها العربي دون كلفة أو مشقة، وعندما كان موقعها النصب أبى عليه لسانه النطق بها إلا منصوبة، وهذا "توازن" صوتي يتحكم فيه موقع الكلمة من الجملة، وموقع الكلمة المعنوي، وهنا نجد أن "أبا إسحاق" يعلل "رفع الفاعل" و "نصب المفعول" بتحليلات لا تخرج عن طلب الخفة في الكلام والنطق، والبعد عن الاستقلال.
يقول "ابن جني" في العلل النحوية وموقف علماء النحو منها "وذلك أنما يُحيلون على الحس ويحتجون فيه بثقل الحال أو خفتها على النفس" (3) .
فإذا كانوا في هذه القضية يحيلون على الحس، فالحس "المتوازن" لا يقبل إلا كل ما هو "متوازن" ويأنف من كل ما فيه خلل أو اضطراب ولذلك كانوا يعيبون على الشاعر الإخلال بالحركات الإعرابية لأن الحركة صوت، والصوت يجب أن يكون منسجماً مع بقية الأصوات، فإذا ما اختل بتغير فيه، نفر منه الحس، ومحبته الأسماع كقول الشاعر:
يبيت على معاريَ فاخرات
بهن مُلَوَّب كدَمِ العباط
والخطأ في قوله "معاري" ويعلق على هذا الخطأ "ابن قتيبة" بقوله: "وليست ها هنا ضرورة فيحتاج الشاعر إلى أن يترك صرف؛ معار ولو قال: "يبيت على معارٍ فاخرات" كان الشعر موزوناً والإعراب صحيحاً" (4) .
كما قد يلجأ الشاعر أيضاً إلى ما يسمى بالضرورة الشعرية استجلاباً للخفة و"التوازن".
ب- الإتباع:
قال "أبو البقاء في الكليات" (5) الإتباع أن تتبع الكلمة الكلمة على وزنها أو رويها إشباعاً وتوكيداً حيث لا يكون الثاني مستعملاً بانفراده في كلامهم، وذلك يكون على وجهين: أحدهما أن يكون للثاني معنى كما في هنيئاً مريئاً، فيؤتى به للتوكيد لأن لفظه مخالف للأول، والثاني ألا يكون له معنى بل ضم إلى الأول لتزيين الكلام لفظاً وتقويته معنى، نحو حَسَن بَسن، وهو لا يكاد يوجد بالواو.
وقال "الثعالبي" في فقه اللغة: الإتباع من سنن العرب في كلامهم، وذلك أن تتبع الكلمة الكلمة على رويها إشباعاً وتوكيداً اتساعاً، كقولهم: جائع نائع وساغب لاغب، وعطشان نطشان، خب ضب، وخراب يباب (6) .
"فالإتباع" إذن ظاهرة من الظواهر اللغوية التي تستخدم "ليتوازن" بها التركيب الصوتي مما يؤدي إلى تقوية الكلام وتوكيده مع جماله. وهذا "الإتباع" يأخذ مظاهر عدة:
قال "السيوطي" (7) : "الإتباع" أنواع:
- منه "إتباع" حركة آخر الكلمة المعربة لحركة أول الكلمة بعدها، كقراءة من قرأ الحمد للهِ بكسر "الدال" إتباعاً لكسرة "اللام". وإتباع حركة أول الكلمة لحركة آخر الكلمة قبلها. كقراءة من قرأ: الحمد لله بضم "اللام" إتباعاً لحركة "الدال".
- و"إتباع" الحرف الذي قبل آخر الاسم المعرب لحركة الإعراب في آخره وذلك في "امرىء" و "ابنم" فإن "الراء" و "النون" يتبعان "الهمزة" و"الميم" في حركتها نحو: إن امرؤاً هلك ، ما كان أبوك امرأ سوءٍ، لكل امرىءٍ منهم. وكذلك "ابنم" ولا ثالث لها في إتباع "العين" "اللام".
- و"إتباع" حركة "الفاء" "اللام" وذلك في "مَرْءَ" و "فم" فإن "الميم" و "الفاء" يتبعان حركة "الهمزة" و"الميم" في بعض اللغات فيقال: "هذا مُرْؤُ وفُمُ"، "ورأيت مَرْءَ أو فَما" و "نظرت إلى مِرْءِ وفِمِ" ولا ثالث لها.
- وإتباع حركة "اللام" "للفاء" في البناء على "الضم" في "مُنْذُ" فإن "الذال" ضمت إتباعاً لحركة "الميم" ولم يعتد "باللام" حاجزاً لسكونها، وقول الشاعر:
عجبت لمولود وليس لهُ أبٌ
وذي وَكَدٍ لم يَلْدَهُ أبوان
فتح "الدال" في يَلْدَهُ إتباعاً لَفتحة "الياء" عند سكون "اللام". وإتباع حركة "الميم" لحركة "التاء"، و"الخاء" و "الغين"، في قولهم: "مِنْتِن"و مِنخِر" و "مِغيرة"، ومنهم من يقول: "مُنْتُن" بضم "التاء" إتباعاً لضمة "ميم".
- ومنه إتباع حركة "فاء" الكلمة لحركة "فاء" أخرى لكونها قرنت معها؛ يقولون "ما سمعت له جَرْساً" أي صوتاً إذا أفردوا، فإذا قالوا ما سمعت له حساً ولا "جِرْساً" أي صوتاً إذا أفردوا، فإذا قالوا ما سمعت له حساً ولا "جِرْساً" كسروا "الجيم" على الإتباع.
- ومنه "سكون" عين كلمة لسكون "عين" أخرى أو حركتها لحركتها يقولون: "رِجْس بِخْس" فإذا أفردوا وقالوا: "بَخَس".
- ومن إتباع الكلمة في "التنوين" لكلمة أخرى منونة صحبتها كقوله تعالى: وَجِئْتُكَ مِن سَبَإِ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنَّا أَعْتَدْنَا للكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً في قراءة من "نون" الجميع، وحديث: "أنفقْ بلالاً ولا تخشَ من ذي العرشِ إقلالاً".
- ومنه إتباع كلمة لأخرى في فك ما استحق الإدغام كقول النبي (صلى الله عليه وسلم) في الحديث لنسائه: "ليت شعري أيتُكنَّ صاحبة الجمل الأدْبب تخرج فتنبحها كلاب الحوْءب". وإنما "الأدبَّ" فأظهر التضعيف وأراد "الأدبَّ" وهو الكثير الوبر ليوازن بين "الحوءب" و "الأدبب".
- ومنه إتباع كلمة في إبدال "الواو" فيها "همزة" لهمزة في أخرى كقول النبي (صلى الله عليه وسلم) في نهي النساء عن زيارة القبور: ارجعن مأزورات غير مأجورات والأصل: "موزورات" من "الوزر" وهو الإثم والذنب، وإنما "همزة" ليشاكل "مأجورات" من الأجر.
- ومنه إتباع كلمة في إبدال "واوها" "ياء" "لياء" في أخرى كحديث: "لادريْت ولا تليْت" والأصل "تلوْت" من "التلاوة".
- ومنه إتباع "ضمير" المذكر "لضمير المؤنث" كحديث: (اللهم ربَّ السموات السبع وما أظللن ورب الأرضين وما أقللن وربَّ الشياطين وما أضللن).
والأصل: "أضلوا" بضمير المذكر، لأن الشياطين من مذكر من يعقل، وإنما أتت إتباعاً "لأضللن" و "أقللن".
فالإتباع إذن بجميع مظاهره يؤتى به ليحقق "توازناً صوتياً" ما، به تستقر نغمة الكلام رغبة في تزيينه وجماله.
وقد خصص "أبو منصور الثعالبي" – في فقه اللغة – فصلاً سماه "فصل في حفظ التوازن" قال فيه: "العرب تزيد وتحذف حفظاً للتوازن وإيثاراً له إما زيادة فكما قال تعالى: وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا. كما قال: فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ، وإما الحذف فكما قال جل اسمه: وَالَّيْلِ إِذَا يَسْرِ. وقال الكبير المتعال: يَوْمَ الْتَّلاَقِ، يَوْمَ التَّنَادِ. وكما قال لبيد:
إن تقوى ربنا خير نَفَل
وبإذن الله ريثي وعجل
أي وعجلي. وكما قال الأعشى:
ومن شانىء كاسف وجهُهُ
إذا ما انتسبت له أنكرن
أي أنكرني" (8) .
ويفضي بي ما سبق إلى أن "التوازن" عنصر أساسي في اللغة العربية، فقهها ونحوها وصرفها، يتم به انسجام الأصوات في اللفظ الواحد، وبين اللفظ والذي يليه في التركيب، وبين الجمل في العبارة، فيظهر بذلك جمال الكلام وبهاؤه.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1087  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 55 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

التوازن معيار جمالي

[تنظير وتطبيق على الآداب الإجتماعية في البيان النبوي: 2000]

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الثالث - ما نشر عن إصداراتها في الصحافة المحلية والعربية (1): 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج