شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ثانياً: الجمال الفني في الفكر الأوروبي:
بعد اطلاعي على مفهوم الجمال في الفكر الأوروبي، توصلت إلى أن الاختلاف في التعبير عن الجمال يعود إلى ثلاثة أمور:
أ - منبع الجمال.
ب - اللذة وعلاقتها بالجمال.
جـ- الاختلاف حول قضية الشكل والمضمون.
أ-منبع الجمال:
والمقصود به: هل الجمال موجود في نفس النص الفني فينساب إلى داخل النفس فور تلقي تلك النصوص؟
أم الجمال موجود في نفس المتلقي فيعكسه على ما يناسب تلك النفس من الأعمال الأدبية؟
هنا وجدت أن علماء الجمال انقسموا فريقين:
فريق يرى أن "في الفن قدرة على توليد الجمال" (1) . ويرى "سيدني كلفن" "أن الفنون الجميلة تهدف إلى انتزاع الإعجاب، وتوليد الإحساس بالجمال واللذة" (2) .
والفريق الآخر: يرى "أن الجمال ليس صفة في الأشياء ذاتها بل هو فكرة تخلعها الذات على الموضوع" (3) . ويذهب "فرانزبواس" إلى أن الإحساس بالجمال عنصر أصيل في النفس ويستدل على ذلك بالزينة الموجودة على أواني الطعام في العصور القديمة فيقول: "إن جوهر الفن قائم في القدرة على التشكيل الذي لا يحدث إلا مع التكنيك ... وهذه القدرة على التشكيل تعني انفصالاً عن الواقع لمجرد الحصول على الطعام بل يكون هنا سعي إلى المتعة فكأن الحاجة إلى تجميل الحياة عنصر أصيل لدى الإنسان حتى في تلك العصور السحيقة، وربما كان إدراك الإنسان البدائي لقدرته على التشكيل والتزيين هي مصدر شعور بالكمال وكان هذا الشعور بالكمال هو مصدر نشأة الحاسة الجمالية.
ومن الملاحظ أنه كلما ارتقت حواس الإنسان ازدادت القدرة على توسيع أفق الإنسان، وإذا ازداد عنصر الحس غنىً ازداد شعور الإنسان بالجمال وتولدت الحاسة الجمالية" (4) .
ومن هذا النص استنبطت العلاقة بين الجمال "والتوازن ".
فهو يجعل الشعور بالجمال تابعًا للشعور بالكمال. فكأن الإنسان يشعر بداخله بخلل ما، ولا يسد هذا الخلل إلا الفن فإذا ما شعر "بالتوازن" الذي هو نوع من الشعور بالكمال، شعر بالجمال.
وهناك أمر آخر: فلو صحت مقولة "فرانزبواس" السابقة التي تقول: كلما ارتقت حواس الإنسان ازدادت القدرة على توسيع أفق الإنسان وإذا ازداد عنصر الحس غنى ازداد شعور الإنسان بالجمال وتولدت الحاسة الجمالية. إذا صحت هذه المقولة فإن تطبيقها على شخصية نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) تجعلني أتصور أن الحاسة الجمالية عنده غنية وسليمة إلى أبعد مدى نتصوره، وأن ما صدر عنه من أقوال كان انعكاساً لهذا الجمال – وهذا ما سيدور عليه البحث في الفصل الثالث.
ب- اللذة وعلاقتها بالشعور بالجمال:
كما اختلف علماء الجمال الغربيين في نظرتهم حول منبع الجمال، اختلفوا في المتعة واللذة وعلاقتهما بالشعور بالجمال.
فمنهم من يجعل منهما دليلاً على جمال العمل الأدبي بغض النظر عن كون ذلك العمل جميلاً أو رديئاً ومن هؤلاء "ساتنيانا" الذي يجعل من الفن مجرد استجابة للحاجة إلى المتعة أو اللذة، دون أن يكون للحقيقة أ ي مدخل فيها اللهم إلا أن تكون عاملاً مساعداً قد يؤدي إلى تحقيق هذه الغاية (5) .
ومنهم "مولر فرينغلس" الذي يقول: "إن لفظة الفن هي من الألفاظ التي تطلق على شتى ضروب النشاط أو الإنتاج التي يجوز أو ينبغي أحياناً أن تتولد منها آثار جمالية " (6) .
وفريق آخر: يرفض مبدأ اللذة في الفن رفضاً تاماً ومن هؤلاء:
"بندتوكروتشه" الذي يقول: "والمذهب الذي يُعرّف الفن بأنه لذة يسمى خاصة باسم مذهب اللذة في الفن. وقد تقلبت عليه أحوال كثيرة معقدة خلال تاريخ المذاهب الفنية: فظهر أول ما ظهر في العالم اليوناني – الروماني، وكانت له سيادة في القرن الثامن عشر، ثم ازدهر مرة ثانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ولا يزال في أيامنا هذه ينعم بكثير من العطف والتأييد ولا سيما من قبل المبتدئين في فلسفة الفن الذين يبهرهم في الفن أنه باعث على اللذة ". ويقول في موضع آخر: "هناك فارق بين اللذة والفن: فقد يكون المنظر الذي تمثله لوحة من اللوحات حبيباً إلى قلبنا لأنه يوقظ فينا ذكريات جميلة، ثم تكون اللوحة قبيحة من الناحية الفنية. وقد تكون اللوحة جميلة من الناحية الفنية مع أن المنظر ثقيل على النفس مقيت. ورب صورة نعترف بجمالها ثم هي تثير فينا الحنق والحسد لأنها من صنع عدوٍّ لنا أو منافس تدر عليه بعض الفوائد أو تمده بقوة جديدة" (7) .
أما أن تكون اللذة مما يضفي على الأرواح والعواطف والعقول شيئاً ما، فهذه هي اللذة المقصودة، والتي ذهب إليها "جان برتليمي" فهو يقول:
"الواقع أن اللذة الجمالية لا تسلبنا من هذا العالم إلا لتكشف لنا عن عالم آخر، وتعدنا لهذا النوع من الوجود الذي يتصف بالثروة والكمال والنشوة والهدوء الذي نهدف إليه شعورياً أو لا شعورياً، ولذا فإن الملذات الأخرى لا تستطيع إلا أن "تشغل الأهداف دون أن تعيش هذا الوجود الجديد" في حين أن اللذة الجمالية تملأ كياننا الروحي وتكشف عن مطالبه في حين تشبعها في الوقت نفسه. ولهذا كان التأمل الجمالي علاجاً عظيماً لضجر الحياة" (8) .
ولكن اللذة عندهم قصيرة المدى إذ إنها تزول بزوال المؤثر فهذا "جان برتليمي" يعبّر عن هذه الحقيقة فيقول: "إنها سعادة مبكرة، رغم ذلك لا يعيش فيها الإنسان وقد انتشى تماماً، بل إنها قصيرة، إذ إن الحلم ينتهي حال انتهاء الحفل الموسيقي الذي تحضره، أو حال خروجك من المتحف وسرعان ما تجد الحقيقة أكثر قسوة وأشد بؤساً. فإذا كانت اللذة الجمالية تهدىء من ضيق الحياة، فإنها كذلك تشحذها وتحييها لأنها تبين لك تفاهة الحياة وضعف واقعية ما يسمى واقعية" (9) .
إن ما ذكره "جان برتليمي" يعبر عن الفنون التي طغى فيها جانب المتعة على جانب الفائدة، بحيث إنها قد تمتع النفوس وتصل بها إلى قمة الإمتاع ولكنها مع خلوها عن أي فائدة فسرعان ما تتلاشى متعة المتلقي بزوال الأثر.
أما إذا "توازن" عنصرا المتعة والفائدة وكانت الفائدة من النوع الملموس في الحياة، فإن المتعة ستدوم بلمس هذه الفائدة أو آثارها وهذا ما نجده في أحاديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) فهي من النوع الذي "يتوازن" فيه عنصرا المتعة والفائدة.
جـ- الاختلاف حول قضية الشكل والمضمون:
يعرف "بندتوكروتشه" الشكل والمضمون فيقول:
"يقصد بالشكل: قوة التعبير والقدرة الممثلة للأشياء، أو الصورة لها، بتكوين الإحساسات والمشاعر في خلق الفنان.
ويحدد المضمون: بأنه الأحاسيس، أو الناحية الانفعالية قبل صقلها صقلاً جمالياً.
أما الشكل: فهو صقلها وإبرازها في التعبير عن طريق النشاط الفكري" (10) .
وقد وجد عند علماء الجمال من يجعل الجمال في النص ينصب على الشكل وحده، أي في الصور والأخيلة والعبارات وجرسها وموسيقاها، ولا يهتمون إطلاقاً بالتجربة الأدبية، "والفن عند هؤلاء ليس وسيلة للتعبير عن المشاعر الخاصة، بقدر ما هو وسيلة لخلق صور وأخيلة وإحساسات تبعث على اللذة وتنشر الجمال للجمال وحده، أمّا ما في العمل الفني من نشاط آخر عقلي أو اجتماعي، أو فلسفي، أو أخلاقي فليس له قيمة في ذاته" (11) .
"وهكذا دعت مدرسة "الفن للفن" إلى تنحية الفن عن ممارسة الحياة، والتي فصلت بين الشكل والمضمون في الفن أو بين مادة الفن وصورته، والتي مهدت السبيل لنوع من الطغيان، طغيان عنصر واحد من عناصر الفن على سائر العناصر الأخرى" (12) .
كما وجد من علماء الجمال من يهتم: "بالشكل" وحده، وجد كذلك في الغرب من يهتم "بالمضمون" وحده.
"والحقيقة أن طغيان عنصر ما، يؤدي بطبيعة الحال إلى جَوْر على العنصر المقابل، وقد كانت مدرسة "الفن للفن" بمثابة رد فعل أو احتجاج على تيار آخر كان قد ساد الأوساط الأدبية قبل ظهور هذه المدرسة، ألا وهو طغيان مدرسة الفن "للأخلاق" التي أسرفت إسرافاً مخلاً عندما سخّرت الفن بطريقة سافرة لخدمة بعض قطاعات الحياة، ودعت إلى الفضيلة بلغة أقرب ما تكون للغة الوعظ والإرشاد" (13) . وممن يجعلون الجمال في كل ما هو مفيد "شيشرون" حيث يقول: "إن الطبيعة أبدعت الأشياء على صورة تجعل ما يكون منها جم المنفعة يكون كذلك جليل المكانة موفور الجمال، إن جلالة هذا المعبد نتيجة لازمة لمنفعته، فلو أنك تخيلت "الكابتول" قائماً في السماء على هام السحب، لما وجدت له جلالاً في نفسك ما لم يكن قيامه هناك علة لسقوط المطر" (14) وهذا مما حدا "جوتيه" أن يكتب في مقدمة أشعاره يتحدى الغائيين في الأدب بقوله: "يسألون أية غاية يخدم هذا الكتاب؟ إن غايته التي يخدمها أن يكون جميلاً... ويقول في موضع آخر: لا وجود لشيء جميل حقاً إلا إذا كان لا فائدة له، وكل ما هو نافع قبيح" (15) .
إن طغيان مدرسة "الفن للأخلاق" ومدرسة "الفن للفن" أدى إلى ظهور علماء جمال معتدلين أو "متوازنين" في أحكامهم منهم:
1- الكاتب والفيلسوف الفرنسي "ديدرو" 1713 – 1784:
"وقد أقام "ديدرو" معنى الجمال على إدراك العلاقات بين الأشياء والأجزاء، فعنده الجميل: هو الذي يحتوي في نفسه وفي خارج نطاق الذات على ما يثير في إدراك المرء فكرة العلاقات، والجميل بالنسبة لي هو الذي يثير هذه الفكرة... ففي الأدب -مثلاً- لا ينبغي أن نقول إن الكلمة أو الجملة جميلة، دون أن نقف على موقعها في الجمل، وفي القصة أو المسرحية أو القصيدة، وفي الموقف العام... وأما هي في ذاتها فلا ينبغي أن توصف بجمال أو قبح، إذ بدون الوقوف على العلاقات لا يمكن أن نحكم على النظام والتناسب والتناسق والملاءمة، وهي المعاني التي تدفعنا إلى إدراك الجمال في الشيء الجميل" (16) ويذكرني هذا النص برأي " عبد القاهر الجرجاني" في قضية النظم.
2- الفيلسوف الألماني "هيجل" 1770 – 1831:
"للفن في فلسفة "هيجل" قوانينه ووسائله الخاصة، وبها يتميز من الخُلُق في جوهره، فإذا كان لا ينبغي له أن يؤذي الإحساس الخُلُقي، فإنما يطلب منه ذلك باسم الجمال الذي يهدف الفن إليه. ولكن إنتاج الأثر الخُلُقي لا يصح أن يكون غاية الفن في ذاته مباشرة، وإلا أخطأ الفن غايته الخاصة وأخطأ الغاية الخُلُقية معاً. فمضمون الفن فكرة الجمال، مهما يكن مظهره الاجتماعي أو العلمي ولم ينظر إلى الجمال من ناحية ذاتية شكلية وكفى، بل ينظر إليها كذلك من ناحية موضوعية، ومن ناحية المضمون" (17) .
إن "هيجل" يرى أن الإنسان يلجأ إلى الفن ليكمل ما في نفسه من نقص أي "ليتوازن" يقول: "تكمن الحاجة الكلية للتعبير في الفن في دافع الإنسان العقلي لاستخراج العالم الداخلي والخارجي في وعي روحي لنفسه، كموضوع يتبين فيه نفسه" (18) .
لقد كان "هيجل" من أكثر علماء الجمال الذين اهتموا بالمضمون، ولكنه لم يسرف في ذلك الاهتمام، إنما كان يعتبر أن للفن رسالة سامية. فهو يقول: "الفن كان في الحقيقة المثقف الأول للشعوب" (19) .
والجمال عنده يكمن في الفن الذي يهتم بالإنسان: "ما هو إنساني هو الذي يشكل لب ومحتوى الجمال الحقيقي والفن" (20) بل إنه يجعل للجمال والفن مسؤولية تخفيف آلام الواقع الإنساني فهو يقول: "الجمال والفن يهدئان من حزن حالتنا وتحيرات الحياة الواقعية ويقتل الزمن" (21) .
3- الفيلسوف الإيطالي "بندتو كروتشه" 1866 – 1952:
لقد اهتم "كروتشه" بقضية اتحاد الشكل والمضمون، صحيح أنه أولى الشكل عناية، ولكن هذه العناية لم تكن على حساب المضمون مطلقاً فهو يقول: "والحقيقة هي أن المضمون والصورة يجب أن يميزا في الفن، لكن لا يمكن أن يوصف كل منهما على انفراد بأنه فني، لأن النسبة القائمة بينهما هي وحدها الفنية، أعني الوحدة، لا الوحدة المجردة الميتة، بل الوحدة العيانية الحية".
ويقول في موضع آخر: "فسيان إذن (أو قل إنهما وسيلتان من وسائل التعبير الموافق) أن نعد الفن مضموناً أو صورة، شريطة أن يكون من المفهوم دائماً أن المضمون قد برز في صورة، وأن الصورة ممتلئة بالمضمون، أي أن الشعور هو الشعور المصور، وأن الصورة هي الصورة المشعور بها" (22) .
وهكذا لحظت أن معيار "التوازن" بدأ يتسلل إلى الأحكام الجمالية عند علماء الجمال الغربيين، فمنذ القرن الثامن عشر، بدأ الأدب الغربي نوعاً ما بالربط بين المتعة والفائدة. وقد عبر عن هذه النظرة الجمالية الأديب الفرنسي "بول فاليري" حيث قال:
"إن أعظم الأعمال المنظومة وأكثرها موضوعاً للإعجاب هي تلك التي تنتمي عند وصولها إلينا للنواحي التعليمية أو التاريخية.. وليس معنى هذا بطبيعة الحال أن صفتها التعليمية هي أصل جمالها، أو أنه لا يوجد للشعر مذهب آخر غير هذا، بل إن هذا يعني أنه يتعين على الشاعر دائماً وتبعاً لموهبته أن يشكل لوحة مفهومة وجميلة في نفس الوقت.. والتي تسمح له بالجمع بين الرنين والمعاني ...
إن النجاح الذي يحصل عليه الشاعر من هذا الربط بين الجسد والروح نادر، وهو الذي يكون دائماً موضوع الإعجاب قبل كل شيء" (23) .
وهكذا بدأ الأدب الغربي يحاول "خلق فلسفة جديدة ليست مسيحية متزمتة، وليست حركة تنوير خاصة بالقرن الثامن عشر. هذه النظرية الجديدة تؤكد شمولية قوى الإنسان، لا العقل وحده ولا العاطفة وحدها، بل بالأحرى الحدس، الحدس العقلاني، التخيل، إنها إحياء للأفلاطونية الجديدة، إنها وحدة وجود.. النفس والجسد، الذات والموضوع، وكأن شرّاح هذه الأفكار على وعي دائماً بصعوبة ومشقة هذه الآراء التي بدت لهم كثيراً على أنها مثل بعيدة، ومن هنا نجد الرغبة التي لا تنتهي لدى الرومانتيين الألمان، والتركيز على التطور والفن على أنه سعي نحو المثالي" (24) .
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1865  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 30 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج