شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(2)
أتسألني؟؟
أنا على استعداد لأن أرسم لك مكة القديمة في عهدها الجاهلي، يوم كانت عاصمة قريش، سأرسمها لك على لوحة ما تشاهد اليوم من معالمها الجديدة، فهل تبيح لخيالك أن ينطق، إلى أبعد ما يتسع له الخيال.
أترى موقفنا..؟ إننا في ظل باب بني شيبة، وأحسبك تعرف أنه ((شيبه بن عثمان)) لم يكن باباً بالمعنى الذي نشهده اليوم، بل كان ممراً إلى صحن الكعبة بين البيوت، إلى جانب ممرات غيره جعلوها تتخلل بيوتهم كمداخل إلى الصحن، ولكنه كان موضع ارتكاز الحركة العمرانية في مكة، وكان مفروضاً على الحاج في -جاهليتهم- ألاّ يصافح الكعبة يوم قدومه إلاّ من هذا الباب.
أتراك تشهد هذا الزحام المتلاطم على حفافي المدخل..؟ إنهم حجاج من الغساسنة، قضوا مناسكهم، وأوفوا نذورهم، واطوفوا بالبيت العتيق، وها هم يأخذون طريقهم بين ملتويات الأزقة حول باب بني شيبه، حيث تقوم بيوت المجاورين من غساسنة الشام.
أتمضي بنا خلفهم في هذا الزقاق الضيق؟ إنه ينتهي بنا إلى نهاية الحلة التي يسكنها الغساسنة.
وإذا شئت فأدرج بنا يساراً، فثمة بعض بيوت يعرضون فيها أصنافاً من الحبوب وأنواعاً من العطارة وأشكالاً من الفواكه المجففة.. لا تذكر الشاي أو السكر، فتلك أسماء لا تعرفها قواميسهم.. لا ولا الدخان، فقد يتهمون عقلك بما لا يرضيك.
ودع الزقاق يلتوي بك لتصافح بيت العباس، ودوراً لجبير بن مطعم، ودوراً لآل عدي من ثقيف.
وامض: إذا شئت بما نسميه اليوم شارع القشاشية، فهناك سوق الفاكهة تنحدر منه إلى سوق الرطب، ليواجهنا دار مال الله، وأحسبك لا تجهل أن مال الله في الدار وقف.. مواساة المرضى وإطعامهم، وأن ثمة طبيب وكاهن يعاينان المريض، ليرسله أحدهما إلى سوق العطارين، أو يحيله الآخر إلى تميمة يشتريها من سادن الصنم في ظل زمزم.
ودعنا نقطع المسافة أمامنا، لنسير في شعب ابن يوسف، ونسميه اليوم شعب علي. هذه دور عبد المطلب بن هاشم، حيث ولد سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه في أقرب دار منها تشرف اليوم على الشارع العام، وتلك الدور لأبي طالب، تواجهها دور للعباس بن عبد المطلب وأخرى لبعض أولاد هاشم.
ولعلّه لا يعجبك أن تتخلل الأزقة الضيقة الملتوية بالتواء الجادة بين تلال الشعب وهضابه لتستقم إذن باستقامة الشارع، هذا شعب بني عامر، يصافحك في مدخله دار العاص، وإذا رأيت ألاّ تتغلغل في دروبه فحسبك أن تعرف أن ثمة منازل لبني بكر، وأخرى لبني عبد مناف.
فامض بنا في استقامتنا إلى المعلاة.. تريث في خطوك قبل أن تمشي فهذا موقف الحمّارين يكرون حميرهم للمتنزهين وقصَّاد الفسحة بين بساتين الخرمانية، وشعب الصفا وأخياف منى، ومزارع وادي طوى، والزاهر، وامض خطوة لتشاهد سوق الجزارين على يمينك في شعب أبي دب، وشعب أبي دب يتصل بأطراف شعب بن عامر من جهة المقابر حول ما نسميه اليوم ((برحة الرشيدي)).
وإذا: شئت أن تترك الطريق يمضي بنا قدماً، فليس أمامنا إلاّ الحجون الجاهلي على يمين الطريق، أو المدنيين في يساره ونسميها اليوم ريع الحجون اعتباطاً، وليس أمامنا إليهما إلاّ بساتين كانت تسقيها بعض الآبار، ثم بساتين تنتهي بشعب الصفا، وهو ما نسميه اليوم حي المعابدة، ثم بساتين تعرج بمعارج الطريق، أو تستوي باستوائه إلى خيف منى.
فما يمنعنا أن نختصر الطريق، ونحن في المعلاة، دعنا نذهب إلى اليسار فيما كنا نسميه ((الحلقة))، هذه بساتين ابن الزبير يتخللها هذا الدرب الضيق، ليسلمنا إلى الفلق الذي فلقه ابن الزبير وعبده للمشاة.
أأرهقك التصعيد في مرتفعات ابن الزبير..؟ لا عليك فهؤلاء صبيان من قريش يلعبون المدحى، هذا الجبل الديلم يشرف علينا، ونحن نمر في دروب متشابكة بين بيوت لبني غزوان وأخرى لأولاده الحارث بن عبد المطلب وبعض بني شمس.
أهالتك الضوضاء الصاعدة من مهابط القرار..؟ لا عليك فهؤلاء صبيان من قريش يلعبون المدحى، وهو نوع يشبه ((البرجو)) عندنا.
هلمّ فهذا الطريق أمامك يسلمنا إلى الجودرية، وهي من أرباض مكة ينزلها فقراء الأعراب من حجاج الكعبة، فتزدحم بها خيامهم.
دعنا نتخلل الخيام إلى سوق الغنم، فردهة المجزرة، فزقاق المدعاة، وستجد في سوق الغنم أثر المكان الذي قيل إن النبي صلوات الله عليه اقتعده في إحدى روحاته من أعالي مكة وستشهد أثر المكان على يسارك قبيل المدعاة، وقد أحيط ببعض الحجارة، واتخذه الناس اليوم مسجداً.
واقعد، فهذه دور لأولاد الحارث وبعض أولاد العباس وقوم من خزاعة تنتهي بنا إلى ما نسميه اليوم المحناطة، وهي ساحة واسعة كانت تحط فيها عير الحنطة والسمن والعسل، وتطل عليها دار أبي سفيان، التي أعلن النبي حرمتها يوم الفتح: وقد نادى: ((من دخل دار أبي سفيان كان آمناً)).
ولنمش منحدرين إلى المروة، هذه دور لآل عتبة وأخرى لآل ياسر، وهذه حوانيت الحجَّامين على خطوة منها.
أيروقك بعد هذا أن تعرج بمعارج الطريق إلى ما نسميه الشامية..؟ هناك دور لآل زرارة من تميم ودور لآل الخطاب بن نفيل، تسلك بينهما درباً إلى سوق الحذَّائين، ثم تنحدر في زقاق لبني خزاعة يسلمنا إلى دار لبيت المال وآخر لخزانة الكعبة وآخر لشيبة بن عثمان وآخر لآل الزبير، لنصافح بعده دار الندوة، التي بناها ((قصي)).. كمجلس لنواب الأمة يتبادلون فيها الرأي والمشورة.
ولكن: ما لنا تركنا المسعى دون أن نتتبع تخطيطها إلى الصفا، لقد كدت تنسيني هذا الدرب إلى يسارك، فامض بنا هذه دور لبني عدي تفضي بنا إلى الحزامية، فسوق اللّبنانين، فساحة لبني سهم، فدور لأولاد الحكم بن حزام، بينها سقيفة يفترش ظلها بعض صغار الباعة، ويلتوي في صدرها زقاق ينتهي عند الجدار الخلفي لدار أبي سفيان حيث تقوم دار لخديجة بنت خويلد، كان يسكنها النبي صلى الله عليه وسلم عندما بنى بخديجة، وفيه ولدت ابنته فاطمة.
وتعال نستأنف عودتنا إلى المسعى، لنأخذ طريقنا إلى الصفا، هذه منازل لأولاد عدي بن كعب تنتهي إلى ساحة الخطاب، وهي ساحة ورثها عمر، فتركها لصغار الباعة يحتلون أطرافها ببضائعهم، فاستغل الباعة عطفه وراحوا يبنون لبضائعهم ظللاً تقيهم الشمس، فثبتت الظلل وضاعت معالم الساحة، فعجز الورثة عن إثبات حقهم فيها، وهذه الساحة لا تفضي إلى دار العباس، فسقيفة لبني عائدة تنتهي بنا إلى الصفا، ثم تعرج بنا في الطريق إلى فوهة أجياد، لنمر بسوق البزازين بجواره البيت الذي اتخذه النبي صلى الله عليه وسلم مكاناً لتجارته شريكاً مع السايب بن السايب قبل البعثة.
نحن: الآن على فوهة أجياد، فإذا شق عليك أن تسعى في مسالكه الطويلة فحسبك أن تعلم أنه أجيادان، أجياد الكبير وينتهي إلى ما نسميه اليوم ((بئر بليلة)) وكان ينزله ابتداء من رواق المسجد اليوم قوم من بني تميم، كانت بيوتهم تمتد أمام أجياد إلى صحن المسجد، فإذا صعدت بعد بيوت بني تميم متجهاً إلى مداخل أجياد اليوم، واجهتك دور لبني مخزوم، ثم دور لجماعة من الأزد حول موقع دار الصحة اليوم. وعلى غير بعيد من ذلك كان منزل أبي جهل بن هشام، ثم بيوت من الشعر كان ينزلها بعض الرعاة من البدو الطارئين، انتجاعاً للكلأ من مشارف الجبال إلى الصافح.
وأجياد الصغير وينتهي إلى مواقع السد اليوم، وينزله بعض آل عدي بن عبد شمس وتنتهي بيوتهم إلى سقيفة كانت للحواتين، ثم دار لعبد الله بن جدعان، التي تم فيها حلف الفضول بألاّ يقر في مكة ظالم، ثم دور لآل سلمة ابن هشام، وإلى جوارها بئر كانت تتشابك عندها الأزقة، التي تصل بأجيادين، احتفرها آل سلمة مع جماعة من جيرانهم، وكان يردها السكان من أجيادين، ولا أعتقد أن الخبت بعد دور آل سلمة كان مأهولاً، إلاّ أن كان بعض الرحّل يخيمون في بعض شعابه إذا هبطوا مكة.
وإذا: كنا أطلنا الوقوف على فوهة أجياد في نظرتنا العامة إلى منازل القبائل فيه فقد آن لنا أن نستأنف سيرنا مع استقامة الجادة في طريقنا إلى المسفلة، هذا سوق الحزورة على غير بعيد مما نسميه اليوم السوق الصغير، وهو من أوسع أسواق مكة، أتشهد هذا الزحام بالمناكب والأقدام رغم امتداد السوق وسعته..؟؟ أنه معرض البدّالين والبقّالين والعطّارين والدبّاغين وصنّاع الآلات الزراعية.
وهذه العطفة الصاخبة على يمينك، أتدري ما شأنها..؟ إنها منتجع الحجاج يبتاعون منها هداياهم من الأصنام تبرّكاً من مكة، يحملونها إلى بيوتهم وبيوت أصفيائهم لتأخذ مكانها من صدور مجالسهم، فتقبل دعوتهم السخيفة وابتهالاتهم المضحكة.. فهلمّ بعيداً عن هذه الترهات.
هذه دور لبطن من آل صفي ودور لآل عبد الدار، وهذا درب الحنّاطين يلتوي أمامك.. بالتواء الجادة إلى ما نسميه ((الشبيكة))، إنه سوق لباعة الحنطة من منتجات مزارع الحنطة في جنوب مكة ومستوردات اليمن، البلد السعيد، هيا لنمض.
لا تتيامن كثيراً إلى ما نسميه الشبيكة، فثمَّ قفر لم ينزله أحد إلاّ في قرون متأخرة، لنمضِ إذن في جادتنا المستقيمة إلى المسفلة، ولا تنس -قبل أن تخطو- هذه المنازل المشرفة على نهاية سوق الحزورة، فهي لجماعة من بني مخزوم، وهذه دور لبني أسد بن عبد العزى وتلك منازل على سفح ذي أعاصير، ينزلها بعض فقراء البدو من قبائل متفرقة، وبعض من أحابيش قريش، ولعلّ بعض القرائن تدل على أن ((ذا أعاصير)) هو ما نسميه اليوم جبل عمر، ولا أؤكد لك مصدر التسمية، فليس فيما قرأت ما يثبت شيئاً معيناً.
ودعنا قبل أن نمضي إلى أباطح السبل نقف إلى هذه الثنية التي تهبط إلى جرول الخلفية وكانوا يسمونها الحزنة، كما نسمي اليوم جرول الخلفية ((بالهنداوية)) إنها حزنة صعبة.. المسلك لم تفلق كطريق إلاّ في عهد العباسيين، فلقها جعفر البرمكي ليصل الطريق بين.. الجادة وبين بستان كان يملكه فيما نسميه ((الحفائر)).
لنمضِ فيما نحن فيه إلى المسفلة هذه هي الحتمة، إنها صخرات في طريق المسفلة لا بد أنها كانت سوداوات، فالحتمة في اللغة هي السواد، لتهون من خطوك فهذا صاحب الأزلام على كتف الصخرة الكبرى يستقسم بالأزلام، وهؤلاء غواة من الأعراب يزدحمون حوله في انتظار دورهم أمام الأزلام.
لنمضِ: فهذه مزارع المسفلة على خطوات منا، أترى هذا الماجل..؟ إنه ماجل أبي صلابة، وهو مجموع المياه ومنحدر السيل يسقي أكثر من بستان حوله بما يجتمع إليه من الأمطار لقد تناولته يد البناء في عهد المأمون فكان بركة، وسماه الناس بركة الماجل، ثم ما لبثنا أن حرفناه فهو اليوم ((بركة ماجد)).
أيروقك أن تمضي إلى أكثر من هذا؟ لقد انتهت مكة الآهلة، وليس أمامك إلاّ ماجلان صغيران يسقيان بعض الزرع في مسيل الوادي. وإذا استطعت أن تمد ناظرك إلى أبعد من هذا، فسوف يسلمك الوادي إلى مزارع تكتنف الجادة فيما يسمونه جرول الخلفية، ونسميه اليوم الهنداوية.
دعني أودعك عند هذه النهاية، وسألتقي بك إذا شئت، في مشاهد جديدة من تاريخ مكة القديم.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :704  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 3 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

أحاسيس اللظى

[الجزء الثاني: تداعيات الغزو العراقي الغادر: 1990]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج