شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الكلمة: تتجرع الصاب
ـ مات ((زوربا)) عصرنا هذا، وحكيم فلسفتنا.. وآخر ((الناس))!!
كان ذلك النعي الذي تلقاه (كزانتزاكي) في برقية تحمل إليه وفاة: الصديق العجوز ((زوربا))!!
لقد ترك لنا هذا الصديق: ذكريات، ومواقف إنسانية، وحكمة، وكلمة مجنَّحة في فضاء الزمان، وخارج طقس المعاناة!
رحل عن عالم.. أخذت تعجنه القسوة، وتُبدد لفَتاته الأصدق: منزلقات الضياع.
رحل مثل: كلمة أخيرة... من الصعب أن يُقال بعدها كلام!
هاأنذا أسمع ((زوربا)) القديم، يبرق إلى ((زوربا القرن العشرين)) بكلمة أخيرة مثله... يقول له فيها:
ـ عِمْت مساء أيها الشيخ العجوز.. الحافل بحكمة الحياة!
ـ زوربا/ صديق العمر العجوز: عُمرنا نحن مَنْ حمل جثمانه إلى مثواه الأخير!
ـ زوربا/ الزخم الفكري، والموسوعة المتنقلة على قدمين، والإنسان الذي لا يعوَّض: لم يكن في نظرته الأخيرة إلاَّ مُغْضياً، زاهداً في الدنيا، مُتَّشحاً بالصمت... حين تأخر عنه الوفاء!!
ـ زوربا/الكاتب المجنِّح: لم يكن إلاَّ شاعراً ((ينثر)) كلماته الموسيقية بين ضلوع الناس.
ـ زوربا المؤرخ: لم يكن إلاّ ((نسَّابة)) يعرف أصول، وجذور الناس.. فيضع التقييم من أجل الحفاظ على القيمة!
ـ زوربا/الكلمة: لم يكن إلاَّ ذلك الفيلسوف الحكيم!
كان مثل سنبلة تُطلِعُ ألف حبة.. مثل حبة القمح!
حتى مات النبض... وتبقى السنابل تطرح من جذوره!
* * *
ـ الكلمات هذه اللحظات: مرَّة، علقمية..
كأن الكلمة المجنحة التي طالما زفَّها ((محمد حسين زيدان)) في شرنقته اللحظة.. والتي طالما أضاء زواياها من وجدانه الإنساني... كأنها - اليوم - تتجرَّع الصاب، والحزن، لهذه الدواعي الحِسِّية والفكرية:
ـ لفَقْد الكلمة لرُبَّان يقود دفتها بمهارة في العواصف، والأمواج.. فيخرج بها: كلمة لم تفقد النطق، ولم تُعدم المنطق، ولم تيأس من الحوار!
ـ لصمته الذي بدأه مع أولى لحظات اكتئابه.. هو يعني (التقدير) لِبذل عمره، وركضه على درب الكلمة المنتمية أبداً إلى جذور الوطن!
ـ لتعبه الذي توقَّف به وبنا - أيضاً - عند محطة (الوحشة)... وقد خلت ساحة الأدب من صوته، ومن رؤيته، ومن رؤاه، ومن ((تخريجاته))!
أسترجع صوته الضاحك في إثر إلقائه كلمة من حِكمه، وبلاغته.. وهو يقول لي:
ـ سجِّل يا سيقور!
لقد كان ((أبي الروحي)).. أُشاكسَه في بعض اللحظات، حتى أستنطقه العبارة، والصور، والحكمة.. فيروي عطشي بالمعرفة، وبالارتياح في رحابة المنطق!
ـ في رمضان - قبل الماضي - كان يشعر ببداية تعبه الجسماني... وجاء إلى مكتبي ليقول لي حزيناً وشجِناً:
ـ قررت التوقف عن الكتابة لأستريح... فقد تعبت يا ولدي!!
ـ سألته مندهشاً: تعبك ليس من الكتابة... فما الذي يُتعبك؟!
ـ قال: الكلمة جهاد.. ولا بدَّ للمحارب من استراحة.. وهذا الشهر الكريم يحضنا على التأمل.
ـ قلت أحاصره: أنت تستريح عندما تملي كلمتك، وترددها.. ويُتعبك أن تحبسها، أو تشعر أن لا أحد قد أصغى لها!
ـ قال وهو يضرب الأرض بين قدميه بعصاه: سيذكرني قومي... أكمل يا سيقور!!
* * *
ـ نعم... في الليلة الظلماء يُفتقد البدر!
هكذا كان ((زوربا/الزيدان)): بدراً في كثير من الليالي المستوحشة!
ـ سألته يوماً ممازحاً: أنت تعشق الكلمة كأنها ((إمرأة))... فكيف ترتاح لو هجرتها؟!
ـ قال: أحب أن أطلق عليها ((أنثى)) أرق وأحلى من كلمة ((إمرأة))!
ـ قلت: لكن بعض النساء غضب، لأنك - في رأيهن - قد حددت المرأة في صفة ((الأنثى)).. أي المتعة، وهي ذات فكر، ودور، ومسؤولية!
ـ قال: من أنكر منهن.. هنَّ اللواتي فقدن الجمال، والأنوثة، فأردن التعويض!
ـ قلت له: أنت تكتب الكلمة لها... للكلمة، وللأنثى، فماذا عن الرجل؟!
ـ أجاب: يقرأ الكلمة.. يتذوقها.. يرتشفها، ليرى حبه فيها، وليتلمس قضيته وفكرته من خلالها.
ـ قلت: والشوق لها... ألاّ يكون عذاباً؟!
ـ قال: عليك يا ولدي أن تحول العذاب إلى إشتياق، فالشوق في الحرمان عذاب!
لا بد أن تعود ((الكلمة)) إلينا، وأن نعود نحن إلى الكلمة.. إنها عشقنا، ودماؤنا المسفوحة والمُهْدرة أحياناً.. وهي: وريدنا.. لو بعناها بالغضب، أو بالخوف، أو بالتخاذل عن المبدأ، أو بالألم، أو حتى بالملل... فالخسارة باهظة!
يومها... توقفت معه عند هذه ((الفاصلة)) من الحوار وهو يقول لي:
ـ أنت فتى مُرهق.. ترهق من يُحبك، ومن تُحبه.. فلا ترهقني بالتحريض ضد الكلمة ولا حتى بالتحريض على الدفاع عن الكلمة.. فقد صرت شيخاً عجوزاً، أحتاج إلى ((وَمْضة)) أتجدد بها، وفي لمعتها!!
* * *
ـ مات ((زوربا)) القرن العشرين/محمد حسين زيدان!
لم يكن ذلك الكتاب العادي.. الذي يمكن أن يطرح عشرات الطبعات مثل ورقة الكربون!!
كان يُعجب كثيراً بقدرة الأديب - من جيله - الراحل ((أحمد عبد الغفور عطار))، ويقول:
ـ كيف هيمن على قدرة الاسترسال في الكتابة في أكثر من موضوع وفكرة.. حتى قيل أنه كان - يرحمه الله - يكتب صحيفة ((عكاظ)) الأسبوعية، يوم كان مالكاً لها، من الورقة الأولى، حتى الأخيرة!
ـ وسألته: وقدرتك أنت؟!
ـ أجاب: لا بد أن أحاور الكلمة في عقلي أولاً، قبل أن أجسدها حروفاً على الورق... ذلك معنى احترامي للكلمة، بل وطَربي بها، وتذوقي لها، وافتتاني بموسيقيتها... أليست هي الكلمة ((الشاعرة))، وهي - قبل ذلك وبعده: لغة القرآن.. أعمق كتاب سماوي كريم؟!
إن ((زوربا)) هذا.. كان عملاقاً من هؤلاء المفكرين الذين أثروا مساحات الحوار، وأبعاد النقاش: حكيماً، ومؤرخاً، ونسَّابة، وصاحب إضافات ستحتفظ بها لإسمه المكتبة العربية.
ـ قال جواباً على سؤال صحافي: ((التاريخ والتراث.. حين ركضا إليَّ، ركضت إليهما)).
ـ أضاف: ((المؤرخ جمَّاع يستقريء الأحداث.. وقد يكون أديباً، والأديب يفقه التاريخ، فالتاريخ هو الشيء الأول من كل شيء.. والأديب قد يكون مؤرخاً))!!
وكان يُشدد كلمته، وهو يستقريء التاريخ، على: ((الشعوبية))، ويردد ذلك البيت القائل:
مهلاً بَني ((ديننا)).. مهلاً موالينا
لا تَنْبُشوا بيننا ما كان مدفوناً!
ويفلسف أبعاد هذا البيت، من هجومه على (الشعوبية) فيقول:
_ (إن الجد المولى الأسير: حفيده المولى السيد ((مولاك يا مولاي صاحب حاجة!)).. ما بخلنا عليكم بكل الاحترام، وما بخل آباؤكم بما تهيَّأ للعرب من الاحترام!
هكذا كان صِدْق التاريخ بأُخوَّة الإسلام، ولكن... لم يمض قرن إلاَّ وتحركت الشعوبية.. إنتصبت تحارب القومية)!!
* * *
ـ مات ((زوربا)) القرن العشرين/ محمد حسين زيدان:
كان (يجدني) هو: أبحث عنه في شدة إحتياجي له!
يقول عن هذا الإحساس لديه بمعاناتي، دون أن يخبره بهذا مخبر:
ـ لن أدعي قوة الحاسة السادسة لديَّ من أجلك.. ولم تتضامن ((تلباثيَّتي)) معك... لكن ((المفتاح)) دائماً تجده في (الشخصية) يا ولدي!
ـ سألوه كثيراً عن ((الحب))... وهو الذي كتب الأكثر مما سألوه، فكان يجيب:
ـ ((الحبُّ: مفتاح شخصيتي... أنا لا أعرف الكراهية، لأن الكراهية عطاء.. وإذا أردت أن أبذل عطائي، فلا يمكن أن أبذله بمشاعر الكراهية، بل أبذله بمشاعر الحبِّ))!
الكراهية: إشغال لوجدان الإنسان.
والحبُّ: تعمير، وتنقية، وإضاءة لوجدان الإنسان!!
ـ يقول أيضاً: من يتجافى مع محبتي وحبي له.. لا أستطيع أن أكرهه، لأنني لا أعرف الكراهية.. لكني أعامله بعد ذلك (بالاحتقار)، لأن احتقارك لشخص، يعني: إسقاطه تماماً من وجدانك، وعقلك إلى جُبِّ النسيان!!
وكان يتغنَّى بأبيات في الغزل ((للشريف الرضى)).
مثلما كان يُنشد أبياتاً في الحكمة، والموقف.. للشاعر الذي وَلِه به: (المتنبي).
ـ وكان يقول لي: إذا كنت في موقف صعب، أو موقف فَرَح، أو موقف عِبْرة، أو موقف فروسية ورجولة، أو موقف حزن وشجن... كل هذه المواقف تجدها في شعر (المتنبي) مالئ الدنيا، وشاغل الناس!
ودائماً كنتُ أجد (المتنبي) على لساني بشعره، في كل موقف، واستشهاد، وإستدلال!
* * *
ـ نعم.. مات ((زوربا)) القرن العشرين/محمد حسين زيدان!
وعَصَتْ دموعي على عيني لحظة تلقيت نَعْيِه.. ولحظة حملَته الأكتاف إلى مثواه الأخير.
وتذكَّرت دموعه هو... فقد كانت له دموع سخِيَّة مدرارة، تنسكب بلا إرادة منه.. بل بالكنوز التي تختبيء في مشاعره، فأراه - فجأة - يبكي أمامي، وهو يحدثني عن: سيرة بطل من أبطال التاريخ الإسلامي بالذات... وهو يفلسف لي سلوكيات الأحياء في الحياة... وهو يستدعي في حواره: حكمة القيم، والمُثل... وهو يبوح لي بحميمياته مع من أحبَّهم صِدقاً، فخذلوه!!
إنها رحلة طويلة.. أيها العجوز ((زوربا)) القرن العشرين!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1667  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 415 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج