شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
احترق ((البايب)) وبقي التبغ!
تمتلئ القامات، أو لا تمتلئ..
تتزمّل الأجساد - حيناً - بالطنف، وتشمخر، وتتعلق في مساحة الحياة كلها متطوحة!!
تخسر - حيناً آخر - كل ألوانها، وإطاراتها، وتبقي أديم اللذة المطمور تحت الرغبة، ويحلو التيه عندما تصبح الرغبة هي سيدة المساحة الحياتية!
تختفي الوجوه في كثافة من ((البحث))، وتضيع رؤيتها في زحام من البشر، أو الأضواء، أو التفاهة!
التفاهة التي تبدو ((متناهية)) في صحوة العقل، وتبدو ((لامتناهية)) وراء تكوين حصاد العقل، لأنها - وحدها - المنطلقة والصفيقة!!
وتنشق أكوام النفايات عن قامات.. لا يهمها أين تنام آخر الليل، ولكنها تلح بسؤال يقول: كيف تنام؟!!
تمتلئ القامات، أو لا تمتلئ..
ليست هذه هي القضية، وإنما حياة الإنسان هي التي تعكس القضية!!
وهذه هي - القاعدة - التي أراد ((كولن ويلسون)) أن يجمع فوقها البشر، ويصنفهم ويحكيهم، ويستخلص بعد ذلك: دافع حياة الإنسان!
إن ((البحث)) المستمر، والمتمرد، والذي يستشرق ما فوق هامة المرء.. هو مفتاح الدوافع تلك، والإنسان بلا بحث يجوع، ويظمأ وينطفئ، ولا تتمكن رؤيته حينذاك من معرفة هامته، فلا يعنيه - بعد - ما فوقها!!
وعندما تختفي الوجوه في كثافة من ((البحث)).. يتبلور هذا البحث ليصبح عن الحياة..
وأحياناً يبدو الإنسان غير راغب في ((حقيقة)) معينة فما دام هو يغذ المسير، ويمارس ((نفسه)) داخل مساحة الحياة كلها، هذه التي تطوحه، فلا أهمية - هنا - للقضايا الإنسانية.. إلا أن يكون الانبهاج هو مصباح ((ديوجين)) يستخدمه ذاك المطوح به!!
وتسقط قيمة الحقيقة، لتنفرد ((الرغبة)) ولا سواها بالمعايير، وبالقيمة، وبالثمن الذي ندفعه قرباناً لهذا الانفراد!
إن القوة هي سبيل الإنسان، ويتضح هذا - بالذات - في غمرة كثافة البحث.. لكن العزلة ((العادية)) من تفاوت المجتمع تجعل المرء يعتقد في حالات أن ((القوة)) هي الحقيقة، ويرفض أن تكون الحقيقة قوة، ويلتحم ((كولن ويلسون)) بهذه الدراسة الانطباعية ليقول:
ـ ((الحقيقة بسيطة، وهي أن القوة كانت العنف الطاغي للتاريخ))!!
إن ((ديوجين)) حمل مصباحه نهاراً، وكان عاقلاً، ورزيناً، وأكثر.. كان حكيماً، وفيلسوفاً.. غير أن الناس حينما رأوه وسألوه، وأجابهم: إنني أبحث عن الحقيقة.. أخرجوا له ألسنتهم، وتقارعت أكفهم أسفاً على رجل فقد عقله.. دون أن يسألوا: ما أسباب هذه الحالة، أو هذا المرض؟!
كان ((ديوجين)) بذلك يسخر من الذين أضاعوا أغلى حقائقهم، وقد وجد - هو - عبر ضياعهم هذا - جوهر الحياة، أو وجه الحقيقة.. إلا أنه لا يستطيع أن يثبت ((رصد)) دائرة لا تتحرك في عيون.. هي مزروعة على وجوه مغمورة في كثافة البحث المستطرد، أو مطوحة أجساد أصحابها في ساحة الحياة المحمولة على الرغبة وحدها!!
وذات يوم استطاع تلميذ من أتباع ((ديوجين)) أن يقتنع بالتفاهة التي تبدو لامتناهية، وكان منطلقاً، وشجاعاً، وبالرغبة في أن يتحول إلى ((شحاذ)) ضائع يعيش على النفايات..
ذلك التلميذ هو الفيلسوف ((جراتس)) الذي حكى ويلسون تحوله، ووصفه فقال:
ـ ((لقد تخلى - جراتس - عن جميع ممتلكاته، وأصبح شحاذاً.. لم يغتسل أبداً. كان جسده يلتصق بالجدران.. إنه يجعل الحياة بلا هدف))!!
لقد أكلت العزلة ((فكر)) جراتس، في الوقت الذي انفلت ((ديوجين)) من حصار العزلة ولو بتصرف، وصفه المجتمع بالجنون، وكان ((جراتس)) يخطو خلف أستاذه في الانفكاك من عزلة المجتمع الذي لم يقدِّر إرهاصات فكره، لكنه ضل المسير.. كان هناك مفترق أضاعه عن خط أستاذه.. فانكفأ، لأنه أضاع الهدف.. أضاعه بالحذر من أن يقول عنه المجتمع: مجنون!
وكما يقول - ويلسون -: ((ليس الحذر إلا وسيلة فاشلة يتحصَّن خلفها الضعفاء)).
لقد أراد - جراتس - أن ينفي عن نفسه شعور الكراهية للناس، ولكن بحذر الذي يخشى تلك الكراهية، فأصبح ضعيفاً إنسانياً، ومكروهاً ذاتياً.. فهو يكره نفسه حينما غمسها في جسده، وأخفى جسده بعد ذلك داخل قذارة النفايات!!
إن محتوى فكره - كفيلسوف - يحمل الإنسان أن يقف عنده مذهولاً، ومعظماً.. غير أن الكلس الذي تجمع عليه من المجتمع جعله ضعيفاً، وقذراً (!)..
ويطرح ((كولن ويلسون)) هذه الدراسة الانطباعية؛ ويقلصها حتى يحيلها إلى ((شاهد))، أو إلى شيء من محفوظاته الدراسية.. ليخوض التجربة العنيفة بشبابه، وبحبه لخوض مجهول يصر أن يبلوره ويكيفه ويبنيه حياة يرتضيها، ويخوضها بدراساته، وثقافته، وقد قلب الصورة التي تبرز ملامح ((جراتس)) وجعل وجهها إلى الحائط، وأطفأ مصباح ((ديوجين)).. فالحقيقة التي يبحث عنها لا يمنحها النهار، وإنما هي عطاء الليل، والزوايا، وهو يقول:
ـ ((عندما يضيق الإنسان بالوحدة والعزلة.. ينتقل من مكان إلى آخر.. يكتشف نماذج بشرية لم يعرفها، ولم يلتق بها))..
إنه بهذه الخطوة يحشد البشر فوق - القاعدة - والقاعدة هي ((القضية)).. قضية الإنسان كحياة، فلا الحقيقة، ولا القوة، ولا الانخذال.. ولا حتى الشحاذة كفيل بكسب ((القضية)) لصالح الإنسان كحياة.
وهذا هو الذي عالجه، وأوضحه. ورسمه، وجعله حصيلة في روايته ((ضياع في سوهو))!!
* * *
هذه الرواية.. أحدثت يوم ظهورها ضجة في الوسط الثقافي، وأطلقت عليه صفة ((اللامنتمي)).. الذي يقذف عن جسده الطنف، والاشمخرار، والتعلق في مساحة الحياة متطوحاً، والذي يتمرد على الرغبة حين يبصرها تريد السيادة عليه لتملأ مساحته الحياتية!!
لهذا فقد قال:
ـ ((إن ظروف الحياة في كل المجتمعات كانت فريضة قاسية لم تترك مجالاً للتأمل في قوتها، وعلينا أن نروض حياتنا))!!
كان يريد أن يحيا، وأن يؤكد ((قضيته)) كإنسان ينفذ ما يفكر فيه، ويبدو عطوفاً، وفقيراً سخياً! ويمتلك ثم يعطي.. وأن يشعر بحرية الإنسان، وهو لا يعتبر أن جنون المادة، وطغيان الجسد فيما عايشه، ورآه في ((سوهو)) كفيل بتوفير الحرية الإنسانية.. كفيل بتحقيق ((قضية)) أصلية.. تعب الإنسان روحاً، وجسداً، ورؤية، وعدواً في البحث عنها.. فتلك حرية زائفة.. وصفها ((يوسف شرورو)) مترجم الرواية إلى العربية، وصديق ويلسون حينما تحدث عن الرواية فقال: ((كتب ويلسون هذه الرواية عن الناس الذين يمثلون أنهم يعيشون حريتهم))!
وكان ويلسون بارعاً، ومجيداً، ومبدعاً في هذا العمل الأدبي، وهو يعكس معاناة جيل.. مكياجه من الرماد، وألوانه من بصاقه، وجروحه، وأمراضه الاجتماعية؛ وهذا الإبداع دفع الناقد الأدبي لمجلة - الصنداي تايمز - ليكتب قائلاً: ((كنت ألهث، وأنا أقرأ رواية كولن، وكنت أسمع بإذني تنفس أبطاله كأنهم يعيشون معي في غرفة واحدة.. هذا عمل رائع))!!
والروعة الحقيقية أن ((هاري بريستون)) بطل الرواية هو نفسه المؤلف الذي خاص التجربة، وامتلأ بلحظاتها، وأيامها ومارس البحث في أصولها وجذورها..
والرواية تنهض على أربعة أشخاص: هاري، وجيمس ودورين، وريكي.
كاتب وفيلسوف، ويقلقه البحث عن ((قضية)) الإنسان: هو هاري.
وممثل فقير سيء الحظ.. اعتاد على قرض الشلنات ليعاشر فتاته، وفتاته هي أي واحدة يقذفها رصيف ((سوهو)) ويعتقلها حواره، ومنطقه، وبراعته المبادأة بالحديث، فهو شخصية متناسخة، مكررة كطبعات الكربون، من أولئك الذين ((يقتاتون كفأر صغير يريد أن يكون كبيراً)): هو جيمس..
وفتاة لا تحكمها الرغبة كل ساعاتها، وتشتاق إلى فضيلة ذات حدود تتكئ عليها، وتلتذ بنظرة. تريد الامتلاك للذات بعد الرجوع إلى عقل يفكر، ويحزن كالقلب: هي دورين..
ورسام فنان.. اتخذ من ((موديلاته)) في البداية ((لحد)) الرغبة، ثم أتخذها نقطة تأمل صامت كحدقات العاشق، ويفر بموهبته من حصار الشهرة، والمجتمع الذي ينزف من عينيه دائماً، ويعتبر أن ((التعبير)) لا يتعدى أن يكون ((رغبة)) فعلها الفنان على اللوحة بعد أن قاسى منها، أو استنفدها.. ذلك الرسام: هو ريكي!!
* * *
لقد برز ((جيمس)) في حياة هاري الكاتب، والفيلسوف.. ليشجعه على التخلي عن جنيهات قليلة، فاليوم نعيش، والليلة يذهب به إلى زاوية النفايات لتجميع أوراق يضعاها تحت ملابسهما، وينامان عليها في قطار رخيص السعر.. بعد إفناء الليل في نقاش مع موجوعين، ومذهولين، وفاقدين، وفلاسفة.. يدفعهم فقرهم إلى ارتياد ((المتحف البريطاني)) نهاراً ليقرأوا بنهم، ويطرحوا في الليل مخاض الفهم.. والغد موكول بعابر طريق، أو قارضي شلنات معدودة.
وتعرف ((هاري)) على ((دورين)) بواسطة صديقه جيمس، ووجدها تائهة، تكاد تضيع نهائياً.. وتقاوم ذلك المصير.. لكنها لا ترفض ((الرغبة)) شريطة أن لا تستحوذ على كل حياتها!!
وفي لحظات رجوع ((هاري)) إلى نفسه وإلى بحثه الأصيل، وإلى تأملاته يستنجد بقراءاته.. باستنتاجاته.. بفلسفته، وهو يحب استطراده الفكري دائماً.. كفلسفة، وهو يضع توضيحاً، فيقول:
ـ ((الفلسفة)) إما أن تكون نتيجة حب، وإنما أن تكون نتيجة قلق، وفي الحالتين نستثني الاحتراف))!!
بهذا يدلل على وجود أصالة في تفكيره، وعلى نماء في وجدانه..
إنه يرفض الحياة بلا حب، فالحب ألم، وعطاء وبلورة، وإيمان، وأسباب استمرارية الحياة.
وهو يعاني القلق.. من تناقضات يعايشها في الناس، وفي مسيرة البقاء عندما تتألب عليه الماديات، فالقلق - هنا - ضرورة لأنه تعبير عن الإحساس، واشتعاله، وحيويته.
والجيل المعاصر يبرر الحروب أحياناً بأنها أخذ من الحب، ونضال من أجل الحب، وعطاء له، واشتعال الحروب لا يعني - فقط - أن جبابرة، وطغاة، وشواذاً عن الرحمة والإنسانية هم سببها، ولكن المحبين لأوطانهم، ولفتياتهم، ولأهلهم، ولتاريخهم، ولإنجازاتهم يشعلون الحروب أيضاً في حالة التمسك بأشيائهم، والدفاع عنها. وصد الطغاة دونها.. فيقبلون الاحترق بالحرب، ولا الاحتراق بالمذلة والرضوخ..
وهذا هو الذي ولد القلق في حياتهم..
إنهم قلقون من انقضاض الجبابرة، وعاهري التاريخ على ما يحبون..
إنهم قلقون من افتقاد حضارة بناها آباؤهم، وعرقهم، ولقد كانت الحرب الأولى، والثانية خندقاً عميقاً محفوراً في ذاكرتهم!
والشباب القلق.. يستخدم التمرد، والعنف ((قلقاً)).. وبهذا يعاملون ((المفاجآت)) بالمبادرة، وباللااهتمام!!
لقد ألح على هذا التأمل والحوار في مشوار البحث عن القضية مع ويلسون وجيل العصر.. ألح بصورة شاب تذكرته، وكنت قد التقيت به في رحلة إلى لندن!!
* * *
ليلة من ليال شتائية، ومجنونة، ومقرحة.. وفي زاوية نادٍ ((دخلناه)) ليلاً في حي ((سوهو)) من باب العلم بالشيء، والتعرف على كل.. كل شيء، وليس هذا تبريراً، ولكنه حقيقة..
في تلك الزاوية كان شاب استغربت أن أكتشفه إنجليزياً.
إنه من نفس طبعة الكربون تلك.. يلبس قميصاً، وينطلوناً غريبين مهلهلين، ويريح رأسه على فراغ خلف ظهره ليغرق في مزيد من التطويح.. كان منظره مغرياً جداً، وسحنته عادية جداً، ونظراته مصوبة نحونا جداً.. والتفتُّ إلى صديق يدرس اللغة هناك.. لا زمنا ((بالواجب)) والضرورة، وقلت له:
ـ هل يمكنك أن تتولى ترجمة حديث أبدأه مع هذا الشاب المقذوف في الزاوية؟!
ـ قال صديقي: أتركه.. أنهم كثيرون، وقد يستغل بعض جنيهاتك!
ـ قلت: لا عليك.. تعال.
وتعرفنا على الشاب.. كان اسمه على ما أذكر ((رودلف)) أو هكذا قدم نفسه إلينا، وكنا كما أشعرناه من بلد عربي - لم يهتم كثيراً بمعرفة اسمه - بلد في الشرق الأوسط وكفى، وقال لحظتها:
ـ تجاورون إسرائيل؟
ونظر إليَّ صديقي قائلاً: ورطة مع يهودي!
ـ قلت لرودلف: أنت يهودي؟
ـ قال: لا.. لكني أعرف نزاع العرب مع إسرائيل، لقد زرت بلداً عربياً قبل سنوات..
ـ قلت: ما اسم البلد؟
ـ قال: كنت أعمل على ظهر سفينة تجارية ألغيَ من فوق صاريتها علم القرصان، ووصلنا إلى الإسكندرية، ورأيتها.
ـ قلت: ولم تذهب إلى فلسطين؟
ـ قال مبتسماً: أنت دقيق العبارة، إن اسمها إسرائيل!!
ـ قلت: عندما استحوذ اليهود عليها أطلقوا عليها دولة إسرائيل.. لكنها أرض عربية!!
ـ قال: هذا لا يعنيني كثيراً قبل لحظات، لكني بعد أن تعرفت عليكما.. أحس أن الصداقة تجعلني أصغي للرأي منكما.
ـ قلت: عبر ترجمة صديقي: المشكلة كلها تنحصر في إصرار الصهاينة أن يجعلوا العرب أصحاب الأرض ((أقلية))، وأن هذه الأقلية - بالتالي - مسلوبة الحق، ومعتسفة، وليس لها رأي!!
ـ قال: في جنوب إفريقيا يعتقدون أن ((بايب هارولد ويلسون)) هو المطفأ وحده.. إن مستر ويلسون رأيته يشعل تبغه بين لحظة وأخرى، ولا أدري هل هذا بسبب رداءة التبغ داخل ((البايب)) مما يجعله يطفأ سريعاً، أو الهواء لا يمكنه من إشعال الكبريت؟!
ـ قلت: التفرقة العنصرية هي مأساة هذا العصر، و ((الملون)) هو التبغ الذي يمكن أن يكون رديئاً، ذا نكهة حسب طريقة إشعال ((البايب)).. إن الإنسان ليس لوناً، وإنما فكر، وموهبة، وسلوك، ومع ذلك.. فهل يحق لنا أن نسأل مستر ويلسون عن تصرف ((بلفور)) مثلاً؟!
ـ قال: نحن نرتبط بكم ((تاريخياً)) يا عرب.. لكني كشاب، وأحب القراءة، والتفكير، والشعور بحرية فكرتي.. أقول: إن ذلك الارتباط يجعلكم مرضى بعقدة نفسية اسمها بريطانيا!!
ـ قلت: ذلك وضعنا تصفية الحساب معه من زمن.. إن المشكلة الآن ليست بريطانيا اليوم، وإنما بريطانيا الأمس والإصرار على التلويح بالأمس دائماً (!!)
ـ قال مبتسماً: أفهمك، فقد كان لي صديق هندي.. تسكع في ((سوهو)) سنوات، لكنه انتصر، وتحصل على الدكتوراة.. كان لا يحب الاستعمار البريطاني، ولكنه يحبني كصديق بريطاني!
ـ قلت: كم مرة حاول التاريخ الأوروبي أن يقضم، ويشوه تاريخنا نحن العرب؟
ـ قال: هذا ليس حديثاً في السياسة، لكني أقول لك، هنا ضائعون اجتماعياً، ونفسياً، وأنتم ضائعون تاريخياً (!!)
ـ قلت: قد نملك المحافظة على تاريخنا بالأسلوب الذي اتبعناه في الدفاع عن أرضنا.. لكن ساسألك: كيف تجدون نفوسكم وسط هذا ((الفقد)) الكبير لملامحك كإنسان؟.. أنت الآن مهلهل الثياب.. تختبئ في زاوية وتعب كل شيء حتى آهتك، وفي إمكانك أن تغير أيامك..
ـ قال: داخل هذه الثياب، وفيها فقط أجد نفسي.. أحس أنني أمتلك متعة الانطلاق، فعندما تكون فقيراً لا أحد يتطلع إليك.. إلا بمقدار الزاوية الحادة في عينيه.. وأنا لا أدعي الفقر، فليس لي دخل ثابت، وهذا لا يقلقني، فمكاتب العمل تعطيني ما لديها من أعمال، ولا تسنح لي فرصة ممارسة العمل الذي أرغبه، وأنا حر.
ـ قلت: ولكنك ستجوع، ولن تجد كل ليلة من يدفع لك ثمن وجبة عشاء؟!
ـ قال: لا أحد يجوع.. حتى الكلاب. إن الفرق هو: إن الجميع ليسوا أحراراً داخلياً وخارجياً.
ـ قلت: وتحب أن تجلس في هذه الزاوية.. منعزلاً، تشرب الملل، والصمت؟!
ـ قال: أبداً.. إني أنتظر صديقة لي، يبدو أنها تأخرت.
ـ قلت: يبدو أنه...!!
ـ قال: أبداً.. الحرية تعطيك الاقتناع، والالتزام..
ـ قلت: أي التزام؟
ـ قال: لا تصدقني؟.. الالتزام هو أن تؤمن بفكرة.. بشيء، وتقتنع بفعاليتها فيك، ولك.
ـ قلت: والحضارة في داخل هذا ((الاقتناع)) الذي يشملك هذه اللحظة.. هل هي مكاسب، وأيديولوجية إنسانية؟
ـ قال: الحضارة نحن.. من أعماقنا. إن كثيراً من ((العقد)) النفسية جعلت بعض القادة العالمين صنّاع حرب، ودمار، وطغاة.. هذا لا يهمني، فالانغمار في الحضارة يصنع ((الطفو))..
ـ قلت: قد تطفو كجسد غريق؟!
ـ قال: هذا لا يعنيني.. المهم أن أحاول تعمق المحيط، وسباحته.. فإذا هزمني التيار.. يقال حينذاك: هزمه التيار.. كان ضحية انغمار!!
ـ قلت: وسبب الانغمار.. أليس سقوط جوانب من قيم الحضارة؟
ـ قال: لا تملأ ذهني ((بعقد)) شبنجلر.. ذلك الذي أتعب نفسه في تأليف كتاب أسماه ((سقوط الحضارة)).. هذا خطأ.. كان ينبغي أن يقول: سقوط الإنسان، فالحضارة قائمة، والإنسان يشوهها!
ـ قلت: أأنت فيلسوف ومفكر.. أم من البولشيين الخنازير؟
ـ قال: أراك تجيد لهجتنا؟
ـ قلت: شبنجلر يقول: حذار.. إن الربيع فصل واحد!
ـ قال: هذا رأي يبدو صالحاً لكم كشرقيين!
ـ قلت: قد نمتلك رؤيته لنستمتع به..
ـ قال: ليس حقاً.. أن أريد من رؤيتي أن تمتلكني لا أمتلكها أنا.
ودخلت فتاة جذابة للوهلة الأولى.. طويلة، نحيلة، بيضاء، وسمعت صديقي الجديد يقول:
ـ إما أن تجلس لأعرفك وصديقك عليها، أو فارحلا الآن، فقد سئمت الكلام من طرف واحد!!
وتركناه مع صديقته.. ربما حتى هذا اليوم؛ وربما حتى بعد ساعتين فقط من تلك الليلة.. فذلك يرجع إلى نظرة الإنسان لحضارته!!
* * *
وتذكرت ((رودلف)) وأنا أقرأ رواية كولن ويلسون.. إنه قد يكون طبعة كربون ((باهتة)) من ((جيمس)) أحد أبطال الرواية.. إنهم قد يتشابهون.. لكن نقاشهم، وتناولهم للحياة كضرورة، وكقتال من أجل الشعور بالانعتاق من أشياء كثيرة.. يحيلهم إلى ((نماذج)) بشرية في نظرة التكتل الاجتماعي المقابل لهم!!
لقد جرب ((ويلسون)) الكاتب، حياة الضياع في سوهو.. وكان يصورها على أنها فلسفة وضجيج في النقاش.. لكن جوهر الحياة، وجذور المطالب الإنسانية التي سببت الضياع.. هما ((فقد)) في ذات الإنسان المتلاشي في - سوهو.. - فالحرية عندهم زائفة.. و ((مومس)) محكومة بالرغبة.. لهذا فقد قيل إن ((كولن)) تزوج بعد ذلك من ((دورين)) التي استقر بها حياتياً وأنجب.. غير أن هذه النتيجة في قدر ((اللامنتمي)) تعني سقوط في ذهن ((ويلسون))، وتعني تشويه الحضارة في ذهن شبنجلر!!
إن الحب، والقلق.. هما الفلسفة - كما قال ويلسون - وهما شعور في أن الإنسان ينبغي أن لا يشوههما الزيف ليتبلورا إلى حياة جديرة بأن يحافظ فيها الإنسان على عمره!!
لقد احترق ((البايب))، ولما يحترق التبغ بعد!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1201  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 346 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعيد عبد الله حارب

الذي رفد المكتبة العربية بستة عشر مؤلفاً في الفكر، والثقافة، والتربية، قادماً خصيصاً للاثنينية من دولة الإمارات العربية المتحدة.