شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عودة الذاهب.. من جديد!
عند شط الحروف سكنت...
قذفت دمعة النفس المحكومة بالمرونة مع لحظة فجائية.. واسترحت!!
كانت السكينة - لحظتها - لا تعني الخرس، وإنما هي بحث شامخ عن الزمن المتطاول تارة، المستضعف تارة أخرى.. بحث.. عن غذاء الليل والنهار بهذه الأنفاس التي يعطيها البشر لمسافات الحياة!..
استقراء.. هذا الذي يحوط عالمي، ويشرد بي إلى أجواء مارسها صوت الإنسان، وهو أحياناً يفقد القدرة على الصراخ، فضاعت الأجواء منه، واحتقر الكلام، واحتفره الصمت، ونبذ حركة اللسان.. وطفق يحدث المسافات المستطيلة الشاسعة المسماة: زمناً!..
يحدثها.. حديث السكون، والصمت ليلقى في أعطافها إقبالاً غير مسمى، غير مكنى.. مأخوذاً بالتفاعل النفسي.. مشدوداً بذلك البحث الدائب في الذهن.. في الأعماق!!
عند شط الحروف استرحت..
الإنسان يقدر على الكلام حينما يريد، لكنه قد يعجز عن الصمت ثانية واحدة!
ومهمة الكاتب - غني الشعور - تبدو صعبة جداً يفتعل الصمت، أو عندما يتسنم عباراته ليسكت الآخرين من أجل أن يستمر في الكلام!
الكتابة ليست كلاماً.. كأنه قطرات حبر تجمدت على الورق.. ليكون - بعد ذلك - لزاماً على القارئ أن يجد لها المعنى، وأن يفهمها بحالة الكاتب، وأن يصفق بحرارة.. هذا لا يكون استنطاقاً للمعاني وإضاءة للأفكار.. بل هو نوع من التدليس الذي يقود ذهن القارئ إلى فقاعة صابون.. لا تنظف، وليست هي صابون (!!).
لهذا يتعرض الكاتب المحس لحالة ((انتياب)).. يجد نفسه في غمارها يرفض رؤية شباة أرقمه.. يدلق زجاجة الحبر على ثيابه، ويضحك بقرف.. يمزق مجموعة أوراق، ويبصق عليها، ثم يغمض جفني عينيه في إغفاءة التعب الضائع!!
الحروف.. هي تجسيد لانفعال النفس.. لاقتناع الذهن بصحوة فكرة تبدو قابلة للحياة، فإذا افتقد الكاتب هذه العوامل أضحت حروفه في نظره مجرد خطوط شوهاء تحجل على الورق بوقاحة، وبصفاقة مقيتة!
الحروف.. تتعرض لقسوة أصابع الكاتب.. يخنقها، يعجنها، يطوح بها من النافذة، داخل ورقة ممزقة كفؤاده القلق.. الحائر!!
متى كانت الأرض ثابتة تحت الأقدام؟!
هذا ليس سؤالاً.. إنه يعطي صورة لأديم شيء..
الحروف - أيضاً - هي أديم الانفعالات، والتأثير.. لا تستقر دائماً على شكل ثابت معين.. الأقدام التي تطؤها هي نوازع النفس في حالات الاضطراب النفسي، وانبهات الفكرة، والضيق برأي يجعل من الكاتب طبيباً يعالج الناس وهو عليل!!..
ليس جنوناً ذلك الذي يعتور راسم الكلمات.. إنه لمحة من رفض الاستمرارية المرغمة له!!
فنان هو.. وقد يكسر قلمه، وهو يمزق أوراقه، وقد يتطلع إلى كل الناس ببلاهة تأخذه بعيداً عن التفكير، وتدسه في غيابة الذهول. وقد يستشعر في هذا الاستغراق المتعة الحسية.. ليصفو ذهنه من الاعتكار.. لتشرق نفسيته بعد معاناة بلا دلالة!!..
وقد تعرض الشاعر الألماني (ريلكه) لحالة الانتياب ذاتها.. لكنه يوسع دائرة صراخه.. لم يلعن ثرثرته، وغوغائية صوت الإنسان من حوله.. لقد استرخى، ونعم ببلاهة مؤقتة!
ولم ينم.. كان يقظاً.. غير أنه يرتاد غيابة الذهول، وحينما صفا، وأضاءت جوانب أعماقه.. التقط قلمه، وكتب:
ـ ((مبدع الحروف.. أشبه بالثمرة التي تتعرض للرياح، والشمس، والليل.. هو عبارة عن طفولة، وتجارب، ورحيل، واختبارات لا حدود لها، وذاكرة، ونسيان.. بعد أن يمر بهذه كلها صار قادراً عندئذ على الكتابة))!!
وهذه العوارض ليس شرطاً أن تعترض مرة واحدة.. بل إنها غالباً ما تكون شيئاً يعتاده الكاتب بين فينة وأخرى..
والكاتب أثناء مرورها، ومعاودتها، وأفولها يصنع - كما يقول ريلكه - عالماً له وللناس ببطء، ويمتلكه بعد ذلك!!
* * *
كيف - إذن - يمتلك الكاتب عالماً مليئاً بالمعاني، وبالأفكار، وبدواعي أثيرة وراسخة تبلور مفهوم أن نحيا، وأن نشعر، وأن نأخذ، وأن نعطي، وأن نفقد؟!
على بساط أبيض نقي من الورق.. هو يخط ملامح ذلك العالم، وأحياناً قد يفاجأ أنه يمزق تلك الملامح، ويقذفها في سلة المهملات ويصمت.. يدلج في ساعات من السكوت، والسكينة، ثم يفيق وهو يبحث عن الحركة في داخله.. عن الحيوية في ذهنه.. عن الكلام، والصراخ، والبوح في لسانه.. أو بواسطة أصابع يديه، ليكتب حتى يتصبب عرقه، ويستعيد إفاقة اليقظة من جديد!
* * *
مكلوم.. حائر.. قلق..
كانت هذه حالة الكاتب الفنلندي المعاصر ((ميكاوالتاري)).
كان يتطلع إلى السماء في منتصف ليلة فيها عطاء ذاته، ونفحات تأملاته.. لم ير لحظتها السماء التي تخيل على رقعتها في حدود بصره صورة حبيبته، والنجوم تحفها، وتزغرد لها بالضياء..
كان أمامه ظلام ليل لا أكثر..
كانت البهجة حرفة الواهمين.. لم يعرف دواعي هذا ((الانتياب)) إلا أن تكون كامنة في أيام مضت.. قضاها وحيداً عن مدينته التي تركها، والحرب العامة مشتعلة، وأمه عجوز لا تقوى على الحركة.. ربما تهدم المنزل الجميل، وتحول إلى خراب!.. وفتاته الغامضة حتى حينما تهمس في أذنه قائلة: ((يا شبابي المجسَّد.. لا تتركني وترحل))، وحينما أنهى إليها خبر رحيله إلى لندن لينقل أخبار الحرب بصفته مراسلاً حربياً لصحيفته قالت له:
ـ إذا عدت ولم تجدني.. عليك أن تبحث.. ليس عني، ولكن عن فتاة.. أنت متيقن أنها أكثر فتنة، وجمالاً مني!!
انتابته هذه التي لا يسميها أفكاراً، وإنما شيء كمدخل غابة انساق منه إلى كثافة غمرته، فإذا هو ضائع!
وتعاقبت ليالٍ أخرى بعد تلك الليلة.. لم يعثر فيها على إفصاح داخلي يدله على فهم لما اعتراه، وفي خلال هذه الليالي قد فرغ من قراءة خمس كتب: كتابين عن الحروب التي شهدها العالم، وعانى منها الإنسان، وروايتين.. إحداهما ((الحرب والسلام))، ولم يستفد منها بفكرة عن السلام، وثانيتهما كانت رواية تقص بالرمز حياة أمة يعتقد أن تاريخها خيالي، وأن المؤلف ابتدع في لحظة سأم فصول رواية كان ينبغي أن لا تصدر في هذا الجيل! والكتاب الخامس كان ديوان شعر لشكسبير.
ويضيف ((والتاري)) قائلاً:
ـ اعتز بشكسبير كروح فنانة، حية.. لكنه أحياناً يرميني على عشب أخضر وحيداً، وهو يعرف أن الإنسان لا يحتمل أن يعيش وحده!!
وكان هذا الديوان الشعري قد قرأه ((والتاري)) للمرة الرابعة برغم الرأي الذي أبداه.. لكن الكاتب يعود إلى لحظات ذكرى.. حتى لو كانت خاصة بالآخرين.. ممن يحسنون صناعة تماثيل لثواني بهجتهم!!
وبقي ((ميكا والتاري)) ثلاث سنوات لا يخط حرفاً.. حتى الرسائل الخاصة كان يمليها على الآخرين.. كان يقرأ فقط ويتطلع إلى السماء منتصف كل ليلة.. يترقب أن ينتهي هذا الظلام، وتعود صورة فتاته.. تفترش السماء، والنجوم من حولها تغني بالضياء!
* * *
مثل ((عضل زهرة متوتر)) كان يبدو مصطفى صادق الرافعي!
كان نهار يوم يذبل، والشمس تتوارى رويداً، وهو داخل شرفة منزله القديم.. يطارد الشمس.. يتأملها وهي تختفي، وتختلج أشعتها المنعكسة على صفحة النيل، وتسقط!
وشعر بدمعة تفر من حدقتي عينيه، فلم يمنعها، ولم يزل توهجها من وجهه.. كان في ساعة غروب الشمس يفكر في هذ ((الانتياب)) الفجائي.. فهو منذ أكثر من أسبوع زاهد في كتابة سطر واحد.. العبارات تافهة سخيفة.. الحروف أمامه ((رأس فجل)) كما صورها.. الورق ينام فوق مكتبه كما الأرض البور غير الصالحة للزراعة!
وأراد - بإصراره وعناده - أن يعثر على السبب بعد هذا التفكير المضني، وهذه المتابعة النفسية المرهقة، وتذكر أياماً خلت:
ذات يوم قريب كتب مقالاً مستفيضاً.. لم يشعر عندما كان يكتبه أنه دلق مشاعره فيه، وأن بوحه كان جناية على مكابرة.. عامل بها رفيقة الحرف ((مي)) فالتقطت هي الخيط، وكتبت خاطرة، ونشرتها فجذبته إليها، وبدا أمامها كأنه المتخلي عن نهجه المعتاد الذي أسقط كثيراً من إصراره، وجثا أمامها!
وعندما قرأ ((العقاد)) ذلك المقال، وكانت المنافسة شديدة بينهما، أعطى نواجذه للسطور، وفكر في حوار يحفظه موفد إلى ((المازني)) ليواجه حالة الرافعي، وليحظى العقاد بعد ذلك بما أضاعه الرافعي، وبما غفل عنه - بالاندفاع - المازني!..
واحتجب الرافعي قرابة العام.. لا يكتب سطراً.. لا يفارق شرفة بيته القديم.. يئن بعض الليالي وهو يحس أن العبارة تلسع وجدانه، وأنه عليل بهجران الحرف!
كانت حالة ((الانتياب)) هذه.. ذات قسمات تأملتها ((مي)) شهوراً، ثم كتبت سطراً واحداً إلى الرافعي.. بعثته إليه مع خادمة بيتها، فقالت له:
ـ ((افتقدناك.. فهلا رجعت لتروي ظمأ هذا القرطاس))؟!
وبعد هذا السطر.. كتب الرافعي مؤلفاً كاملاً.. أسماه ((أوراق الورد))!!
* * *
عودة - هنا - إلى كلمات ((ريلكه)).
عودة الآيب من غيابة الذهول.. ليفيق على هذه الحروف القائلة:
ـ ((كل شيء يريد التأرجح.. هنا ندور كالمثقلين..
نضع على كل شيء أنفسنا فرحين بالثقل!!
آه.. أي معلمين نحن بالنسبة للأشياء التي تسعدها الطفولة الأبدية!!
آه يا فم المنبع.. كم هذا بعيد بلا حدود..
كطائرات الورق المنطلقة.. نطارد نصف منتصبين بأطراف من الضحك، وفي الريح ممزقين))!!
عودة الذاهب من جديد.. يبحث عن شط الحروف، ليسكن عنده.. ليقذف دمعة النفس المحكومة بالمرونة مع لحظة فجائية.. ليستريح!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1690  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 342 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتورة مها بنت عبد الله المنيف

المدير التنفيذي لبرنامج الأمان الأسري الوطني للوقاية من العنف والإيذاء والمستشارة غير متفرغة في مجلس الشورى والمستشارة الإقليمية للجمعية الدولية للوقاية من إيذاء وإهمال الطفل الخبيرة الدولية في مجال الوقاية من العنف والإصابات لمنطقة الشرق الأوسط في منظمة الصحة العالمية، كرمها الرئيس أوباما مؤخراً بجائزة أشجع امرأة في العالم لعام 2014م.