شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفصل الأول: عودة الحلم!
طلعت في سمعه: صوتاً، دافئاً، حانياً.
امرأة قادمة إلى حاضره المتشقق بعطش الروح، وصمت الفرح، وتشوُّه رغائب الإنسان، وتفريغ الزمان من الحب!
كأنها انبعثت من حنايا ضلوعه، ولمعت كبرق خاطف.
أضاء صوتها العائد إلى حميميته: ملامح حلمه القديم الذي كان يستشرفه بتأملاته، فيَرى كياناً إنسانياً يحقق له عودة الحلم الأجمل... ذلك الذي طالما أرغد حياته، وسقى تربة نفسه الظمآى، وانتشله من ساعات سهر الوحدة في عمره، ومن سهاد لياليه الموحشة بغياب ((الحلم))، وبانحسار الدفء الذي كان يسري بين ضلوعه كلمّا تناهى صوتها إليه.. فتستيقظ الحياة في داخله.
في البدء.. كان يحسبها مجرد ((صوت)) أراد اقتحام وقته المزدحم بضجيج الناس، وبصمت فَرحه، وبتفريغ الزمان من الحب... ليطرح سؤالاً، أو يبلور حواراً حول: أفكاره وتأملاته.
لكنّ الصوت سرى في سمعه كجدول الماء الذي تدفق على أرضٍ عطشى.
هو نفس الصوت... ذلك الذي كان يحياه في حلمه عن أجمل أيام عمره.
هي نفس الضحكة... تلك التي كانت تشاكسه، وأحياناً تستفزه.. ليقُدَّ من ضلوعه بوح وجدانه الأعمق لأنثى هذا الصوت والضحكة!
امرأة... كان يحياها: حلماً، ويحلم بها: حياة.
وكانت هي في عمره تراوح بين الحلم الذي يهدم كل الحاجز، والموانع.. وبين الواقع الذي يزيد من ارتفاع الحواجز والموانع.
كان صوتها يضحك وهو يقتحمه.. قائلاً:
ـ ((إنتَ ما مُتْ))؟!!
قال لها ضاحكاً بسؤال/ إجابة: ((مين..... أنتِ فقط))؟!!
ـ قالت: ذات ليلة نمت، وحلمت أن عبد الحليم حافظ يغني لي وحدي من الزمن القديم الأحلى: في يوم.. في شهر.. في سنة، تهِدَا الجراح وتنام!!
قال يسألها مفتتحاً دفء الكلام معها: وما الذي هدأ فيك ونام.. الجراح، أم الزمان، أم خفقة القلب؟!
ـ قالت: الرجل يُكثِّف الجراح، والمرأة تحاول أن تعبث بالزمان قبل أن يعبث بها... وتبقى خفقة القلب المكنونة في سر البوح هي: الأعمق، والأنقى، وفوق الجراح، وعبث الزمان!
قال: ملأكِ الزمان حكمة وفلسفة حتى فِضْت بهما... ولكني ما زلت أسأل: عن الذي هدأ فيك؟!
ـ قالت مغتاظة: أما زلت تفتّش أحلامي؟!
قال: أعذريني... ضِحْكُنا صار قليلاً، وبكاؤنا اليوم هو الأكثر!
ـ قالت: أرجوك.. لا تخرج أحلامي بإغراقها في الواقع، لقد فكّرت أن أسمع صوتك بعد كل هذه السنين التي غيّبت معها حتى الذكريات الأجمل.. فكنت أحاول أن أطرد الذكريات من خيالي وتأملاتي حتى لا تضعفني وتعيدني.
قال: ولماذا فكّرتِ أن تسمعي صوتي؟!
ـ قالت: لأنك وحشتني!
قال: صوتك - لو تعلمين - هو الحلم منذ تلك السنين... وهو يعبر سمعي فقط، ليسري في عروقي، ويستقر في شراييني مختلطاً بدمي.. ألا تذكرين أغنيتي التي كنت أرددها في سمعك دائماً:
ـ ((يا خليّ القلب))؟!
ـ قالت: ما زلت ذلك الفتى المتدفق بعاطفتك... ألم تهمد؟!
قال: كنتُ بركاناً هامداً... وصوتك السبب في اندلاع حِمَمي من جديد، إذا اعتبرتِ تدفق عاطفتي: حمَماً!
ـ قالت: ماذا كنت تتمنى قبل عودة حلمك؟!
قال: أن أعرف مساحتي في تفكيرك.. وأنتِ هنا وهنالك في البعيد، وفي الصمت، وفي قطيعتك لي!
ـ قالت: التعب.. التعب.. التعب، ذلك الذي نطلب الاستزادة منه.
* * *
ناداه صوتها أخيراً من المفاجأة... من هذا الطلوع الذي بشّره بعودة الحلم.
نادته أنوثتها التي تختال باحتفاظها الملحوظ بشباب العمر، وبنضارة الجسد... فكان نداؤها ينبعث من أعماق تجربتها الأصيلة التي أثمرت سنوات طويلة من اللحظات الأحلى، ومن الجراح المترسبة، ومن التمرد الذي ساعدها على الوقوف كنخلة الصحراء المازالت محمّلة بأشهى ثمرها.
وكان نداؤها يأتي من تجربة غيابها، أو اختفائها!
تشعر أنها: سنوات بلا عمر.
أنها: عمر تجمّد في ركض السنين والأيام بها... وهي تؤدي وظيفتها في الحياة كزوجة لفترة طويلة، وكأم في الفترة المتجذّرة داخلها.
فرحت بأمومتها على امتداد سنوات العمر والتجربة، واللحظات الأحلى، والجراح، والتمرد... وقد تبقّت الأمومة وحدها هي: ثمرة عمرها، أو حصاد ركض السنين بهذا العمر.
كان بحثها دائماً.. هو بحث الروح عن مشاعر توحّد ذاتها بذات الحلم الذي طالما نادت عليه في مسيرة العمر، وطالما حبسته نداءات قلبها عليه في صدرها الذي لم يكفّ عن التوحُّد بذلك الحلم!
لكنها في بعض الأحيان والتأمل لحياتها، ولطبيعة نفسها.. تعتقد أنها أنثى لم تحب بعد، أو أنّ من تريد حبه: شريك في مكان آخر!
أو أن الحب ذاته: مقولة، أو خرافة، أو وهم نُرغد به قلوبنا... لكنه يتحول إلى مجرد ممارسة حين الملامسة، واستجابة لاحتياج!!
وحين شعُرَتْ أن هذا العمر مجلود بِجرْي السنين، وأنها في داخله تنحدر تدريجياً إلى سن الاستقرار والهدوء، والبعض يسمونها: طلائع الشيخوخة... رفضت وهي تقف أمام مرآتها تشير إلى دلائل نضارة شبابها وجسدها.. وقد لامست سمعها كلمته:
ـ لقد انبعث جمالك مُجدَّداً... صرتِ أجمل، وأنا منبهر أمام هذه اللوحة/ أنتِ!
نداؤها على الحلم قد تخطى ذلك الهمس القديم.. إلى هذه الصرخة المدوية.
وتعرف هي - أيضاً - أنها تعيش في مجتمع محافظ.. لا بد لها فيه أن تئد ((الحلم)) الأجمل بين ضلوعها، أو على الأقل: تدسُّه، أو تُسِرَّه بين جوانحها... حتى لا يصدر المجتمع حكمه عليها: ظالماً، ومبالغاً، ومتطرفاً.
إنها لم تفكر مطلقاً في هذه الخطوة التي تراها الآن في مرحلتها الحالية: جارحة لالتزامها الذي ربطت حياتها الجديدة به... فهي مع داخلها عقدت هدنة واتفاقاً بنصوص هذا الالتزام، لتهدأ قليلاً، ولتستريح من لهاث جَرْي طويل.
لكنَّ ((فارس)) يسألها في عودة صوتها إلى إصغائه:
ـ هل تقدرين على الهدوء والاسترخاء بهذه الحيوية المتجددِّة فيك؟!
ما زالت حيوية التمرد والاكتشاف تتدفق مع نبرة صوتك... فكيف إذا وقفْتُ أمام وجهك، وأخذْتُ يدك بين يدي، وقبَّلتُ باطن كفّك؟!
قالت تتدلل: حتى أمنيتك هذه لن أحققها لك.. برغم أنني أجمل وأحلى!
ـ قال: ولكنهم أخبروني أن جسمك قد امتلأ!
قالت: لا تستفزنّي من فضلك، ولا تصدقهم.
وضحكا معاًَ ((ضِحْك طفلين)) عائدين من نهدة الحلم.....
حتى صمَت - هو - فجأة في مواصلة ضحكها هي.
سألته: ماذا حصل لك.. هل غضبتَ مني، ولماذا؟!
ـ قال: ضحكتك صارت أكثر صفاء.. فأردت أن أصمت لأستمتع بها أكثر.
قالت: ((إنتَ مجنون.. لكنْ إسمع، صرتُ أكره أن أكون عادة في حياتك... لا بد أن نختلف ونتخانق كل يوم، وكل ساعة.. وتزعل مني، أو... أنا أزعِّلك أحسن، حتى يبحث كل واحد منا عن الآخر، ويفكر فيه، ويغتاظ، وتحبني أكثر))!!
ـ سألها: لماذا قلتِ ((تحبني)) أكثر، ولم تقولي: ((ونحب بعض)) أكثر؟!
أجابته: لمّا أنت تقول ((تِحبِّني)) كفاية!
ـ قال: ما زلت مغرورة، و.... سيف أحياناً.
قالت: ((لا تفهمني غلط.. كلمة (أحبك) عميقة، فكيف نُهينها بترديدنا لها كل لحظة))؟!
ـ قال: ((لكنّ الحب، أو الحلم... يتحولاّن إلى عادة كما تقولين.
قالت: ((يا فيلسوف حياتي اللي فالقني... أنا أرتاح لجنابك، ومن الصعب أن أرتاح لأي إنسان... فكيف طوال السنوات البعيدة اللي راحت؟!
فهمت يا زعلي، ورضاي))؟!
* * *
تُحس في سرحات من الليل الذي تسرقها فيه تأملاتها: أنّ صدرها يكاد ينفجر وحدةً وسأماً.
الوحدة القاتلة: أن لا نجد من يفهمنا، ولا من يقدر على احتواء أسئلتنا وتمردنا، ودَفْق الدفء من مشاعرنا.
وحدتها مع نفسها.. لذلك لم تعد تميل إلى حفلات الصخب و ((الرغي))... برغم أنها أرادت كسر طوق الوحدة والعزلة عن حياتها، وانطلقت تلبي ((دعوات)) صديقاتها وسهراتهن.
تبرد في مشاعرها جمرة الشوق والانتظار لطلوع الحلم.
وكثيراً ما سهّدتها أفكارها حين تضع رأسها على الوسادة.. لكنها تملك القدرة دائماً على طرد الأفكار، وعلى رسم ابتسامة فوق شفتيها... كأنّ ((حلمها)) يُقبِّلها في تلك اللحظة.
سألت نفسها قبل نومها ذات ليلة:
ـ حقاً... هل تختلف (الامتلاك) الذي يشعر به الرجل بمجرد اقترانه بزوجة: أن هذه المرأة قد صارت مِلكه تماماً مثل قطعة الأثاث... عن ذلك (الامتلاك) الذي تشعر به المرأة في بنائها لبيت، ولأسرة... وعن الامتلاك الآخر والأعمق بالحب واستمرار توهج العاطفة؟!!
قفزت من سريرها، وهاتفته متوترة:
((قل لي.. لماذا تلاحقني الآن مدّعياً أنك تحبني، وأن عودة صوتي إليك/ عودة الحلم... هل تريد أن تمتلكني ولو بالحب؟!
اسمع يا زعلي ورضاي... أنا لا أحد يمتلكني ولو بالحب))!
فوجئ بثورتها بعد منتصف الليل، وحاول أن يمتص توترها الذي لم يعرف سببه... فسألها:
ـ هل لي أن أعرف مناسبة سؤالك الآن؟!
هل ندمتِ أنْ أعدت صوتك إلى سمعي؟!
قالت: ((أنا لا أندم على ما أفعله.. صحيح إنت وحشتني، وقلت أسمع صوتك.. ولأني أحب الفضول أحياناً - ما هو بدائم - أردت معرفة أخبارك، وأستمتع بغزلك اللي تعوَّدت عليه))!!
ـ قال: ((تاني... التعوّد))!
قالت: ((إنت ودَّك أكون بطلة في قصصك))!
ساد صمت قصير بينهما بعد كلمتها.
ـ قالت: في الماضي كنتَ تغضب مني بسرعة، كنتَ سريع الغضب.
لا بأس، ولكن.... أرجوك: إزعل وإنت تضحك.. أحسن!!
ـ قال: لكنك تعلمين أنك أنت خلاصة قصة عمري، وأجمل لحظات حياتي.. فكيف تحصرين نفسك في هذا الدور المحدد؟!
قالت: ((تِعرف إنك مشكلة))؟!
ـ قال: ليتك تتحدثين كزهرة، لا كسيف... في دفئك أشعر بالأمان.. وجهك حين يشرق في أيامي يُزهر به فرحي.
يضع رأسه المثقل بالأصداء وبالأفكار على راحة يده... كأنه يغفو ولا يستطيع... ويراوده سؤال مفاجئ من نفسه لقلبه، لكل حواسه وإحساسه:
ـ هل ما زلتُ أحبها، مثلما كان ذلك الاشتعال والوهج والحريق والتمسك بها... أم أن السنين أبطأت الخفق؟!
صمت قليلاً... لا يفكر، وإنما ينتظر إجابة قلبه وحواسه وإحساسه.
ومثلما فاجأه السؤال من نفسه... فاجأته في إثره: دمعة ساخنة انحدرت من حدقتيه... كأنها تلك الإجابة المنتظرة.
* * *
أسند رأسه المتعب بتمردها، والحافل بحواراتها القصيرة المختصرة، اللماحة الدالة على نضجها وهمومها وأحلامها ومعاناتها وتمردها... وطاف بهذا الرأس سؤال يختلط بمحتواه:
ـ تُرى... هل عاد إليه ((الحلم)).... من جديد؟!!
لقد التقيا - هي وهو - منذ زمن طويل، وافترقا في أوقات مختلفة.. وبقي في الفراق المتعدد: خيط يشد أحدهما إلى الآخر... حتى في قطيعتهما، وصمتهما.
تُرى... ما هو ذلك الخيط؟!
يشعر أنه مسئول عنها، وعن كل الثِّقل الذي حملته واحتملته في بعض مراحل عمرها.
عن جنونها وتمردها حتى عليه.
عن غيابها الذي يطول، لتعود بعده وفي كل مرة: كمطر المواسم.. تهطل على أرضه القاحلة بغيابها، وترويها، و......... يتوقف المطر!
وهي تعرف مشاعره هذه.
وتعرف أيضاً: أنه يعرفها من داخلها، وكأنه يقدّر مسئوليته عنها على حساب قلبه واحتماله لجنونها ولتمردها!
قال لها: أنا قدرك.. فلا مناص لك، ولا هروب مني.
ـ قالت: ومن أنا بالنسبة لك؟!
أردفت: أنا أعرف... ولكني أريدك أن تقول..... دائماً.
ـ قال: أنتِ حلمي الدائم الذي يٌفارقني كلما وجدته.. ويجدني كلما احتجت إليه. أنتِ حلمي المتوحِّد مع عمري وأفكاري وسأمي وغضبي وجنوني وحناني.
في كل غربتي وتجوالي وتجاربي... تأكد لدي أنني لم أكن أنتظر امرأة غيرك ولا مثلك.... أنتِ بالذات.
قالت: ولكني أحياناً مزاجية كما وصفتني... وأنا قررت الآن: الاسترخاء، والهدوء... فدَعنا نُنمي صداقة بيننا!
ـ قال: وهل تظنين أنه من الإنصاف أن تقتحمي حياتي بهذا الاحتواء الكامل الذي ارتضيته، وعبر سنين غَذَّت في البعاد، وبمنتهى البساطة تُصْدِرين قرارك أو (فرمانك) بما يجب أن يكون عليه شعوري نحوك؟!
دعينا - يا حبيبتي - لا نتحدث عن الغد، فلقد تحدثنا عنه كثيراً وخذلتنا أضداد الحب والوعي!
إنَّ الغد ليس مْلْكنا... بل هو غرسة اللحظة الأولى التي سمعتُ فيها صوتك/ الحلم... وتوحّدت مع نبرته الدافئة من أعماق صدرك، ومع الإنسان الذي يسكن في أعماقك.
وكنت خائفاً عليك بما ظننته عزلة حبَستِ نفسك فيها!
ولأول مرة أعرف أن هناك إنساناً يحبس نفسه في الاسترخاء والهدوء!!!
صدقيني ليست مسألة ثقة، ولا هو خوف، ولا حتى عشق... بل هو ((الاعتبار)) للإنسان في داخلي وداخلك.. لهذا ((الحلم)) الأحلى الذي سقيتُه من دم شراييني، ومن دموعي، ومن سهادي، ومن غربة نفسي في افتقادك، وحتى من ابتساماتي... ليزهر ((الحلم))/ وجهك دائماً.
قالت بهدوء كأنها تستفزه به: ((طيب..... تِصبح على خير))!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2023  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 149 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور محمد خير البقاعي

رفد المكتبة العربية بخمسة عشر مؤلفاً في النقد والفكر والترجمة.