شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفصل الأول
(1)
هذا المساء.. متى أطلَّ؟!
ـ حين هبطت الطائرة في المطار الذي يمّم وجهته نحو عاصمته.. كان صدره: حقيبة مغلقة على ((قلبه))... وكان قلبه غافياً يستريح من الأوجاع التي أحدثها فيه الناس!
أمام موظف الجوازات، سأله: كم ستبقى بيننا؟!
ـ كأنه لم يسمع سؤاله المحدد.. لكنه أجابه: أنا تعبان أبحث عن الراحة!
ـ ابتسم في وجهه: ساخراً، أو مشفقاً، أو متعاطفاً مع تعبه.. وناوله جواز السفر، وهو يقول له:
((إقامة سعيدة.. إرتح حتى تسأم من الراحة))!
ـ وتناوله من بعده موظف الجمارك، ليحاصره بأسئلته المعتادة:
ـ هل في حقائبك أشياء ممنوعة... أجهزة كهربائية؟!
قال ضاحكاً أو مستظرفاً: نعم.. في حقائبي أدوية ممنوعة على الأصحاء والأطفال!
ـ قال عابساً: الله يشفيك!
ـ وفي ساحة الاستقبال الداخلية من المطار.. لاحقه العشرات من سائقي وأصحاب سيارات الأجرة، وكان يريد أن يقذف بجسده في أي مقعد وعربة تحمله إلى الفندق.
ـ وأول ما ((استقر))، جسمه داخل العربة.. التفت السائق إليه، وأخبره بالأجرة - تحسس جيوبه، وفتح حقيبة يده.. وقال له مازحاً:
هل تأخذ ريالات سعودية؟!
ـ قال متحمساً: ((ومالو.. ما دامت عملة صعبة)) ولو أني أفضل الدولار!
قال: أشكرك.. أحياناً أحتاج أن أحدث نفسي، و.. ياليتها تتحملني!
ـ وبدأ حديث السائق من المطار إلى الفندق... بدءاً من الطقس والحرارة، والصيف، والزحام، وتدفق السُّواح.. وإنتهاء بقيمة ((الدولار))/ الأمبراطوري الذي صار يتحكم حتى في أخلاق الناس ومبادئهم!
ـ ترك السائق يثرثر طوال الطريق.. وهو يحلم بسرير وثير، وحمّام دافئ.. واسترخاء.
ـ واختفت الشمس، وبدأت مواكب الليل تتوالى.
ـ موظفو الاستقبال في الفندق يعرفونه جيداً، فهو كثير التردد والإقامة في هذا الفندق الذي يمنحه الشعور بالهدوء والراحة.. ربما لأنه خرج من دائرة الصخب، وازدحام السياح من منطقته.
ـ خفُّوا لاستقباله والترحيب به.. فهو نزيل لا ينقطع حضوره!
ـ فجأة.. وجد أمامه فتاة مليحة، شقراء الشعر، وقد أرسلته من فوق كتفيها ليغطي ظهرها.. ورسمت ابتسامة: لا تضحك بمقدارها تهمس.. كأن لابتسامتها صوتاً نغوماً.
قال له موظف الاستقبال: الآنسة في خدمتك، ستدلك على مكان إقامتك.
ـ قالت له بضحكتها ويدها ممدودة إليه: تفضل من هنا.
ـ في المصعد الذي حملهما وحامل الحقائب إلى الدور الخامس والعشرين.. سألها وهو مُغض ناظريه، يتحاشى النظر إلى ابتسامتها الهامسة:
ـ لم أحظ من قبل برؤيتك في هذا الفندق الذي أقصده كلما جئت إلى هنا منذ عشر سنوات؟!
قالت: ما زلت جديدة.. لم أكمل ستة أشهر بعد... فهل تجيء دائماً إلى هنا؟!
ـ قال: دائماً بمعنى الشوق وكل شهرين بحساب الأيام.
قالت: جوابك جميل.
ـ قال مبتسماً: ليس أجمل من ابتسامتك!
قالت له وهي تودعه عند مدخل ((السويت)): لو احتجت لأي شيء.. أرجوك لا تتردد في الإتصال بي، وهذا رقم مكتبي.
ـ وتركها تمشي وهو يتأمل خطواتها وليست خطواتها.. حتى صارت في منتصف الممر، فناداها:
ـ يا آنسة... عفواً، لم أتشرف باسمك؟
قالت بتلك الابتسامة الهامسة: إسمي ((نَوار))... الكثير سألوني بعد سماعهم عن معنى الاسم!
ـ قال ضاحكاً: اسم كنغم موسيقى... كنبع الكوثر.. نادر، وملفت و.. متموج!
رمى ((جاكتته)) على الكنبة، ورمى جسده على السرير.. عاقداً يديه تحت رأسه، وهو يهمس بينه ونفسه:
ـ نَوار.. اسم لم أسمع به كثيراً، مثلما أنا لم أشاهد - من قبل أيضاً..
ـ ابتسامة تهمس، فكيف إذا همس صوتها... لا بد أنه هَمْس مبتسم؟!
ـ غفا بضع دقائق كأنه يحلم.. وليس غير وجهها: حلم ماتع.. فقد أغمض عينيه في اليقظة، واختلط وجهها بماء عينيه.
ـ رفع سماعة الهاتف ليطلب بلده، فلم يستطع بسبب التشويش في جهاز الهاتف.. ابتسم فقد وجد حُجَّة.. وطلب رقمها، فجاءه صوتها كعصفور ينطلق في الفجر. قال لها:
ـ أنا عادل!
قالت: عرفت صوتك.. ولكني أسألك: هل أنت عادل بالفعل أم ظالم؟!
ـ قال: أتمنى أن تمنحينني فرصة إثبات عدلي دائماً.
قالت: وكيف أمنحك هذه. الفرصة؟!
ـ قال: بنَفْي ظلمك لي!
قالت: ياه.. أنت خطير، وأنا لست قدّك.. فهل تأمرني بخدمة؟!
ـ قال: نعم... هذا الهاتف غير صالح ويحتاج لمهندس.
قالت: حالاً.. المهندس وأنا.
ـ ولم يستطع الثبات، ولا الجلوس، ولا البقاء على حالة واحدة.. يقف ويتجه إلى الشرفة.. يعود ويجلس على حافة السرير.. يقفز يركض إلى الباب.
ـ كانت أمامه من جديد بنفس الابتسامة الهامسة، ومعها عامل الهاتف.
سألته: هل أنت شاعر؟!
ـ قال: مَنْ يراك لا بد أن يتحول إلى شاعر، حتى لو كان يعمل في الحديد والصلب.
قالت: ما هي مهنتك بجد؟!
ـ قال: فنان.
قالت: تُغنِّي، أو ترسم؟!
ـ قال: أُغني، وأرسم، وألحنّ، وأصور، وألوِّن..
قالت: ياهـ.. كل ده؟!
ـ قال: نعم... كل ده، بالكلمة!
قالت: شاعر يعني؟!
ـ قال: أعتز بهذا الوسام منك... خلاص: شاعر.
قالت: هل تأمرني بخدمة أخرى؟!
ـ قال: نعم.. تسمحين لي بصوتك المغْرى، يُفتِّح ورودي وفرحي كل صباح.
ـ نظرت إليه جانبياً، وما زالت ابتسامتها مرسومة على شفتيها الصغيرتين كحبَّتي كرز، وأقفلت بابه خلفها وقد تركته للصمت، وللأصداء، و... لهذه الليلة الأولى!
ـ الآن.. أطلَّ المساء الموحش، وكان يحلم بمساء منعش.
ـ وسرقته لحظات من التأمل، واسترجاع صوتها وضحكتها وأسئلتها... وما لبث أن قفز من فوق سريره، وقد صمم أن يأخذ حمّاماً بارداً ليفيق.
قال يحادث ذاته: ((إيه يا ولد شغل المراهقة؟!.. صحيح البنت حلوة، ولكن: العقل زينة))!
ـ إذن... قرر أن يلوذ إلى العقل، ويكتفي بلحظاتٍ سرقها من الفرح الغائب عنه منذ فترة بعيدة!!
* * *
(2)
كانت الإغفاءة تداعب عينيه من تعب السفر، حين رنَّ جرس الهاتف.
ـ تمنى وهو يضع السماعة على أذنه أن يسمع صوتها المغري، وأراد أن يلصق أذنه.. فما لبث أن أبعد السماعة قليلاً، وهو يفرّ من صوت موظف الاستقبال الذي قال له: إنه يطمئن على راحته لا أكثر!
ـ تحدث بالهاتف إلى صديقه الحميم منذ أكثر من عشرين عاماً ((سيف))، معلناً بقدومه.. ويستطرد في مزاحه معه:
ـ إسمع.. لديك ساعة واحدة لتكون أمامي، مشتاق لك جداً.
سأله سيف ساخراً: مشتاق لي.. أم لهذا الليل المنعكسة أضواؤه النشوى على صفحة نهرنا الخالد؟!
ـ قال عادل: والله العظيم.. لكما معاً، ولذلك الرجل الطيب الذي فاض بياض قلبه حتى بلغ شعر رأسه: ((عم أحمد)).. أرجوك أن تصطحبه معك.
قال سيف: عجيبة والله... تتبادلان الإعجاب في أذني، كل واحد منكما من وراء الآخر.. وأنا ((ياخويا.. مين يسِّمعني كلمة حلوة))؟!
ـ قال عادل: أنت بذاتك.. الكلمة الحلوة.
ضحك سيف يقول: ((إنت بكّاش.. بس باحبك))!
ـ وأراد أن يفوق من خدر تلك الإغفاءة، فطلب فنجان قهوة - على الريحة - كما يحبها دائماً، ليصُكَّ دماغه.. واستعد للقاء صديقيه الحميمين... في أول ليلة له في مدينة النهر، بعد غياب عنها ((طال)) أكثر من شهر،... وعام!!
وكعاده صديقه ((سيف)) في مواعيده معه.. فقد وصل إليه بعد ساعتين بدلاً من ساعة، لكنّ الغبطة تشيع في أرجاء نفسه، وابتسامته عريضة.
ـ وكان وجهه السعيد: أول ملاحظات صديقيه/ سيف وأحمد.. حين قالا معاً:
ـ ((إيه الحكاية... إنت بتحب جديد... مالك مش على بعضك وفرحان))؟!
قال لهما: حقاً.... الناس لا يعجبهم العجب.. إن عبس الواحد، سألوه: مالك.. وإن ضحك أيضاً سألوه ما مالك؟!
ـ قال سيف: لأ... وضعك غير طبيعى، نحن أصدقاؤك ونعرفك يا عادل... ياللى بتبقى ظالم أحياناً!
قال: ربما أصبح ظالماً لنفسي.. لكنَّ ظلمي للناس، مجرد الخوف منه: يرعبنى.
ـ قال أحمد: من فضلك.. لا تقلبها دراما، اعترف... إنت بتحب جديد، ومين؟!
* * *
علت قهقهاتهم... منبعثة من أرجاء المطعم المطل على ((النيل)) - مطعم عادل المفضل الذي يهرع إليه أحياناً في شمس الصيف الحارة - والحديث بينهم يتنوع، ويزهر بمشاعر الود التى غرست صداقتهم الطويلة في عمق الأيام.. فتحولت إلى جذورٍ لشجرة وِدًّ لا يباع ببخس.. كما يحدث في أيامنا هذه!
ـ ويشرد ببصره وخواطره على امتداد صفحة لنيل، والأضواء المنعكسة عليه: متراقصة... وفي صدره شجون من الصداقات التى كانت ثم بادت كالحضارات.. وأحدثت في إثرها: جروحاً، وارتطامات نفسية، بل وفجيعة في من تمنحهم الثقة والصفاء، فيطعنون أنقى المشاعر في الإنسان!.
ـ لكزه ((سيف)) في خاصرته.. يشاكسه:
ـ ((هيه.. إللى أخد بالك))؟!
قال: ليس وراء ما ظننت، وان كان قلبى انشغل بها... لكن عقلى كان يطرد وراء مواقف ردئية لبعض الذين كنت أظنهم: أصدقاء!
ـ قال أحمد: ((ياه أيها الرجل الشاعر.. لقد وطّنا نفوسنا على ما تظنه شيئاً غريباً أو مفجعا، وقد صار سلوكا في وقتنا الحاضر.. اعقلها وتوكل يا عم عادل)).
قال: عقلناها... هى لمحة من الشرود في القرود!
ـ قال سيف: لقد رويت لنا حكاية ست الحُسن ((نَوار)).. ولكنى أقول لك: لا تنزلق.. لا تندفع.. لا تغرق.
قاطعه أحمد مكملاً: ((انها اللاءات الثلاثة.. فاكر، ولابد أن تُنجيك من المهالك النسائية،! إغراءات الجمال الذي يبدو والله أعلم أنه لا قيمة له من داخله... بُتيتاً))!
ـ قال عادل: ((يا جماعة... البنت رقيقة جداً كالنسمة... شفافة جداً كالزجاج.. ناعمة جداً كالحرير)).
قال أحمد: ((لا حول إلا بالله... الواد... إيه، إيه... بتقولوا إيه في لهجتكم))؟!
قال عادل: نقول ((أتهبل)) خلاص.
قال سيف: ((واتهبل عندنا برضه.. والهبال واحد، إنما أحمد خايف عليك أيها الرومانسي من كيدهن.. وأنت و... حرارة حبك، أو لهبه الذي لم يخمد بعد... فاكر))؟!
ـ تواصل الحوار بين هذا الثلاثى المتجانس، كأنهم شخص واحد.
ـ وتواصل الليل بالسهر في أصداء ((مينا)) وظلال الكرنك.
ـ وطرأ سؤال ليس في الموضوع على ذهن ((عادل)) فقال لصديقيه:
ـ ((صحيح.. ليه السياح العرب لا تشدُّ أكثرهم: المواقع التاريخية والآثار القديمة العظيمة.. وقد سألت البعض عن الاهرام، فأكتشفت أنه لم يذهب إليها (بعد!).. وهؤلاء يركضون إلى المسارح، والمطاعم، والنوادي الليلية))؟!
قال سيف: ((ربما... لأن كل شعب لديه مواقع وآثار تاريخية..، ولكن ليس لديه: مسرح، مثلا))!
ـ قال عادل: تبرير مثقفين ومنحازين إلى المسرح باعتبارك من نجوم كتّاب المسرح.
قال أحمد: ((لأ.. لأ.. اسمعوا، السبب يعود ياحبايبي إلى الزهق.. الناس زهقانه من الحجارة، والزلط، والأتربة التاريخية، والأطلال... الدنيا مليانة حجارة وزلط وتراب... والنفوس عطشانه سهر زي الغنِّيوه ما بتقول.. إفهموها يابجم))!
ـ قال عادل ضاحكاً: ((تقصد إن حرارة الصيف تعمل في الناس كل هذا التعرِّيِ لرغباتهم في المرح والسهر))؟!.
قال سيف: ويمكن.. رغباتهم في الضحك من خلال مسرحية.
ـ قاطعه عادل: ((إوعى تقول.. مسرحية هادفة))!
قال سيف: عارف رأيك والله العظيم، ومعك حق في بعض المسرحيات وليست كلها!!
ـ قال احمد: ((وبعدين بقى... صارت سهرة ثقافية، فنية، مسرحية، نقدية خلونا نعرف التفاصيل الدقيقة لشخصية ست الحُسْن/ نَوار))!
صرخ سيف: ((تانى يابو حميد.. ما صدقّنا الراجل اتلهى شوية.. تذكِّره ليه))؟!
ـ امتدت نظرات ((عادل)) إلى فتاة شقراء الشعر، مياسة القد، مربوعة القوام... وأخذ يردد كأنه يهدرش:
ـ ((شوف - شوف.. سبحان الله كأنها هي، لو فَردَت شعرها على ظهرها))!
ـ ضحك الصديقان، وقال له أحمد:
ـ ((يابنى روح للطبيب... حالتك صعبة))!
قال سيف: ((هِيّا حلوة كده))؟!
ـ نظر ((عادل)) إلى صديقه سيف شذراً وهو يقول له:
ـ ((إبعد.. أعرفك ذئب)).
وطافت النسمة المنعشة بضحكات الثلاثى الحميم.. كأن الضحكات تصدرمن صوت واحد... وقد شارف الليل على الرحيل إلاّ قليلاً.
قال عادل: أريد أن أعود إلى الفندق لأنام.. أنا تعبان.
ـ قال أحمد: تنام من أجل أن تستعجل الصبح.. فتراها، وانَّ الصبح لقريب!
قال سيف ((يا أخي.. أنت بتقرأ أفكاري، وبتقرأ نفسية هذا الرجل الذي تحول كله إلى قلب))!
أفاق.. حين كانت الشمس تتوسط مساحة شرفة غرفته، رغم الستارة التى أسدلها.
ـ الساعة العاشرة صباحاً، لم يرن جرس الهاتف.. فهل يطلبها ليسمع صوتها؟!
ـ قال لنفسه: ((لا... اتقل ياولد.، الركاده زينه))!
ـ أمسك سماعة الهاتف، ومازال على سريره، ولكنه تراجع.
ـ وقام من سريره بعد أن طلب فطاره...
ـ لا أحد... لا أحد، مادامت أنها لم تطلبه!
ـ ولكن.. لماذا تطلبه وهو مجرد نزيل مثل غيره؟!
ـ عصفت به الحيرة... لا يدرى: هل هو في انتظار الفطار، أم الهاتف؟!!
* * *
(3)
((نوار)): ليست أنثى أخرى..
ـ المساء الذي أضاء فيه وجهها فغمر ظلال نفسه: لم يكن مساء آخر كالأمسيات التى تتكرر، ثم تتلاشى.
ـ هذا الفندق الذي يقصده في كل رحلة له إلى ((القاهرة)) يختلف تماماً في بهائه وراحته عن كل المرات السابقة التى ارتاح فيها داخله.
ـ في كل زيارة له.. كان يحاول أن يُجمِّع نثار نفسه، ويغتسل من قلقه وأوضار الهموم.. فيختفي في جوف الفندق أياماً: يسترخي، ويتأمل، ويقيم حواراً مع نفسه ما بين عقله ووجدانه.. فكأنه يضع فلتراً يُصفِّي به الكدر، ويفتت الصدمات.
مرة واحدة: قست عليه هذه المدينة التي تفيض بالبَشَر فوق احتمالها.
ـ كانت.. يوم جاء ليواجه ((أنثى رافضة)) بلورها عشقه في عطاء وقيمة: المرأة/ القرار، التى كان يعتقد أنه لن يحب غيرها، ولا يرتبط من بعدها بامرأة يجد فيها: شموسها، وأقمارها، ونجومها، وعشبها، وأنهارها.
ـ لكنها أجهزت على حلمه، ومزقت قلبه حتى حولته إلى ما يشبه نشارة الخشب.
ـ يومها - أيضاً - اكتشف أنها: امرأة تعاني من رغبة الانتقام من كل رجل.. يعشقها، وتطعن في صدقه لها.
ـ وهجر هذه المدينة... غاب مع انطفاء شموس الأنثى الرافضة، وانحسار أقمارها، وجفاف عشبها، وغيض أنهارها... وطال غيابه وقتاً أكثر من العام، حتى تغلّب على صدمته، وعاد إلى هذه المدينة التى تمنحه دائماً: ((التجدد، والصفاء)).
ـ وضع ثلجا في كأسه، مختلطاً مع الليمون الذي يشربه كل صباح.
ـ كم تتحول الوجوه في مرآة أصحابها إلى ملامح غريبة عندما تحتشد علامات الاستفهام!
ـ استيقظت معه علامة الاستفهام الأولى التى تخمّرت في ذهنه منذ مطلع المساء الآفل:
ـ هل ستطلبني بالهاتف.. أم أطلبها ولا أنتظر؟!
ـ هذه أنثى أخرى.... مختلفة، غامضة... مظهرها براق، وعيناها تومضان بوعد تملكه هي وحدها.
ـ بدأ طقوس صباحه بعد عصير الليمون: حلق ذقنه، وكوى قميصه بالمكواة التى يودعها في حقيبة سفره مع ملابسه دائماً.. وعاد إلى الطاولة وأكمل تناول إفطاره.
ـ رن جرس الهاتف... أخيراً!!
ـ قفز من مقعده إلى جانب السرير في خطوة واحدة:
ـ ألو... نعم، سكون في ((الهول)) بعد ربع ساعة!
ـ سائق السيارة التى استأجرها لمشاويره اليومية.
ـ أكمل ارتداء ملابسه، و... عاد جرس الهاتف:
ـ ألو.. أهلاً ((نوار))!
قالت له: هل شربت قهوة صباحك!
ـ تلجلج... تعثرت الكلمات وهي تتلكأ بين شفتيه.. قال لها:
ـ هل لديك بُنْ ((محوجّ))؟!
قالت ضاحكة: ((نجيبه لوكان مفيش)).
قال: خمس دقائق، و... وينجلى نظرى بوجهك!
* * *
ينطلق نحو المصعد، بعد أن انتقى ألوان بذلته وقميصه وربطة عنقه.
ـ حين فتح باب المصعد، كانت أمامه... وجهها كله تحول إلى تلك الابتسامة التى تهمس:
ـ صباح الخير.
أنت الخير، والفرح.
ـ حاول كفه الأيمن أن يحتوى كفها الأيسر.. لكنّ كفها راوغ حتى أفلت من الأسر، أو لعله خاف من الدفء.
ـ قالت: ((عملت القهوة بإيديّه)).
قال: يسلمولي أرقّ، و... أذكى إيدين!
ـ ضحكت كأنها تهمس، فصوتها لايرتفع فوق الإصغاء القريب منها.
قال: انتظرت أن تُصبّحي علي يوم أمس، وراهنت نفسي وخسرت الرهان.
ـ قالت: ولماذا لم تفعل أنت؟!
قال: حتى لا أزعجك.. والاّ لكانت المبادرة منك.
ـ قالت: يبدو أن كل واحد منا يظن أنه مزعج للآخر؟!
قال: في حين أن ((المحسوس)) - فيما يلوح لي - غير ذلك.
ـ تركت نظراتها ترد على إجابته، وتواصل الحوار الصامت، الهامس بالنظرات.
ـ وساد الثوانى: سكوت لم يحتملاه.. فمدَّ ((عادل)) يده إلى ((نوار)) بظرف مغلق، وقال:
ـ إئتلقت خواطري بجمال ومعاني اسمك، فكتبت كلمات من وحيه، ومن رعشة أضلعي به.
قالت: ((ياه.. أنت شاعر بالفعل لكن المظروف تخين.. كل ده كلام))؟!
ـ فقال: ستفتحينه بعد أن أذهب.. لتجدي بداخله الكلام المكتوب، و... المجسد!
قالت: ولماذا لا أفتحه الآن؟!
ـ قال: لا أريد - من المرة الأولى - أن أقرأ تعابير وجهك مما ينعكس عليه من معانى الكلام والمضمون.. أفضلّ أن تصفيها وتحكيها لي أنت.
قالت: أنت غريب.
ـ وركض من أمامها... أحس أنه يجلد ساقيه كظهر الحصان لتنطلقا به إلى بعيد، وهو يغيب في جوف المصعد هابطاً إلى الصالة الرئيسية للفندق.
كانت أحلامه في أكثرها: تخضع لليقظة لا للنوم... في نومه لا يحلم كثيراً، بل نادراً، لكنه يمتلك القدرة على إغماض عينيه، والسفر بخيالاته، وأحلامه على أجنحة نورسية بيضاء... بمقدار ما تفيض بالحزن، بمقدار ما هي مشبعة بمتعة الخيال، ورسم صورة للحياة الخالية من الكدر، وصورة للأحياء الأصحاء المعافين من البغضاء.
ـ وتمنى - وهو في جو المصعد - أن يعود إلى غرفته، ويسدل ستائرها، ويغمض عينيه... فيراها أكثر، ويستمتع بتجسيدها في خياله وحلمه.
ـ وتذكر أنه مرتبط بموعد مع دار النشر التى ستطبع له كتابه الجديد، والسائق الذي تركه ينتظر، ونسيه!
* * *
ـ احتضن كفها الصغير مظروف ((عادل)).. وسارعت إلى مكتبها - وحدها - لتفضّه وترضى فضولها بمحتواه، وربما ترغد نفسها.
ـ مع الرسالة وجدت علبة صغيرة بداخلها ((بروش)) ثمين.
ـ إبتسمت... وهمست: ((أنت عفريت يا هذا الرجل المجرّب))!
ـ وعثرت مع الرسالة على ((وردة)) حمراء يفوح أريجها رغم أنها قطفت ربما البارحة.
ـ اتسعت ابتسامتها، وهمست ثانية: ((أنت مراهق... ياهذا الرجل العاشق))!
ـ وبسطت الرسالة أمامها.. تقرأ:
((نَوار: حيّرتني كثرة المعاني والصور في اسمك.. فهل اسمك يعني النَوَّار: شديد النور، أم هو اسم شهر أيار.. أم هو النُّوار: المانح للزهر نوراً؟!
ـ في كل المعاني.. اسمك يفتتح حلمى، وبوحي، وخفقة قلبي.
ـ مهلاً... لا أقول إنني أحببتك من أول نظرة أو لمسة يد، ولكنك أنثى ملفتة تحفلين بمظاهرات عديدة تتفجرّ منك: ملاحة وجهك، ونقاء ابتسامتك، وغموض نظرتك، وميزان كلمتك.. فمن أين جمعت كل هذه الملاحة التي يتظاهر بها جمالك ضد القبح، في ميادين الجمال؟!
ـ تُرى... كيف فسَّرت دخولي إلى أيامك - لا أقول حياتك - بعد أن اقتحمتني كل مظاهراتك هذه، وخلخلتني، وأحدثت الفوضى في المسافة ما بين عقلي وقلبي))؟!
ـ طوت الرسالة، وهمست ثالثة: ((أنت قادر على التعبير... يا هذا الرجل الكاتب))!
ـ وأعادت محتويات المظروف، ورتّبتها بداخله، وأودعتهم جميعاً في حقيبة يدها.
ـ حرصت أن تدخل في دوامة العمل، حتى يحين موعد انصرافها.
ـ تتوق الآن إلى البيت، لتعيد قراءة الرسالة، وكل رموزها!
* * *
(4)
صالة الفندق/ المدخل: تعج بزحام بشرى، على غير ما تعودّه نزلاء هذا الفندق الدائمون من هدوء يصل أحياناً إلى حد الهمس، ولكن... ما الخبر؟!
ـ إنه موسم الزحمة التى تبلغ زحمة الصيف التى يحدثها المصطافون ((الأشقاء))!
ـ وجال بنظره في أرجاء الصالة، أو بهو المدخل... وفي تجوال عينيه:
حط نظره على سيدة فارعة الطول، جمالها ملفت، وابتسامتها حافلة بالشوق، ونظراتها هي الأخرى لا تستقر.. بل تشبه كاميرا المراقبة التلفازية.. وكانت الكاتبة (سارة) من بلده!
ـ التقت نظراتهما، وابتسامتاهما... لوح ذراع كل منهما للآخر سألته:
ـ أنت تقيم هنا؟!
قال: وأنت أيضا.. أم زائرة؟!
ـ قالت: معك... ما هذه المصادفة العجيبة.. هل جئت لمعرض الكتاب؟!
قال: للكتاب.. معرضاً، وطباعة، وقراءة... أشاهد المعرض، وأطبع كتاباً جديداً لي، وأتزود بأحدث الكتب الصادرة من عم مدبولي!
ـ سألته: ((شكلك يدل على خروجك))؟!
قال: عندي موعد طباعى.. سأراك في الكوفي شوب، حين تجمعنا المصادفة أيضاً.. لندردش.
ـ قالت ضاحكة: مواعيد النهار.. حرارة!
قال وهو يلوح لها منطلقا: حرارة النهار، ورعشة الليل!
* * *
ارتفعت شمس القاهرة في كبد السماء.
ـ نهار آخر.. لا يعرف فيه مفاجآته، ولا جنون الإنسان فيه.
ـ القاهرة: مزدحمة في النهار، صاخبة بسياراتها، ومشَاتها، والمتدفقين عليها.
ـ حرارة في الصيف... ورغم هذه الحرارة، فالعرب يتزاحمون على مقاعد الخطوط الجوية لأقطارهم، ويموجون في شوارعها كأيام الفيضان.
ـ القاهرة: معتّقة في الليل كزجاجة نبيذ محفوظة مختومة من القرن التاسع عشر... لم يهرب الزمان منها، بل هي التى حاولت أن تهرب من الزمان... تبدو كأنثى تضع المكياج على وجهها لتحتفظ بشبابها وأنوثتها!
ـ ومن خلال نافذة السيارة التى تعبر به الشوارع والميادين.. كان يراها:
ـ القاهرة... بلا مكياج اليوم، لكنها تحتفظ في لياليها بضمخة الحب والألفة.. لا يشعر مرتادها بالوحشة في الليل، حتى وإن كان وحده.
ـ في النهار... يستطيع المتجول فيها، والزائر: أن يعرف كل الناس في خلال دقائق... فهم يتمتعون بالود، لكنّ الواقع الاقتصادي، وقسوة العيش: انعكسا بتأثيراتهما على طريقة تعامل الناس فيما بينهم وبين زوّار مدينتهم!
ـ كأن القاهرة - في لوحتها التشكيلية الجديدة - تحاول الققز فوق واقعها إلى تنسم عبق ما فيها من تاريخ حافل... وأقل ذلك التاريخ:
أنهم كانوا يغسلون شوارع فؤاد وأمثاله بالصابون مع مطلع كل فجر!
* تساءل ((عادل)) وهو يهبط أمام الدار الطباعية لإنجاز مهمته:
ـ ترى.. هل يعرف هذا الجيل الجديد الذى انحرفت قلة منه إلى الإرهاب، والعنف، ربما بدوافع الفقر والبطالة: ما معنى شهادة التاريخ التى تشقى الشعوب، وتكدّ، وتعرق، لتجددها وتحفظها من التداعي؟!
ـ التاريخ: يشهد لماضي مصر.
ـ والتاريخ: ينتظر من يكتب واقع مصر بأمانة وإنصاف وشجاعة.
* يذكر ((عادل))... يوم ذهب إلى القاهرة بعد انتصار أكتوبر/ رمضان، ليكتب شيئا عن ملحمة النصر مما سيشاهده ويستخلصه من الحوار مع رجال مصر.. فأخذوه إلى ما وراء خط بارليف المنهار بسواعد محاربى مصر.. وشاهد المخابىء التى أقامها اليهود، وكيف كان الجندي المصري يوزع ألوان اللوحة التشكيلية لمصر على فرحة النصر، فوق خارطة مصر، بل وفي صدور أهلها.. يومها: كان يسجل أقوال الجيش الثالث في حواره معه، وهو يقول:
ـ لا ندرى بعد ثلاثين عاماً.. ماذا تصبح هذه الصحراء والرمال.. لكنها كلها مصر، وستبقى لمصر!!
* * *
* مال النهار إلى الغروب... بعد أن عاد ((عادل)) إلى الفندق من جولته خارجه، وإنهاء بعض أعماله.. وكان يتأمل وهو يحدق في سقف غرفته حين استلقى راغباً في استرخاءة وغفوة يجدد بهما نشاطه، ويُقَشِّر تعب النهار.
ـ وجه ((نوار)) يفترش سواد عينيه.
ـ لم يعد يدري: أتميل إليه، أم هو مجرد فضول أنثوي منها لاكتشاف أسرار رجل مجرّب عركته الحياة؟!
ـ لكنه يدري أنه: يفكر فيها بلهفة وبتواصل.. وهو يتحاشى أن تتحوّل بين أضلعه إلى: نزيف، وانتحاب.
ـ هل هو خائف من مصادرتها لخفقاته وحدها؟!
ـ لكنها تلوح كالحلم.. كالطيف.. كنسمة منعشة.. كجناح نورس قد لا يحط على صدره، إنما يواصل تحليقه ثم ابتعاده.. أي ابتعادها عنه.
ـ أحس بكابح في صدره، وسؤال يتقهقر به:
ـ ((كيف اندفع بهواجسى، حتى تنحدر بي إلى هذا القلق))؟!
ـ لكنها تبلورت في حياته كالحلم.. يطارده في المنام، وفي اليقظة... تتجسد أمامه وهي غائبة، ويكاد يحس برقة يدها وبدفء أنفاسها!
ـ هي التفاحة... وهو: أدم!
ـ هي المشرط.. وهو: الجرح الجديد والنزف!
ـ وأيقظه رنين الهاتف من هواجسه وشروده:
ـ ألو... أنا نوار!
معقول... عملك ينتهى بعد الظهر.
ـ صح... بأكلمك من البيت.
وأخبارك إيه؟!
ـ أخباري؟!... إنت خلخلتنى من الداخل!
أنا... كيف؟!.. بالعكس، أتمنى لك الأمان، وراحة النفس.
ـ رسالتك قرأتها أكثرمن خمس مرات، وسأقرؤها بالليل قبل ما أنام.
تعرف: مفيش راجل كتب لي قبلك، وبالذات هذا الكلام الجميل.
تقصدين: ما عندك تجارب؟!
ـ تجارب أيه... ولا تجربة، انا عمري (25) سنة.
لكن.. ما أصدقّ أنك ما دخلت في تجربة إلى الآن.
ـ انت ليه تصر إنك تعرف كل شىء وبسرعة؟!
أسف، لا أقصد... ولكن فرحت بإعجابك برسالتي.
أطلب منّك طلبْ؟!
أنت تأمرين ولا تطلبني... وأنا أنفِّذ فوراً.
لأ.. فوراً صعب، لكني أتمنى أستلم في الصباح رسالة أخرى!!
* * *
الآن بعد أن وضع سماعة الهاتف: لابد أن قلبه قد أكتشف قارّته!
ـ أكثر المراحل التى عبرها عمره... كانت: موانىء ومحطات... وهناك ثلاث مراحل فقط كانت أكبر، وأعمق، وأبقى من العبور.. حفَرَتْ وشماً في صدره لم تُزل معالمه، وإن اندثرت تلك الأحاسيس القد يمة!
ـ ((نوار))... تبدو - باقتحامها لوجدانه - كأنها قارة.. أكبر من حجم أنثى، فهي تحترف الشروق بابتسامتها، وتعلن فجراً جديداً بطلوع وجهها!
ـ في نبرة صوتها المعبّرة عن فرحتها ببوح الرسالة... تنهض من داخلها: طفولتها النقية وعفوية طبيعة النساء ((اللواتى يغرّهن الثناء)).
ـ عاد الهاتف إلى رنينه.. تثاقلت يده في رفع السماعة، فهو سابح في ملكوت ((نوار)).. عالم من السحر، ولكنه صمم ألا، وقال لنفسه:
ـ لابد من حمام بارد حتى أفيق من أشياء كثيرة... لابد أن ((الكوفي شوب)) يموج بالناس، ممن نعرفهم، وممن لا نعرفهم، أو ربما... نحاول التعرف بهم!
ـ في المصعد وهو يهبط بركابه إلى الصالة الرئيسية.. لاحظ سيدة وقوراً، تطلعت اليه بنظرة أشعرته أنها تعرفه، ثم أشاحت عنه.. وفوجئ بها تتقدمه إلى ((الكوفي شوب))... عادي، الناس يدخلون إلى هذا المكان، ولكنها اتجهت إلى طاولة الكاتبة ((سارة))، و..... جلست!
ـ اقترب من الجالسين في زفة ترحيب الكاتبة بقدومه.. وبدأ تعارف جديد، وحوار ساخن!!
* * *
(5)
أخذت الكاتبة ((سارة)) زمام الكلام في ما يشبه المنتدى الثقافي الصغير، حول طاولتين داخل ((الكوفي شوب)).. ووجهت كلامها في البدء الى ((عادل)) تحاول أن تقيم جسر التعارف بين بعض المتحلقين حول الطاولتين.. فقالت:
ـ طبعاً أقدم لكم الكاتب العروف ((عادل)) ومتأكدة أن الجميع يعرف من خلال قلمه، وها هي المصادفة الطيبة قد جمعتنا بدون ميعاد. التفتت إليه السيدة الوقور التى ((شالته وحطته)) في المصعد، وقالت مبتسمة:
ـ ((عرفت هالحين.. وانا أقول: وين شفت ها الوجه يا حافظ))؟
انحنى ((عادل)) أمامها، وقال لها: سيدتي.. سماعك بالمعيدى خير من أن تراه!
أكملت ((سارة)) تعريفها للجالسين، بدءاً بالسيدة الوقور، فقالت:
ـ السيدة ((هلالة)) أكاديمية، وصاحبة دور تربوي مميز..
الفنانة الصاعدة ((إلهام)) ذات الصوت القوي.
الاستاذ الناشر ((حسين))، والدكتور الأكاديمي/ صديقك بالطبع ((غنام))!
قال عادل يُشاكس هذه الصحبة: مثل ما يقول إخواننا في مصر هنا: (متجمّعين عند النبى صحبة).. تُرى ما هو محور حديثكم؟ أو حواركم يا أهلي، ياصْحابي، يا حبايبى؟!
ـ قالت سارة: ((لسه بنقول يا هادي)).
قال عادل: هدانا الله جميعاً لكلمة الحق.
وأمسك الدكتور ((غنام)) بزمام الكلام، واضطر الجميع إلى السكوت، ولا يظنون أنه إصغاء.. فمن ((ركائز)) شخصية هذا الاكاديمي: أنه لا يفسح المجال لآخر بالحديث والحوار.. عنده قدرة عجيبة على ((ارتكاب)) هذه الأشياء في وقت واحد، وهي: الكلام المتواصل، وقطع حديث متكلم آخر، والقفز في حلق ثالث، و((مداخله)) حوار رابع بطريقة إجباره على السكوت.
وأراد ((عادل)) أن يحاول الكلام، ولو مع مَنْ بجانبه بدون حرص على ((توحيد المجلس)) وكل في ركنه ((يودْود))... ووجد الدكتورة ((هلالة)) بجانبه، وأخذ يهمس لها، وطال حوارهما الجانبي، وأصداء صوت ((غنام)) تلاحقهما.
فجأة... قالت الدكتورة ((هلالة)) لصديقتها الكاتبة، مشيرة إلى ((عادل))
ـ وين يا أختي ها الرجَّال من أول ما تعرفنا عليه... والله العظيم أنه عسل))
حبكت النكتة مع ((عادل)).. فقال لها:
ـ إذن سيدتي. تفضلي، و... تذوّقينى مادمت أنني عسل!!
وضج المكان بقهقهات الجميع.. فتنبه الدكتور ((غنام)) لحظتها أنه لا أحد يصغي اليه،! ولكنه لم يسكت، بل تساءل: ما هو الموضوع.. أشركونا؟!
قالت ((سارة)): نريد أن نصمت جميعاً الآن لنستمع إلى حلاوة صوت الفنانة ((إلهام))
ـ قال ((عادل)): ((فين.. هنا في الكوفي شوب، حتى ما هي حلوة للفنانة، بعدين يسموها: مطربة الكوفي شوب))!
قالت ((سارة)) تزجر صديقها المشاكس: من فضلك.. لا مداخلات ساخرة ولاضاحكة، نحن نريد أن نسمعها تتكلم عن رحلتها الفنية.
ـ قالت هلالة: ((ياخْتى خلّيه يتداخل، يمكن يغني هو))!!
وتحرّجت الفنانة من رفع صوتها، حتى لا يتراكض نزلاء وزوار الفندق الى ((الكوفي شوب)).. وتواصل الحوار بين هذه الصحبة عن: هموم الكاتب ومشكلته المزمنة مع دور النشر والتوزيع اللتين تمتصان عرقة وإبداعه، وتمنحه الفتات من حصيلة بيع كتبه.
قال الناشر حسين: لا نظلم دور النشر والتوزيع.. فالتكلفة ارتفعت: الحبر والورق، و العامل.. إلى آخر ما يمر به طبع الكتاب حتى تسليمه للتوزيع.
ـ قال عادل: هذه مشكلة دار النشر والتوزيع، وليست مشكلة الكاتب، وأنت كناشر وموزع من أين لك الربح والنجاح في عملك.. لو لم تجد كتباً ومؤلفين لها؟!
قالت سارة تحسم الحوار: أرى أن النقاش في هذه النقطة بالذات يؤدي إلى جدلية (البيضة أم الدجاجة)!
ـ قال عادل: المشكلة أن البيضة والدجاجة صارتا من أملاك الناشر والموزع.
قالت الدكتورة هلالة: ((انتم ياهلكتاب.. ليه ما تنشئوا داراً للنشر بجهودكم وبمساهماتكم المالية؟!
ـ عاد صوت الدكتور غنَّام يصهلل: الموضوع يا جماعة يحتاج إلى دراسة الجدوى الاقتصادية لمشروع دار النشر والتوزيع، وفي عالم الطباعة هناك أسباب لا بد من دراستها.
قالت سارة: ((أنا لازم أطلع إلى غرفتي لأبدل ملابسي... الليلة مدعوة على فرح))!
ـ سألها عادل: ((فين الفرح))؟!
قالت ضاحكة: ((وانت مالك. حتروح معايا يعنى))؟!
ـ قال: ((ظلّ راجل ولا ظلّ حيطة.. اعتبرينى حيطة يا ستي))؟!
وفرت ((سارة)) بصديقتها الفنانة الصاعدة، والتفت ((عادل)) إلى ((هلالة)) يقول لها:
ـ سيدتى الوقور.. مرتبطة بدعوة أخرى؟!
قالت مبتسمة: لا يمكن أن تدعوني إلا على الفطار فقط و... هنافقط أيضاً!
قال لها: ((ما لك نصيب في الطيبات))!
* * *
* ودّع ((عادل)) صديقه الدكتور ((غنام)) بعد أن اعتذر له عن قضاء السهرة معه، فقد كان مرتبطاً مع صديقيه الحميمين اللدودين/ سيف وأحمد.. حين تلمع أضواء القاهرة منعكسة على صفحة النهر الخالد: الجاري ليلاً ونهاراً في عمق وجدان أهله، ومن يزوره!
وصعد إلى غرفته ينتظر هاتفاً أو حضور صديقه.
أراد أن يليِّن ظهره المتعب من صلب جلسة ((الكوفي شوب)) أكثر من ثلاث ساعات.. تداخلت خلالها (أصوات) صديقيه غنام.
(الليل، والنيل، وشعرك الذهبي المسدل على ظهرك، وتغريدة صوتك، وإضاءة ابتسامتك.. وأنت يانوار: أسئلة عواطفي المميّزة)!
ـ يبدو أنه لم يعد حوله ما يثيره غيرها.. برغم الزُّرافات/ الزَّرافات، والوحداناً من النساء الأجمل.
ـ استرجع كلمة قالتها له صديقته الكاتبة سارة، وهو يُسرِّ إليها بشبكته، ويغني في أذنها لنوار: ((اللي شبكنا يخلصنا))... فقد قالت ((سارة)) في الصباح الثالث له في القاهرة:
ـ أنت عاطفي رومانسي، يسهل على أية امرأة أن ((تُطببِّك)) في حبها!
* قال لها: البحث عن الحنان، والصدق معاً... فالحياة في تجريتي: حنان/ حلم، وصدق مزَّور.. لقد كانت آخر تجربة لي تمثل أعنف، وأقوى، وأصدق حب في حياتي لكنها... قتلتني!
ـ قالت له: ألا يمكن أن تكون مبالغاً؟!
* قال: ربما أبالغ في منح من أحب أكثر مما يستحق، لكنْ صدقيني.. لم أندم يوماً على ما أعطيت أو منحت، فكل ذلك يعود إليّ كما قال الشاعر:
- مُنىً إن تكن.. تكُنْ أعذب المنى
والاّ فقد عشنا بها زمناً رغداً!
قالت: عش حياتك.. أنت فنان ومرهف.
- سألها: وأنت.. ألست مجنونة في عاطفتك وحُبُّك؟!
تنهدت وقالت: ياه يا عادل.. جنوني هو وضوحي.. ليست عندي منطقة وسطى، أو كما قيل: يا أبيض يا أسود، لأنني لا أعرف الكذب، ولا التزوير.. وإن كنت غضوبة أنفعل بسرعة!
ـ سألها: وهل تندمين بعد الغضب والانفعال؟!
قالت: الندم أرفضه... لكني أحزن كثيراً على الذي لا ((يفهم)) نقاء غضبى!
* * *
أفاق من خواطره وشروده على صوت الهاتف:
ألو... أيها الرجل المُتعَب والمتْعب لغيرك.. نحن سيف بن ذي يزن، وأحمد بن طولون ننتظر نيافتَك في الصالة الرئيسية... فانطلق مأذوناً أو عريساً إلينا على وجة السرعة!!
سأله ضاحكاً: وأين سيكون الزفاف الليلة، و... مَنْ هي العروس؟!
((يا أخي إنزل بقى.. دا أنت غلس))!!
* * *
(6)
أزاح ستارة غرفته، ووقف في الشرفة.. يتأمل، ثم يتابع حركة هذا الموج البشري المتلاطم، وهذا التراكم العجيب في السيارات التى تصب في الشوارع والميادين، وفوق كوبري يجري النيل من تحته.
ملكوت عجيب... وقد بدت عيناه شاردة النظرات إلى درجة البلاهة
لا شىء في هذه الحياة.. غير هذا الركض أو التسابق على لقمة العيش: أولاً، ومائة... ثم على الطموح، والأحلام، والأماني، والحب.
الكثير يتحدث عن الحرية... فهل الحرية هي في الكلام فقط، والتعبير عن الرأى؟!
هناك حرية أهم في: إيجاد مجالات واسعة لاختيار مصدر الرزق، وفنون الإبداع التى يخدم بها الإنسان مجتمعه ووطنه.
في العالم المتحضر... حدَّدوا مجالات الحرية التى يريدونها أو يحتاجونها، ومارسوها إلى درجة التسيب، والفوضى، والانحلال!
وفي العالم الثالث.. حدّد الفقر معنى ومساحة الحرية في قدرات الإنسان وعطائه.
وأحس أن نظراته تاهت منه في هذا الزحام المختلط بين الإنسان ومادياته.
أحزان تراكمت وتقَّطرت في النفس.. منذ افتتح الاستعمار عهود الظلم في هذه المنطقة.
لوحات من البطولة: كتبها هذا الشعب بدماء أبنائه، في اقتداره بخطوات العلم والتقدم التى سبق بها جيرانه من حوله.. لتكون مصر بوّابة مهمة يقتحم منها الاستعمار أرض العرب، وكانت مصر حارساً... فماذا حدث اليوم للناس، وللبلد، وللنفوس... وما هي الأسباب؟!
صفحات من الكفاح الوطني ضد الطغيان من الداخل.
ويواصل هذا الشعب تحدِّيه لأزماته الاقتصادية والعددية في هذا الانفجار السكاني المرهق لكل خطط التنمية.
ـ أتعبته الوقفة في الشرفة المطلة من الدور الخامس والعشرين على الميادين والشوارع... على النيل العظيم الذي شهد ملاحم بطولة، وارتكاسات ظلام وظلم.
ـ امتد بصره إلى عمارة مواجهة لارتفاع مبنى الفندق الشاهق... هناك في شرفاتها ونوافذها: تناثر الناس... الزحمة حتى في داخل البيوت، وليست في الشوارع فقط.. أو أن الزحمة تنطلق من جوف البيوت إلى الشوارع كل صباح.
ـ سمع قرعاً على الباب، وحين فتحه وجد أمامه عاملة النظافة تقول له الكلمات المتداولة كل يوم، ولكل نزيل.
ـ ((كل سنة وأنت طيب يا بيه))!
أذن لها بالدخول مع زميل لها يساعدها، وسألها: هل لديك أولاد؟!
قالت: أربعة يا بيه.. وزوجي طلقني وترك لي الأطفال.
ـ إرتدى جاكتته وخرج مسرعاً من الغرفة، قبل أن يرى دمعة هذه الأم المطلقة.
لماذا سأل المرأة؟!
ـ اتجه مباشرة إلى ((الكوفي شوب)) لم يتناول إفطاره بعد، ولا نفس له.
ـ في أقصى المكان.. شاهد الدكتورة ((هلالة)) تقرأ في صحيفة.
ـ من قراءته لنفسية هذه السيدة الوقور.. استخلص من أعماقها ((بذرة)) حزن، تحاول هي ان تواريها تحت تربة نفسها التى شغلتها بنشاطات وعلاقات اجتماعية وتربوية وعلمية كثيرة.
ـ شخصية هذه السيدة قوية في تعاملها مع الآخرين.. وبسيطة في نفس الوقت حين تضحك وتبتسم.. ومُقْنعة حين تحاور مَن أمامها حتى لمجرد الجدل.
ـ استشف، من خلال حواره معها: أنها امرأة أنتجت في مجالها العلمي والأكاديمي ما يفيد الجيل بالنسبة للفتيات في وطنها... وهي حازمة في إدارتها لعملها، بعكس ما تبدو منسابة ورقيقة جداً كلما أرادت أن تمتح من أعماقها بذرة الحزن تلك، وتشارك الآخرين اللحظة، والرؤية، والمرح الذي تضع له كوابح إلى حد معين!!
ـ دكتورة ((هلالة)).. سيدتى، وسيدة هذا الصباح النقي.
* أهلاً أستاذ ((عادل))..أفْطرت أم تشاركنى؟!
ـ حتى لو أفطرت. فإن جوعي يتجدد أمامك.
* يا أيها الكاتب الشاعر.. ((اتلملم))!
ـ عفواً... جوعي إلى حديثك وعلمك، وآرائك التى أفرح بها وأعتز.
* يسلّمك... وش لونك، وسهرتك البارح... هل التقيت بساره؟!
ـ ((واحدة.. واحدة، وقبل ذلك - ليدز فرست - أنت الأول اللي تحكي، وتذيعي نشرة أخبارك!
* تعرف إنك إنت مشكلة جذابة؟!
ـ ((ايه... كيف؟.. يُعاد هذا التوصيف الذي أسمعه للمرة الأولى)).
* صحيح... لست غامضاً بل كالكتاب المفتوح.، لا تخاف منك المرأة.. لكنك قد تفعل شيئاً غير متوقع بعد ثانية واحدة... لذلك فأنت: مشكلة جذابة.
ـ إن شاء الله ((مِرْسى))... لا تهربي، أخبارك المسائية والصباحية.
* تعرف... لأول مرة أعيش مناخاً من الحرية التى أتحكم فيها أنا، ولا تتحكم هي في تعاملي وتصرفاتي: أن أجلس مع رجل وكاتب مشهور مثلك ونتبادل المرح، والضحك، ونتحاور حتى نختلف في الرأي وتشتعل بيننا، ونتمازج... هذا مناخ صحي فيه كل الأمان يمنحني - كامرأة - الثقة بنفسي إلى درجة الإعتزاز، ويمنحك - كرجل - الإلتزام والمسئولية إلى درجة الرجولة والفروسية... فكأنني الآن أجلس مع أخي، وفي نفس الوقت أمارس حريتي بحضارة!
ـ دكتورة... لم تطلبي لي شيئاً، ولا حتى كوب شاي!
أوه ((سوري)) أي أم فري سوري))!
ـ ياخْتى اتكلمي بدوى أحلى!
يا شقي... واصل كلامك.
ـ معليش.. أنحني لذكائك ورفضك أن تحكي لي جدول ((أعمال)) مسائك بالأمس. شوفي يا ستي، أنا أقول.. صريح حتى الوجع أحياناً.. ذهبت في المساء مع صديقيّ الحميمين اللدودين/ سيف وأحمد الى: ندوة ثقافية عن المسرح - والله العظيم - وبعدها انطلقنا نأكل، ونشرب، وراسنا أد المشرب.. خلاص؟!
يعنى ما علقت على كلامي عن هذا المناخ الصحي، أنت تختزن؟ خلاص اسمع:
أنا أخذت الأولاد، ورحنا مسرحية ((ماتينيه))
ـ جميل... يعنى ما افطر؟!
((يا خويا هذا الجرسون بلشه... أظنه ما يبغاك تأكل ولا تشرب)).
ـ ((إيه رأي سعادتك - بأسلوب أشقّائنا المصريين - نروح خان الخليلي، نتبضع من هناك، ونريّح في ((قهوة عمنا نجيب محفوظ))؟!
بعد العصر.. سآخذ الأولاد إلى خان الخليلي، فإذا رغبت الحضور.. أنا هناك!
* * *
أمام مدخل ((الكوفي شوب)) صدمه كتف صديقه الدكتور ((غنام)):
ـ أهلاً... صباح الليل.
يا أخى دوّختني عليك.. إنت فين، ما ترد في الغرفة، ولا حتى في الإذاعة؟!
أنا هنا... هروح فين يعني؟!
والله إنت غويط ومريب... يكون عندك ((جو))؟!!
ـ يا شيخ استحي.. أنا رجل متزوج!!
علت قهقهات ((غنام)) المميّزة، بأعلى ((تون)) في ((الكونترباس)).
وعقديده في يد صديقه ((غنام)) في اتجاه السيارة.
وأمام عمارة طويلة جداً، مما يسمونه في القاهرة ((الأبراج)) قال غنام للسائق:
ـ من فضلك.. إركن هنا.
سأله عادل: يركن هنا ليه.. ولمين.. ومين هنا؟!
ـ يا أخي أسئلتك ما تنتهى.. تعال بس.
أدخله الى بهو العمارة، وهو ينادي على الحارس الذي ركض إليهما.. وتقدمهما يتقافز وهما مثله فوق سلالم حجرية لم يكتمل تشطيبها.
فين يا دكتور غنام.. والله أتوب وأخليك تتكلم وتضحك براحتك.
ـ إمشي.. ولا تفتح فمك بكلمة.
في الطابق الثالث.. تجولا مع الحارس في شقة مازالت بتعبير المقاولين والبنّائين (عظم)... وعادا أدراجهما وقد لزم ((عادل)) الصمت.. فيكفي أن ((غنام)) متتواصل الكلام متواصل القهقهات... جل عجزه الصمت!
في السيارة.. قال ((غنام)) لصديقه:
ـ مارأيك؟!
ما رأيي في إيه.. الشقة؟. حلوة، أول مرة اشوف شىء حلو وهوّ عظم!
ـ بلا سخرية... سأشتري هذه الشقة بمبلغ (280) ألف جنيه.. إذا رغبت في شقة مثلها، مالك شغل اترك الموضوع لي.
قال له ضاحكاً: وكم عمولتك؟!
ـ يا شيخ استحي!
* إسمع يا عم غنام.. أولاً لم أفكر في ما استخرت الله وأقدمت عليه، وإذا فكرت فليس في حوزتي هذا المبلغ، ألا تعرف أني مجرد (كاتب مشهور) على باب الله؟!.. واذا كانت عندي فلوس لا أختار شقة جانبك لأسباب تعرفها!
ـ الله يكافيك يا شيخ.. تخلط المزاح بالجد.
* هكذا الحياة يا صديقي.. إضحك وما زلت أضحك وأتذكّر بيت شعر لشاعر الحجاز الكبير ((حسين سرحان))، قال فيه:
عشتُ حتى رأيت كل حمار
راكباً في وغى الحياة حصاناً!!
من فضلك يا أسطى..، عد بنا إلى الفندق.. دوّختني يا غنام رينا يدوّخ حبيبتك!!
* وركض إلى غرفته متعباً.. مشتاقاً إلى ((ألو)) أو وجهها: نوار!!
(7)
كان لابد لـ ((عادل)) أن يفيق من كمية التشويش التى أحدثها: صوت وثرثرة ((غنام)) في سمعه ورأسه... ووجد فكرة الحمّام البارد خير علاج وضمان له أن يفيق، ويتلاشى صوت ((غنام))!
يريد ان يفيق بالفعل لهذا المساء، الذى يلبى فيه دعوة للعشاء من صديقته في مصر: الكاتبة ((غالية)).. يرتاح إلى حديثها في قالب الرزانة الذي تضع نفسها فيه... لكنه أحياناً يهاجم هذه الرزانة بتعليقاته ومزاجه، ويقول لها: أفتقد ((غالية)) الأنثى، العاشقة!!
((غالية)) بالنسبة له: أصبحت الآن صديقة يرتبط معنى اسمها بتقديره لها.. جمعت بينهما قماشة حزن، ومسافات غربة في حياة كل منهما.. مثلما قاربت بينهما متناقضات في شخصية كل منهما لا تنسجم مع الآخر... منذ تلك اللحظة التى ((حلم)) بها: أنثى، وامرأة، ورفيقة، وصديقة... حتى اللحظة التى حددّت فيها ((قيمته)) هو في نفسها!
لكن ((الآخر)) بمعناه الحضوري في ذاتها وذاته.. يتشكل من ((المعنى)) أكثر من هذا الذي تشكله العلاقات الخاصة من ((المادة))
* تشكل هو أيضاً فوق مقعد سيارتها بجانبها وهي تقودها منطلقة الى مطعم هادئ كثيراً ما كانت تأخذه إليه كلما جاء إلى مصر، ليحدث التشكيل الثالث في التفوق للأكل، وللحوار، و... لتلك النظرة الدافئة التى ((يسربها)) في غفلة إلى عينيها الحزينتين.
كانت إضاءة المطعم من الشموع فقط.
* سألها وهما يتقابلان وبينهما الطاولة: هل نحن ما زلنا عاشقين؟!
ـ إبتسمت وقالت: هل الشموع رمز العشق؟!
* قال: بل الليل الهامس والشموع معاً، وارتفاع وجيب القلب.
وخيل إليه أن خواطرها شردت بها بعيداً جداً.. ربما آلاف الأميال والفراسخ، وربما هروباً من الأميال والفراسخ والخطوات!
* سألها هامساً: لا يريحنى هذا التشكيل الحزين على وجهك... تبقين في إحساسي بك: أكثر ملاحة وجمالاً من ((الجيوكندا))، ولكنك تبدين الآن مثل لوحة تشكيلية سريالية!
ـ قالت: لقد اختلطت الألوان في حياتنا بغير تناسق ولا توحّد!
* قال: هل تمنحيني خصوصية أن أعرف؟!
ـ قالت: ((طهقانة، زهقانة)).. أشعر بتبلد وبشيء من الضياع والوحدة.
* قال: عجيب... لعلنا نغبطكم هنا في توظيف الوقت للحوار، وللندوات الثقافية، والفنية.. ونقول عن مناخكم: إنه مشبع بالحركة وبالنشاط.
ـ قالت: لو تعمقت قليلاً لاكتشفت أن الأمور تتدهور في مجتمع المثقفين، من كتَّاب وفنانين، ومبدعين.. صرنا نتعطش للقاءات التى كانت تجمع هذا الوسط، ونفتقد الاجتماعات التى تسخن بالحوار، وبالمشاكسة وباختلاف الرأي الذي لم يكن يفسد للود قضية.
الآن - صدقني - كل إنسان من هذا المجتمع يعيش الوحدة، بمعنى: العزلة الفردية التى تزيد وتتراكم داخل نفوسنا.
تصور... أفكر أن أخرج من بلدي إلى أي مكان في أوروبا، لمدة عام عامين... المهم ان أنقذ نفسي، وأفكاري من هذه العزلة!
* قال: في رأيك... ما هي أسباب هذا الواقع؟!
ـ قالت: الطموح مقتول، الفرص شحيحة إن لم تكن منعدمة، الأحلام تفسد ولا يتحقق منها شيء ولو ضئيل.
* قال: وهل هذا الواقع.. في مجتمع المثقفين والفنانين فقط؟!
ـ قالت: على كل المستويات... تسرق الناس همومهم، وذلك الطموح المقتول، وتلك الفرص المنعدمة، الأحلام الفاسدة.. تكاد تكون في كل شيء: الفلوس، والحب، والعمل، وحتى العلاقات الاجتماعية والإنسانية!
ـ الواحد مننا لم يعد يلاقى نفسه... كل شوية الناس تتهاوى، تسقط، ويتمحور سؤال يطرحه أي إنسان هنا: إلى متى نقدر أن نتماسك قبل أن ننتهى؟!
* قال: المتغيرات شملت العالم، وجانب منها تسبب في هذا التقهقر!
ـ قالت: الكارثة أن ينال التقهقر من نفس الإنسان.. من طموحه.. من عواطفه.
ـ عارف... هؤلاء الناس ليس عندهم استعداد لتعطيهم أملاً مغشوشاً، ولا ان تكلمهم في الأحزان والمشكلات فيقولون لك: ((إحنا ناقصين)).. ولا تكلمهم في الحب فيقولون لك: ((يعمِّي حِل همّي.. حب إيه))؟! أحيانًا يرعبني التفكير، عندما أحاول استطلاع حالنا بعد أربع سنوات. ما هو مصير ووضع كل إنسان هنا؟!
ـ تصور... اكتشفت هنا شباباً صغاراً في عمر الورد يعانون من السُّكر.. وأسباب ذلك: أن الواحد منهم صار يشعر بالعجز.. لا هو قادر أن يصلح، ولا هو قادر أن يغير، ولا حتى قادر أن يعيش مستقراً آمناً بدخل مضمون، أو دخل يكفي الاحتياج!
ـ ولفهما صمت... وهو يرى دمعة تنزلق على وجنتيها.
ـ وحاولت ((غالية)) أن تقفز فوق الألم.. فقالت لصديقها ((عادل)):
ـ أسفة جداً.. لكنك مرآتي، أرتاح أن أبوح أمامك بما لا أقدر أن أبوح به لكل إنسان.
* قال: أشكرك على هذه الثقة، على الأقل: نتشارك في هذا الإحساس العظيم بالحزن.
ـ قالت: ((وأنت ذنبك إيه... المفروض نتناول عشاءنا في هذا الجو: الشموع، والموسيقى الناعمة، والهمس، وأنت رجل رومانسي))!
قال: بالعكس... ما كان يمكن أن نتحدث بصدق في غير الموضوع الذي ترزح تحت ثقله وضغطه النفوس/ عقولاً وعواطف.. ولكني أندهش بكل هذا العدد الهائل لديكم من المثقفين، والعلماء، والمتخصصين.. كيف لم يدرسوا هذا التقهقر ويحاولون إيقافه؟!
ـ قالت: ((بيدرسوا يا سيدي... والإعلام فيه الخير))!
ـ أمام مصعد العمارة التى تضم هذا المطعم.. وقفا صامتين، في انتظار طلوعه.
ـ لم يفكر في خطوة، ولا كلمة.. لكن يده فكرت بدلاً منه، وخطت.. فامتدت إلى يد ((غالية))، تحضنها.
ـ تطلعت ((غالية)) في وجه ((عادل))، وابتسمت ويدها في حضن يده... ثم همست بنبرة الحزن نفسها:
ـ أقصى، وأقسى، وأعظم ما يكون!!
ـ إتخد مقعده بجانبها في سيارتها لتعيده إلى فندقه، وتذهب إلى بيتها الذي تحرص أن تدخله مبكرة.
ـ لم يكن ينظر إلى وجهها في ظلال أضواء الشوارع.. ولكن وجهها بأدق ملامحه: محفور في رؤيته ورؤاه!
الوقت يمر، والليل ينهب الإنسان عمره وخلوته مع نفسه.
ـ أمام باب الفندق ودعته قائلة:
ـ دعنا نلتقى ثانية قبل سفرك، فأنت رجل زئبقي!!
ـ رفع يدها إلى شفتيه وقبلهما، وهمس:
أشكرك على هذه السهرة التى أعتز أن لا أحد يحظى بها مثلي!
وتركت له ابتسامتها... وهو يدخل إلى بهو الفندق.
عبر الصالة الرئيسية دون أن يمر ب ((الكوفي شوب))... كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة ليلاً، والطيور/ البشر تفرقت وتناثرت، لا أحد بكل تأكيد سيجده ممن يريدهم.
ـ سأل موظف الإستقبال: إن كانت له رسائل هاتفية، وأودعها يده متجهاً إلى المصعد.
ـ شعر برغبة شديدة للنوم فوراً.
ـ لا يدري كيف يصف كل هذا الذي تجيش به نفسه بعد سهرة العشاء على الشموع، وكلمات الحزن والقهر مع ((غالية))؟!
ـ نعم... إن ((غالية)) هي تلك الأنثى الرافضة، التي عبثت بحلمه وكسرت قلبه، وجعلت هذه المدينة قاسية في إحساسه، مما اضطره إلى هجرها عاماً كاملاً!
ـ ربما حين عاد.. أراد أن يثبت لنفسه أنه قد شفي من ((غالية)) تماماً!!!
ـ وربما أيضاً وجد في ((نوار)) ضالته التى ينشدها، فتُبلسم له جرحه الغائر الذي أحدثته ((غالية)) في صدره... أو لعله تمنى أن تصبح ((نوار)) هي دواءه الذي يمحو آلام ((غالية)) من أعماق صدره... فهل ما زالت ((غالية)) أغلى، وأعمق، وأثمن في صدره؟!
يتذكر الآن... اللحظة - التي رأى فيها غالية للمرة الأولى ولم يدر حينذاك: لماذا شعر أن تلك اللحظة الأخيرة؟!
شريط طويل.. تتراقص من خلاله ألوان العشق، والحزن.. الأمل، والارتطام.. الارتياح، والتعب.. السنين، والصبر.. ويؤطر كل هذه المشاعر، والانفعالات والمعاناة: وجهها المحفور بين أضلعه!
ـ بعض الأشياء الأغلى.. تضيع عندما تولد.
ـ تلك الأشياء المولودة في الخوف، أو في عجز القدرة، أو في رغبة الاكتشاف والفضول فقط من طرف واحد، في حين أن الطرف الآخر منشغل بالوهم!
ـ يتطلع الانسان نحو: الأغلى... مثل اللوحة فوق جدار الأيام:
ـ مثبتة دائماً هناك.. لا يلمسها، ولا يملك أبعادها، ولا ألوانها!
ـ وقد كان هو الإنسان.. وكانت غالية: هي اللوحة الأغلى والأجمل.
ـ أراد أن يرتوى بصوتها قبل أن ينام.. حادثها بكلمات قليلة:
ـ ((سيدتي... أشكرك على إيقاظ الشجون من جديد في صدري)).
* قالت: انتبه لنفسك.. أكتب كلما وجدت لديك الدوافع والتفاعل.. لابد أن تكتب للناس.
ـ قال ضاحكاً: حتى عنك أنت؟!
* قالت: عني وعنك!!
وضع سماعة الهاتف، وضغط على زر الإضاءة فأطفأها، و..... نام بعمق!
* * *
(8)
منذ أيقظ الهاتف برنينه المتواصل ((عادل)) من نومه.. وهو مستلقي كأنه بلا حراك، يحدق في سقف الغرفة.. ويقول لنفسه:
ـ عجيب.. كيف لم أحاول أن أعقد مقارنة فورية بين ((نوار)) و ((غالية)).. حين رأيت ((نوار، لأول مرة، وشعرت بجاذبيتها لي، وحيوية شبابها الغض.. وحين عاد وجه ((غالية)) يلوح ثانية بعد قطيعة؟!
ـ أي الإثنتين أروع؟!
ـ الصبا والجمال، والحيوية، وطفولة التجارب: عند ((نوار))؟!
أم الجمال المعتًق بنكهة السنين، وفيض التجارب: عند ((غالية))؟!
كيف سمح لنفسه أن يقارن بينهما؟!
تلك ((الأغلى)) في امتداد السنين، وكثافة البقاء في التغيير الزمني، والفكري، والعاطفي... هي ((غالية))!
وهذه ((الأدفأ)) في انطلاقة شبابها إلى الاكتشاف قبل التجربة، وإلى خيلاء جمالها في عيون المعجبين المتلفّتين إليها من الرجال بمختلف أعمارهم... هي ((نوار))!
تلك المتمرّدة على اعتيادية العمر، وركون الطموح في تموّه التعب النفسي، والفكري... وليست تعاني في عاطفتها من تعب يوازي التعب النفسي والفكري، ربما لأنها أدخلت عواطفها كأنثى في قمقم وألقت به في المحيط. لحدّة تجربتها مع الرجل، وقد تكون الحدة حصيلة الصدمة... فالعاطفة عندها: قد تلمع أو تومض كالفلاش فقط!
وأقسى ما يكون على امرأة: أن تحوِّل عاطفتها بكل دفئها إلى رغبة في لحظة، أو في يوم، أو شهر!
لكن ((غالية)) حتى في إمكانة سقوط عاطفتها في الرغبة... قاومت وكبُرت بخفقتها، واستعلت على الرغبة... فهي كثيرة العاطفة، قليلة العطاء من عاطفتها!
وهذه السندريلا الصغيرة: تُبهر بجمالها، ولعل الإبهار كان في عينى ((عادل)) فقط... فهناك نساء أجمل، وأكثر جاذبية وسحر أنثوي!
ولعل ((عادل)) - في تأمله لهذا الاندفاع منه نحو((نوار)) - يندهش من استغراق وجدانه المفاجئ والعنيف في هذه الفتاه السندريلا.. وهو لم يعاشرها، ولم يكتشف الجوانب الأساسية من شخصيتها، بكل ما في عينيها من سر وغموض، يخاف أن يصفها بالخبث فيظلمها.
لكنها فتاة تعرف أن هذا المندفع إليها: رجل متمرس عركته تجارب الحياة، وربما فكّرت بذكائها أن ((توظف)) لمصالحها: اندفاعه غير العادي نحوها.. إن جاز لها أن تدخله إلى هذه المرحلة من العمر، وتلغى تجاربه، ومحطاته، وثقافته، وذكاءه!
لاحظ أن ((نوار)) عصبية انفعالية.. من الصعب الفصل بين رقتها وعنفها.. كأنها: أكذوبة عاطفيهّ.
خيّل إليه أنها: نصف أنثى ناعمة، ونصف امرأة تبحث لنفسها عن بوابة تدخل من ثقبها إلى الدنيا الأكثر فرصاً... وهي القادرة على إخفاء أنوثتها عندما تحتد مطالبها.
ا لآن.. يتساءل:
الحب الأصيل المتجذر/ سنوات في الفؤاد.. ذلك الذي منحه لـ ((غالية)) دون أن تعطي؟!
ـ أم التجربة الجديدة.. التى اندفعت فيها عواطفه نحو الشباب، وطلاوة العمر، ورغبة ((نوار)) في الاكتشاف؟!
ـ الآن... تتكثف أسئلته:
هل يمكن المقارنة بين امرأتين بكل هذه المتناقضات، أو الفوارق، أو ((العلامات)) الإنسانية؟!
ـ ربما يجنّ الرجل لو خضع لهاجس مقارنة كهذه بين إحساس معتَّق، وإحساس فجائي نشوان بعبق عطر جديد!
* * *
يكاد رأسه أن ينفجر. تملّكه صداع شديد بعد إقامة هذه المقارنة/ المحاكمة للإنسان في داخله: عاطفة، ورغبة، وجنون فنَّان يصعب إلجامه كحصان جامح!
ـ إتصل بـ ((الروم سيرفس)):
ـ أريد عصير برتقال، وشاي بالنعناع.... فقط لا غير!
ـ وبتثاقل قام إلى حقيبة يده وأخرج حبّتىّ ((بنادول)) ابتلعهما، وعاد إلى فراشه: متراخياً، كسولاً، متبلداً.
ـ ترى مَنْ تسبق الأخرى منهما.. فيدفىء صوتُها سمعه بتحية الصباح؟!
ـ يا ((عادل))!!!.. مَنْ تريد أنت؟!
ـ الأقرب في التوقع لتتصل هي ((نوار))... فهو يعرف أن ((غالية)) تُشكل لجنة مكونة من عقلها وقلبها لتقرر لها: هل تفتح عليه تليفوناً وتقرئه السلام/ تحية الصباح... أم تنتظر هي منه - باستعلائها - أن يبادر هو بهذه الخطوة؟!
ـ رنّ جرس الهاتف حين كانت هذه الأسئلة/ الأفكار تحاصره.
ـ التفت إلى الهاتف.. وببطء مد يده إلى السماعة:
ـ ألو.... أهلاً بسندرلّتى الجميلة كالشروق والعطر!
ظننت انك رحلت، ولم تسأل عني.
ـ رحلت مع نفسي إليك... وخفت أن أهاتفك فأثقل عليك.
* أين ما طلبته منك... هديتى؟!
ـ أية هدية... هل طلبت مني حقاً؟!
* نسيت؟.. رسالتك الثانية لم تصلني.
ـ لا... أيتها السندريلا، لم أنس بل كتبت لك.
* ((صحيح... طيب هيا فين الرسالة))؟!
ـ أعتذر... لقد مزقتها.
* ((معقولة؟!... بهذه السرعة عبرت في حياتك))؟!
ـ بالعكس... بهذه السرعة نغلت في شراييني، ولكن....
* أكمل... أنا أحب الصراحة.
ـ هل لديك بُنْ محوّج؟!
* لا تتأخر... ومعك الرسالة!
* * *
* أمام ملاحة وجهها وابتسامة شبابها المدلّه.. وفنجان القهوة في يده، سمعها تقول له:
ـ إنت شفتنى ملهوفة على رسائلك.. إتعزّزت))؟!
* إتعزّزت بك لا عليك، وإعتزّيت.. أحب أن أسمعك وتسمعيني، لماذا لا تكتبين لي، تردّين على رسالتي أولاً؟!
ـ ((أتمنى.. لكن معرفش أكتب، ومين يكتب زيّك يا سيدي))؟!
* لا تكتبي مثلي... كوني عفوية أتركي القلم يمشى على الورق بحريته، بما يمليه عليك قلبك، أو عقلك.
ـ ((مش دلوقت... خلّيني أستمتع بكلامك الحلو، قلت لك: مفيش حد كتب لي رسالة قبلك)).
((نوار... دعينى ألملم ملامحك الآن في نن عيني.. دعي ابتسامتك تسقي جفاف روحي.. دعي نظرتك الغامضة تبعثر أسئلتي.. دعي لهفتك الطفولية على رسالة مني تجعلني أحظى باستفتاء قلبك، وأخاف - صدقيني - أن رسائلي إليك تصبح لعبة طفولتك الكامنة في أعماقك))!
ـ ولكن... كيف تفلسف. شخصيتي بهذه النظرة.. أنت لم تعرفني بعد؟!
* حسناً... دعينا نتعارف أكثر وتقبلين دعوتي على الغداء أو العشاء حسب ظروفك، في أي مطعم تختارينه ويريحك ليقترب فهم كل منا من الآخر.
ـ لأ.... (قالتها بقسوة)، ثم تراجعت، وقالت:
ـ عفواً.. لا أستطيع، ولكن في إمكانك أن تأتي إلى هنا كل يوم، ونتحدث.
* ليست عندي مشكلة في الحضور، ولكنها مشكلتك أنت، فمنذ جلسنا معاً قمت وعدت أكثر من عشر مرات بضرورة عملك.
ـ هذه إمكاناتي!!
* * *
* يتذكر - في طريقه إلى خارج الفندق - عبارة صديقه ((غنام)):
ـ الحب بين رجل وإمرأة في أيامنا هذه: لا أكثر من ترف عاطفي، مؤقت، مرهون بتفريغ الرغبة، ثم يمضى كل إلى سبيله.. أو ترهنه مصلحة مادية بحتة!
قال لصديقه ((غنام)): ((يا شيخ أسكت، لا تفلسف الحب كنظرية نقدية، وتدخل إلى - البرجماتية - بتاعتك... الحب يا دكتور: مشاعر إنسانية أسمى، وأعنف، وتقتل أحياناً))!
ـ قال ((غنام)): أنت رومانسي، عقلك ((طاقق)).. مجنون تظن الناس مثلك.. يا ابنى مفيش حب صدقني... إللى فيه شىء اسمه: علاقة بين رجل وإمرأة.... فقط!
* قال ((عادل)): يا نسيب أبو مُرّة... تسمح لا تدخّل نفسك في الحب.. كده أرْيح لك ولي.
قال ((غنام)): آه.. يا ولدى هادى الصلعة اللامعة: نتيجة الحب والله!
ـ خاف ((عادل))، وفزع... خاف على ذاكرته أن تُفقد منه، فلا يبقى فيها سوى ((إمرأة)) يكون هو لعبتها!
ـ من زمن بعيد.. أصدر المفكر المصري ((سلامة موسى)) كتابة الشهير الذي سمّاه ((المرأة.. لعبة الرجل))... يومها: كان ((عادل)) مراهقاً عندما قرأه، ففرح بهذه اللعبة.. واليوم: صار الرجل هو لعبة المرأة!!
ـ لفح وجهه هواء حار وهو يخرج من باب الفندق، فجرى إلى السيارة، وقال للسائق:
ـ من فضلك إلى ((خان الخليلي))!
* * *
(9)
بعد عودته إلى الفندق.. وجد ضمن الرسائل الهاتفية ممن اتصلوا به: رسالة من صديقته ((سارة))/ الكاتبة من بلده.. كتبت له فيها:
ـ ((يا أستاذ.. أنت مدعوُّ قبل غروب هذا اليوم إلى الطابق الثالث والعشرين، في ((الإستراحة)) والدعوة منى بمناسبة صدور كتابى الجديد، واحتفالاً به.. وسوف يشرفنا في هذا الحفل المحدود والصغير: أصدقاء من كتّاب ونقَّاد مصر... فلا تتأخر، حتى تراني أضيء شمعة ميلاد الكتاب.. أقصد: شمعة تضىء شمعة))!
ـ ابتسم وهمس: يا غرور جمالك يا سارة... عفواً يا شمعة تضيء دائماً إن شاء الله!
ـ إذن... لابد أن يصعد إلى غرفته ويرتاح ليستعد لجدل - عفواً - لحوار المثقفين قبل الغروب.
ـ ((سارة)) هذه. حكاية متعددة الفصول، شخصيتها تغذت كثيراً مما قرأته بنهم، ومما صادفته من مواقف: أهمها حزين وحافل بالشجون، وأقلُّها: تشيع ذاتها ونفسها بوضوح العاطفة إلى درجة الإنفعال والغضب أحياناً على من تحب.
ـ كان قد عرف ((سارة)) كاسم وإبداع من خلال ما تنشره في الصحف والمجلات، وما أصدرته من كتب ولكنه لم يكن قد رآها، ولا تخيّل ملامح وجهها وتكوينها الأنثوي... ما يعرف فقط قد تحدد في: فكرها، وإبداعها، ومشاكساتها.
ـ لكنهما كانا يتحدثان بالهاتف.. يتحاوران.. يتفقان في الرأي ويختلفان.. وموضوع العلاقة بينهما: واضحة غير خائفة.. فهي لا أكثر من صداقة تنمَّى من خلالها ودّ أو تعاطف، تلوذ إلى ((عادل)) أحياناً في بعض مواقف معاناتها لمجرد الحوار، أو التنفيس.
ـ قالت له مرة: لا أشعر بك إلاّ هذا الأخ الذي أركن إليه في حيرتي، وقلقي، وحزني... بعكس الكثيرات اللواتي أعرفهن، ويردن الإتصال بك وبثك مشاعرهن نحوك!
أجابها: العقول عند بعضها يا سارة، وليس القلوب، فقلبك لرجل آخر، وقلبي لامرأة أخرى.. وأحسب أن صداقة العقل ستبقى، ولكن... ما هو شكلك، حتى أقدر أن أتخيلك مجرد تخيل فقط؟!
ـ قالت: تأدب.. مالك ومال شكلي، ألا يهمك عقلى ومودّتي لك؟!
قال ضاحكاً: ((عقلك فطس أحياناً، يتبعنى... وأعرف ملامحه جيداً)).
ـ وحين رآها في بهو الفندق، وجلسا بعد ذلك في ((الكوفي شوب)).. قالت له ضاحكة:
ـ هذا أنا.. بوجهي، كلي.... ارتحت؟!
قال: لأ... ربما بدأت متاعبى.
ـ قالت: هل أنت جاد؟!
قال ضاحكاً: ((لا تفرحي كده.. أنا لا أحب إمراة تحب رجلاً آخر غيري))!
* * *
ارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيه، وهو يتذكر الحوار والموقف مع صديقته الكاتبة ((سارة))!
ـ هذه ((الإزدواجية)) العجيبة... تجعلهما يلتقيان هنا - خارج البلد - في فندق واحد، ويتحادثان مع جمع من أصدقائهما أو من رواد ((الكوفي شوب)) ويضحكان ويتمازحان... وكل ذلك في إطار اللقاء النظيف، والحوار الموضوعى، والعلاقة الإنسانية الواضحة تحت الشمس.
ـ إذن... إثبات الهوية، والمجتمع لابد أن يتحمل حضور الإنسان (كإنسان)، وليس كجنس، وأن يثق في سلوكيات هذا الإنسان فلا يحصره في الرغبة أو الشهوة.. وكأن التعارف بين رجل وإمرأة لابد - برأيهم - يحكمه الجنس فقط!
ـ تعارفاً - عادل وسارة - بوجهيهما في النور، وبكل إلتزاماتهما الأخلاقية، والعقائدية، والاجتماعية، والتربوية، والفكرية أيضاً.
* * *
حان الوقت الذي حددته ((سارة)) لما قبل الغروب.
ـ لم يحاول أن يتأنق في ملابسه التى ارتداها... بدون أن يعرف سبب هذا القرار في حينه!
ضغط على زر الدور الثالث والعشرين/ هناك.. حيث مكتب ((نوار)) أيضاً، وحيث الإستراحة التى التقى فيها بهذه السندريلا، وصنعت له بيديها فنجان قهوته، وحيث مكان الحفل الآن.
ـ كانت تدير عملها بالهاتف، ولما رأته أنهت المحادثة بسرعة، وأقبلت عليه ضاحكة:
ـ ((أشوف في يدك مغلف.. هل هو لي))؟!
من فضلك أنا مدعو إلى حفل شاي هنا في الاستراحة.. فهل وصل الناس؟!
ـ ((آهـ.. حفل الأديبة بتاعتكم))؟
* أيوه.. ممكن أدخل؟
ـ ((ممكن.. لكن مش قبل ما أستلم المغلف)).
((كتب لها.. وقرأتْ أيتها الأنثى الشاسعة.. أشتاقك، وأعاني من خوف الاغتيال))!
ـ نظرت إليه بدهشة، وقالت:
ـ إغتيال؟!... إغتيال إيه؟!
* قال: إغتيال شوقى إليك، وحبي لك!
ـ و... مشى، تركها في دهشتها ملوحاً بيده، وهو يلج بوابة الإستراحة.. حيث وجد صديقته الكاتبة ((سارة))، تضع ابتسامتها الترحيبية بكلماتها:
ـ أهلاً بصديقي الرومانسي الكبير.
أين ضيوفك، و((تورتة)) كتابك؟!
ـ كلهم سيصلون تباعاً.
يعنى.. أنا ((شريف أول))؟!
ـ وأنا ((عمتّى العزيزة))!!
الله يعين على الجلوس عند عمتى!
ـ ما هو أنت حتجلس مؤدب.
هيه... ربنا يسهِّل.. إطمئنى فأنا رومانسى بتقديرك.
ـ صحيح.. كيف نعطى الهالة لمن نحب؟!
لا أدري..! أسألك بالرومانسية/ الطبع في النفس، وإلاّ بخفقة الحب.. طيب واللى ما هو رومانسي ما يحب يعني؟!
ـ ما أقصد... المجرم بيحب.
تعرفي؟!... أنت أيضاً رومانسية، وتطلبين ممن تحبينهم أن يكونوا رومانسيين!
ـ يِهدك... من أحبهم. كام واحد يا مفترى؟!
ما هو ((الواحد الصحيح)) في حسابات الحب.. يصبح كل العالم، وعُدِّي واغلطي، ولكن.... ماذا عني أنا من وجهة نظرك، ومن ورا قلبك.. أقصد بعقلك؟!
أنت من تجاريك - وعيني باردة! - تأخذ من كل إمرأة ميزة وتضعها في المرأة الحاضرة التى أمامك والتى تشاغل قلبك.. وبالتالي: تصبح هذه الحاضرة كاملة في عينيك، تُخرج منها الشوائب، وتضيف المناقب... فهي لا تستحقك لأنك تضعها أو تشكلها بالصورة التى تريدها، وليست كما هي حقيقتها ولا دوافعها، وبالتالي.. تصبح قادراً على إبعادها، والتفكير بأخرى بسهولة!
ياهـ.. انا كل هذا الرجل (العظيم)؟!
ـ لو كانت عندي هذه القدرات يا سيدتي، كنت ملكت نساء العالم، وصرت راسبوتين، أو فالنتينوولد عم جنّنتينو!!
* لا تحول الحوار من فضلك إلى مزاح وسخرية!
ـ حسناً... وسيدتي الجميلة كيف تصنف نفسها أو تصفها؟!
((أنا سأظل على ((حلم)) من أحببت... بخيالي وإخلاصي، لذلك عجزت أن أتغلب على اكتشافي للحقيقة في شخص من أحببت))!
ـ تعرفي... من أنت؟!
ـ أنت التعب النفسى، والشوق يربض بين أضلعك وربما يغزو عقلك!
* نعم... لكني لست مستعدة أبداً أن أغفر خيانة من أحب لي.. مساحة الغفران عندي ترفض أن تغفر للرجل... أما أنت، فمثلي لا تغفر للمرأة التى تخونك ولكنك تعذبها ببندولين يضربان رأسها: بندول يُظهرك أمامها ساذجاً غافلاً، لا تعلم أي شيء.. وبندول توجس في نفسها: أنك عرفت كل شيء ولم تفاتحها.. إحتقاراً لفعلتها، وطعنها لك!
ـ أنت مرعبة!
* المراة التى تحبها يا عادل.. إنها من صنعك أنت، تضع لها كلمات على شفتيها، ولكنها لم تقلها.. تبلور شخصية حبيبتك بأحلامك وتصوراتك!
ـ أنت تنجح في العلاقة لنفسك، بعد أن تصنع تلك المرأة بمنظارك!
* * *
بدأ المدعوون يهلون فرادى، و... إثنين إثنين، ولا يدري ((عادل)) كيف استطاعت هذه المرأة ((سارة)): أن تقنع اثنين - رجلاً وامرأة - بالحضور معاً!
وجاءت ((التورتة)): جميلة، ملفتة في تصميمها، على شكل كتاب، كتب عليها عنوان الكتاب، وفي آخر الصفحة وضعت وردة حمراء من الحلوى أيضاً.. فبادر ((عادل)) إلى الوردة الحمراء واقتطفها، وقال ضاحكاً للحضور:
ـ كلوا أنتم عنوان الكتاب، والمضمون.. واتركوا لي هذه الوردة الحمراء، فلابد أنها تعبير عن الكاتبة نفسها!
وضج المكان بالضحك والتصفيق.. وقالت ((سارة)) معلّقة:
ـ يهدّك... إنت مسحوب من لسانك....
* قال عادل: ها.... إكملي من فضلك، وإلاّ أزعل!
ـ قالت: لكنك - بأمانة قريب من القلب!
ـ فجأة.. وهو يلتهم الحلوى/ الوردة.. صافحه وجه صدى قديم يدخل إلى الاستراحة بحقيبة يده، بغبار السفر... فركض إليه!
* * *
(10)
قبل أن يركض إلى صاحبه.. التفت إلى صديقته ((سارة)) قائلاً لها:
ـ من فضلك ياسيدتي الجميلة.. تُهدي نسخة من كتابك إلى فتاة مليحة، تقف خارج هذه الاستراحة، وتؤدي عملها الذي تبدؤه بابتسامة وتنهيه بابتسامة .../ اسمها: ((نوار))، بدون بوار، يا سيدة القرار!
قالت سارة: لم تفتنى هذه اللفتة من أجلك... فقد قمت بنفسي وذهبت إليها في مكتبها... بنسخة عليها إهداء مني لها، وبقطعة من التورتة!
ـ ووقف أمام صاحبه: الدكتور ((فلاح)) يسلم عليه مهنئاً بالقدوم، ويحتضنه بعد غياب لم يلتقيا فيه داخل بلدهما، ربما من سنوات.
ـ قال ((عادل)): تعرف يا صديقي أننا لم نلتق منذ أكثر من خمس سنوات.. فهل بلغت الغربة في داخلنا إلى هذا الحد؟!
قال ((فلاح)): المشاغل ياصديقي، والتشاغل، والانشغال.. إلى آخر التاء، والشين، والغين واللام.. إنما أنت: ما هي أخبارك.. ما هذه ((الهيصة)) في الجانب الآخر من الاستراحة؟!
ـ قال ((عادل)): كاتبتنا الجميلة ((سارة)) تحتفل بصدور كتاب جديد لها. قال فلاح: تلك المرأة الجميلة؟! لم أرها من قبل، ولم أتخيلها بهذا الجمال.. فهل أنت هنا العرّاب؟!
ـ قال ((عادل)): عرّاب إيه يا فلاح.. يمكن تكون كلمة ((عزّاب)) تليق.. تعال أعرفكما ببعض، فلابد أنها تفرح بك!
سارة.. أخيراً، هذا هو الدكتور، الكاتب الفنان ((فلاح)).. فهل رأيته من قبل؟!
قالت: بالطبع.. رأيته في الصور، وهو لا يعرفني.. لأن صوري لا تنشر مع كتاباتي مثله، ومثلك.. أليست قضية يادكتورنا ((فلاح))؟!
قال: عرفت من قراءتي لمقالاتك أنك مشاكسة إلى حد العنف أحياناً. - قالت: عنف أيه يادكتور.. نحن - في نظر الرجل العربي - مازلنا القوارير، والجناح المكسور!
قال ((عادل)): بعدين.. أجّلوا هذه المناظرة الممتعة إلى وقت آخر، والآن.. أسلِّمك هذا ((الدختور)) ياسارة لأن ورائي ارتباطاً، وسأراك في وقت آخر.
قال ((فلاح)): لحظة.. أنا واصل من دقائق، وسيعرفّوني بغرفتي، أعطني رقم غرفتك.
قالت ((سارة)): خذ مفتاح غرفتك، وشارك معنا في الحوار الممتع.
ـ قال عادل: يفوتك يادكتور فلاح.. حوار ثقافي، النسبة الأكبر من المشاركين فيه: مشاركات، تبغى إيه أحلى من كده؟!
قالت سارة: مافيش فايده.
* * *
واختفى ((عادل)) من الاستراحة، ومن أمام ((نوار))... غاب في المصعد عائداً إلى غرفته.
ـ وهو يقفل الباب وراءه كان هاتفه يرن:
ـ أنت مشيت من الحفلة ليه؟!
أهلا ((نوار)).. لأنك مشغولة!
ـ بس أنا مش في الحفلة، وعلى فكرة.. أنا بدأت أقرأ في كتاب ((سارة)) يجنن، متعاطفة جداً مع مشكلات المرأة.
طبعا... لأنها إمرأة!
وأنت متعاطف مع مين؟!
مع المرأة أيضاً.. أنتو الخير والبركة.
ـ أنت شخص مثير... أحياناً مخيف!
الله يسامحك... امرأة تقول: أني رومانسي، والمراة تاكل بعقلي حلاوة.. وامرأة أخرى تقول عنى أني: مثير، ومخيف!
ـ ما أقصد ما فهمته... لكن شخصيتك تحتاج لتأمل في وقت طويل!
جميل... حددي من فضلك ذلك الوقت الطويل، وأنا جاهز للتأمل!
ضحكاً معاً.. وانتهت المحادثة بالضحك!!
ـ همس لنفسه: ياسلام.. الضحك يفتح القلب، لكن المشكلة: منْ يضحك على مَنْ!
ـ أنا لا يمكن أن أضحك عليها ((نوار)) وليس عندي دافع للضحك عليها سوى ما قاله الأطرش فريد: (ساعة بقرب الحبيب).. وهي - مؤكد - لا تملك عاطفة فورية جاهزة تحب بها رجلاً يكبرها.. وإن كانت الخبرة: سبباً وجيهاً!
ـ ولكن... لماذا يفكر ((عادل)) الآن في: احتمال أن تكون ((نوار)) تضحك عليه؟!
ـ لا يدري.. حاول أن يخرج من هذا ((الجو)) فبادر بالاتصال هاتفياً بصديقه ((سيف))، أيقظه من نوم كان يغط فيه:
ـ ((حيْهلا)) يا سيف.. يا ابنى قوم وحدّ الدائم، بعدين نوم بعد المغرب مثل ما قالت جدتي/ إنتى: بطّال، ولابد أنك نائم كالعادة، والساعة الآن العاشرة مساء، وبصراحة عندي رغبة انتقامية منك علشان تسهرني، وآكل لأني جوعان.
خلاص... خلاص، ياباى إنت بالع راديو، استحم وأجيلك.
- ((فري نايس))... يعنى أنتظرك إن شاء الله مع أذان الفجر الأول؟!
- اتصل بأحمد علشان يجهز، وبعد ساعة أكون عندك... قول إن شاء الله.
شرد ذهنه بخواطره بعيداً.. ونظراته تتراقص على صفحة النيل، تشارك الأضواء المنعكسة عليه: رقصة الليل، والسهر.
ـ حاول ((سيف)) أن ينقذه من الشرود والاستغراق.. سأله:
ـ ماهي أخبار السندريلا.. نوارتك؟!
ـ قال: الحالة هادئة، والأمن مستتب.
سأله ((أحمد)): والأمن بيعمل إيه؟!
ـ قال: والله محتار.. يحرس الحالة، والاّ يخاف من هدوء الأمن ومفاجآته؟!
قال ((أحمد)) ضاحكاً: عال.. كأنك تصف الحالة العامة!
ـ قال سيف: سيبك منه.. ده لسّه سرحان!
قال ((عادل)): ربما، ويمكن... لكن تعرف بأفكر في إيه؟!
ـ قال ((أحمد)): أكيد في ((نوار))!
قال ((عادل)): تذكرت بيت شعر لشاعر الغزل القديم والأنيق ((عمر بن أبى ربيعة)).. هو:
كُتب الطعن والقتال علينا
وعلى الغانيات: جر الذويل!!
- قال ((سيف)): تقصد الطعن والقتال على الرجال عموماً أما، على المثقفين العرب، الذين تسميهم أحياناً بسخريتك: الكتبة؟!
قال ((عادل)): والله تصح كده وكده.. لكنى (لا أتهم) الرجال اليوم بالطعن والقتال.. فيكفيهم انشغالهم بلقمة العيش، أو بالركض نحو الثراء الفاحش، أو الاستغراق في العبث والتهويم، والانفصام!
أما المثقفون العرب... فإن وصفت بعضهم من الأكثرية ((بالكتبة)).. فذلك لأنهم أيضاً قد استغرقوا في الواقع، أو في الخوف، أو على الأقل في تدجين بعض الأنظمة لهم.
قال ((سيف)): المثقف طليعة، أو من المفروض أن يكون طليعة.. والمثقف يمنح الحلم والرؤية، يُعبّر عنهما ويحياهما... والحلم والرؤية عكس الواقع ولذلك هما ضده، وبالتالى فإن المثقف المشبّع بالحلم والرؤية لابد أن يكون معارضاً شديداً للواقع.
ـ قال أحمد: وهل تعتقد أن هذا المثقف العربي لا يعاني من أزمة؟!
قال ((سيف)): بل من أزمات.. الواقع صار يركض أمام المثقف الذي يعجز أن يلحق به... وهذا هو سبب الخلخلة في مقومات، أو عطاء المثقف العربي.
ـ قال ((عادل)): المثقف العربي... أخذ يبشر ويدعو إلى الديمقراطية ويتفاءل بقدومها... وقد كان يعتقد: أن تحقيقها يعيد إليه اتزانه من الخلخلة، وركائزة من الشروخ الكثيرة التى حدثت في تاريخ الأمة العربية الحديث... ولكن الديمقراطية جاءت بشكل آخر!
أقصد يا سادة: أن ما يسميها المثقفون ((ليبرالية)) واجهت فشلاً ذريعاً.. لسببين مهمين:
السبب الأول: أن هذه الأمة العربية فقدت ذاكرتها التى كانت تحفل بعبر تاريخها.
والسبب الآخر: أن من كانوا قادرين في هذه الأمة.. من قيادات، وطلائع، ومثقفين: قذف بهم الإحباط الشديد إلى العجز التام... ولم يعد هناك درب إلى ترسُّم منهج، ولم تعد هناك قدرة أيضا على: تجرية التطبيق.. فالنظريات كثيرة في واقع المثقف والقيادى العربي.. لكنهما يعجزان عن التطبيق، ربما لأن من الأسباب أيضا: وجود خصومة بين القيادي والمثقف.. ونظرة القيادي إلى المثقف على أنه: عجينة من الصلصال تتشكل حسب ما يريده النظام!
ـ قال ((أحمد)): لقد أرغمتنى على الصمت الحزين.
قال ((سيف)): الجرسون لم يحضر العشاء.. هوّا بيعمل إيه؟!
ـ قال ((عادل)): ولكنه أحضر الشيشة..،. وهذا يكفي: دخِّن عليها تنجلي، حتى لوكنت جائعاً يافلان!
وامتد الليل الصديق بهذا الثلاثي المتآلف، المتجانس، المشاكس.
طلب ((عادل)) من صديقيه الحميمين أن يقلبا الصفحة.. وقال:
ـ ناقصين غم.. بدّنا نضحك... أرجوكم. ها.. ما هي آخر نكتة؟!
ـ قال ((عادل)): واحد صعيدى.. حب يعمل لمرأته مفاجأة، قام قتلها!!
* جلجلت ضحكة ((أحمد))، وقال: هذا هو مجتمع المثقفين اليوم.. التباري على إلقاء النكت الجديدة!
* * *
(11)
افتتحت ((نوار)) صباحه الجديد بصوتها.. طلبت منه أن يتناول فنجان قهوة الصباح أمامها في الاستراحة.
شعُر من نبرة صوتها: أنها ستتحدث معه في موضوع محدد، وربما كان مباشراً منها إليه!
أزاح ستار الشرفة، وترك نظراته تمسح كيد حانية على صفحة النيل.. كل من كان هنا في القاهرة، يحرص أن ((يتصبَّح))، بوجه النيل، ويختتم يومه وليله بالهمس إليه.
يذكر من وصف أصدقائه وأترابه للقاهرة، ممن كانوا يتلقون تعليمهم في جامعاتها: أن هذا ((النيل نجاشى))، كان صافياً رقراقاً، نظيفاً.. ولذلك شاعت عبارة: ((كل من شرب من ماء النيل لابد أن يرجع إليه))!
لكن الناس اليوم يخافون الشرب نيلهم الحبيب بسبب ما يعكره من أوساخ، ونفايات، وما يُسمى ((ورد النيل)) الذي يتراكم كالطحالب، وقد تربّت من تلك القاذورات، فصارت تهدد سكان مصر، وتُشوه جمال هذا النهر العظيم الخالد.
حتى الناس اليوم - بحكم المتغيرات الاقتصادية والسياسية والسلوكية - لم يعودوا هم أولئك الناس الذين عاشرهم أترابه في الخمسينيات وحتى أوائل الستينيات، وكانوا يتصفون بالود، وبالألفة، وبالثقة.. غيرهم تماماً اليوم!
لعل ضغط الفقر، والركض إلى الفلوس.. قد أثّرا في نفوس الكثير من الذين صاروا يضيقون حتى بزوار وطنهم، ومنعشى اقتصادهم
بالسياحة.. وقد تغيّر أيضاً القادمون إليهم من الزوار والسيّاح ليسوا مثل أولئك من الجيل السابق بكل المثاليات، والإلتزام، والمسؤولية، والخوف على مصر.. باعتبارها: منارة ثقافة وعلم، وفنون، وقسط من الحرية!
ـ أكمل ارتداء ملابسه، وشرب عصيره الصباحي.. وطلب صديقته ((سارة)):
ـ صباح الحرية ياسيدتي.. هل أتشرف فتوافقين مشكورة، مأجورة مبرورة.. أن أرافق ((ليادتك)) - من كلمة ليدي - إلى معرض الكتاب.. نتجول على الكتب، ونقتبس رؤية عقلية مما نسمعه من محاضرات، وندوات؟!
قالت: والله... أفكر، انت يا شيخ تُهمة، وسيرانا الكثير هناك.
ـ قال لها: المثل الشعبى لدينا يقول ((اللى ما هو أكل لحمة نية..، كمّلي.
قالت: أحب صحبتك.. لكن توعدنى أن تكون ملتزماً.
ـ قال مقهقهاً: عجيب ياليدي.. يعنى حأعمل أيه أمام الناس من ((جموع)) زوار المعرض.. يا شيخة خلّي ثقة في شخصي الضعيف، وأيضاً في شخصك المستقوي... الله يهدك!
قالت: يا حليلك.. في انتظارك بعد ساعة.
ـ قال: ((أوكىّ))!
قالت مستدركة: إسمع.. موعدنا في الصالة الرئيسية.
قال متخابثاً: طبعاً.. يعنى حيكون في غرفتك؟!
ـ قالت ضاحكة: وجع.. يهدّك!
* * *
كان لفنجان قهوة الصباح من بن ((نوار)) المحوّج أمام بهاء وجهها: نكهة مختلفة، ولذة لا يشعر بها إلاّ ((المجاهدون في الحب)).
قالت: فين رسالة اليوم؟!
قال ((عادل)): فكّرت أن أبلغك الرسالة شفهياً، أو بنظراتى.
ـ قالت: ولكن.. كيف أعيد قراءتها في غرفتي وحدي؟!
قال: فأغمضي عينيك حتى تريني.. وغنًيها.
ـ قالت: أنت تلاوعني.
قال: شعرت من نبرة صوتك في الهاتف أن لديك موضوعاً ترغبين في الحوار معي فيه.. فهل تمنحيننى هذه الخصوصية ((اللى تتّاكل))؟!
ـ قالت: قبل كل شىء.. لا تفسر ما سأقوله على أنه استغلالك، ولكني أراها فرصة تخدمني فيها، وتسعدني.
قال خذي راحتك.. تربّعي في عينىّ وقولي.
ـ قالت: عرفت أن لك صداقات كثيرة هنا في الوسط الإعلامي، والصحافي.
قال: يعنى.. أعرف أسماء مشهورة بعدد شعر رأسي بعد تشذيبه، أما صداقاتي فتأكدي أنها محدودة ومحصورة في عدد أصابع يدي اليمنى، وأشد عليهم حبا.. أنما أؤمرى، أطلبي.. شبيك لبيك!
ـ قالت: دخلت مسابقة قبل عدة شهور لاختيار ((فتاة إعلانات)) في التليفزيون، وأظن أنني لاقيت القبول من اللجنة، ولكن.. حصلت لي ظروف وما تابعت النتيجة ولا راجعت. الآن أسألك: تقدر تعمل لي خدمة.. أتمكن بها من تحقيق هذه الرغبة؟!.
قال: ولماذا لا تعودين إليهم بطلب جديد، مادام أن اللجنة أقرّت بصلاحيتك.. لابد أن يقبلوك ثانية؟!!
ـ قالت: اللجنة تغيّرت.
قال: آه.. ما تعرفي أحد من اللجنة؟!
ـ صمتت، وظلّت نظراتها معلقة بشفتيه. قال بعد الصمت:
ـ ربنا يسهل.. أسأل وأستقصي، ويمكن أعرِّفك على مخرج متخصص في الإعلانات.
قالت: ساعتها..
ـ قاطعها قائلاً: ساعتها أفرح لك، وهذه هي هديتك لي أو حلاوتك.. مش كنت عاوزه تقولي كده؟!
* * *
رأى ((سارة)) في الصالة الرئيسية - تضرب بولطه! - رايحه جايّه - رايحه..... ناداها:
ـ يا أستاذة.. مملوكك لكني سلطان العشاق، على رأي الفيتوري. قالت: أهلاً أيها الدرويش المتجوِّل.. صاحب المواعيد العربية وأكاد أخمن أسبابها.. جاهز للجولة؟!
ـ قال: جاهز لكُلّه.
ـ في الطريق إلى مصر الجديدة حي موقع المعرض.. كان يشاكسها تارة، ويستفزها تارة أخرى... والحوار بينهما لا ينقطع إلاّ ثوان، تشرد فيها ((سارة)) بذهنها، حتى كأن ((عادل)) لا يشاركها المقعد الخلفي من السيارة.
فجأة سألها وهو يوقظها من الشرود: سارة.. من هو الرجل الذي يثيرك أو يجذبك؟!
ـ قالت: وهي ترسم جدية على ملامحها: لا يثيرني ولا يجذبني الرجل المتأنق أكثر من اللازم.. لا أحبه.
قال ضاحكاً ومقاطعاً لها: عسى عمرك ما حبيّتيه!
ـ قالت مستطردة: أحب الرجل بصفات الرجولة، بمواقفه، بفروسيته باخلاصه بشجاعته.. أنا كالشمعة: أحب للرجل الذي يسهّرني.. لوحدى، أناجي طيفه.
ـ أحب الرجل الذي يمنحني الأمان، ويعطينى فرصة إرضاء غروري فيه وبه.
قال عادل: شدتنى رواية لكاتبة يابانية لا يحضرنى اسمها الآن لصعوبة نطقه ولكنّ عنوان الرواية كان: ((يلاحقنى ضوء الليل)).
قالت: إلاّ... أعرف اسمها ((يوكوتسوشيما))!
قال ضاحكاً: يابنت.. ياثقافة، حتى باليابانى ماشاء الله، و... ((يابانى في غير بلده))!
ـ قالت: ياشيخ.. نفسي تتكلم جد بدون مزاح رغم أن من أجمل ما فيك: مزاحك، وتهريجنا هذا على أحزاننا يعنى أننا: نحاول الابتعاد عن الدخول في جدية الحزن.. أكمل.
قال: الأخت الكاتبة هذه كانت تكتب وتنادي بتحرير اليابانيات من التقاليد التى أكل عليها الدهر، وشرب، و... بال - مع عدم المؤاخذة - مما لا ينسجم وطبيعة العصر واحتياجاته.
ـ قالت ضاحكة: في الهوا سوا!
قال: أحد الذين كتبوا عنها وعن روايتها من العرب.. أشار إلى: ((مدى قدرة المرأة المعاصرة، بحركاتها النسوية، وبتعليمها، وبتخصصاتها العلمية - كقوة ذاتية من داخلها - على الانتصار)).
ـ قالت فزعة: انتصار على إيه؟!
قال لها: الانتصار على معاناة المرأة في الأجيال التى سبقت/ جدّات وأمهات، والتى لابد أنها تركت آثاراً، أو أطلالاً.. هذه المرأة الكاتبة التى تقيم دعوى شديدة اللهجة ضد الأجيال السابقة، تحب - هي الأخرى - الرجل القوي الذي تنضوي تحت جنحه، وتقرّ كقطة في ليلة شتائية... ولا تقول في روايتها: أن العلاقة بين الرجل والمرأة تتحول إلى حرب، لينتصر الأقوى، أو الأعند، أو الأشرس.
ـ قالت: ياصديقي... لابد من هذا الخيط الرفيع: ألاّ يتحول الرجل إلى حاكم بأمره للمرأة، وأن لا تكون المرأة: شجرة الدر مع أيبك!
قال: وصلنا يا... شجرة الدر!
ـ قالت: معك يا... ((أيبك))!
قال: واحدة مثل شجرة الدر، رسمت غدر المرأة بالرجل الذي أحبها!
ـ قالت بل الذي خدعها... فقد كان متزوجاً ولديه طفل، وأخفى عنها حقيقته من أجل الحكم.
* قال: الأثنان بصفاتهما ودوافعهما تشابها في النهاية.
ـ قالت ضاحكة: لن أقتلك.. اطمئن.
قال: لأن أولادي أكثر من واحد... انتبهي!
ـ وجدا أمام المدخل إلى داخل معرض الكتاب: زحاماً، وتدافعاً بالمناكب.
ـ تقدمت ((سارة)) من رجال الأمن وقالت له:
ـ نحن ضيوف المهرجان وليست معنا بطاقات.
ـ افتحوا الباب لها، و ((للبودى جارد)) الخاص: عادل!
ـ تلفّتا... يبحثان بعد المدخل عن البداية، والعلامات الإرشادية في هذه المساحة الشاسعة من أرض المعارض.. لم يجدا، واعتمدا على أقدامهما: تدبّ حتى تجد ما تحب.
ـ وبدأت جولتهما.
* * *
(12)
كانت المساحة المخصصة لمعرض الكتاب، ولفعالياته، ولفروعه: مترامية، وخيّل إلى ((سارة)) و ((عادل)) أن الجولة ستكون مرهقة لأنها تعتمد على أقدامهما.. وهما لم يكونا أبداً من المنضمِّين إلى رياضة المشي، ولا الماراثون.. عطلت السيارة أقدامهما، بل وأقدام أكثر الناس في بلدهما.
ـ ولعلّ البعض يخرج من الإقليم إلى أوربا للاستمتاع بالمشى/ رياضة تمنع ((بلاوي)) كثيرة.
ـ الناس في مساحات معرض الكتاب: تتدفق بلا توقف، من الصباح حتى المساء.
ـ قالت ((سارة)): تفتكر ياعادل وقتنا يسمح من الآن إلى الغروب لتمشيط كل سرايات المعرض، كما يسمونها؟!
قال ((عادل)): لو ما سمح الوقت.. يمكنك أن تمشّطي شعرك، أو أنا امشّطه لك.
ـ إلتفت إليه وقالت: يا أخى.. لله، لدقائق فقط خليك جاد، ولكن.. ما رأيك في تفْلية شعرك؟!
قال: جاد المولى بن خلاويه.. حاضر، يعنى ما نضحك في عَزق رياضة المشي؟!
ـ دلفا إلى بوابة مبنى يلوح وكأنه الرئيسي.. وتجوّلا بين الكتب المنسقة والمنظمة، وفجأة همست ((سارة)) صارخة، أو صرخت هامسة وقالت:
ـ تعال.. شوف كتبي كلها هنا.
قال: أيوه ياستى.. ولنا من الناشئة، ليس لي أي كتاب، ربنا يعطينا حظك!
ـ قالت: بالله عليك دا كلام مثقفين؟! يحسدوا الأعمى على كبر عينه، على الأقل جبران خاطر!
قال: مثقفين إيه يا أختي... المثقفون إما: أحباب السلطة، وإما... عكس ذلك، وهم مثقفون على الورق صدقيني، لكنهم فيما بينهم... في الحوار، وفي التعامل يُجيدون نشر الغسيل بإتقان أكثر من بطلة رواية ((زقاق المدق))!
ـ اختارا بعض الكتب، وخرجا إلى مبنى آخر، وثالث.
ـ دخلا إلى مكان، كُتب عليه ((سراي المرأة)). قال ((عادل)) لرفيقته:
ـ تفتكري ليه في هذا العام فصلوا المرأة عن الرجل، وأعطوها سرايا خاصاً.. كأنهم يعيدونها إلى عصر الحرملك والحريم؟!
قالت: وليه تفسرها بهذا المعنى.. ممكن أعطوها استقلالية.
ـ قال: وممكن.. عزلوها، من العزل!
ـ صارا في قاعة تضم مستمعين، وعدة أديبات وناقدات على منصة في صدر القاعة.. يناقشن أدب المرأة.
همس في أذنها: ليس هناك شىء اسمه؟ أدب المرأة، وأدب الرجل.
ـ قالت: أنا أؤمن أن هناك أدباً بلا شوارب... هس خلينا نسمع، وخلّي جدلياتك بعدين.
قال: ياباي عليكي يا نفيسه.. هُسْ في البيت، وهس في غيط الفكر؟! - شوفي... شوفي، تلك السيدة التى تتوسط منصة المحاضرة... هل تعرفين اسمها؟!
ـ قالت: لأ.. ليه؟!
قال: أصلها حلوة.. ونفسى أتعّرف عليها!
قالت: سأعرف لك اسمها.. بس، ((أهجد))!
ـ وكتمت ضحكة كادت تنطلق منها، وأخذته من يده.. يخرجان من القاعة، وفي الهواء الطلق قالت له:
ـ إنت كارثة!
قال لها وهما يواصلان المشي في شوارع وحوارى المعرض: هل مازلت تحبين... أقصد (مدرمغة/ مدهمله) في الحب؟!
ـ قالت بنفثة إنفلتت من بين شفتيها: الحب لا يخضع لتحكُّم إرادة الإنسان فيه.
قال: مادام إنك تعبانه إلى هذا الحد من المعاناة، والشجون.. أقترح عليك اقتراحا مفيداً، شافيا لك من هذه الدراما السوداء التى عجنت قلبك بها!
ـ قالت: الله يستر... ماذا تقترح يا طبيب القلوب التعبانة؟!
قال: إيه رأيك تحبيني أنا؟!.. والله أحسن لك، وما أتعّبك.
ـ قالت بنظرة شاردة، وبلغة فصحى: ولم لا.. أين الخطأ؟!
قال: الخطأ.. أن يعتقد ((الآخر)) أن الحب يمكن أن يوجّه ((بريموت كونترول)) من شخص إلى آخر!
ـ قالت: أنا أعيش حُباً بقدر ما كان يحفُّني بالسعادة كبحيرة عسل ومنًّ وسلوى.. بقدر ما صرت فيه أو صيّرنى إلى امرأة: متوترة، حانقة على قسوة الرجل، وخيانته.. امرأة لم يعد في إمكانها أن تهمس لحبيبها، أو أن تمنحه الدفء.. في صراخ ذلك الحبيب ((سى السيد)) وفي استعلائه، حتى أشعرنى وكأنه يريدني أن أكون مجرد شهرزاد في ليلته، ما يلبث أن يقطع رأسها في الصباح!
قال. وَلْ.. وَلْ.. أظن أننى وضعت يدى على الجرح النازف، وأنت ياحبة عينى كاتمة في صدرك كل المدة دي؟!
ـ قالت: أرجوك يا ((عادل)).. الموقف لا يحتمل السخرية.
شاهد ((عادل)) دمعة تلمع في عينيها، لم تنسرب على وجنتيها.. فقال: آسف.. كنت أمزح أخرجك فقط من ((المود)) اللي يغم أهلي وكل قومك العرب.. زيادة على غمهم الأزلي.
ـ ابتسمت وهي تمسح دمعتها وقالت: أشكرك إنك نبشت أعماقى، أو أفتتحت حزنى الذي كظمته عن كثير من الناس، حتى أقرب صديقاتى.
قال ضاحكاً: هل هناك أقرب صديقاتي مني؟!
ـ قالت: يمكن الآن وجدت القدرة، والشجاعة، والدوافع.. أن أقفّل للأبد: صفحات هذا الحب الذي أرغدنى سنوات، وقتلني بعد ذلك
*. لكني عايشه أستوحى من حبي الذي كان.
قالت: والله ضِعنا.. لو تدلنا على باب الخروج الرئيسي، فالرجل الذي معي مريض.. وياريت تنقلنا معك!
ـ ومازال نَعْلا كل واحد منهما تحت إبطه.. ركبا بجانب السائق، ((عادل)) في الأول، و((سارة)) بجانبه.
ـ قال ((عادل)) للسائق: يعنى حنِمشى كده إن شاء الله ساعة؟!
قال السائق: لأ يا بيه.. كلها دقائق.
ـ قال ((عادل)): خسارة!!
إلتفت إليها وقال هامساً وهو يمزح: قربي إلىّ حتى لا تتسخ ملابسك في الباب.
ـ لكزته بتأدب.. فبادر إلى الالتصاق بالسائق ليكون ما بينه وبينها: شبراً على الأقل، وهو يتحمل رائحة السائق، وهي تنظر إليه/ شماتة كأنها تقول: إحصد كل أعمالك ونواياك!!
ـ وأوصلهما السائق إلى البوابة الرئيسية وهو يتطلع إليهما.. ثم قال يودعهما:
ـ بالسلامة.. إنتو أحلى زوجين شفتهم.. دمكم خفيف!
قال ((عادل)) وهما يخرجان إلى السيارة: خلاص ياستي، بشهادة سائق ونيت يحمل كتباً.. لم يكن منظرنا كحبيبين، بل كزوجين.. إفهموها!
ـ وضعت ((سارة)) يدها على رأسها وقالت ضاحكة: ((ماكانش يومك يا سارة))!!
ـ علت قهقهاتهما في السيارة التى تقلهما إلى الفندق وهما يسترجعان بعض الصور والمواقف لهما داخل معرض الكتاب، ومعرض الحياة لكل منهما، رغم كثافة الحزن في عمقيهما.. وكأنهما كانا يضحكان على الأشياء التى تؤلمهما في العممق النفسي، ويحولانها إلى مجرد مزاح فقط.. انتهى بهما أمام بوابة الفندق.. فسألها هناك:
ـ هل تُفضل سيدتي الخروج والدخول إلى الفندق أولاً وبمفردها، ثم أدخل أنا بمفردي؟!
* قالت: ليه... نحن لم نفعل شيئاً خطأ أو غلطاً، كنا تحت الشمس والسماء وفي زحام الناس، وفي أيدينا كتب تدل علينا!
ـ قال: شُجاعة... لقد حذرتك، يمكن نلاقى ((غنام)) أو همام، أو جمعان، أو...
قاطعته: أنا ياسيدي امرأة في النور، لا أفعل ما يخجلني، بل ما أرفع به رأسي دائماً، وهذا ما يطمنني ولا يخيفنى، وهو سر قوّتي... الآن أحتاج - فقط - إلى حمام فوراً لأقشرِّ تعب المشي والغبار.. هلكانه جداً!
* * *
* جلس على حافة سريره في غرفته يقرأ ما وجده من رسائل هاتفية:
ـ شُفتك في معرض الكتاب: متلبسا... سأكون عندك مع ((أحمد)) بعد التاسعة مساء، لا ترتبط/ ((سيف بن ذى يزن))، على رأيك.
ـ إنتَ رحت فين؟ !.. هذا ثالث اتصال ولم أجدك أيها الرجل الزئبق.. كلّمنى/ ((غاليه))!
ـ أنت شخص مريب لا ترتبط مساء الغد من اليوم أحذرك، سنسهر سويا/ ((فلاح)).
ـ وضع كل هذه ((المسِجَات)) على الطاولة، وسرح وهو يحادث نفسه:
ـ تُرى... هل بحثت عنى ((نوار)).. على الأقل لتعرف ماذا فعلت لها في طلبها؟!
* * *
(13)
تبقّت من أيام زيارته للقاهرة ثلاثة أيام.. لابد أن ينهى خلالها: مشتريات السوق، ويقوم بجولة أخيرة على المكتبات، ويذهب إلى مسرحية يحب بطلها كثيراً، و... يحاول أن يقترب أكثر من ((نوار))!
ـ أوه.. ((نوار)): هذه الأنثى، الفتاة، السندريلا/ اللغز بحق.
ـ أكثر من مرة.. حاول أن يبحر في أعماق عينيها، فكانت تصدّه باغماضتهما وبأجوبتها.
ـ حاصره سؤال مدبب وهو مستلق على سرير!
ـ هل تحبها.. هل تسمى استطرادك وراءها: حباً.. أم تراك يا عادل - كما قالت عنك سارة - تأخذ من كل امرأة ميزة، وتضعها في المرأة الحاضرة التى أمامك وتشاغل قلبك؟!
ـ الإجابة متعجلة في هذه الفترة القصيرة من رؤيته لـ ((نوار)).
ـ إنشغاله بها.. كان بدوافع إعجابه السريع بملاحتها، وبالذهب المسكوب على ظهرها في شكل شعْر، في ضحكتها الطفولية.
ـ هل يتوخس منها؟!
ولِمَ التوخس.. فهو الذي اقتحمها وليست هي.
صحيح.. لكنها هي التى أشرعت أمامه الأبواب، ودعته بابتساماتها، وبعنايتها الخاصه به، وبملاحقته ليكتب لها: أجمل كلام لم يكتبه لها رجل من قبل، كما قالت له!
ـ لحظات مرهقة من التفكير، والأسئلة، التى تكالبت على ((عادل)).. وهو يفكر في أبعاد هذه العلاقة مع أنثى ملفتة، يخاف أن يتعلق بها وتخذله، ويحبها فتذله!
ـ يظل في مكانه.. وهو ينطلق بهذا الإحساس: حزيناً، متكبراً على الهواجس والظنون.
ـ وهل ستكون ((نوار)) هي: حصاد رحلته هذه، بكل ما فيها من مفاجآت، ومكاسب في روابط الصداقة، والمزيد من الرؤية لواقع ربما تتشابه فيه الأقطار العربية؟!
يحس ((عادل)) أن في أعماقه وقراً كسمعه، وأن الإنسان حين يحتار فذلك لأنه لا يعرف، أو لأنه فقد القدرة على التمييز، أو الاختيار، أو... القرار!
في مجال العاطفة.. يعتقد الإنسان: أنه يزداد اقتراباً من نفسه وروحه، ولكنه في الحيرة... قد يقتل هذه النفس، ويغرّب هذه الروح!
ـ يحتاج ((عادل)) الآن: أن يلم أشواقه للفرح... فالحنين يكبر أحياناً حتى يتحول إلى: غربة، ووحدة، وشيخوخة!
ـولماذا يلم أشواقه للفرح... مادام أنه يحيا لحظته التي يحب فيها: الاكتشاف، ومعاشرة الخفقة، والدفء بالناس الذين يحبونه وهم حوله؟!
الأشواق للفرح في شكل إنسان نحبه أو - على الأقل - نرتاح إليه، ونمنحه ثقة النفس!
* * *
* أيقظه رنين الهاتف من أفكاره، وهواجسه، وأسئلته... كان صوت ((الدكتور فلاح)) كأصوات المذيعين، ويمكن أن يكون صوته ((إيكو)).. قال:
ـ أيها العجوز الفتى.. أنا جاهز، إنزل إلى الصالة على هونك، ولا تنس أن تقفل غرفتك من ((اللقافه)).
ـ ومع الخطوات الأولى لخروجهما من الفندق، سأل ((عادل)) صديقه:
((بس لو تقول لي: أنت رايح على فين))؟!
ـ صمتاً من فضلك.. ممنوع الأسئلة.
هات سيجارة.
ـ لكن... أنت لا تدخن.
ليست قاعدة ولا التزاماً... ربما كان عدم تدخيني: نسياناً!
ـ لا تفلسف حتى المزاج!
التدخين في هذه الأيام: لم يعد مزاجاً... إنه توتر، حالة نفسية.
ـ وهل أنت متوتر، وحالتك النفسية متردية؟!
كأنك تخطفني، ولا تخبرني إلى أين ستضيعني هذه الليلة؟!
ـ ها قد وصلنا... إنزل.
ـ صعدا عمارة طويلة، وارتفع بهما المصعد إلى الدور السادس، وقرع ((فلاح)) الجرس.
ـ فوجىء ((عادل)) بوجه صديق قديم يطل من فرجة الباب، وهو يقول ((لفلاح)):
لقدنجحت، وجئت به!
ـ قال ((عادل)): اللعنة عليكما... ثكلتكما أمَّاكما يا حنظلتان!
قال صديقهما عمر: أدخل يا لمض... زمان عنك وعن ((أدبك)) الجم.
ـ تجول ((عادل)) بعينيه في أرجاء الصالون... ولعلع صوته: عندك شيشه، لأ... إثنان، واحدة للجراك، والثانية للمعسل... فاتحها كازينو يا متكأكىء؟!
ـ اسمع يا ((عمر))... حالاً تجهز الجراك، جزاءً لك وردعاً لأمثالك: غرض حميد/ ((فلاح))!
ـ علت قهقهات الأصدقاء... ثم ما لبث ((عادل)) أن ابتلع قهقهاته.
ـ دخلت إلى الصالون: أنثى أخرى.. تطوف بهم وهي تسلم عليهم كالنسمة، كالهمسة العطوف.
ـ إثبت يا واد يا ((عدوله))!
ـ قال لنفسه، وطفق يحدق في وجهها الذي شاعت فيه إبتسامة مساء مضمخ بتلك الاشواق للفرح.
ـ ولكن... هذا الوجه ليس غريباً علي، ترى.. من تكون؟!
ـ هاجمه السؤال الثانى من داخله، وتراكضت الأسئلة عليه منه، يحاول أن يتذكر.
ـ والله يا ((عدوله)) كبرت.. ضربتك الشيخوخة يا ابن الناس على حين غرة!
ـ ورغم سخريته هذه من نفسه، لم يتنكر، ولكنه لم يستح من التحديق في وجهها إلى حد الحماقة.. حتى قال له ((فلاح)):
* هيه... لا تمدّن عينيك
ـ لم أكن أدري أنك متزوج من إمرأة أخرى غير أمّ أولادك أيها الرجل المنثور!
* منثور، منظوم، بتفعيله واحدة.. ما هو شغلك.
ـ والمرأة تزداد ابتسامتها طلاوة، وتحولاً على الحضور!
ـ لكن ((عادل)) لاحظ أنها تخصه بابتسامتها بين فترة وأخرى.. وهو لم يزل يحك رأسه، محاولاً أن يتذكر!
ـ بَسْ، بس.. وجدتها، وجدتها!
ـ أعلن هذا الخبر لنفسه صامتاً.... عرف هذه المرأة، وقد التقى بها قبل عامين عند صديق له، وكانت قد أتت للاتفاق معه على عمل ديكورات شقته، فهى ديكورست مبدع!.
* قال بصوته العالي: يا سلام... الدنيا صغيرة، أو كما قال المواطن الأميركى ((توم بين)): العالم قريتى... والشاعر قال:
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظنّان كل الظن أن لا تلاقيا!!
- قال ((فلاح، : إيه الحكاية... نحن بنتكلم في موضوع آخر ياسيد، وأنت انبعثت كأنك قادم من عصر غير عصرنا!
* * *
حين قام صديقه ((فلاح)) إلى الحمام، أشارت إليه المرأة، وطلبت منه أن ينتقل ليجلس بجانبها، وسألت: افتكرت أخيراً؟!
ـ قال: ذاكرتك أقوى!
قالت: وجنونك أحلى.. يرسخ في الذاكرة، لقد عرفتك من النظرة الأولى حين دخولي.
ـ قال: هل أحببت جنونى؟!
قالت: منذ التقينا أول مرة، وكان إلحاحك عليّ عند صديقك أن أبقى لأسهر معكم... وكنت قد جئت لعمل، ولا تربطني صداقة بك، وقليلها بصديقك، لقد عرفتك فوراً لأنك بقيت في ذاكرتي.
ـ قال: ازددت جمالاً، وتألقاً... أما ابتسامتك فسكّرها زياده قد تقتل المريض بالسكر!
ـ عاد ((فلاح))، وأراد ((عادل)) العودة إلى مكانه، لكنه أبقاه، وشاركهما المكان.
قال ((عادل)) للجميلة: لا فائدة... سأعود إلى مكاني، فهذا الرجل قصد أن يبقينى هنا ليستمع إلى حوارنا!
* * *
قبل عامين: التقاها.. هذه الأنثى الناعمة جداً، المدوكرة: ((سوزان))، وحاول يومها اقناعها: أن صداقته معها مربحة لها، ومرغدة لعاطفته!
ـ هذه المرأة الماثلة الآن أمامه وبجانبه، وكانت - يوم رآها في المرة الأولى - قادمة من أوروبا حيث كانت تدرس الديكور... وهي ليست من حفيدات إيزيس، لكنها من أصداء التاريخ الأموي... من أعلى منطقة في قاسيون، تشرف على بردى والغوطة.
ـ يومها - أيضا - سألها: هل تزورين مصر مثلي؟
ـ قالت: بل أقيم فيها.. فهى نصفي الثانى، أمي مصرية وأبى شامي!
* قال: أنت إذن مخاض/ وحدة ما يغلبها غلاّب!
ـ قالت ضاحكة: لذلك.. كان الانفصال أيضاً بين أمي وأبي!
* * *
* وامتد الليل بالسهارى.. وشعر ((عادل)) أنه يحتاج إلى النوم، والخلود إلى نفسه.. فحمل ((جاكتته)) على يده متأهباً للتسلل من بين السهارى.
ـ لمحته ((سوزان))... فاقتربت منه تقول:
ـ هل مللت من صحبتنا؟!
* قال: بالعكس.. امتلأت بصحبة الوحدة العربية، وأنا رجل وحدوى لكن.... دعينى أفر من.
ـ خرج متسللا.. لكن صديقه ((فلاح)) لحق به، وكأنه يطارده، زاعقاً عليه:
ـ انتظر يا مجنون... أنا قادم عائد معك!
* قال مطوحاً بيده إلى الخلف: ما زال في الليل ثمالته.. عد إلى ((سوزانك))، سآخذ السيارة وأطلب من السائق ان يعود إليك.
ـ قال ((فلاح)): لكن الأمور ليست كما تظن.
* قال وصوته يغيب خارج الشارع: إذن.. دع الأمور كما تظن سوزان!
ـ لكن ((فلاح)) أصر أن يصحب صاحبه ورفيقه، ويعودا معاً إلى الفندق.
في السيارة.. بقي ((عادل)) صامتاً لا ينبس بنأمه، وكأنه خارج هذا الزمن كله، ومنسلخ من لحظاته هذه.
* سأله ((فلاح)): ما بك.. دائخ، أم أن الجميلة عششت في تلافيف رأسك؟!
ـ لم يلتفت اليه، وقال: تلافيف ايه... والله الدنيا دي عجيبة يا حسن!
قال فلاح: لكن أنا اسمى لم يكن في يوم من الأيام: حسن!
ـ قال ((عادل)): أعرف.. لكن بعض أعمالك حسنة، انبسط. أنّثت لك حسن!
وترك العنان لنظراته تختلط بأضواء الليل المتكسرة في ثمالته، واقتراب الفجر.
لم يتكلم... لم يقل لصديقه: تصبح على خير.
صعد إلى غرفته، وشعر باحتياج شديد للنوم العميق جدا!
(14)
هل سينتهى هذا الجنون حقاً؟!
ـ سؤال ((عادل)) إلى نفسه، بعد أن استيقظ في صباح جديد، وجلس يتصفح جرائد اليوم!
ـ هل هو ((جنون)) عاطفة.. أم مجرد تفجير لأشواق الفرح في نفسه؟!
ـ ولكن تفجير الفرح لا يتم من خلال قصة حب جديدة قد تفنيه، أو تضنيه.
ـ ملامح ((نوار))، وضحكتها، ووجهها: صارت أشياء تطرد وراءه في كل مكان، وكل لحظة... فهل هذا حب؟!
ـ تجربته في هذه المعاناه ليست بسيطة ولا سهلة.
ـ لقد دخل حدود وجهها ذات مساء، وقال لها مبتسماً:
ـ صباح الليل الذي وجهك: صُبحه!
وترنمت ((البنت))/ نوار بالوصف، وقالت له:
الله.... كلامك حلو!
ـ وبقي ما بين وجهها وضحكتها: يتنفس - في مشاهدته الافتتاحيه لها - خطوة الليل الأولى، وكأن جوانحه سطعت لحظتها: شمساً من ضحكتها
ـ استيقظت لحظاته الأجمل: حباً، وبدايات.
صدحت دنياه لحظتها: تغني ((نوار)).. تتحدث عن ضوء الأرض فيها
ـ هي ((نوار)) التى لم ينج من سحرها... وهي التى لا تعرف ظمأه إلى الحنان الذي لن يقسو أبداً... فهل تقسو هي عليه؟!
في أيام ((عادل)) هذه.. كان احتياجه شديداً إلى اجتياز كل الإحباطات التى نثرها في دربه: البعض من الناس الذين أحبهم، وظن أنهم يحبونه.
ـ مشاعر الناس تبدلت... لكنّ الحكايات القديمة تروي من وقت طويل: كدر الصديق، أو من نحسبه صديقاً!
ـ ((نوار)): طلعت قوس قزح بعد رعوده.
* * *
أخرج ورقة بيضاء، وكتب عليها رسالة من ثلاثة سطور:
ـ أخي المخرج الفنان/ ((عصام)):
هذه هي ((نوار)) التى حدثتك عنها بالهاتف، ولعلنى وسّطت لك صديقنا معاً ((سيف)) برجاء الاهتمام بموهبتها وملاحتها في فن الإعلانات.. فلا تخيّب رجاء الجمال الذي يشع به وجهها!
ـ وضع الرسالة في جيبه، وغاب في المصعد.. ليجد نفسه بعد لحظات أمام نوار)).
ـ صباح الخير يا أجمل ((نوار)).
صباح الفل.. أنت فين يا هربان؟!
ـ أنا أحاول الهروب من سحرك ودلالك.. أين قهوتي؟!
حالا... وأين هديتي الصباحية؟!
ـ حالا.. هذه المرة تختلف، إنها رسالة إلى مخرج الإعلانات المعروف ((عصام)) تسليمها له بنفسك بعد أن تذهبي للكوافير بالطبع.
وهل شعري يحتاج لهذه ((الصناعة))؟!
ـ عفواً... المخرج ينتظرك غداً بعد الظهر، الساعة الخامسة... حلو الكلام؟!
* أنت أحلى.. كنت أفكر لو اصطحبتني اليه، ولكني أستحسن فكرة الذهاب وحدي، لا أسبب لك إحراجاً لو لم أنل موافقته ونجاحي.
ـ مثلك.. أفضل أن تذهبي إليه وحدك، ليس دفعا لإحراجي، فتأكدي إن شاء الله أنه ((في وجهك القبول))... ولكن لكي يعرف ذوقي في اختيار الجمال!
* يا سلام... إنت محدش قدك!
ـ مين! محدش ده؟!
* اشرب قهوتك.. لا تبرد، دا أنت شيطان معجون بمية العفاريت.
ـ يمكن... الزمان صاغنى بهذه الشخصية، كفاك الله شر الزمان، ومنحك من خيراته.. وبالمناسبة، تذكريني بقصيدة رائعة للشاعر اللبناني الكبير ((إيليا أبو ماضي)) لا أحفظها، ولكن أختزن منها هذه الأبيات في ذاكرتي:
وطن النجوم.. أنا هنا
حدّق.. أتذكر: من أنا؟!
يتسلق الأشجار.. لا ضجراً يحس، ولا ونى ويعود بالأغصان يبريها: سيوفا، أو قّنا ولكم تشيطن كي يقول الناس عنه: تشيطنا!
ـ تعرفي... في كل هذه ((الرزانة)) المحمولة بتجارب عمري: ما زلت أتوق إلى هذه الشيطنة أو مثلها.. اتسلق الاشجار، أبرى الأغصان وأصنع منها سيوفاً أو قنا... أتشيطن ليقول الناس عني مثلما قلت:
هذا الرجل الرزين يتشيطن!
* قالت ((نوار)): ياه.. إنت ممتع ومبهر، نفسي أجلس أسمعك على طول
ـ قال: أشكرك.. لكني أنفث وأنفس عن نفسي.. نحن في أقاليمنا اليعربية يا مليحة: صرنا نعيش الضغط النفسي والاجتماعي، ((انت مش مضغوطة))؟!
ـ في الخارج يقولون: ((اتشيطن)) بحب، وهنا في أقاليمنا يضيفون: سوء الظن الذي يبعد كثيرا عن أقوى الفطن، ويتهمون الأخلاق في الإنسان بالانحراف، لمجرد أنه: أطلق تعبيراً أو تصرفاً عفوياً منه لا يضر بأحد، ولا يعتدي على شرف الآخرين!
ـ اغفري - نوار - حين يصرّ سمعك الآن على الدهشة، وصوتك يرضع من لبن البوح او حليبه. - اغفري لي حين أصر دائما على طلبى بوقت أطول نتغدى أو نتعشى فيه بعيدا عن العيون أو الظنون... فلقد أغرقنى العطش، وأنت أنثى الحلم، وأنثى السفر، وأنثى خاصرة العمر!
لم ينتظر أن ترد عليه بكلمة... فقد شاهدها تحدق في وجهه، كأنها مندهشة، أو مسلوبة الكلام.
جر ساقيه إلى المصعد، وأختفى فيه كالعادة، أو كما يفعل الناس.
لعله كان في تلك اللحظة يحاول أن يقفز فوق العمر والإحباط.. حتى ينتصر الزمن بالحب على كل حرائقه!
فهل ترى ((نوار)) ستتوقف به عند هذا الفاصل المموه.. بين أن تعطى أنضر ما يشكل نقاء الإنسان.. وبين أن تحسر عطاءها؟!
ـ همس بين نفسه: في الحب يا صغيرتى.. لا نستفتي جروحنا.. لا تسرقنا أصواتنا الداخلية، حينما تصبح هي وحدها: حدود خوفنا من النهاية.
لقد اقترب من ((نوار)) فجأة، وبتدفق... فوق ما تستطيعه هي من عطاء، وفوق ما يتحسبه هو من ردود فعلها!
* * *
عاد إلى غرفته.. وهو ينساق وراء رغبة نفسه في الوحدة، لكي يحلم بالتوحد.
أضرب عن الهاتف.. لا يتصل بأحد، ولا يرد على أحد، حتى على، نوار))!!
- حتى ولو كانت ((غالية))!!
* كلهن..... نساء، في لحظة من اغتصاب أشواق الفرح!
لكنه متعطش للكتابة في هذه اللحظة، طلب نعناعاً خالصاً، وخضع لحمام دافىء.
وحين أمسك القلم ليكتب... كان وجه ((نوار)) يحتل شاشة عينيه مختلطاً بضلوعه... لكن هنالك كالطيف: وجه آخر كان يزاحم، وربما يكافح ويقاوم احتلال وجه ((نوار)) لعينيه وضلوعه... وجه لا يريد أن يظهر كاملا، وواضحاً بل هو يظهر ويختفي كالطيف، كأضواء النيون البراقة... بما يعنى: أنه لا يريد أن يعطى ضوءه، وفي الوقت نفسه مصمم على أن يكون وحده الذي يحتل بصر، وضلوع، وقلب ((عادل))!
وبدون توقيت.. خطت يده على الورق، ليكتب قلمه وهي ورؤيته ورؤاه:
* يا امرأة البهاء والنقاء.. أسألك:
ـ هل الذي يمنح العطاء يسترد ما منحه... أنت أم هذه التى تتوارى كالطيف!
أسالك.. أسألها.. أسألكن: عن الفرحة عندها تكون حنيناً يتواصل بالأشواق لامرأة في صدر رجل.. عن الحب عندما يزهر في مخاض الكلمة والبوح؟!
تصاعدت شجاعتي الآن أمام هذا الضوء الممنوح لخفقة قلبي... أتمناه منك، أنا الذي أتوق أن أحيا بك، وأن لا يكون سواك: عذوبة مائي، ولا سواك كنوز بحاري وأسرارها.
وضع القلم.. شعر أنه تعب كأنه يلهث، هو المتمرس على الكتابة حتى تفيض الصفحات كالنهر في موسم فيضانه!
و... لماذا لا يقدر الآن أن يفيض كهذا النهر؟!
لا يدري الآن.. هل هويسأل، أم مجرد دهشة تفيض منه؟!
* * *
(15)
هبط إلى ((الكوفي شوب)) يبحث عن أحد - أي أحد - يحكي معه، ولكن ليس بطريقة، (لبنان إن حكى) لسعيد اللا عقل عربى!
دكتورة ((هلالة))... يا هلالة!!
شاهدها تجلس وحدها، وتقرأ في كتاب.. لكنه ضبط نظراتها تنطلق منها إلى صفحة النيل، والشمس تنعكس كومض الألماس.. فلم تشعر به وهويقترب منها.
((هلالة)) عندما حاول أن يقرأها من الداخل... وجد في أعماقها: امرأة مكسورة عاطفياً.. في داخلها.. حزن شاسع المساحة، لكنها تطرق دروب حياتها بقوة، وبشموخ وبشخصية نسائية ملفتة، وعالمة.. تجيد الحوار، وتمنطق أراءها بحجج مقنعة... فهي امرأة مريحة، وناضجة، ومحاربة... وهي أنثى في الأربعين الجميل، أو في جمال الأربعينات الذي يصبغ ملاحتها بنكهة عميقة.. لم تفقد رشاقة أنوثتها، وإن كانت تضع حجاباً سميكاً على مشاعرها... وهي امرأة تؤمن بحرية الإنسان الذي لا يهدر قيمته أمام الآخرين باسم الحرية، أو بادعائها.
ضحكتها المميزة... يتموسق من أنغامها: حنان الأنثى.
وقف ((عادل)) أمامها، وقال مبتسماً: هل تسمح سيدتي بـ ((ساعة بقرب الحبيب))؟!
قالت ضاحكة: عسل!!.. حبيب.. مرة واحدة، أنت يا خوي حبايبك كثير!
قال: الحبيب.. ليس العشيق أو المعشوق.. بل الذي نمحّضه المودة، وارتياح النفس، والثققه و.....
ـ قاطعته: بس، بس، على هونك، شوي علي، أنا ماني قدك.. شربت شاي، والا أطلب لك غداء؟!
قال: شربت من كيعانى... نفسى مصدودة.
ـ قالت: يمكن لما نتغدى سوا.. أفتح لك نفسك؟
قالت: وتأكلي جمبري، والا إستاكوزا؟!
قالت متجاوزة خبثه: ليه.. كلوسترولك، منخفض، ولا ضغطك؟!
قال: الإثنان في العالي.. فوق الارتفاع، لكن.. نفسى في ((جمبرراية)).. تأكلي معايا؟!
ـ قالت: وأنت تقشرهم لي؟!
قال: أقشر قبيلتهم... يامتر، من فضلك!
ـ قالت: أنت هكذا دائما متعجل في اتخاذ قرارك الذي تريد؟!
قال: ولماذا لا تعتبرينى حاسماً في اتخاذ القرار؟!.. لأننى - ياسيدتى - لا أعلن عن رأى، أورغبة إلا بعد أن أكون قد اقتنعت بتنفيذها من داخلي.
ـ قالت: وين هالغيبات.. قالو لي إنهم شافوك معك البارحة بنت ممثلة، صاعدة ياكُثُر حلاها؟!
قال: قصدك تقولي: شافونى معها... فهى صديقة الدكتور ((غنام)) ولا أعرفها، ولمعلوماتك لم تنزل لي من زور!
ـ قالت: حتى الدكتور ((غنام))... بروتس؟!
قال: أو هووه.. بعدد شعر رأسه الأصلع!
ـ قالت: عمره طويل... هذا هو الدكتور ((غنام)) بنفسه.
إتخذ الدكتور ((غنام)) مقعده هو وصوته المجلجل، ونفسه الطيبة جداً، ومرحه المعتاد.. وقال:
ـ جئت أودعكم.. سأعود اليوم إلى جدة.
قالت الدكتورة ((هلالة)) وانا وراك ياخوى.. غدا إن شاء الله إلى الرياض
ـ قال ((عادل)) حلو.. و ((سارة)) مسافرة بعد غد، وأنا... مسافر في الغد فهل ((يرمحنا)) العودة معاً؟!
قالت ((هلالة)): والله قضينا صحبة جميلة، وسعيدة إنى اتعرفت على واجهة مشرقة من مثقفينا ومبدعينا.. يا خوى كلمونى بالتليفون..
ـ قال ((غنام)): أخاف أن أزعجك؟!
قالت ((هلالة)): يعنى مكالمة للاطمئنان و خذ رقم هاتفي.
قال ((عادل)): أما أنا.. فلن أطمئن عليك فقط بل سأشتاق لك، تعودت عليك، وعلى ((حكمتك)).. تذكرينى بـ ((بيدبا الفيلسوف)) إنما على إمرأة.
قالت ((هلالة)): بالعكس.. منكم نستفيد ونرتاح!
قام ((غنام)) واحتضن صديقه ((عادل)) وصافح الدكتورة ((هلالة))، وركض إلى الخارج.
وجللتهما - هلالة وعادل - لحظات صمت. كأنهما قد أفلسا من الكلام.. حتى قالت ((هلالة)):
إنت يا خوى عاطفي، حق من قال عليك رومانسى.. أشوفك تدارى دمعة في عينيك!
قال: لعلى من الناس العشريين، والأهم: أننا في هذا الزمن الردىء، من الصعب أن نجد صديقاً يحوز على ثقتنا، فما بالك عندما نريد أن نحافظ على هذا الصديق؟!
ـ قالت: فلسفة الصداقة في عصرنا صارت تقوم على المصالح في أغلبها، لكن... مازالت الدنيا بخير، والناس أيضاً.
وامتد الحوار بينهما... ولا حظ أنها أكثرت من التلفت، ونظرها على المدخل، قالت:
ـ انتظر الأولاد... لابد من التسوق، الله يعين.
* * *
* صعد إلى ((نوار))، وكانت منشغلة جداً بالتزامات عملها، ناولها الرسالة التى خطها لها بعد الظهر، وعاد إلى غرفته،.. السأم يلازمه، فأين سيذهب وحده؟!
وظف الهاتف عند سأمة، لم يجد ((سيف)) في مكتبه، ولا((أحمد))!!
((فلاح)) غير موجود في غرفته، ولا ((سارة))!.
راودته نفسه أن يهاتف ((غالية)) لكنها لن تعود قبل السابعة مساء.
إذن... لماذا لا يأخذ قسطاً من الراحة: ينام قليلا إلى المساء والسهرة، أو يقرأ ما ابتاعه من صحف ومجلات، أو يطالع في بعض الكتب؟!
نفسه مقفولة، ومزاجه مطفأ.. الحياة هي الناس حقاً، ولو تطلب الإنسان في بعض لحظاته: شيئاً من التوحد مع النفس، أو الوحدة بعيداً عن الآخرين.. فإن تأمله لن يطول في هذا الصمت المستغرق.
بقَيتْ له أشياء بسيطة، يشتريها قبل أن يحين موعد سفره في الغد، لكن.... لابد أن يسهر هذه الليلة الأخيرة مع صديقيه الحميمين ((سيف)) و ((أحمد))، كما وعداه.
في بهو الفندق، وهو يهم بالخروج: شاهد ((نوار)):
ـ سألها: إلى أين؟!
* قالت: إلى البيت، قرأت رسالتك القصيرة جداً، والدسمة.. سأعيد قراءتها في البيت، قل لي: أنت مصمم على السفر في الغد؟!
ـ قال: إن شاء الله... هل توافقين أن أوصلك بسيارتي إلى بيتك؟!
* قالت: أشكرك.. ليس في صالحى أن يرانى زملاني أخرج معك، لأركب سيارتك.
قال: إذن... سأشرب فنجان قهوة الصباح من يدك غداً لأودعك.
قالت: ((حتوحشنا... أتعودت عليك)).
ـ قال: أتمنى أن تشتاقى لي حقاً، كما سأشتاق لك وأعانى من غيابك. واتخذ طريقه إلى السوق، وفي رأسه عشرات الصور، وزحام من أصداء الأصوات.
في سمعه أيضاً: أصداء لصوت ((سارة)) في حواراتهما العقلية الممتعة:
قالت له: ((يارفيق الحرف، وما أعظمها من رفقة.. دربها مرصوف بالصدق وسمو الأخلاق: إنى أعيش حزنا سعيداً، أقاومه وأكافحه لئلا يحولنى إلى: امراة من رماد.. حسبنا - يا سيدي - أننا أحرار في تفكيرنا، طلقاء في خفقاتنا، أنقياء في ضمائرنا.. حسبنا أننا نمثل فئة نادرة لم تستعبدها ماديات الحياة، ولم تلوثها النزوات والرغبات.. فئة شفافة تعيش بمشاعرها))!
ياه يا ((سارة)).. أنت مرهقة أحياناً بالتزامك، وبمثالياتك، وبمباشرتك لاتخاذ قراراتك.
((خسارة)) تدخل حياة ((عادل)) من عقله، وليس من قلبه حتى الآن، وهذا هو الأخطر والأقوى.. كل واحد منهما يحدث الآخر عن: الحلم، والحزن، والإنكسار، والتحدي.
يصفها بالبجعة البيضاء النقية في لحظات تفتح مشاعرها وجنون خفقها.
ويصفها بالنمرة الشرسة: في مواقف ترفض فيها أن تمنح شيئاً من التنازل للرجل!
وتصفه هي بالرجل ((الصقر)).. لأنه يتبنى أحياناً قضايا المرأة، ويدافع عنها.
وتصفه بالرجل الرومانسي الذي يفتح ذراعيه للمرأة. يدخلها حياته بقوة، فلا يقدر بعد ذلك أن يظلمها!
ـ يا حليلك يا ((سارة))!!
قال عبارته هذه، وهو يقفل راجعاً من السوق، ليستعد للسهرة الأخيرة في هذه الرحلة مع صديقيه ((سيف)) و ((أحمد)) ويعود إلى قواعده/ بلده: سالماً، متجدداً!
* * *
(16)
لم يكن ((عادل)): صخابا، ولا متكلماً، ولا زلقا في كلماته، على امتداد هذه السهرة الأخيرة من رحلته القصيرة.
كان يهمه أن يصغي إلى صديقيه ((سيف)) و ((أحمد))..،وكل واحد منهما: ((حلواني)) كلام.
حلق بعيداً، بعيداً عن صديقيه يفكر في هذا الزمن الذي قال عنه ((فيلليني)).
((إن الزمن يشبه الغبار.. فلا يعنيني هذا الذي يجرى الآن))!
وكيف لا يعني ((عادل)) ما يجري الآن، وما جرى على امتداد رحلته القصيرة؟!
يقول لنفسه: هذه الرحلة القصيرة.. تأتي من أميز الرحلات في هذا الزمان الذي يشبه الغبار.. فهل تتحول ذكرياتها، وصورها، وأصداؤها، ومواقفها إلى..... غبار؟!
يستحيل تصديق هذا التوقف... حتى لو أراد ((فيلليني)) أن يوصم الغبار كله كعمر بأنه: لا أكثر من غبار، يُثار وقتا يطول ويقصر حتى يموت الإنسان.. ويبقي الغبار مندلعاً في حياة الذين ينشئون، ويولدون، ويكبرون... حتى يموتوا، وتتعاقب الأجيال متشابهة في فلسفة: الحياة، والموت.. والغبار، والعمر!
وأين ((العقدة)) في هذه الدراما الحياتية الإنسانية؟!
الناس يتحدثون عن هذه العقدة، ويخافون منها.. لكنها تتحلل كمادة كيميائية بسقوط المناسبة، أو بترمد الحب، أو بذبول العمر!
العقدة الحقيقية في دراما الحياة.. هي: الطموح، والرغبة، والغرور، والزهو!
ولا يفكر الناس في عقدة حياتهم... لأنهم منغمسون فيها، والمرأة في أعماقهم فلايرون عليها وجوههم!
وأغراه سر الليل المتهادي على صفحة النيل.. فكأنه يجلس وحده، حتى ولا رواد المطعم، ولا ضجيج أبواق السيارات في الخارج.
كان صديقاه: ((سيف وأحمد)) يتجادلان في أبعاد ودوافع موقف شاهداه في العمل، وكيف تقزم المصلحة الذاتية مسئولاً كبيراً، فيصبح حجمه أقل ضآلة من عقلة الأصبع.
لم يكن ((عادل)) يتابع حديثهما، ولا تعليقهما على الموقف، ولا ((قفشاتهما)) وضحكاتهما.
وهما بدورهما... لم يلاحظا شرود صديقهما ((عادل))... كأنه في كوكب آخر.
ـ ترى... أي واقع هذا الذي ((يبرمج)) الإنسان: وقتاً، وجدولاً، وانشغالاً بغير الأعمق في النفس، والأثمن في العقل؟!
إنه مونولوج داخلي... شاع في نفس ((عادل)) وسرقه من الاستمتاع بصحبة صديقيه.
وسمع صديقه ((سيف)) يقول له وهو يهزه:
ـ لا تدع من أخذ عقلك يتسلط عليك لهذه الدرجة؟!
* قال ((أحمد)) بروحه المرحة: ((ما تعرفنا على نوارك، ونعدك أن نرعاها لك حتى تعود إلينا بالسلامة))!
ـ قال ((عادل)) والله... لا مانع عندي، أقبلا غداً في الظهر إلى الفندق، وأعرفكما عليها.
* قال ((سيف)): أنت لست جاداً.. أعرفك.
ـ قال ((عادل)): والله العظيم جاد... على الأقل أتركها في أيد أمينة، واعرف أخبارها منكما.
* قال ((أحمد)): وهل تهمك أخبارها بعد أن تعود إلى وطنك، وأهلك؟!
ـ قال ((عادل)): لا أدري... سأعرفك عندما أعيش الاسبوع الأول بعد عودتي.
* قال ((سيف)): يا ابني.. هناك فرق، صدقني.
ـ سأل عادل: أي فرق؟!
* قال ((سيف)): فرق كبير بين الثّرى والثُّريا.. أقصد بين ((نوار)) الثّرى، و((غالية)) الثريا.
ـ قال ((عادل)): ولماذا تضعهما في مجال مقارنة؟!
قال ((سيف)): أنت الذي جعلت ((غالية)) في مجال أفعل التفضيل!
ـ قال ((أحمد)): لا تغضب من سيف لكن الصراحة أن ((نوار)) عيّله، حسب تصويرك لها، أعني أنها: لوليتا، في حين أن ((غالية)): شهرزاد أو إيزيس بكل حلاوة النيل، وعبق زرع الغيطان!
* قال ((عادل)): صدقوني يا جماعة.. لا مقارنة أعترف وأعرف، ولكن.. نوار طلعت كشمس جديدة على حياتي التي كانت شديدة الغيوم وكثيفة السحب، كأنها قوس قُزح.. في حين أن ((غالية)) هي التي غطّت سمائي الصافية بالغيوم. والسحب، ومنعت عني ومني المطر، وأصدرت قراراً بأن تبقى أرضي عطشى قاحلة!
ـ قال ((سيف)): لهذه الدرجة أنت تحب غالية؟!
* قال ((أحمد)): أنا عارف ((عادل)) بيرفص، أو يرفِّز... يتمرد على المسيطر في أعماقه، ويجلس على حفافي نفسه وقلبه، ((مدلدلاً)) رجليه.. يصفر ويغنى، وضلوعه ترشح دموعاً.. أعرفه!
إبتسم ((عادل)).. وبقي يتابع تشريح صديقيه، مستمعتاً بحبهما له، رغم أنه يختلف معهما في هذا التحليل، والقراءة لنفسيته، لأنه يعرف ما في أعماقه.
وفي ثمالة الليل احتضن ((عادل)) صديقيه بشدة يودعهما.. وقال لصديقه ((سيف)):
ـ هل تريد مني أن أدعي لك تحت باب الكعبة المشرفة؟!
قال ((سيف)): آه والنبي.. أحسن قربنا نخش النار!
* * *
أيقظه هاتف ((نوار)) في صبحه الأخير لهذه الرحلة... قالت:
ـ لا تأتي.. إلا ومعك هديتي!
هديتك اليوم شجوني يا ((نوار)).
ـ إذن... ستترك شجونك لي وترحل.
* إذا لم تضايقك.
ـ دعنا نكمل الحوار وجهاً لوجه.. في اتتظارك.
كان بالأمس قد انتقى لها هدية/ وداعية منه.. رتب وضعها مع الرسالة في مغلف، وسلمها لها، وهو يسألها:
ـ أين فنجان قهوتي؟
* من فضلك لا تعاملني كأنك لن تأتي بعد الآن!
ـ أقرئي الرسالة... فهي أنا:
فضت المغلف ونشرت الرسالة بين أصابعها، وأخذت تقرأ:
* عزيزتي ((نوار)):
ـ الوقت يمضي والزمان.. فهل يمضي الحب معهما؟!
أعرف أنك لم تحبيني كرجل يدخل حياتك وتكونين معه شركة العمر، لست هذا الرجل.. وتعرفين أننى: مبهور بجمالك، وبشخصيتك، وبرقة أنوثتك، وأجدك معي أحياناً مباشرة في جدية صدك لبوحي.
أعجبت بك.. نعم خفت أن أعشقك.. نعم، سأفكر فيك كثيراً بعد عودتي إلى بلدي... نعم، ولكن.... مَنْ أنا عندك، ومَنْ أنت عندي؟!
وجدت نفسي أمامك هذا الرجل ((الملاح التائه)) كما وصف شاعركم علي محمود طه.. أسعى إلى جندولك، وأنا هذا الرحيل/ الإياب إلى عاصمتك الذاتية.. تجديننى في كل أحوالي: كوكباً يختلف عن رحلاتك إلى اللامدى.. أنا هذا ((الغريب)) عندك، الذي ستغفرين له: أن بوحه إليك فراشة في لهبك!
دخلت بهاءك بداية غريبة، أبحث لديك عن الدفء الذى أفتقده.
وأنت بعيدة كجزيرة غير مكتشفة.. قريبة مني كوشم في صدري، ترسمين الأحلام وتسرقينها.. تلونين ابتسامتي بالعطش لك.. تدخلين دهاليز ذاكرتي.. تشقين القلب ولا تغلقينه!
أنت منحتني الفرح الأول، والموت الأول... وأنت هذا كله)!
مد يده الى يدها... العناق الوحيد والمباح بينهما: عناق كفيهما فقط! وكان آخر عناق!
* * *
* في طريقه إلى المطار في قطرة النهار الأخيرة.. سأله السائق:
((إن شاء الله اتبسطت يا بيه))؟!
* وجد نفسه يرد على السائق بقوله: ما جئت لأنبسط ولكن... لاتأمل واسترخي!
لم يفهم السائق، فآثر الصمت.
لكن أعماقه كانت تمور، وكأنه يخاف على الحلم.. لو عجز أن يركض وراء ندائه، أو عجز عن تحقيقه ولو بالموت!
وكأنه يخاف من هذه المسافات التى لا يملكها، ويخاف من الزمان الذي يبعثر الأحلام!
(يسترجع كلمة قالها في الزمن البعيد لتلك الأثنى الإيزيسية ((غالية)):
إنى احرّضك على عطاء يتنامى ولا يتناهى... عطاء منك ينجب مئات العصافير التى تطلق زقزقتها بألوانها الزاهية في زمن البغضاء واللون الرمادى.. ونزرع معاً نخلة جديدة)!
لكن ((غالية)) حوّلت كلماته العشب إلى: شوك وحنظل.. ومشت بعيداً عنه!
إستعادة من سرحته صوت السائق يعلن عن وصولهما إلى المطار.
لقد كانت أيام أجمل في هذه الرحلة القصيرة!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2628  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 139 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء العاشر - شهادات الضيوف والمحبين: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج