شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
فقط...كفُّها!
كان يزرع رأسه فوق نقطة من نبض الشرايين في ذراعه.
ذراعه ليست وحدها.. بل امتزجت بنبض شريانها: خفقات قلبه المتلاحقة، ومهرجان فرحه!
ذراعه تحاول أن تمتد بكفه الدافئة إلى حيث تجلس هي في أقصى ((الكنبة)) التي ضمتهما معاً الآن. يتأملها مثل وردة تفتحت، وشارع عبقها في أرجاء الغرفة الواسعة.. في أرجاء صدره، ونفسه، وعمره الذي يولد الآن من جديد!
كانت ذراعه تريد أن تصل بكفه إلى حدودها القريبة البعيدة.
إذن.. هما معاً، وحدهما إلا من تسارع خفقاته، ومن تردده بين أن يصدق واقعاً يجسده هذا الموقف، أو أنه يحيا حلماً جميلاً.. طالما تخيله في يقظته، وتمناه!
يمعن في التحديق نحو وجهها ليتثبت أن الحلم الذي لازمه سنوات طويلة قد تحقق هذه اللحظة.
إنه اللقاء الأول في تجديد العمر.. بعد تلك الأعوام المملة التي عانى فيها من فَقْدها، وأوغل الفقد في حصاره لأفراحه.
أكثر من سبعة أعوام.. أهدرت في مجاهيل صمتها، وفي تجربتها، وفي هروبها بعيداً عنه!
الآن هما معاً وجهاً لوجه!
يغمض عينيه، ومازال رأسه غرسة ذكرى تنبت من بين شريان ذراعه.
يتذكر اللحظة الرغيدة- البوابة... حينما حملت المفاجأة صوتها إليه، متسائلاً:
ـ أما زلت حياً؟!
الله... الله يا زمن الصمت والنسيان!
اضطرب في تموج سؤالها. تخلخل في عمق صوتها الذي اقتحم تفاهة وقته. فأشعل كل الزمان.. الزمان الذي مضى، والزمان الذي يعيشه!
انفطر قلبه.. ولم يدر كيف يجيب، وماذا يقول لها؟!
اندلعت شرارة الشوق التي كانت كامنة سنوات طويلة تحت رماد أيامه، فإذا هي نار تحرقه ولا تقتله.. مثل النار التي تحرق بخور ((العود)) فيتصاعد من خلالهما العبق.
كاد يصرخ: أنت؟!
امتلأت الدنيا هذه اللحظة بالزغاريد.. أضاءت مهرجانات الفرح صدره. كأنه فارق هذا الموقع الذي اقتحمه فيه سؤالها. عاوده صوتها من جديد.. يجرحه ويضمه:
ـ إيه! ((اخباراتك))؟!
الله... الله يا زمن الوصل والتذكر والوفاء!!!
* * *
عاد يحدق إلى وجهها من جديد.. عبر تلك المسافة القريبة- البعيدة، وهي في أقصى ((الكنبة))، وهو في أقصاها الآخر. سألته بابتسامتها ذات الشكل الصباحي:
ـ ((إيش فيك. أنا فُرْجه))!؟!
ـ لا تتكلمي من فضلك.. دعيني أروي تربتي القاحلة العطشى من عينيك المشتاقتين!
يغمض عينيه ثانية، ومازالت المسافة بين كفه وكفها بعيدة رغم اقترابهما.
يتذكر الأيام الهدر.. تلك التي باعدت بينهما.
لا.. بل هو يسترجع السنين في كل العمر الأجمل، منذ اليوم الذي التقيا فيه أول مرة.
رأسه الآن ((أجندة)) أيام.. يفتح الصفحة الأولى:
ـ أيتها الرائعة.. كان وجهك حليبياً. كانت نظرتك الأولى إلى وجهي كيوم الميلاد. كانت ضحكتك عشباً أخضر كحقل من الاشتهاء للزرع وللحصاد!
ـ هل مازلت تتذكر؟ ظننت أنك نسيت!
أطاردك كنت، في منعطفات الأيام. أفتش عن أخبارك..، أتزود بتلك الأخبار: غذاء لجوع نفسي إليك.
ـ ألديك أقوال أخرى؟!
ـ نعم.. أحبك اليوم أعمق من الأمس. وسأحبك غداً بجنون أكثر من اليوم!
ـ لا أصدقك!
ـ شكوكك ريح عاصفة تضرب خيامي، وتذروني في العراء.
ـ أجمل ما احتفظت به عندك مني لحظة أن طلبت منك الفراق بلا عودة؟!
ـ رأيت دمعة بيضاء حائرة في حدقتي عينيك... تحاولين تجميدها حتى لا تنزلق!
ـ ولكني لا أذكر أني كنت أحبك؟!
ـ ولكنك كنت تعرفين أنك حلمي، وأنضر ما تراه عيناي، وأبقى ما يخفق به قلبي!
* * *
امتلأت الغرفة بالصمت.
عيناه أصبحتا كل هامته.. كل قلبه. يتأمل بهما وجهها ويبحر في عينيها. والمسافة بين كفه وكفها القريبة.. مازالت مسافة بعيدة!
هو يمد ذراعه بكفه ليلمس كفها، عله يهدأ قليلا، أو حتى لعله يحترق.
وهي ترفع ذراعها إلى أعلى، كأنها تحفر ظهر ((الكنبة)) بمرفقها.. لئلا يسقط كفها في دفء كفه فتغمض عينيها. كأنها تصارع من داخلها أن لا تغمض عينيها، وتبقى العينان شاخصتين نحوه.. كأنها تفتشه، تبعثره، تبحث في أعماقه عن مشاعره نحوها.
ـ لماذا لا تصدقين أنك في عمري قد تجاوزت أيضاً مرحلة الحب.. فأصبحت أحياك؟!
ـ فعلاً لا أصدق!
ـ أو.. لعلك تخافين أن تصدقيني؟!
ـ أخاف أن أحبك، وحبي جنون!
ـ أيتها المجنونة.
ـ أنت أكثر جنوناً.
ـ وهذا هو خوفك الحقيقي؟!
ـ أعجب بك جداً.. ذلك يكفيك الآن!
ـ المد والجزر.. كأنك هذا البحر الجاذب بزرقته وبأبعاده وبمسافاته اللامرئية!
ـ أريدك أن تكون بجانبي.. لا تتركني، ولا تطلب مني أن أبحر بك إلى آخر العالم!
يحدق في عينيها البابليتين.. يرفع نظرته لوهلة إلى شعرها. يبتسم، يهمس لها:
ـ بدَّلت تسريحة شعرك القديمة. كانت أجمل!
ـ لم أُبدِّلها. أحيانا أرفع شعري. رفعته الآن لأراك!
ضحكا معاً: صبت له فنجان شاي. سألها:
ـ وقصصت شعرك أيضاً؟!
ـ بعض الأشياء قصصتها أيضاً.
ـ لماذا هذا الرمز؟!
ـ لأن بعض الأشياء إذا طالت.. تعيق!
ـ وأنا.. كنت من الذين حاولت أن تَقُصِّيهم، لتُقْصِيهم عن حياتك؟! - تشرب شاي؟!
ـ مازلت مذهولاً!
ـ أرْيَح.. حتى لا تعاني من التعب!
ـ تقصدين هذا المعنى بالفعل لي؟!
ـ لا.. أريد أن ((أُسرِّبك)) من تفكيري.
ـ فعلتِ أكثر من هذا في الزمن الماضي.. حكمت بالنفي على مشاعري، وبالانكسار لفرحي بك!
ـ أصمت، لا ترهقني. هناك زمن طويل، وقد حدثت فيه أشياء لا تعلمها.
ـ كنت أتابعك، وأعرف عنك الكثير.
ـ حتى يوم أن أصررت على الضياع والجنون والانطلاق؟!
ـ ذلك شعور القلق الذي يشد إليه الإنسان لفترة محدودة، ثم يتلاشى.. وقد عانيت مثلك منه. أخذني الضياع وبعثرني جنون الرغائب، واصطدمت، وذبت، واحترقت، واشتعلت... لكنك أنت وحدك التي تتحكمين في إضاعة مشاعري، وفي تأطيرها بقيمة غالية!
ـ تحبني فعلاً؟!
ـ في غيابك.. كنت أفعل الحلم بك في اليقظة. كنت أناديك بشتى الأصوات التي جعلت اسمك نبرتها ونداءها. كنت أشعرك أنني باق على مفارق الطرق ارتقب طلوعك من كل مفرق، وأنني ثابت شامخ فوق رأس جبل.. لعلك يوماً تمطرين، وأنني أقلب تربة نفسي وأعزقها وأبذرك كل فجر.. لعلك يوماً تنبتين فتثمرين!
ـ هل عانيت ذلك كله في زمن الفراق؟!
ـ وعندما واجهت وجهك في اللحظة الأولى من الزمن الجديد.. رأيت سنين عمري التي سقطت بها الأيام إلى حدود الفراغ، وفي منحدر الشعور بالشيخوخة وقحط العاطفة.. وقد انبعث منها فجأة جنون الشباب، وفرح الخفق، كان وجهك يصوغ شبابي من جديد. عيناك أراهما الآن تمنحاني جوهرة العمر. ابتسامتك تضيء جوانحي بألق لا ينشره غيرك!
ـ ولكني...
ـ من فضلك.. لا تتكلمي، نحن في بداية عمر جديد. دعيني فقط أتأمل عينيك، وأضيء!
ـ إنك مذهل، مقتحم... وأنا أخافك الآن!
* * *
قطف رأسه من فوق ذراعه، واستوى جالساً.
ذراعه بقيت ممدودة على ظهر ((الكنبة)) تواصل محاولة إيصال كفه إلى كفها. بسطت هي ذراعها.. لكن المسافة بين كفيهما تراوح في نفس المكان.
عبرت من أمامه قطة جميلة. مد إليها ذراعه الأخرى يناديها. قفزت القطة إلى حجره. انشغلت كفه الأخرى بالتربيت على القطة.. بينما بقيت كفه المنزرعة على ظهر ((الكنبة)) تعاني من حوار المسافة المرهق.
ـ تحب القطط؟!
ـ أحب أكثر: القطط الأليفة!
ـ والمتمردة، والشرسة.. هل تضربها؟!
ـ لا أحب العنف. أحاول أن أروّضها.
ـ ولو طال الوقت؟!
ـ الوقت في حياتنا.. هو الذي نريده!
ـ ولكني لست قطة!
ـ من قال ذلك حتى تغضبي الآن؟!
ـ أنت رمزت إلى ذلك!
ـ ليكن.. أنت قطة جميلة، ولست شرسة، قد تكونين متمردة، أو مترددة تخافين!
ـ أنا لا أعرف الخوف!
ـ ولكنك تخافين من الحب، أو من جنون حبك!
ـ بماذا تشعر الآن؟!
ـ كأنني مثل رائد الفضاء، ما بين الأرض والسماء. لحظة انعدام الوزن.. كأنني أبلغ حدود القمر، وأدحض اكتشاف الرواد عن طبيعة أرض القمر الحجرية، الترابية، وأعلن اكتشاف أرض قمري.. المضيئة، المشعة بالغد، الشاسعة التي تضم إليها قلبي، وعمري، وتفاؤلي بالمستقبل!
ـ ألا تخاف أن تضم هذه الأرض رفاتك؟!
ـ ليكن.. لأنها ستكون أرضي الحقيقية، والأرض أم!
* * *
سقطت تلك المسافة القريبة- البعيدة على ظهر ((الكنبة)).
لمس كفُّها كفه. تشابكت أصابعهما.
انعكس ضوء القمر على وجهيهما.. وشمل مساحات الدنيا كلها!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2872  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 125 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج