شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفصل الرابع
ـ 1 ـ
ما زلت أنت معي..
أظل أردد اسمك، وأحادث خيالك، وأعاشر وجودك في أعماقي.. أتحدث عنك مع قلبي، و يرقبنا عقلي باستعلاء وتهكم، ويسخر منا ويهزأ!
قلبي يحتمي بي.. وأنا ألجأ إليه كلما ألحّ العقل، وثار، وعنف، ومارس ضغوطه، وهدد بمصير من عذاب وندم ينتظرنا إذا أمعنا ولم نسلم القياد له!
ترى.. هل نحن واهمان كما يقول؟!
هل قررت القطيعة حقاً.. ونسيت ما كان من ود وألفة وتآلف روح وفكرة؟!
هل أتى اليوم الذي أسقطتني فيه من مشاعرك وذاكرتك.. مثلما فعلت قبل ذلك مع الأخريات؟!
ولكن.. لا. قلبي يقول: إنك عائد، لا بد.. وأنا أطلب منه المزيد من الصبر، وعقلي يراوغ بمكر:
لن يعود.. ولو عاد إليك، فبعد وقت يكون الصبر فيه قد ذاب، والعمر فيه قد ذوى!
أعرف أنك تختفي فترة طويلة، لتعود اليّ مثخناً بالشجن.. فلا تجد سواي صدى مريحاً، ونقاهة وجدان.
دائماً، وفي كل مرة تعود بعد أن تختفي.. أجدك هذا الطفل الشقي الذي أتعبه الجري والحركة واللعب.. فكأنني صدر أمك الذي تهدأ عند نبضه وتغفو.. حتى إذا استرجعت أنفاسك انطلقت كطائر تجوب الآفاق مجدداً وتختفي، وأجلس أترقب السماء، ولحظة إيابك من المدى!
عد إليّ.. اسمعني صوتك ولا تتركني وحدي.. فهذه المرة لا تشبه ما سبقها في العمر الذي يطوى..
هذه المرة لا أحتمل فراقك وعبثك وغيابك.. أريدك بجانبي لتحميني.. فقط:
عد، ولا تقل شيئاً، وافعل أي شيء تريد!
أعدك.. لن يكون عتاب ولا لوم على تأخير عودتك!
أريدك أن تعود على مسامعي كلماتك.. لا، بل كلمتك العميقة: ((وحشتيني))!
مرة واحدة فقط.. مرة أخيرة.. والآن قلها.. وأتنازل عن كل شيء.. حتى عن ما تبقى من العمر!
أرجوك.. لا تدعني في هذه الغابة وحدي، فأنا غريبة بدونك.. وحيدة وعاجزة في غيابك!
فهل يبلغك صوتي الصارخ؟!
أناديك: عد.. قبل أن يقتل حاجتي إليك كبريائي!
عد.. قبل أن تنزف الأشواق، ويقضي اليأس على حنيني!
عد.. قبل أن يسيطر العقل على القلب!
عد... حتى ولو جاءت عودتك إلى الشاطئ الآخر.. فإن مجرد وجودك على مرمى النظر، يحيي الأمل!
أنا متيقنة من عودتك.. ولكن اليقين يحتاج إلى تأكيد. وحبي ليس حالة، ولم يعد حلماً، ولا هو صدفة.. بل هوالشيء الوحيد الذي أملكه، وأصر عليه، وأختاره بإرادتي.
آه من الذكرى معك!
قلت لي مرة:
ـ لا تستطيعين أن تحبي أحداً غيري.. حبي لك كلعنة الفراعنة!
لا أظنك كنت تداعبني.. فأنا بالفعل لا أقدر أن أحب أحداً سواك، ولكن أنت.. هل أحببتني فعلاً.. وهل أستحق الحب في شعورك؟!
سألت نفسي هذا السؤال كثيراً، ولم تجبني.. ولعلني لم أجرؤ أن أسألك، لأني كنت أخشى الإجابة!
أحياناً.. أكون واثقة من حبك لي، وكثيراً ما أشك في هذه الثقة!
وإن كنت استحق هذا الحب.. فلماذا!!
لماذا انتهت حياتي إلى هذا الفشل: تجربة حب فاشلة.. زواج فاشل.. حتى.. حتى إنني عجزت أن أكون أماً!
ما كنت أدري أنني سأتألم من هذا.. أن لا أكون أماً.
لم يكن يعنيني، ولا يشد اهتمامي، خاصة الآن، ربما لأنني بدأت أتقدم في السن!
لا تضحك.. أعرف رأيك وهذرك.. كنت تقول لي في لحظات صفائك:
ـ الأنثى في العشرين قارورة عطر مقفولة، وهي في الثلاثين زجاجة عطر فواحة.. أما حين تبلغ الأربعين فتتحول إلى شجرة لا أحد سواها يمنح الفيء!
ـ يومها قلت لك بغرور: إنني معتقة فواحة!
لكني لم أبلغ بعد مرحلة التحول إلى شجرة، وإن كنت أحس أحياناً بذلك، بل وأتمنى أن أتعجل العمر، لأراك تأتي إلى فيئي، وتستريح في ظله وتغفو!
الآن.. لم أعد أفكر في الأمومة.. ربما لأنني أصب أمومتي وأمنحها لابنة أخي.. ربما لأنني ما عدت ألعب بالعرائس، وأرى ابنة أخي تلاعبها وتأخذها مني، وأمي ترمقني بنظرة مضطجعة، وتأمرني أن أدع ((غالية))- ابنة أخي- تلعب!
ولكني أحياناً اكتشف أمومتي الغافية الهاجعة تحت رماد السنين.. وأتمنى أن يكون لي طفلة، أربيها وأعلمها، وأضمها وأحبها وتحبني.. ذلك حب مؤكد لا يحتاج إلى دليل.. أن أعطيها كل ما حرمت منه، وكل ما تمنيته!
وعندما أعود لا أفكر فيك.. أتساءل عن هذا الذي لم أفهمه بعد..
فالذي لا أفهمه هو أن تنتهي علاقاتي بالفشل.. حتى علاقتي بابنة أخي الصغيرة، بت أخاف عليها من هذا الفشل!
لا بد أنني كنت مسؤولة عن هذا الفشل!
اكتشفت أنني كنت أنانية في بعض الأحيان، وأنني كنت ((مهووسة)) بشيء اسمه الكرامة والكبرياء.. حتى عشت يوماً، ضحيت فيه بكل شيء، وتنازلت عن أنانيتي، وعن كرامتي وكبريائي.. في سبيل من لا يستحق!
* * *
لقد رويت لك بداية المرحلة التي فصلتني عن بيت أبي، وعن أمي لفترة.. في ذلك اليوم أمام البحر..
يومها قال لي أبي: إنني كبرت وصرت ((عروسة)) وجاء عريس لخطبتي!
وفوجئت أن من سيكون رفيق رحلة العمر هو ابن عمي سعيد.. اسمه ((حسين)) رضيت به، لأن والدي قد اختاره، وكنت في مرحلة من العمر لا تؤهلني لأحسن الاختيار، أو أكتشف شخصية من سيشاركني العمر كله، ولا حتى أرفضه لو فكرت في ذلك!
فرحت.. لأني سأستقل، وسيكون لي بيت هو مملكتي الخاصة، وسيكون لي أطفال، ولكني لن أكون ضعيفة مثل أمي.. من البداية سأدع ((حسين)) يتعود على أسلوبي وطريقتي في الحياة!
كنت ما زلت طفلة مدللة رغم ابتعاد أبي وانشغاله بأعماله وبمركزه.. ورغم قسوة أمي أحياناً عليّ لتعوض عن أفعال أبي بشخصيتها، ولكني كنت أحبها وملتصقة بها جداً!
كنت أحلم في هذا السن من المراهقة بالرجل الفارس الذي يبلور شخصيتي ويمنحني عالماً مستقلاً، و يضمني إليه ويحنو عليّ!
ونعمت بفرح لا يوصف.. أقام أبي الزينات، وكانت سعادته تلون وجهه وتطغى على صرامته المعتادة، فلم أشاهد أبي يضحك مثلما كان يضحك ليلة زفافي.
ورأيت عشي.. أنا العصفورة الرقيقة الزاهية.. ورأيت وجه ((حسين)) لأول مرة بشكل مختلف عن أن يكون ابن عمي.. فقط كنت أريد أن ألوذ إليه ليحميني، ويسكب الحب في جوانحي.
وسافرنا في رحلة شهر العسل.. ولكني اكتشفت أنني غريبة مع غريب.. فهو يعيش في عالم آخر يختلف عن أحلامي وتصوراتي، وطبائعه تختلف عن طبائعي.. وعاطفته رهن العرض والطلب.. يضعها في ثلاجة متى أراد، ويخرجها متى احتاج إلى استخدامها.
ولكن حياتنا معاً استمرت بطيئة مملة.. حتى انتهى عام كامل على هذا الرباط.. كنت في خلاله اقنع نفسي وأصبِّرها، وأعدها بالمستقبل.. ذلك أن صناعة التفاهم تأخذ وقتاً.
ثم لم أعد احتمل.. فحاولت أن ((أتعود)) عليه، فلا بأس إذا وصلت به في نفسي إلى قناعة التعود.. لحظتها سأكون منشغلة بأمومتي للطفل أو الطفلة.
وحتى هذه الأمنية لم أنلها.. دفعته كثيراً أن يذهب إلى الطبيب ليعالج نفسه، وكان يكذب عليّ عندما يدعي ذهابه، وينكر الطبيب ذلك.
ومر عام آخر.. دون أن أحظى بنعمة التعود.. صرت لا أطيقه أبداً لسبب هام، وهو أنه كان يبتعد عني بروحه، وحتى بجسده.. كنت أشعر أنني وحيدة، وأن عالمه تحت الأرض.. لا يرى السماء ولا النجوم ولا القمر ولا الهواء.. كان يختنق باهتماماته الخاصة!
كم حاولت الاستنجاد به.. كم سألته، بل ورجوته أن يكون قريباً أكثر!
سألته أن يحميني من نفسي.. فلم أكن أطالب بأكثر من حقي.. حقي من الرعاية والاهتمام!
ـ هل تحبني يا ((حسين))؟!
كنت أسأله صادقة وضائعة، فكان يجيبني بابتسامة باردة:
ـ إنني أحبك.. ألست زوجتي؟!
ـ وأرد عليه: أريدك أن تحبني أكثر.. ليس لأنني زوجتك فقط، بل لأنني الأنثى التي ترتاح بجانبها وتعطيك وترويك وتملأ حياتك!
ـ و يسخر من كلماتي قائلاً: لا أفهم.. أنت إنسانة شاعرية!
وتحملت كل شيء.. حتى عجزه تحملته أيضاً، وتصور حياة امرأة مع رجل عاجز!
تحملت ثوراته بعد كل مرة يفشل فيها أن يكون رجلاً.. تحملت ما كنت أشعر به كأنثى من قرف ومهانة.
لم أكن أريد غير أن يحبني لأحبه..
ما كنت أريد غير حبه لي واهتمامه وحنانه.. تمنيت أن يغار علي.. أن يسمعني كلمة حلوة، دون أن يكون هناك ما يريده بعدها!
تمنيت لو مرة قبَّلني أو ضمني إليه.. لو مرة خرج معي أو رقص أو قضى السهرة معي في البيت.. فنتعشى معاً، ونتحدث، ونشاهد التلفزيون!
كان يهرب من البيت، ولا يطيق البقاء فيه.
حاولت أن أوجد له جواً يحبه.. تقربت من أصدقائه، ودعوت عوائلهم إلى منزلي.. ووجدت أنني لم أفعل شيئاً يحركه أو يغيره!
احتملت أن أعيش وحدي أكثر من عام.. آكل وحدي، وأخرج وحدي، وأشتري لوازم البيت وحدي، وأذهب للطبيب وحدي، وكنت مريضة وحدي.. حتى عندما يمارس فشله معي أظل وحدي.. أتفرج على نفسي، وأشاهد ما يحدث، وأمثل الرضا ما استطعت!
حتى السفر.. كنت فيه وحدي، وتمنيت لو اعترض، وكثيراً ما نبهته إلى أن ذلك قد يثير أسئلة الآخرين، ويفسح أبواب الأمل لضعاف النفس!
ولكنه لم يحرك ساكناً.. كأنه تمثال من الشمع، حتى كانت تلك الليلة!
* * *
ـ 2 ـ
ذلك المساء.. كان هو الليلة الثالثة من وصولنا باريس..
أخذني معه في هذه الرحلة، لأنني حاصرته وأثقلت عليه بالإلحاح.. قلت له:
ـ إن صديقك وشريكك في العمل: ((صالح)) سيأخذ معه زوجته، فدعني أذهب معك، وسأكون أنا وهي معاً، وحتى لا تشغله عن إنجاز أعمالكما، فقد كان يحبها ويراعي مشاعرها، ويخاف أن يتركها وحدها!
بعد إلحاح.. وافق أن أرافقه في هذه الرحلة..
وفي تلك الليلة دعانا صديقه ((صالح)) إلى العشاء في مطعم فاخر في باريس..
كنا مجموعة كبيرة تتكون من أربعة رجال وزوجاتهم.. وامتدت السهرة في ذلك المطعم الذي يقدم برنامجاً منوعاً وحافلاً!
واكتشفت أن ((حسين)) معي بجسده، ولكنه منشغل بالكلام مع صديقه ((صالح)) والرجلان الآخران.. كانا يتابعان البرنامج حيناً، ويتحدثان معنا حيناً آخر.. ولكني لاحظت اهتمام واحد منهما بالكلام معي.. ضقت وشعرت بالاختناق. حدثت صديقتي زوجة ((صالح)) فقالت: ليلة.. وتعدي، احتملي!
وفوجئت أن ((حسين)) يستأذن مع صديقه ((صالح)) ليغيبا فترة من الوقت.. قلت له:
ـ إلى أين؟!
ـ قال: لن نخرج من هنا.. فقط هناك في أقصى المكان رجل مهم، سنتحدث معه لأنه سيفيدنا في صفقة كبيرة!
ـ قلت: صفقة في ليل باريس؟!
ـ قال:. بلا نكد.. اتفرجي على البرنامج.. ألا تعلمين أن أهم الصفقات التجارية تعقد في الليل؟!
وكانت مضايقات الرجل الثالث قد تطورت، وتلميحاته اتضحت.. حتى بلغ بي القهر ونفاد الصبر درجة ضقت فيها بملاحقة هذا الرجل عندما ألغى وجود زوجته، وكانت ضعيفة الشخصية أمامه، وقرب كرسيه بجانبي. وابتدأ الخطوة العملية!
وبادرته بصفعة على وجهه.. تلفت لصداها الكثير.. ونهضت متوترة، وقامت معي صديقتي زوجة ((صالح))!
فما الذي تعتقد حدوثه بعد أن عدت إلى البيت.. وأنا أبكي من الغيظ والقهر؟!
* * *
جاء حسين يهدر ويتهدد: لماذا أترك السهرة، ولماذا أتصرف بهذا الجنون!!
شكوت أمر صديقه إليه.. فماذا تظنه فعل؟!
ـ قال لي: فلسفتك وأفكارك اللي تطلعي بها، وقراءاتك.. كلها انعكس تأثيرها على عقلك.. الراجل ده صديقي وأعرفه جيداً، ومن غير الممكن أن يكون تصرفه بسوء نية، ولكنه الوهم في نفسك!
ـ قلت له من خلال دموعي: أنت نذل.. ولا تغار عليّ!
ـ قال: ما أغار عليكي.. لأني واثق من أخلاقك!
ـ قلت: أما بارد بشكل!
ولم أرد سماع المزيد الذي لا أحتمله.. فتركت له المكان، وقد قررت السفر، والعودة إلى البلد.
وفوجئت بموافقته.. فهو لا يمانع، ورحب بفكرتي، لأني أحتاج إلى هدوء مع نفسي لترتاح أعصابي!
* * *
وعندما عدت إلى البلد.. جمعت ملابسي وحقائبي، وذهبت إلى بيت أمي!
كانت أمي تعيش وحدها في هذا البيت الكبير، بعد أن توفي ((أبي)).. إنها امرأة صابرة، وهي تعيش على الذكرى، واستغرقت في التعبد وامتلكت شفافية الروح.. فطرحت كل أشياء الحياة وراءها، واتجهت إلى هذا الصمت.. فكأن العالم خارجها قوقعة.. هي في داخلها تكون عالماً وحدها يخصها!
ولم تتعجب أمي، أو تغضب..
وجدتها هادئة في استقبالها لي. وقالت لي: اختاري لنفسك غرفة تليق بك، وأثثيها كما تريدين.. فقد ترك لنا والدك الستر والاستغناء عن احتياج اللئام!
ـ قلت لأمي: لكنك لم تطلبي مني أن أتعقل، وأن أعود إلى بيت زوجي؟!
ـ قالت: لأني أعرفك عاقلة، وأعرف أنك احتملت الكثير، وفاض بك الآن.
وأنا أعرف ((حسين)) بكل عيوبه وجنونه، ولكني يومها لم أقدر أن اعترض في وجه أبيك، فهو ابن أخيه!
ـ قلت: وهل تعرفين كل شيء عانيته معه، برغم أنني لم أقص عليك إلا التوافه؟!
ـ قالت: عرفت ذلك من توترك، ومن عصبيتك، ومن حزنك الذي يفيض من عينيك!
ـ قلت: أنت عظيمة يا أمي.. اكتشفت فيك عالمة نفسية!
ـ قالت مبتسمة: أيوه.. اضحكي وعودي إلى طبيعتك. أعرف أن التجربة قاسية، ولكن العبث بمشاعر الناس أقسى!
ومرت عدة شهور.. لم يكن بيننا اتصال سوى مرة واحدة.. عندما عاد من باريس بعد عشرة أيام من عودتي بدونه.. ذهب إلى البيت فلم يجدني، واكتشف أنني جمعت ملابسي، فاتصل بالهاتف يطرح سؤالاً بارداً لا مبالياً:
ـ هل قررت البقاء بجانب أمك!
ـ قلت: هذا أفضل!
ولم أنم في تلك الليلة التي عاد فيها وحادثني بالهاتف.. شعرت أنني هنت عليه، وأنه لا يحمل في قلبه ذرة حب.
تذكرت رحلة باريس الأخيرة وكيف كنا معاً كغريبين غيرمتجانسين في غرفة واحدة بالفندق.
كان يصحو في الواحدة ظهراً، ويشرب الشاي ويخرج ليتركني وحدي حتى بعد الساعة السابعة مساء، ثم يصحبني للعشاء في مطعم خارجي، أو في مطعم الفندق ويمتد العشاء إلى حوالي الساعة الحادية عشرة.. فيعيدني إلى الغرفة ويستأذن في الذهاب لأصدقائه لإتمام مناقشة أعماله التي جاء من أجلها!
وكنت أعرف تلك الأعمال وأتغاضى لئلا تحدث المصادمة كل ليلة.
في الظهيرة عندما يصحو من النوم.. يحكي لي على فنجان الشاي عن جانب من أعمال كثيرة لا أصدق أكثرها، ولكنه يحب الكلام عن نفسه وعن ذكائه، وكيف ضحك على الآخرين!
كنت أصغي له لأرضي غروره.. ولأن من مهامي أن أجعله يحس بالراحة، حتى ولو عذبني!
ولكني لم أعد أحتمل نزواته، وبرودة مشاعره المهينة لدفء نفسي وأحلامي..
فهل عانيت من برودة المشاعر أمام إنسان من المفروض أن يكون نصفك الآخر؟!
إن أقسى حياة لا يطيقها بشر.. هي في هذه اللحظة التي يكتشف فيها الإنسان برودة المشاعر!
* * *
واعتدت على حياتي الجديدة بجانب أمي..
و ((حسين)).. لعله ارتاح في الوضع الجديد الذي اخترته له، بابتعادي عن حياته.. أو أنه لم يعد يدري ما الذي يريد.. فهو يسافر دائماً ويجد اللحظة التي يسهر فيها ويغير جلده، وهو منشغل بأعماله وصفقاته.
وأردت أن أحدد معالم حياتي أكثر.. لأمتلك حريتي على الأقل، فلا أشعر أن ((حسين)) باق كالسيف المسلط على مقدراتي وعمري.. فاستشرت أمي، ووافقت. بعثت إلى ((حسين)) برسالة مع أخي.. أطلب فيها الطلاق!
وكانت إجابته غريبة.. لقد طوى رسالتي ووضعها في جيبه، والتفت إلى أخي يقول له:
ـ الآن.. أنا مشغول، وحينما أجد فراغاً، أعطيها الجواب!!
وبقيت انتظر طوال أربعة أعوام!!
ـ قالت أمي: لعله يريدك!
ـ قلت: بل ليذلني أكثر.
ولم تفلح كل الوسائط التي استخدمتها.. لعله كان يريدني أن أصاب باليأس، فأعود إلى حياته مرغمة، راضية بكل عيوبها.
ولم أذعن.. وتماديت أفكر أن أحيا حياتي كما أريد!
وفي ليلة العيد من العام الماضي.. كنت وحدي في عربتي. فكرت فيك، وتصورت أنني قد أخرج من حالة الحزن والكآبة التي أعيشها بسبب غيابك ومأساة عمري!
لا أدري.. لماذا قررت لحظتها أن كل شيء هو عبث، وأنني وكل البشر نعيش أكذوبة كبيرة، وخدعة مطلية اسمها: الحياة.. الحب!
وذهبت إلى بيت أخي.. كان البيت يعج بالأصدقاء. ورأيت هناك ((صالح)) صديق زوجي..
سألني عن الصحة وحياتي الحاضرة.. سألته عن أخباره وزوجته التي كان يحبها ولا يرفض لها طلباً!
قص عليّ باختصار أنهما اختلفا بعد ذلك الوفاق، ويفكر جدياً في الطلاق!
طلبت منه أن لا يتسرع، وأن يفكر جيداً!
ـ ما هي أخبار ((حسين)) وأين هو؟!
سألني فجأة.. فنظرت إليه بعينين باردتين وقلت:
ـ لا أدري عن أخباره شيئاً.
ـ قال: ألم ينته الخلاف بينكما إلى قرار؟!
ـ قلت: لم يعد هناك خلاف.. بالنسبة لي انتهى كل شيء.. حتى التفكير فيه!
لقد سألني ((صالح)) سؤال مجاملة، ولعله يعرف خلفيات عن صديقه لا أعرفها. وأخذتني لحظة تأمل بعيد، فجاءني صوت ((صالح)) يسأل:
ـ ماذا يشغلك؟!
ـ قلت: خواطر حالمة.. على فكرة، ما هو رأيك بي؟!
فاجأه سؤالي، وحاول أن يتمالك نفسه، وقال:
ـ أنت.. أنت سيدة تفرض احترامها على الآخرين!
ـ قلت: لأنني جميلة؟!
ـ قال: الجمال ليس كل شيء، وليس هو مفتاح تقييم الإنسان!
ـ قلت: ربما.. ولكن الرجل يبحث في المرأة عن الجمال كنظرة أولى!!
ـ قال: وما نفع الجمال.. إذا كان الداخل قبيحاً؟!
ـ قلت: إن زوجتك جميلة، فهل كان اختيارك لها من أجل جمالها؟!
ـ قال: لا أظن أن التفكير في الحياة الزوجية يتوقف فقط على الشكل.. بل المضمون مهم!
ـ قاطعته: أنت تغالط نفسك، فقد لا يكون جمالها مهماً بعد أن تعاشرها وتجد فيها ما ترضاه من خلق وعقل وحنان وتفهم.. لكن الشكل- في أول الأمر- مهم!
ـ قال: ربما ما تقولينه صحيح!
وقمت من مكاني.. لأنضم إلى مجموعة من سيدات البيت، واستمع إلى اهتماماتهم من خلال حوارهم.. فاكتشفت أن تلك الاهتمامات كانت تنحصر في زياراتهن لأوروبا، وآخر خطوط الموضة والعطر الجديد، حتى بلغ بهن الحديث إلى رواية آخر نكتة!!
* * *
ـ 3 ـ
في هذه السهرة ((الحريمية))! حاولت أن أحول دفة الحديث من خطوط الموضة والعطر الجديد، وآخر نكتة.. إلى حوار، أردت به أن أريح عقلي قليلاً من الهواجس، وأريح عواطفي به من الضغوط النفسية التي أطبقت على عمري كله، منذ عرفت ((حسين)) وتزوجته، وشقيت بالحياة معه!
والتفت إلى صديقة لي من أفراد هذه ((الشلة)).. وقد عرفت عنها حبها للشعر، فهي لا تترك ديوان شعر تراه أمامها في مكتبة، أو حتى في بيت تزوره إلا وتأخذه، وكانت تقول لنا ضاحكة:
ـ أنا حرامية شعر.. أي ديوان شعر أراه أمامي، إن لم أستطع أن أشتريه فلا بد أن أسرقه، وهذه هي السرقة الوحيدة التي أجيدها وأتلذذ بها!
وهي بجانب ((ميزة)) سرقة دواوين الشعر.. تحاول أيضاً أن تكتب الشعر. وقد أسمعتني نماذج من شعرها جذبت اهتمامي، وأعجبني بعض ما تكتبه، وحاولت أن أدفعها لتنشره، فكانت ترفض وتقول:
ـ إنني لا أكتب إلا لنفسي!
ـ قلت لها: لنفسك فقط.. أم هناك طرف آخر يقرؤه؟!
ـ قالت: من الصعب أن نعرض هذا البوح لأي إنسان.. فإذا كان هناك من يستحقه، فلا مانع أن يقرأه!
وأردت أن استفزها في هذه السهرة.. ونجحت فعلاً، وأنا أقول لها:
ـ هل تعتقدين أن ما تكتبينه مما تسمينه شعراً، يستحق فعلاً أن تزحمي به حقيبة يدك، وتزحمي به رؤوسنا أيضاً؟!
ـ قالت: ماذا تقصدين؟!
ـ قلت: أبداً.. أقصد، أنه لا شيء يستحق فعلاً أن يقال!
وقاطعتني صديقة أخرى، كانت تتابع حوارنا، والتفت إلى صديقتي الشاعرة قائلة:
ـ لا عليك.. إنها تحب التهريج. يعني.. هل أفلحت هي في العزف على البيانو؟!
ـ قالت الشاعرة: دعيها تقول رأيها.. إنني لا أضيق بالنقد.. على الأقل نعطيها فرصة ل ((تفضفض)) عن نفسها!
ضحكت ((سعيدة)).. فقد نجحت في استفزازها، واستطردت أقول:
ـ لعلك تريدين رأيي وليس مشاعري.. لأنني لو أفصحت عن ما في داخلي.. فقد تغضبين مني!
ـ قالت متوترة: وعلى إيه.. إنني لا أحاول أن أسرق قصائد الآخرين!
ـ قلت: ماذا تقصدين هذه المرة؟!
ـ قالت: لا شيء.. مجرد نكتة!
كنت أتمنى لو لم يتطور هذا الحوار.. فيتحول من المزاح إلى الغمز واللمز!
كنت أود أن أفهمها.. أنني لست التي تحاول سرقة أزواج الأخريات، كما ادعت مرة وحكت للصديقات عن خوفها على زوجها مني! زوجها الذي لا يرى الدنيا إلا من خلال عينيها، ولا يسمع إلا بأذنيها، ولا يتكلم إلا ليؤكد كل ما تقوله، وتعليقه على كلماتها يكون دائماً بعبارة واحدة هي: فعلاً!
رجل كهذا.. لا يغريني، حتى أحاول أن أستميله وأخطفه منها.. ولقد أنقذها من ردي صوت أخي وهو يدعونا إلى العشاء!
ووجدت ((صالح)) بجواري على المائدة، كأنه ينتظرني، أو قصد أن يجلس على هذا المقعد بجانبي.. ويبدو أن الرجل قد أصابه مس في داخله، أو أن مزاحي بالكلام معه في بداية السهرة عن جمالي وعن إعجابي به، قد صعّد المشاعر عنده وأججها، ولعله صدّق لحظة الصدمة التي أردتها لعواطفه نحو زوجته.. فأخذ يتحدث عن نفسه، وعن نجاح أعماله، وكأنه رشاش يطلق عشرات الطلقات في لحظة.. بينما تشاغلت عن كلامه بالأكل، وبالتلفت يمنة ويسرة.. وأحسست بالغثيان من حديثه.. لقد تبدل الرجل أمامي من إنسان رزين وعاقل.. إلى طفل مجنون شقي، وأردت أن أوقفه عند حده، فالتفت نحوه بسخرية أقول:
ـ أرجوك.. إنني أحس بالصدمة من كلامك، كأنك أسطوانة مشروخة.. كل وأنت ساكت!
ـ قال: إيه.. مالك، أنت أعصابك تعبانة؟!
ـ قلت: أحسن حاجة.. أقوم وأرتاح منك!
* * *
خرجت إلى الشرفة، أحس بالاختناق وأشعلت سيجارة. وشرد فكري بعيداً! ترى.. أين أنت الآن، ولماذا لم تكن أنت الذي بجانبي على المائدة، بدلاً من هذا الثرثار اللجوج؟!
تخيلتك في بيتك.. تجلس أمام التليفزيون وتدخن ((البايب))!
تخيلتك بجانبي.. تنطلق في الكلام عندما كنت مبسوطاً، وأحب أنا كلامك.. كأنك مصور بارع تنقل عشرات المواقف وتطلعني عليها، وتشرحها وتفلسفها!
وشعرت باقتراب أخي مني.. وقف بجانبي في الشرفة، وقال:
ـ بتفكر في مين يا قمر؟!
تنبهت له، ابتسمت.. أجبت:
ـ يعني في مين.. أهي الدنيا زحمة!
ـ قال: لا تنسي موعدنا في بداية الأسبوع!
ـ قلت: أي موعد.. فاكرني صديقتك؟!
ـ قال: بلاش مراوغة.. موعدنا مع ((حسين)) هنا في البيت.. والاّ نسيتي.. اللي واخد عقلك..
ـ قلت: لا.. لم أنس، ولكني لا أشعر بأي استعداد لهذا اللقاء، وأعتقد أنه لا داعي له.. هي كلمة واحدة: يطلقني وبس!
ـ قال: لا يمكن أن نحل مشاكلنا بالعافية.. العنف لا يؤدي إلى نتيجة، وهذا واحد صلب وعنيد.
ـ قلت: لا يعنيني.. أنا أرفض أن عيني تلتقي بعينه.. يطلّق، ما يطلّق، لم يعد يهمني.. طز!
وتركت أخي في مكانه، وخرجت من الشرفة إلى الداخل.. أحسست باختناق مضاعف!
ولحق بي أخي.. وهو يقول:
ـ على فين ماشية؟!
ـ قلت: إلى البيت.. عند أمي.
* * *
ـ 4 ـ
رن جرس الهاتف في غرفتي.. وعندما رفعت السماعة، كانت المفاجأة!؟
بعد كل هذه الشهور الطويلة.. لا، بل بعد عامين.. عاد ليسأل عني!
إنه ((نزار)) ذلك الشاب الذي حدثتك عنه في البداية حديثاً عابراً.. فقد عرفته في فترة عصيبة، كنت فيها أعاني من عذاب الإنفصال الروحي والجسدي عن ((حسين)) الذي تزوجني وحولني إلى قطعة أثاث في بيته.. يتركها متى شاء، ويعود إليها بعد أن يغطيها التراب والنسيان.
ظهر ((نزار)) في حياتي.. ووجدت فيه الطموح، والتهذيب، والشخصية، والمرح..
كنا نقرأ معاً.. نسمع الأغنيات معاً.. نتحدث في الهاتف ساعات.. نخرج للبحر، وكانت له محاولات فنية، فهو يعزف على العود، ويدندن وأسمعه وانتقده. تستطيع أن تقول إنني ارتحت إليه، ثم تطور الارتياح إلى شعور آخر.. تصاعد في نفسي، خلت أنني أحببته، فلما اكتشف ذلك.. أراد أن يستغل هذا التأجج في داخلي من فراغ العاطفة الذي كنت أعيشه وأعاني منه.
وامتدت العلاقة عاماً كاملاً.. كان في خلاله يضرب وتداً لخيمته حولي، من أجل أن يحتويني كأنثى يجد عندها التسلية، والحب المؤقت.. اكتشفت أنه كان يريد شيئاً يأخذه ويمضي!
وفي لحظات التأجج العاطفي عندي.. كنت أتذكر عبارة تشرشل أثناء الحرب، عندما قالوا له: لقد سقطت سنغافورة، فأجاب: فلتسقط غيرها!
والفرق بيني وبين تشرشل- لا تضحك!- إنه برؤيته وثقته في نفسه، لم يكن يحفل بسقوط سنغافورة، لأنه سيعالج انكساره في الحرب، ويقف على قدميه من جديد ويستعيد كل شيء!
بينما حياتي سقطت بالحرب التي أعلنها علي زوجي ((حسين)) فكأن حياتي قد أصابها التدمير.. فما قيمة لأي شيء بعد ذلك؟!
هكذا كان تصوري، وما أوردني إليه يأسي وألمي.. فوجدت عند ((نزار)) ما يعوض عن الهزيمة.. أعطيته بحب، ولكني وجدت أنه بدأ يتغير!
ذات ليلة.. أيقظته بعد منتصف الليل.. كنت أصرخ من الوحدة والأحزان والفراغ والقلق..
ذهبت إليه.. سقطت على صدره حتى طلع الفجر.. كأنني كنت أبحث عن مخدر فيه.. كأنه كان بالنسبة لي حقنة مورفين.. آخذها وأسترخي وأهدأ!
حتى طلعت أنت كفجر جديد.. يختلف عن كل النهارات والشروق!
أحببتك بوجداني قبل أن أحبك بأنوثتي.. وجدت عندك ما يروي عقلي، ويفتح شرانق نفسي.
أنت أيضاً كل عذابي.. لأنك زئبقي.. أجدك ولا أجدك، كلما أردت أن أعطيك أراك تهرب بعيداً.. وأنا أريد أن أعطيك لتعطيني.. كم أنت غامر وعميق!
كان فجرك الذي طلع في عمري.. هو حريتي وانفكاكي من سجن وأسر ((نزار)).. أصبح شخصاً عادياً بعد أن تكشفت لي نواياه، وتضخمت أنانيته.
ولكن.. لماذا يعود هذا المساء ويتصل بهاتفي؟!
لحظتها.. لم أشعر بشيء.. لا الضيق، ولا الفرحة.. لا الحقد ولا التشفي.. كل ما أحسسته كان هو الدهشة!
ـ قال: مساء الخير.
ـ أجبت: مساء النور.. أهلاً!
ـ قال: كيف حالك.. أين أنت طوال هذا العمر؟!
ـ أجبت: لم أكن أحسن حالاً في أي يوم مضى.. مثلي الآن. أما سؤالك الآخر، فأنا موجودة في مكان ما على هذه الأرض، وأنت لا تجهله!
ـ قال: ماذا تفعلين الآن.. هل كنت نائمة؟!
ـ أجبت: لم أنم بعد.. إنني أجهز للعشاء.
ـ قال ساخراً: عشاء أم فطار.. أتدرين كم الساعة الآن؟!
ـ أجبت: لا تهمني الساعة، ولا يعنيني الوقت.. المهم أنني جائعة الآن، وعندما يجوع الإنسان يأكل.. والاّ إيه؟!
ـ قال: وعندما لا يجد الإنسان الأكل الذي يحبه؟!
ـ أجبت: يفعل مثلي.. ينام!
ـ قال: أريد أن أراك.. اشتقت إليك!
........
ـ قال: ألم تشتاقي إليَّ.. ولماذا ما عدت تسألين عني؟!
ـ أجبت: كيف الجو عندكم؟!
ـ قال: حقيقة.. أين أنت، هل ما زلت تعيشين؟!
ـ أجبت: غريبة.. هل بعد كل ما فعلته، وما ظهر من حقيقتك، تتوقع أن أعاود الاتصال بك؟
ـ قال: ما يفعله أي رجل!
ـ أجبت: أنت مغرور.. وإن كنت تعتقد أن ما قلته وما فعلته كان طبيعياً.. فلماذا تداريت واختفيت؟!
ـ قال: سألت واتصلت، ولكني أيضاً مشغول لشوشتي.. أنا تعبان!
ـ أجبت: ليعينك الله على تعبك ومشاغلك!
ـ قال: أريد أن أهرب.. أن أسافر إلى أي مكان.. أن لا أعود فأحس بالزمن أو بالمكان.. ولكن كيف، هل أجد عندك حلاً؟
ـ أجبت: حلي لا يعجبك.
ـ قال: قولي ما عندكِ، وسأتقبله.
ـ أجبت: كان زمان.. لم يعد عندي شيء الآن لك، فدعني لعشائي.
ـ قال: ترغبين في إنهاء المحادثة.. وأنت التي تعلقت بي يوماً ما؟!
ـ أجبت: ألم أقل إنك مغرور.. لعلك ما زلت نائماً وتحلم؟
ـ قال: فعلاً.. كنت نائماً.
ـ أجبت: فهل هو الكابوس الذي أيقظك؟!
ـ قال: لعلّه ذلك.
ـ أجبت: إذن.. فقد استجيبت دعوتي عليك.
ـ قال: أرجوك.. يكفي ما أعانيه من الأرق والكوابيس والقلق.
ـ أجبت: هل أثرتك إلى هذا الحد؟ لا تغضب، فما عدت أدعو لك ولا عليك!
ـ قال: أتمنى أن تغني لي الآن.. كطفل يريد أن ينام بين ذراعي أمه!
ـ أجبت: تبحث عن النغم.. أو عن الكلام؟!
ـ قال: الموسيقى تريح، وصوتك موسيقى!
ـ أجبت: فكرة جيدة.. أن أخرج على الناس مطربة، وأهي شغلانة، والمغنية الأيام دي بتاخد في الفرح أكثر من ثلاثين ألف في الليلة.
ـ قال: شغله مربحة!
ـ أجبت: كل شيء يحتمل الربح والخسارة.. واعتقد أنني لو غنيت لك فلا بد أن أخسر.
ـ قال: متى سأراك؟!
ـ أجبت: اسأل أهل الفلك!
واستمر يثرثر.. وأنا أصغي تارة، وتارة أخرى ألمزه، حتى تخيلت أنه تحول إلى اسفنجة دبابيس!
* * *
وانتهت المحادثة.. وشرد فكري طويلاً!
أيام بعيدة، وذكريات مؤلمة.. أعماني فيها الوهم، وسرقني الحب من العقل والرؤية!
كنت أنظر إليه.. كأنه الرجل الوحيد على الأرض.. رجلي وحبيبي!
لم أسأل نفسي يومها، ولم أَسأَله عن مكاني لديه.. تعاميت عن الحقيقة بإرادتي، وارتضيت أن أحيا بالوهم.
ترى.. ما الذي كان.. ما الذي ربطني به؟!
لعله الفراغ العاطفي في تلك الفترة.. والآلام التي رماني ((حسين)) في دوامتها.. وركضي اللاهث بحثاً عن إنسان ينقذني من الضياع، ومن الفراغ، ومن الحزن!
وأطل عليّ فجر اليوم الثاني.. قمت مبكرة على غير عادتي، وانتظرت موعد حضورك إلى مكتبك. كان عندي إحساس أنك ستمحو آثار الليلة الماضية.. أحس أنك تتمتع بقدر كبير من التلباثية التي تدفعك للإحساس بأنني في خطر، أو في ضيق!
وبالفعل.. جاءني صوتك، فانتهى القلق والعذاب.
وعاد الرفيق الدائم لحياتي: الانتظار.. انتظارك!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2076  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 60 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج