شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
البيئة والثقافة وجران العود
فإذا أردنا أن نتعرف بيئة (جران العود) كان لزاماً علينا أن نقسم الحديث إلى شطرين:
أولهمـا: عن البيئة الطبيعية.
وثانيهما: عن البيئة الاجتماعية.
بيئته الطبيعية:
وللحديث عن (البيئة الطبيعية) نوجه نظرتنا الأولى إلى الإقليم الجغرافي، نلحظ خواصه ومميزاته، وتأثير هذه البواعث الكونية في النفسية البشرية عامة، والنفسية الشاعـرة خاصـة، ونفسية شاعرنا على الأخص.
يجب أن نوجه نظرتنا الأولى، إلى هذه البلاد العربية بصحاريها وجبالها ورمالها ووديانها وما إلى ذلك، مقرنين مع كل تأثيره في مجرى الحياة العربية في الجزيرة، من الآمال والأماني والاتجاهات الفكرية، والميول، والرغبات والعناصر الخلقية المتكونة من هذا الوجود.
فهذا الإقليم تكثر فيه الجبال العالية، والطرق الوعرة، والالتواءات فهي تحبب الاستطلاع إلى النفوس وتشعرها بالجهل ولكن هذه الجبال غير مكسوة بالثلوج أو النباتات الشامخة، وهذه الطرق الوعرة والالتواءات، غير متجددة المناظر أو مسترعية للأنظار. فهي ساذجة بسيطة لا تغري، ثم هي على نمط واحد، لا جديد فيه تقريباً، وذلك -مع ما قلنا- يخفف من هذه الرغبة الاستطلاعية، ويعوق استمرار التجوال عند ما لا تحمل عليه بواعث أخرى.
وهذا الإقليم هادئ مسالم، أعني لا أعاصير ولا عواصف ولا تقلبات شديدة، فهو لا يبعث على القلق في شيء لاستفزاز كوامن القوى النفسية. من الاحتياط للطوارئ، أو الاحتيال على الحوادث، ولكنه مع ذلك وعر المسالك كما قلنا، أقرب إلى الجدب في كل نواحيه، منه إلى شيء من الخصوبة، فهو من هذه الناحية يبعث على الشجاعة والثبات، وقد كان ذلك كذلك. فالعربي شجاع ثابت. وهو ذكي، ولكنه في الأغلب الكثير - محدود الحيلة. ولذا كان العربي مجيداً حين يفتخر، لأنه كان يشعر في أعماق نفسه بهذه الشجاعة وهذا الثبات.
وقلنا: إن هذا الإقليم وعر الطرق كثير الالتواءات. وأن هذا كله يولد حب الاستطلاع، ولكن وجود هذه الدوافع على وتيرة واحدة، في كثير من الأحايين، يخفف هذه الرغبة ويعوق استمرارها، ونضيف إلى جانب ذلك أن مَحلْ هذا الإقليم، فهو قاحل تقريباً، وتقلب الصيف والشتاء عليه (وإن كانا لا يدعوان إلى حب الاستطلاع كثيراً، فطبيعة الأرض واحدة غالباً وجوها يكاد يكون على وتيرة واحدة في أكثر فصول السنة) ولكنهما يدفعان إلى الترحال، وتطلب الحياة اللينة، والسعي في سبيل اكتساب الرزق.
فطبيعة العربي، استطلاعية بعض الشيء، تحب التجوال والترحل. ولذا ما لبث العربي -بعد الفتح الإسلامي- حتى شرَّق في الأرض وغرَّب. ولكنه ما لبث كذلك أن أقام واستوطن في أنحاء هذه البلاد الجديدة. وهذه الرغبة تدعو إلى التقليد. وقد أخذ العربي بعد الفتح، يقلد حضارات الفرس واليونان. وهو ذَكيّ لأن هذا الفضاء الواسع المترامي الأطراف وسَعْيَه وراء الرزق، جعلاه يقظاً فطناً إلى ما يدور حوله من الأمر، وهذا الذكاء ساعد العربي في تنمية هاتين الحضارتين: الفارسية، واليونانية. وصقلها صقلاً جديداً، وهو حر يشعر دائماً بالعزة والأنفة، وبقبضه على زمام نفسه بنفسه. فهو يحب الاستقلال في كل شيء، لأنه ربي عليه، ولم يكن -قط من الدهر- تحت غلبة الفرس أو اليونان أو الرومان. حكاماً حتى حين تكون لهم صلة بالحكام فألف العزة وأنف الخضوع والمسكنة، وقد كان. فما أن نمّى العربي هذه الحضارة، وصقلها صقلاً جديداً، حتى جعل عليها طابعه الخاص وروحه العربية.
والعربي شجاع ثابت، ولكنه في الأغلب الكثير، محدود الحيلة، ساذج التدابير، وقد كان كذلك. فشجاعة العربي أبت عليه الهزيمة إلا إذا احتيل عليه. وقد سبق أن قلنا: إنه ذكي وهو محب للاستطلاع، وأن هذين يدعوان إلى التقليد. فهو ما لبث هنا، أن قلد سنن الروم والفرس في الحروب، فجمع الشجاعة والثبات، إلى الحيلة والتدابير.
ومَحلْ الأرض، ووعورة الطرقات والالتواءات. وبقاء المناظر على وتيرة واحدة لا تتغير، جعلت الخيال العربي محدوداً كأنما تمنطقه عديد من الجبال التي تحيطه، وجعلت في بعض ألفاظه صعوبة تجمعها ووعورة السبل صِلَة. ولكن جمال الطبيعة، وصفاء هياكلها الحيوية يبعثان على سمو الخيال وبراعة المنطق، وجودة السبك. لذا كان العربي سامي الخيال في حدوده الخاصة، رصين المنطق، جيد السبك. لأنه كان يحاول في كل مرة أن يغير أساليبه الشعرية، ليصف هذا الشيء نفسه، الذي وصفه عديداً من المرات؛ فانصرف إلى رصانة المنطق وجودة السبك، والسمو بالخيال في حدود ما يتخيل -كما قلت- ليأتي بشعر لا تمله الآذان، وقد سمعته مرات ينشد هذا الموضوع.
ذلك هو أثر البيئة الطبيعية في النفس العربية، ونريد بعد ذلك أن نتعرف أثر البيئة الاجتماعية فيها.
بيئته الاجتماعية:
البيئة الاجتماعية للشاعر العربي في الجاهلية كانت سيئة وهي مرحلة معينة في تاريخ الجزيرة لها ما قبلها من الحضارات ولها ما بعدها بعد الإسلام. فالجهل عامل رئيسي في فساد الحياة الاجتماعية من كل النواحي.
ومن الوجهة الأدبية، فقد كان للخرافات نصيب في عقل العربي، يبعثه على التشاؤم من العقاب والغراب، ولكن شجاعته وذكاءه الفطري، كانا يدفعان هذه الخرافات بعض الشيء. بيد أن الغريب أن التشاؤم والطيرة، شيء يعيش حتى القرن العشرين -كما يسمونه- في عقول بعض سكان أوروبا أيضاً.
فالجهل الذي يفتك بالجسم في صحته وعافيته، وبالروح في دينه وعقليته، والفقر الذي يضرب في أطنابه في جزيرة العرب، كانا عاملين رئيسيين في انحطاط القوى الحيوية، في الفكـر آنذاك بعض الشيء، في الجزيرة العربية.
ولكن هناك بيئة نفسية تشمل العرب في جاهليتهم هي كونهم كانوا في الحد الأعلى من الرذيلة ولم يكونوا في الحد الأدنى منها فأنا أرى أن الفلاسفة حين قالوا بوسطية الفضيلة لم يلاحظوا الحالة النفسية لطرفي الرذيلة الأعلى والأدنى فإن الطرف الأدنى لها يصدر أو يعبر عن نفسية ضعيفة خوارة لا إيمان لها والطرف الأعلى لها يصدر أو يعبر عن نفسية قوية أصابها الانحراف بقوتها حتى تعدت حدود الفضيلة اعتداداً واعتزازاً وتلك هي الجاهلة ولكن هذه الجاهلة على كل حال طبعتهم بطابع خير من مكارم الأخلاق كان مصدر الحكم والفقه والعزة في سلوكهم وشعرهم.
هذه هي بيئة (جران العود) بل وكل الشعراء الجاهليين. فماذا ترى أن يكون شعره على هذه المقاييس.
ولكنك سترى جران العود في شعره الذي سوف نتلوه، خيراً مما تتوقع بكثير.
أما ثقافة جران العود، فلسنا نستطيع أن نحدد بالضبط مبلغ ثقافة جران العود، ولكننا لا نستطيع أن نفترضها أكثر من ثقافة عربي كان يعيش في شبه الجزيرة، له لغة العربي الأولى، التي نشأ عليها، ولم تكن قد أفسدتها العجمة، ولا عاث بها الدخيل. يعرف إلى جانب هذا شيئاً من الفلك بقدر ما يهتدي بالنجوم إلى الطريق والفصول والأوقات، وله طبيعته الأبية، وكرمه وشممه وشهامته وقوة إرادته؛ وله إلى جانب ذلك قلبه الخلي، وعقله الذكي، وطبعه الشعري. وقد يكون له على عادة قومه إلمام بتاريخ الحوادث، وأيام العرب ومشاهد الحروب. وهو بعد ذلك يعيش عيش البساطة والسذاجة، لا يتكلف في مأكله ومشربه وملبسه وسكناه، ويتداوى حين يحتاج إلى دواء بما اصطلح عليه قومه، كالكي وجبر الكسر وغير ذلك. مما ألفوه وتعارفوا عليه واعتادوه.
ولا نستطيع بعد هذا أن نجرأ على أن نضيف إلى ثقافته شيئاً من العرفان، اللهم إلا أن يكون قد أَلَمَّ بطرف من تاريخ الفرس والرومان والحبَشة وَنُتَفاً من علومهم، وشيئاً من صناعاتهم كما كان يصل إلى بعض من الأعراب، ولكنا نميل إلى أنه لم يكن له نصيب من ذلك، لأن شعره ليس فيه ما ينم عن تأثره بشيء من هذا القبيل.
تلك هي بيئة (جران العود) وهذه ثقافة عصره. وإنما يتعرف الناقد الشاعر ببيئته وثقافته، ليتعرف ما تتطلب هاته البيئة وهاته الثقافة، فلا يصح للناقد الحصيف، أن يتطلب من الشاعر أكثر مما تتطلبه بيئته وثقافته، فمن العبث أن يتطلب من الشاعر العربي القديم السعة الخيالية وسهولة اللفظ وتوليد المعاني التي نتطلبها من شاعرنا العصري اليوم.
وقد عرفنا بيئة (جران العود) وما تتطلبه وثقافته، فتلك تتطلب تحديد خياله وضيق معانيه، وخشونة ألفاظه. والحد من نظراته، وهذه تتطلب تحديد تفكيره وخضوعه لمؤثرات البيئة.
ولكننا سنرى أن (جران العود) سما على هذا المستوى بعض السمو - وذلك ضرورة من ضرورات النبوغ الذي يمتاز به الشعراء والأدباء. والخطباء. والعباقرة عن المستوى العادي للأفراد.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1127  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 1268 من 1288
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج