شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
البيئة والنفسية والثقافة والشاعر
والشاعر يكون فيه أثران فعالان، يظهران واضحين أشد الوضوح، فنجدهما في أساليبه العامة. وشكول تصويراته المشتركة ونلمسها في فلتات لسانه، وعديد حالاته، أثر من نفسه، وأثر من بيئته.
غير أن نظريات البيئة والنفسية كثيرة، مشتبكة، متشعّبة لا نريد أن نتدخل فيها، فنزوغ عن بحثنا اليوم عن (جران العود).
فالبيئة. وهي كل المرافق الحيوية التي ترافق الفرد منذ نشأته الأولى من الملابسات والمؤهلات والهياكل الطبيعية، والهيئات البشرية التي يعيش بينها، وما تتمشى عليه هذه الهيئات من أوضاع تسود مجتمعها، وما يتولى أمر بلاده من هيئة حاكمة وإدارة حازمة، أو مزعزعة الأركان متداعية الجوانب، وما يربط بين أفراد مجتمعه من الاتصال الشخصي والائتلاف الفردي، وما يعتنقه أهل بلاده من العقائد والديانات، وما يدور بخلدهم من الأوهام والأساطير، وما يأخذ بألبابهم من الضلالات، والخزعبلات. وما وصلوا إليه من المعارف والعلوم، وما قطعوا من المراحل في (الفنون الجميلة) وما يحمله هذا الفرد بين جنبيه من الحالات النفسية، التي أودعها الله فيه منذ نشأته. فقد يولد توأمان وينشآن في بيت واحد. وبنوع واحد من التربية ولكن نفسية هذا تختلف عن نفسية الآخر اختلافاً -قليلاً أو كثيراً- بما أودع الله في كل من الحالات التي تغمر قلبه، فتطفو فياضة بالشعور الذي يغمر ذلك الفؤاد، وهذه حال نشاهدها كثيراً في كثير من الإخوان.
ولعل في هذا تعريفاً عاماً غير ما عهده بعض علماء التربية والنفس، ولا أدعي السبق إليه.
فأكثر علماء التربية، لم يدرجوا في نفسية الفرد حالاته: النفسية الخاصة به. وربما كانت حجة هذا الفريق أنه كثيراً ما تزول هذه الحالات، نتيجة مران وتعويد، ويمكن الإجابة على هذا الرأي: بأن الشخص نفسه يتغير تأثره إذا ما تغيرت بيئته الطبيعية أو الاجتماعية. فلا يكون دليلاً على عدم تأثره بالبيئة الأولى.
وعلى كل، فقد أصبح من بدهيات المعرفة، أن للبيئة سواء كانت من العوامل الداخلية في الإنسان أو العوامل المحيطة به، أثرها العميق في تكوينه وتنشئته، وتربيته، التربية الجنسية أو الفكرية، أو الأخلاقية، أو تربية صالحة أو طالحة، بحسب مركز تلك البيئة من الحيوية والنشور، وإن كنا لا نستطيع أن نحد (بيقين) مقدار هذا الأثر.
وغالى قوم في أثر البيئة حتى أنهم اعتبروها عاملاً لتحويل النوع من حالة إلى حالة (أي إلى نوع آخر غير نوعه الأصلي).
وقالوا: إن ذلك يكون بعاملين من الوراثة، ومن البيئة التي تحيط به، فتضطره إلى التحسين من شكله ليتمشى مع أوضاعها، وليستطيع الحياة فيها وتنازع البقاء.
وذلك، هو أثر البيئة في كل كائن حي، من حيث هو كائن حي.
فإن لنا أن نقول: إنه ليكون أثرها في الشاعر -على الأخص- كبيراً فعالاً، بل أكبر الأثر من بين هؤلاء المخاليق، لأن الشاعر -بطبيعته- حساس مرهف الحس، فهو أولى الناس بالتأثر بهذه العوامل الكونية التي تحيط به. إلا أنه يظل متميزاً عنها ببيئته النفسية.
فأنت حين تقرأ مقالاً أو فصلاً أدبياً، للكاتب السوري فيما وراء البحار تجد خيالاً رائعاً، وتصويراً بديعاً. وكذلك حينما تنشد للشاعر السوري في المهجر قصيداً، تجد شعراً شاعراً طليقاً، يرقص بك ويجتذبك إليه اجتذاباً، حتى لتكاد تشعر بأن دافعاً قوي التأثير يدفعك -مختاراً أو غير مختار- إلى قراءة هذه القصيدة العامرة بالخيال السامي، واللفظ الجذاب، والأسلوب الرائع، وإنك إذ تجد كل هذه اللذات الشاعرية الخيالية في الشعر والنثر اللذين تسطرهما براعة (كتاب المهجر وشعرائه) فأنت لا تجد مثل ذلك، إذا ما قرأت فصلاً لكاتب ممن يعيشون على بساط سوريا. وتظلهم سماء سوريا. وإن كنت لا أضمن لك في كلام هؤلاء الكتاب المهاجرين، أسلوباً عربياً فصيحاً رصيناً، تجده عند كبار الكتاب في مصر. ولا أن تجد في كلام هؤلاء ما كنت تجد في كلام أولئك، ولذلك كان غراماً للذين يرون أنفسهم أنهم خلقوا ليكونوا أدباء وشعراء، أن لا يستقلوا في مطالعاتهم بفريق من هذين، فهم عند ما يقرؤون عمن فيما وراء البحار يربو في أرواحهم خيال عذب. وأسلوب لين جذاب. وحين يقرؤون لكبار الكتاب المصريين ينطبع في فطرتهم أسلوب عربي رصين السبك، متين الصلة، جزل اللفظ، ولا أعطل ما لهم من خيال وطابع شعري خاص. فعندما يستقل بإحدى هاتين الطريقتين يتجه اتجاهاً واحداً. وحين يجمع بينهما يستعين من الاتجاهين.
ومن أعظم الأدلة على عظيم أثر البيئة في الشاعر: نفسيته، وعقليته، وشاعريته، القصة المشهورة في هذا الباب قصة الشاعر الحجازي (علي بن الجهم) المتوفي سنة 249هـ الذي كان يعيش بين أحضان الصحراء: رمالها، وجبالها، وإدصامها، ويختلف بين حيوانات هذه المقاطعات، فجاء أمير المؤمنين (عبد الملك بن مروان) يمدحه فقال:
أنت كالكلب في حفاظك للـودّ
وكالتيس في قـراع الخطـوب
فهمّ به بعض الحاضرين، فاستمهلهم (عبد الملك) وأبدى لهم معاذيره، لأنه عرف أن هذا الشاعر لا يعرف في جزيرته، أحفظ للود من الكلب ولا أصمد لقراع الخطوب من التيس. ثم أرسله -وقد تفرس فيه النبوغ والعبقرية- إلى بلاد العراق، فقضى بها عاماً بين مروجها النضرات ورياضها الغناء ونهريها النمير ماؤهما العذب موردهما. ثم عاد إلى عبد الملك في موسم من المواسم الشعرية، فأنشده قصيدته العصماء الرائعة العامرة بالخيال العذب واللفظ الحلو التي مطلعها:
عيون المها بين الرصافة والجسـر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري .
أعدن لي الشوق القديم ولم أكن
سلوت ولكن زدن جمراً على جَمْر
سلمن، وأسلمن القلوب كأنمـا
تشق بأطراف الردينية السمـر
خليلي، ما أحلى الهوى وأمـره
وأعرفني بالحلـو منـه، وبالمـر
كفى بالهوى شغلاً وبالشيب زاجراً
لأن الهوى، مما يهنـه بالزجـر
بما بيننا من حرمة، هل علمتهـا
أرق من الشكوى وأقسى من الهجر
وأفضح من عين المحب بسـره
ولا سيما إن أطلقت عبرة تجري
وإن أنس للأشياء لا أنس قولهـا
لجارتها، ما أوسع الحـب بالحـر
فقالت لها الأخرى: فما لصديقنا
مُعَنّى وهل في قتله لك من عذر؟
صليه، لعل الوصل يحييه واعلمي
بأن أسير الحب في أعظم الأسـر
فقالت: أذود الحبّ عنه وقلمـا
يطيب الهوى إلا لمهتك الستـر
وأيقنتا أن قد سمعـت فقالتـا:
مَنِ الطارق المصغي إلينا وما ندري
فقلت: فتى إن شئتما كتم الهوى
وإلا، فخلاّع الأعنّـة والعـذر
على أنه يشكو ظلوماً وبخلهـا
عليه بتسليم البشاشة والبشـر
وإذا كنا لا نستطيع -كما قلت- أن نحد بيقين مقدار أثر البيئة في كل إنسان، فأحرى بنا ألا نستطيع أن نحده هنا في الشاعر، لما سبق أن ذكرت من أنه يكون فيه أثران فعالان. أثر من بيئته، وأثر من نفسه، فالنفوس البشرية مختلفات. والعواطف الإنسانية مختلفات، والضمائر الوجدانية مختلفات، وإلهام الطبيعة في الأشخاص، يختلف بحسب اختلاف النفوس والعواطف والضمائر وبنسبة مبلغها من الكمال ومن المثل الأعلى.
فالمنظر الواحد، ساراً كان أو محزناً، هزلاَ كان أو جداً. طبيعياً كان أو اجتماعياً. يختلف تأثيره في الأشخاص، بحسب اختلاف النفوس والضمائر والعواطف، وأثره في هذه النفوس والضمائر والعواطف، يختلف بنسبة الإحساس الموهوب لكل من هؤلاء.
وثقافة الشاعر تتأثر ببيئته الاجتماعية والنفسية، بل هي على الأصح صورة مزدوجة تجمع بين البيئتين، فتكون منهما مركباً كيمائياً في عقله، فالبيئة تؤثر في تكوينه الأوَّلي أكبر التأثير، ولكنه حين ينضج قليلاً ويستوي إنساناً مفكراً، يكون الأثر الأكبر في تكوينه الشخصي والأدبي، راجعاً إلى نفسيته التي وجدت فيه بالفطرة، وتأثرت بالبيئة.
فأنت ترى رجلاً يعيش في بلاد، هي إلى الهمجية أقرب في ثقافتها وحياتها، بينما تجده يعيش بفكره في عالم آخر، يشارك المدنيين عاداتهم، ويناقشهم أفكارهم ويبادلهم الآراء، وكل ذلك راجع إلى نفسه الطموح، وضميره الوثاب، ومجهوداته الخاصة، ولكنك هنا أيضاً تلحظ للبيئة الاجتماعية أثراً آخر، هو أثر الواسطة، فالبلاد النائية المنقطعة عنها المواصلات، تقف حجر عثرة في سبيل آماله ومراميه، بينما تساعده المواصلات المستمرة على التأثر السريع بالبيئة الأبعد، التي يهفو إليها ويرمقها كمثل، ولكن أثر النفسية يتضح من استلزامه للتأثر بالبيئة الأبعد عن البيئة الملتصقة به، وهنا قد يكون لقوة إحدى البيئتين أثر في طغيانها على الثانية، بيد أن استجابة بعض لهذا الأثر، وعدم استجابة بعض آخر، مع تساوٍ في البيئة الاجتماعية والدراسية وغيرها دليل على اختلاف البيئة النفسية وأثرها دون شك.
ونحن إذ نقول إن في الشاعر أثراً من نفسه، نعلل بهذا ما نجده -في بعض الأحايين- من أنه قد يرتفع الشاعر في تفكيره أو تصويره -على الأكثر- عن مستوى عصره، وإن كان قد يضطر بأثر البيئة فيه، إلى أن ينزل في أسلوبه على أساليبهم، فيمتد نظره إلى ما وراء أنظارهم، وتتسع دائرة خياله عن دوائر خيالاتهم. ويشيع في شعره شيء جديد، تجد فيه لذّة، ونسكن إليه ما كنا لنجده في أشعارهم وما نستطيع أن نسميه. ويصطبغ بمسحة لا عهد لنا بلون من ألوانها، وتتلاعب فيه شواخص ما ألفناها فيما ألفنا من مناظر التشخيص عندهم.
وما قد نشهد -في بعض أحايين- من الصراع العنيف، الذي يقوم بين الشاعر ونفسه، فيأخذه ويستحوذ عليه، قد يضطرب حيناً، فيرتفع غالباً، يُحلّق في سماء البيان ويرتدّ بكل ما تستريح له النفس. ويركن إليه الذوق ويُسِفّ آونة إلى حدود الإسفاف، وينحط بشعره وتصويره بعض الانحطاط، وهو في حين آخر، وسط بين هذا وذلك، فلا هو يقدر على التحليق، ولا هو يسف، ولكنه يضطر فقط أن يكون حيث يكون معاصروه.
ونحن هنا، لا نعني الفوارق الطبيعية البسيطة، بل نعني الفوارق العظيمة الشاسعة البون، مما لا نستطيع أن نتأولها تأويلاً صحيحاً. فما هي إلا اضطراب الصراع بينه وبين نفسه فيه.
وقد تميل به حيناً، إلى الرقة في سهولة التعبير ورصانة المعنى وجزالة اللفظ، وحيناً إلى الجهامة في ركاكة التعبير أو تعقيده، على الأصح. وسخافة المعنى، أو ضآلته وفظاظة اللفظ، إذا صح هذا التعبير.
فما ذلك كله إلا أثر نفسه فيه، وما الشعر إلا (وحي العاطفة) و (صورة النفس) و (حس الضمير) و (إلهام الطبيعة).
فالشعر (وحي العاطفة) قبل أن يكون (وحي الفكر).
والشعر (صورة النفس) قبل أن يكون (صورة الخيال).
والشعر (حس الضمير) قبل أن يكون (إدراك العقل).
والشعر (إلهام الطبيعة) قبل أن يكون (إلهام المعرفة).
ولكن وحي الفكر وإلهام المعرفة وإدراك العقل يرتفع بالشعر ارتفاعاً يجعل من الشاعر مفكراً وفيلسوفاً مطرباً أما وحي العاطفة وصورة النفس وحس الضمير وإلهام الطبيعة فتجعل من الشاعر مطرباً فقط.
وقد قلت: إن النفوس البشرية مختلفات، والعواطف الإنسانية مختلفات، والضمائر الوجدانية مختلفات. وإلهام الطبيعة في الأشخاص يختلف باختلاف النفوس والضمائر والعواطف، وبنسبة مبلغها من الكمال ومن المثل الأعلى.
فالمنظر الواحد: ساراً كان أو محزناً، هزلاً كان أو جداً. طَبَعيّاً كان أو اجتماعياً، يختلف تأثيره في الأشخاص بحسب اختلاف النفوس والضمائر والعواطف، ويختلف بنسبة الإحساس الموهوب لكل من هؤلاء.
والبحث العلمي الواحد، يكون لكل فيه رأي يختلف عن الآخر، بنسبة استعداد كلٍّ لفهم الحقائق وإدراك المعاني.
والموضوع الاجتماعي الواحد يتنافس فيه الناس. ويبدي كل منهم فيه رأياً يباين رأي الآخرين، بحسب اختلاف وجهات الأنظار، واتجاهات الفكرة.
وقد يكاد أن يتحد أثر المنظر الواحد في أشخاص، وتتفق آراؤهم في موضوع اجتماعي واحد، أو بحث علمي واحد، بنسبة تقارب نفوسهم بعضها من بعض، وعقولهم في الإدراك، وضمائرهم في الوجدان، وعواطفهم في الشعور، وأذواقهم في الحس.
وقد يتغير رأي الرجل الواحد في الموضوع الواحد اعتقاداً لا صنعة فالصنعة لا عبرة بها هنا بحيث يكون رأيه في وقت من الأوقات، مغايراً كل المغايرة، لما كان عليه في حينٍ ما، ولكن ذلك عائد إلى تطور الحياة العقلية للإنسان، وهذه تتأثر بحسب عوامل المد والجزر في ثقافته ونفسيته ففي الشاعر إذاً، أثر من بيئته في الأسلوب أغلب الشيء. وفي تفكيره صورة صحيحة، ولكنها مصغرة في شكلها الخاص لتفكيرها العام. وفي تصويره نمط من أنماط الأسلوب التصويري لديها. وفي شعره إفصاح عن عواطفها وأحاسيسها ومشاعرها العامة، مصورة في قالبها الذي يصوغها -هو- فيه وخياله محصور في منطقة خيالاتها؛ فهو لا يقول إلا ما يشعر، وما يشعر إلا بما يحس، ولا يحس إلا بقدر ما يرى وما يسمع وما يلمس ولا يرى ولا يسمع ولا يلمس إلا ما يحيط به من مظاهر البيئة الاجتماعية. وبواعث البيئة النفسانية، ومناظر البيئة الطبيعية. وما يرتفع خياله، ولا يستمد تصويره إلا مع الاحتفاظ بالنسبة الطردية بين واقع الحياة وأثر العوامل ومبلغ ثقافته وغاية تهذيبه ومدى تفكيره فإذا نحن أردنا أن نتعرف إلى الشاعر، تعرفنا إليه بدرس بيئته، وثقافته، ونفسيته، مقدرين مبلغ أثرها فيه، كما نتعرف الصديق، بما يُمليه علينا مصير التجاريب، ووحي الحوادث.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1214  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 1267 من 1288
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعيد عبد الله حارب

الذي رفد المكتبة العربية بستة عشر مؤلفاً في الفكر، والثقافة، والتربية، قادماً خصيصاً للاثنينية من دولة الإمارات العربية المتحدة.