شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
رسالة مفاجئة لجدي
تعلن عن قدوم ((عبد الغني)) خلال أيام
وقبل ان يهم جدي بالنهوض من مجلسه، تابعت أمي تقول، وهي ترامق ما بدا عليه من الاهتمام:
:ـ. يا بويا.. المرسول لمّا جا انتو كنتو مشغولين بالجنازة... لتافت باجي بتقول، المرسول قال، الكيخيا يبغا يشوفكم.
وأسرع جدي بالنهوض من مجلسه.. وكما هي عادته، ارتفق عمامته، وجبّته السوداء وتحسّس جيوبه في صدره وعلى جنبيه... وقال:
:ـ. لازم خبر مهم... مهم كتير..
انتو رايحين بيت الكيخيا...؟؟؟ هادا يابويا بعيد كتير... لازم تاخدو عربية. وضحك جدّي ضحكة خفيفة ساخرة وهو يقول:
:ـ عربية؟؟؟ فين فيه عربية؟؟؟ أنا لازم نمشي.. يمكن ما أرجع إلاّ في المغرب.. نجيب دجاجة... هناك فيه سوق كبير... فيه دجاج.. فيه لحم.. فيه سكر كمان.. وقاطعته خالتي، تقول:
:ـ. يابويا... خلو الدجاجة، واللحم والسكر بعدين...
وأضافت أمي تقول:
:ـ. أيوه يابويا... الموجود يكفينا اليوم وبكرة كمان...
وقبل ان يخرج من الغرفة... أدخل يده في جيب صدره.. وأخرج كيس النقود ورفعه بيده ضاحكا وهزّه لنسمع صوت قطع النقد فيه... كأنّه يطمئننا انه يستطيع ان يشتري الدجاج واللحم والسكَّر وخرج من الغرفة إلى الفناء... لنسمع باب الزقاق يُطرق، وخطوات جدي تبتعد في اتجاهه.
... لم تكن لتافت باجي هي التي تطرق الباب، لأنها ـ كما أدركت فيما بعد ـ تستطيع أن تجيء إلى منزلنا.. وأن تذهب إلى منزلها المجاور عبر باب صغير في الدور العلوي... ولم يطل تطلعنا وانتظارنا فقد عاد جدّي وهو متهلّل الأسارير... وقبل ان يسمع أي سؤال من أمي أو خالتي قال:
:ـ. مكتوب... مكتوب... من عبد الغني..
وأخذ يفتح الغلاف، بتؤدة، ونشر الرسالة أمام عينيه وشرع يقرأ بينه وبين نفسه... ثم التفت إلى خالتي، وهو يناديها بنبرة لا تخلو من فرحة وحنان.
:ـ. خديجة... خديجة...
ثم جعل يكلمها بالتركية... ثم يكمل بعربيته الضعيفة
:ـ. عبد الغني... فيه ماذونية.. أربعة أيام.. يجي هنا.. حلب.. يمكن بعد تلاتة أيام.
ثم التفت إلى أمي وكلمّها بالتركية، كلاما لم أفهم منه شيئا باستثناء اسم (سلطان مراد).. وكنت كثيرا ما سمعت هذا الأسم يتردد في الأحاديث التي تدور بين أمي وخالتي بحيث، استقر في ذهني أنه ابن عمّهما... جاء إلى المدينة بعد الحج... وقبل أن يعود إلى (خيوة) في بلاد التركمان، أغلقت الحرب الطرق... فلم يستطع أن يعود.. وتقدم أو تطوّع للجهاد.. وكان نصيبه أن يعمل هو أيضا في (البابور)... بين المدينة والشام أو هي تلك المدن التي تغطيها سكة حديد الحجاز... ولم يكن لها عندنا اسم سوى (البابور).. ذلك الشيء الرهيب الذي يقترن في ذهني بشخصية (الباشا).. والباشا هو الذي رحّل أهل المدينة المنورة عنها، إلى بلدان الشام، ولم يحدث قط أن رأيت (سلطان مراد) هذا، وحتى عبد الغني زوج خالتي خديجة، أكاد لا أذكر ملامحه، لأني لم أره الا مرة أو مرتين ربّما قبل ترحيلنا من المدينة... ولكنى أعرف أنّه زوج خالتي، وبعد ميلاد عبد المعين، أدركت أنه والد عبد المعين... وأن خالتي كثيرا ما كانت تتساءل: (ترى متى يجيء عبد الغني ليرى ابنه عبد المعين؟؟؟)... وكان ما تجيب به أمّي دائما هو (الله كريم.. فرج الله قريب).
والآن ها هو جدّي يبشر خالتي أن عبد الغني قادم ربما بعد ثلاثة أيام... وها هي خالتي تحتضن عبد المعين، وتدلّله، وبين الكثير الذي تدلّله به: (بكره بابا يجي.. ونروح المدينة.. وتسير رجّال... الخ. الخ..).
وأعجز الآن عن تفسير ذهولي أو عدم اشتغال ذهني الصغير، بسؤال عن والدي... أبي... الذي لم أكن أسمع أحدا ينتظر مجيئه... كما لم أسمع أمي تتساءل كما تفعل خالتي (ترى متى يجيء زاهد، ليراني أنا ابنه؟).. كما سوف يرى عبدالغني ابنه عبد المعين؟؟؟ كان يدور بذهني بكاء أمّي يوم مات عبد الغفور... وكلامها عن أبي الذي لم يره... وانه لو كان موجودا لما تصّرف جدي معه ذلك التصرف الذي ظلّت هي وخالتي تزعمان انه السبب في موته.. أرجّح اليوم بعد هذا العمر الطويل، أن ما قاله ذات مرة جدّي عن أن الحرب قد أغلقت طريق عودته من روسيا، قد مسح عن ذهني، أو مشاعرى، الأمل في عودته ومن ثم رؤيته، إلى أن تفتح هذه الطرق... التي لم أكن أتصور بالطبع كيف أغلقت، فضلا عن أتصور كيف تفتح ومتى؟
* * *
بعد هذه البشرى، عن قرب مجيء عبد الغني، بدا كأننا نعيش حالة ارتياح ودعة واطمئنان وكانت (لتافت باجي) من جانبها عنصر تفريج أو ترويح، بل وزادت على ذلك.. أن أخذت على عاتقها، أن تؤثث غرف الدور العلوي، وفيه تلك الغرفة التي قال جدي أنها لخديجة، اذ فيها الكفاية من الشمس والهواء... وحين دار بين جدي وأمي حديث عن هذه البادرة الطيبة من هذه العجوز، وكم ينبغي أن يدفعوا لها اضافة إلى اجرة المنزل.. قال جدي أنّه قد فاتحها في ذلك، فاحتجّت غاضبة، وقالت أن كل قطع الأثاث التي وضعتها زائدة عن حاجتها، وكانت دائما في المخزن، وتسميه (الكيلار)... ثم قالت أن كل ما اثثت به المنزل، ليس أكثر من أبسطة، و(كرويتتين)... ثم أضافت ما معناه أن خديجة (عروسة) تذكرها بابنة سيدها الذي انتقل منذ الحرب، إلى اسطمبول... والعروسة لا بد أن تكون لها غرفة وسرير ومرتبة الخ... وهذا كل ما زودّتها به من الأثاث..
ومع أن الغرفة في الدور الأرضي كانت واسعة ونظيفة، فقد اختار جدي غرفة في الدور العلوي، قريبة من الحمّام، لها تلك النافذة التي مازلت أذكرها حتى اليوم... صغيرة نسبيا وعالية... تسمح بدخول الضوء، والقليل من الهواء وكانت الغرفة مفروشة بالبساط الذي تبرّعت به (لتافت باجي)، وإلى أحد جانبيها بسطت أمي مرتبته، التي ينام عليها دائما. وتلك الحقيبة من الجلد بني اللون، فيها كتابه الضخم، وكتب اخرى، ما زال يحرص على ان لا يفقدها.
أمّا خالتي خديجة، فقد ظهر بوضوح أنها تشعر بسعادة غامرة، منذ جاءتها بشرى قرب مجييء عبد الغني... وفي تلك الغرفة التي أحسنت تأثيثها (لتافت باجي) ومعها أمّي رأيتها على ذلك السرير الجميل من النحاس. وأغطيته وردية اللون، ووسائده المؤطرة بالدانتيلا... وهو صغير، لشخص واحد، قالت (لتافت باجي) انه كان السرير الذي تنام عليه سيدتها الصغيرة الشابة.
كان عبد المعين في حضنها، ظاهر الضعف والهزال، وكانت أمّي هي التي تتولّى تغيير حفاضه كلمّا اتسّخ... لأن خالتي كانت تحتاج إلى هذه المساعدة، بعد أن أصبح (الإسهال) الذي يعانيه عبد المعين مشكلة، أو حالة، يبدو أنها أصبحت تلازمه رغم كل ما جرّعوه اياه من الأدّوية، ومنها فيما لازلت أذكر ما يسمّى (المحلب).. و (الكراوية) اضافة إلى تلك السوائل في الزجاجات التي يجيء بها جدي من الصيدلية.
وقد راق لي أن ألازم خالتي، أو الأصح، (غرفتها) الجميلة باثاثها، وبالشمس والهواء فيها... كان يضايقني بكاء عبد المعين، عندما تجرّعه أمي الدواء أو تغيّر له حفاظه، ولكن كان يستهويني أن أرى خالتي وهي تحتضنه، وتناغيه، أو تمر جحه على ساقيها كما كانت تفعل عندما تنّوم عبد الغفور... لا بد أن أقول اليوم، أنها كانت جميلة.. بل قد لا أبالغ إذا قلت، اني حتى اليوم وبعد هذا العمر الطويل، ما زلت أذكر جمالها الرائع، كلمّا وقعت عيني على صورة فتاة من أولئك اللائي اختارهن كبار الفنّانين في أواخر، وأواسط القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لتجسيد، صور الملائكة، أو حوريات الفراديس والجنان.
كانت، إذا نام عبد المعين، تستدعيني إلى جانبها، وتحتضننى بين ذراعيها وعلى صدرها بلهفة حميمة، فأستكين، ولعّلىّ أتمنى أن لا أنفصل عنها... ولكن تلك السعلة اللعينة، التي أصبحت الآن تكاد لا تتوقف الا لتعاودها، تضطرها إلى التخلىّ عن عناقها واحتضانها لي،... وهي تمسح بيدها الرقيقة الناعمة الصغيرة وجهي ورأسي... أحسست أكثر من مرة أن يدها أكثر دفئا أو حرارة من وجهي... كانت أمّي حين تراها تسعل تسرع، فتتحسّس جبينها وجيدها، وصدرها،.. فتجيئها بزجاجة العلاج، وإذا كان وقت وجبة الغذاء قد حان، فما أسرع ما تجيئها بـ (المسلوقة)...
كان الجميع، في انتظار عبد الغني،... وكان المنتظر انّه سيجييء بعد ثلاثة أيام ولكن، هذا لم يمنع أن تلتفت خالتي، وترهف السمع كلما سمعت أو أحسّست بحركة أو وقع أقدام في الفناء في الدور الأرضي... كنت أرى هذه الالتفاتة، فأترك الغرفة مسرعا وفي نفسي أن أدخل عليها مع عبد الغني ولكن سرعان ما أعود... وأتسلّل إلى مكاني من الغرفة... دون أنبس بشيء... فتفهم هي ،... وتغضى بنظرتها إلى عبد المعين... وكأنها تقول له:
:ـ. طوّل بالك.. لسّه ماجا...
ولم يكن أحد يدرى، هل سيجيء عبد الغني في النهار أم في الليل؟؟؟ ولذلك، كانت كل ساعة من النهار، مفعمة بالقلق.. والترقب... جدّى كان يخرج من المنزل، إلى الدكان التي قال أنه استأجرها بالقرب من السرايا، حيث يمارس مهنته وهي (حفر الأختام)... وكان يعود قبيل صلاة العصر،... فلا يكاد يدخل حتى يبادرنا السؤال عن عبد الغني... وقد يسأل عن أي خبر من بيت (الكيخيا)... وبعد أن يدفع إلى أمّي السلّة التي يحملها بما فيها من جراية خبز الشعير، وما استطاع أن يجده في الأسواق من الأغذية، وعلى الأخص (البيض) و (العسل) لخديجة، كان يصعد إلى غرفته لألحق به أنا، فلا يفوته أن يمسح رأسي بيده، وهو يخلع عمامته وجبّته... ثم يأمرنى أن أذهب لامّلأ له الأبريق حيث يأخذ في الوضوء، لصلاة العصر.
وانقضت الأيام الثلاثة، والجميع ينتظرونه، طوال ساعات النهار والليل... ولكن لم يظهر له أثر.. ولم يسمع له أو عنه أي خبر...
وفي صبيحة اليوم الرابع... بدا جّدي غاضبا شديد القلق... تحاشى أن يدخل على خالتي كما يفعل عادة قبل أن يخرج من المنزل...وفي فناء المنزل... طال وقوفه مع أمّي وهو يتحدث إليها بالتركية... كلا ما تردد فيه اسم عبد الغني عدة مرات...
حين دخلت على خالتي، في هذا الصباح رأيت كيف اشتد هزالها... وكيف بدت مرهقة ببكاء عبد المعين... ولكن أعجب ما لفت نظري، تورّد وجنتيها... وتلك الهالة شبه الداكنة أو الزرقاء، على أو حول أجفانها... وأهدابها... يالله... كم طالت واحلوت..
وكان واضحا أنها يائسة من أن ترى عبد الغني.. ليرى عبد المعين كما ظلّت تنتظر وتتمنّى... وحين لحقت بي أمّي، وأخذت تقول كلاما ما تروّح بها عنها، أو تحثّها على المزيد من الصبر...رأيت عينيها الجميلتين، وراء تلك الأهداب الوُطْف، تمتلئان بالدموع..
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :714  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 12 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور محمد خير البقاعي

رفد المكتبة العربية بخمسة عشر مؤلفاً في النقد والفكر والترجمة.