شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
اللحن الحزين
وخيّم الليل وأناخ بكلكله على جوانب القرية وخفتت أنوارها مصابيحها ونام كل شيء فيها تقريباً إلا نباح كلابها وومضات أصوات متباعدة متقطعة صادرة عن أطفال جوعى أو مرضى، وضربات أقدام ((وجدي)) وحيداً لأبوين احتسبهما في حادث أليم ومع أنهما خلفا له ثروة طيبة تعينه على تحمل أعباء الحياة إلا أن حنانهما كان ((لوجدي)) أكثر من ثروة وأعظم من حياة.. بكاهما طويلاً وانطوى على نفسه بعد وفاتهما، وهجر مجالس رفاقه وخلانه وندوات لهوه ومجونه ونذر نفسه لعمله في متجر أبيه فتزايد دره وكسبه ولكن كل ذلك لم يعوضه ذلك الحنان الذي افتقده في لمحة بصر.
وحاول أصحابه ومعارف أبيه أن يخفِفوا عنه آلام الوحدة وأن يخرجوه من (زنزانة) الانطواء فباءت محاولاتهم بالفشل وأصبح انطواء (وجدي) حديث مجالس القرية شيبها وشبانها حتى صبيتها.. واعتاد (وجدي) كلما هزه الحنين أن يخرج ماشياً على قدميه إلي حيث دفن والداه فيقرأ الفاتحة عليهما ويعود أدراجه وقد سرى عنه كل شيء.
وظل علي هذا الروتين شهوراً وشهوراً ولكن.. للصبر حدود.. وفي تلك الليلة برح به الانطواء وعادة الحنين بشدة فذهب إلي حيث اعتاد أن يذهب ولكن برح الوحدة والانطواء ظل علي أواره بل اشتد سعيره وشواظه فسار وسار وهو لا يدري إلى أين تقوده قدماه ولم يثب إلى رشده إلا عندما طالعته أنوار القرية المجاورة وأعاده إلى وعيه نباح كلابها ومحاولة بعضها الاعتداء عليه..
وهمّ (وجدي) العودة إلى قريته يذرع متاهات وحدته وانطوائه وما كاد يخطو بضع خطوات في طريق عودته حتى راعه نغم كمان يخترق سكون ذلك الليل الرهيب فيبدد وحشته ويكشف ثقله وغمته فإذا (بوجدي) يتسمر في مكانه ثم لا يلبث وقد هزّه النغم، وأخذ بمجامع فؤاده أن يرى قدميه تقودانه إلى حيث تنبعث الموسيقى الحالمة فإذا به أمام (فيلا) تحتضن سفح جبل القرية وإذا الموسيقى تصدر من غرفة في الدور الثاني من (الفيلا).
كان نور الغرفة باهتاً ولعلّ للستائر التي كانت تغطي شبابيكه أثراً في ذلك.. وكان كل شيء هادئاً في تلك الفيلا يشارك (وجدي) الاستمتاع بالنغمات الحلوة المنسابة على أجنحة الأثير حتى (كلب) الفيلا كان مع السامعين فلم يشعر بوجود (وجدي) الذي جلس على صخرة قريبة من (الفيلا) يسبح في عبير هذه الأنغام.
فقاطعه ((وجدي)) قائلاً:
ـ كأنك تقرأ ما بنفسي يا سيدي..
ـ إن ابنتي حزينة على والدتها التي اختارها الله إلى جواره منذ سنتين.. وكلما هاجها الشوق والحنين واستبد بها الحزن رددته على أوتار كمانها أنغاماً أصبحت حديث أهل هذه القرية..
وتطلع ((وجدي)) إلى ((وداد)) فرأى دمعتين تنحدران من مآقيها ومنديلاً يلملم هذه اللآلىء بين طياته فقال بصوت حزين:
ـ إنني آسف يا آنسة ((وداد)) أن يتسبب وجودي في استثارة أحزانك وآلامك.
وقاطعته قائلة:
ـ لا عليك يا سيد ((وجدي)) أن حزني موصول وجرحي لا ترفأه الدموع ولعلّي بالدموع أفتأ سورة حزني وأحمد إلى حين لهيب توقي وحنيني.. وسأظل أبكي وأبكي حتى ألقاها في دارة الخلد..
واحتقن خداها وانهمرت دموعها وانتظم منديلها عمله وكأنه مساحة سيارة تجفف وابل المطر على الزجاج الأمامي لسيارة.. وألفى ((وجدي)) نفسه ينخرط هو الآخر في البكاء وقد نكأ كلامها جراحه وحزنه على والدته.. وإذا بالشيخ ((ظافر)) وقد أخذه المنظر يقول:
ـ لا حول ولا قوة إلا بالله -.. حتى أنت يا ((وجدي)) تبكي؟!!
ـ نعم يا سيدي.. إنني أبكي كما تبكي ((وداد))..
وسرد لهما (وجدي ((قصة حياته وكيف ساقته الأقدار إليهما)..
وتفتحت عينا ((وداد))وجمدت فيهما الدموع.. وأرهفت بكل جارحة فيها إلى حديثه.. وأحست - لأول مرة - أن في شباب ((وجدي)) ما يجد بها إليه، وإن في مأساته) ما يربطها به..
وما أن انتهى ((وجدي)) من حديثه حتى دخل الخادم يؤذنهم للفطار..
وأستأذن ((وجدي)) بعد الفطار.. وذهب شاكراً حامداً)..
وتكررت زيارات ((وجدي)) للشيخ ظافر وابنته وزيارتهما له.. وكانت نهاية المطاف زواج ((وجدي)) من ((وداد)).
 
طباعة

تعليق

 القراءات :972  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 62 من 63
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعيد عبد الله حارب

الذي رفد المكتبة العربية بستة عشر مؤلفاً في الفكر، والثقافة، والتربية، قادماً خصيصاً للاثنينية من دولة الإمارات العربية المتحدة.