شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
زعامة في مهبّ الريح
في إحدى أمسيات مكة الجميلة دلف أبو سفيان إلى داره متجهم الوجه مقطب الجبين وارتمى على أحد المقاعد فهرعت إليه زوجه هند بنت عتبة وكانت كعادتها في أحسن ثيابها ولما رأته على هذه الحال سألته عما به فلم يجب فأعادت عليه نفس السؤال فأشار إليها بأن تصمت فجلست على المقعد المقابل له وهي قلقة حيرى.
وقطع هذا السكون دخول خادمتها ((مرجانة)) وهي تقول:
ـ صفوان بن أمية بالباب..
ـ أدخليه حالاً..
قالتها بفرحة مشعة كأنَّ صفوان ملاكاً هبط عليها من السماء واعتدل أبو سفيان في جلسته ثم نهض لاستقبال ضيفه وتبعته هند بعد أن أصلحت من هندامها.. ودخل صفوان وهو يقول بعد أن صافح أبا سفيان..
ـ باركتك الآلهة يا أبا سفيان..
ـ بورك فيك يا أبا سفيان..
ـ بورك فيك يا أبا أمية..
ثم سلمت هند عليه وهي تقول:
ـ مرحباً بك يا صفوان..
ـ ورد عليها صفوان قائلاً:
ـ بوركت يا بنت عتبة..
ثم أخذ مكانه من المجلس.. وجلس أبو سفيان وهند وعاود الوجوم والإسهام أبا سفيان فتطلع ((صفوان)) إلى ((هند)) لعلَّه يرى في وجهها تفسيراً لما يراه في أبي سفيان.. فأشارت إليه بطرف خفي أنها لا تدري فتنحنح صفوان واعتدل في جلسته ثم قال:
ـ ما هذا الذي أنت فيه يا أبا سفيان؟ أهكذا تستقبل ضيوفك؟
ـ لا شيء يا صفوان.. لا شيء..
وتدخلت ((هند)) قائلة..
ـ لا شيء.. كيف.. وأنت على هذه الحال منذ مدة..
وأردف ((صفوان)) قائلاً:
ـ أتشكو من علة أو مرض؟
ـ لا.. واللات والعزى..
ـ إذن فيم هذا الوجوم لكأني بك تحمل هماً كبيراً.. أشركنا معك لعلَّنا نخفف عنك بعض ما أنت فيه..
ويصحو أبو سفيان من وجومه ثم يلتفت إلى هند قائلاً:
ـ أليس لديك ما تسقينا يا هند؟
ـ حباً وكرامة..
وتدير الخادم الشراب وينتظم الثلاثة حوله، ويبتسم صفوان قائلاً:
ـ حمداً للآلهة فقد زالت الغمة وانقشع غيهبها. والآن..
ويقاطعه أبو سفيان قائلاً:
ـ والآن ماذا؟
ـ كنت في اجتماعنا بالندوة هذا النهار على غير عادتك فما الذي كان يشغل بالك؟
(المصارحة)
ويعتدل أبو سفيان في جلسته ويأخذ رشفة من شرابه ثم يقول:
ـ أحوالنا يا صفوان من بعد ارتدادنا من الخندق أراها تسير من سيء إلى أسوأ. فنجم محمد يعلو ونجمنا يأفل مما ينذر بسوء المنقلب..
ـ محمد له يا أبا سفيان هدف يسعى للوصول إليه وعقيدة يحاول أن يمد رواقها على الجزيرة العربية بل والدنيا بأسرها إن أمكنه ذلك. أما نحن القرشيين فقل ما هي أهدافنا.. بل ما هي عقيدتنا؟
ـ صدقت يا صفوان بن أمية صدقت.. نحن نمسي كما نصبح ونصبح كما نمسي..
ـ لولا أن أخشى أن أغضبك يا أبا سفيان لقلت..
ـ قل لا عليك قل..
ـ نحن قطيع غنم تاه راعيه.. وطفقت السباع تتخطفه.. ويضغط أبو سفيان على أعصابه ثم يقول:
ـ لعلَّك مصيب إلى حد ما يا صفوان.. ولكن... ويقاطعه صفوان قائلاً:
ـ ولكن ماذا يا أبا سفيان؟
ـ أنتم يا وجوه قريش وسادتها يقع عليكم اللوم كما يقع علي…
ـ كيف يا أبا سفيان كيف وقد أسلمناك الزمام تتحكم فينا سيداً مطلقاً لا ترد له كلمة..
ـ ولكنكم لم تعينوني ولم تشاركونني الحكم بل انصرف كل واحد إلى تجارته وشربه، وتركتموني أتخبط ذات اليمين وذات الشمال - كالراعي الذي ضلَّ قطيعه كما قلت وراح يدور في حلقة مفرغة.
ـ ويرد عليه صفوان بشيء من الحدة:
ـ لم لا تدعونا يا أبا سفيان.. لم لا تثير فينا الشعور بالمسؤولية، بالخطر الذي يتهدد مصيرنا.. خطر سيطرة محمد ودين محمد..
ـ ربما يكون معك بعض الحق.. فكل واحد من أصحاب محمد شريك معه في المسؤولية، ينصح ويرشد، وينتقد ويعترض ورائده الحفاظ على دينه وعلى نبيه..
ويعاود ((صفوان)) هدوءه ثم يقول:
ـ سؤال يشغل بالي يا أبا سفيان..
ـ ما هو يا صفوان؟
ـ هل أصحاب محمد أناس جعلوا من غير طينتنا، أو وفدوا من بلاد غير بلادنا.. إن أصحاب محمد منا ومن دمنا ولحمنا فلماذا كل هذا الإختلاف بيننا.. هم يسيرون قدماً للأمام ونحن كما ترى..
ـ أصحاب محمد يسيرون مستضيئين بنور العقيدة.. ونحن نسير في ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج أحدنا يده لم يكد يراها..
ـ إذن فأنت ترى يا أبا سفيان أن محمداً سيسود وعقيدته ستنتشر.
ـ بلى يا صفوان بلى.. ما لم يحدث ما لم يكن في الحسبان.
ـ ماذا تعني بما لم يحدث في الحسبان يا أبا سفيان؟
ـ كأن يقتل محمد في إحدى غزواته أو يغتال من قبل أحد..
ـ إن كنت تظن يا أبا سفيان أن أحداً ممن حول محمد يقوم بهذه المهمة فهذا مستحيل فأصحاب محمد يكادون يعبدونه.
ويرفع أبو سفيان عقيرته صارخاً:
ـ يا قوم! ألا أحد يغدر بمحمد فإنه يمشي في الأسواق من دون حراسة وكأنه أحد أفراد سكان يثرب..!!
ـ إياك وركوب هذا المركب الخشن بل والتفكير فيه.. إني أنصحك وأستأذنك عم مساءً يا أبا سفيان..
ـ عم مساءً يا صفوان..
(المؤامرة)
وبعد ذهاب صفوان يمشي أبو سفيان في الصالة ذهاباً وإياباً، وهند جالسة تراقبه في ذهول وقلبها يحدثها أن زوجها مقدم على أمر جلل ولكن ما هو؟ إنها لم تتعود من أبي سفيان إخفاء أي شيء ينوي فعله مهما جلَّ أو عظم شأنه.. ويقطع عليها هواجسها طرق على الباب فتقول:
ـ الطارق على الباب غريب عن مكة يا أبا سفيان…
ـ صحيح يا هند.. ما أشد ذكاءك..
ـ ولكن ما جاء به في هذا الهزيع من الليل..؟
ـ لعلَّه صاحب حاجةً يا هند…
ـ لِمَ لَم يؤخر حاجته حتى الصباح…
ـ صاحب الحاجة أرعن يا بنت عتبة..
وتغتاظ هند من بروده فتقول بحدة:
ـ ولم تقول عنه أنه صاحب حاجة.. لم لا يكون عدواً يريد بك سوءاً..
ـ على كل حال هو صاحب حاجةً أليس كذلك؟
ـ خذ سلاحك وكن حذراً وأنت تفتح الباب وسأكون بقربك ومعي سلاحي..
ـ بورك فيك يا هند…
ويزداد الطرق على الباب فيذهب أبو سفيان ومعه سلاحه وهو يقول:
ـ من الطارق في هذا الليل البهيم؟
ـ صديق يا أبا سفيان..
ـ انتسب يا هذا.
ـ ولِمَ كل هذه الحيطة يا أبا سفيان - لقد جئتك في الأمر الذي كنت تتحدث فيه هذا الصباح..
ويدخل الطارق وهو فتى من الأعراب لما يبلغ العقد الثالث من العمر فيسلم على أبي سفيان قائلاً..
ـ أنعمت مساءً يا أبا سفيان..
ـ بل قل أنعمت صباحاً يا أخا العرب فقد أقبل الصباح..
ـ ولكني لم أستطع المجيء إليك قبل أن يسكن كل شيء في مكة.
ـ حسناً. اجلس وهات ما عندك..
ـ ويجلس الإعرابي وهو يتطلع يمنة ويسرة ثم يقول:
ـ يا أبا سفيان كنت تتكلم اليوم عمن يغدر محمداً..
ـ بلى.. وما دخلك في الأمر؟
ـ لقد وجدت أجمع الرجال قلباً وأشدهم بطشاً وأسرعهم جرياً فإن أنت قويتني خرجت إليه حتى اغتاله فمعي خنجر مثل خافية النسر فأقتله ثم آخذ في عير فأسير وأسبق القوم عدواً فإني هاد بالطرق..
ويطرق أبو سفيان قليلاً يفكر في ما قاله الإعرابي ثم قال:
ـ ومن يكفل هذا القول أيها الأعرابي؟
ـ أمور كهذه يا أبا سفيان لا تحتاج كما تعلم إلى كفيل أو شهيد وإنما إلى ثقة فإن رأيتني أهلاً لثقتك فحباً وكرامة وإلاَّ فكل عند أهله..
ويصمت أبو سفيان وفكره يزن كل كلمة قالها الأعرابي ويقلبها على وجوهها وأخيراً يقبل على الأعرابي وقد راقه كلامه فيقول:
ـ أنت واللات والعزى صاحبنا وأهل لثقتنا. قم إلى أحد أبا عري وهذه نفقة طريقك ثم أطو أمرك..
وينهض الأعرابي وقد تسلم النفقة ويأخذه أبو سفيان إلى مراح الإبل فينتقي أحد الأباعر ويركبه ويودع أبا سفيان قائلاً:
ـ ستجدني عند حسن ظنك يا أبا سفيان..
ويعود أبو سفيان إلى داره فتستقبله هند قائلة:
ـ أتراه أهلاً لهذه المهمة يا أبا سفيان..
ـ إن كان أهلاً كفانا شر محمد وهذا ما نبغيه وإن كان غير ذلك كفينا شر أمثاله من الأدعياء..
ـ والله ما أدري يا أبا سفيان.. منذ سمعتك تتكلم مع ذلك الأعرابي في أمر محمد ورؤى من الشك واليقين تطوف بخاطري يساجل بعضها البعض وما أكثر ما قتل في هذه المساجلة..
ـ المهمة خطيرة وشاقة وخطورتها تتجلى إن فشل هذا الأعرابي في مهمته وعرف محمد أني وراء ذلك..
ـ بلى يا أبا سفيان بلى.. وسينتقم منك..
ـ كل من هو في مركزي يا هند معرض للاغتيال.. وخاصة إذا دخل في هذا المضمار..
ـ وقد دخلته يا أبا سفيان.. وما كان أغناك عنه…
ـ نسيت فعائل محمد يا هند..
ـ ولكني انتقمت لبعضها يوم أحد..
ـ ولو تمكنت من الانتقام من محمد.. ألا تفعلين؟
ـ لا أتأخر ولكن بشرط ألاَّ تكون أنت الضحية الأخرى..
ـ بورك فيك يا هند.. بورك فيك.. هيا بنا نهجع قليلاً فقد آذن الفجر..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :892  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 56 من 83
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور معراج نواب مرزا

المؤرخ والجغرافي والباحث التراثي المعروف.