شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة المحتفى به الدكتور عبد الله الغذامي ))
ثم تحدث المحتفى به سعادة الدكتور عبد الله الغذامي فقال:
- بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين.. والصلاة والسلام على أشرف المرسلين..
- حينما بدأ الأستاذ عبد المقصود خوجه وأشار إلى قضية الكتاب وإلى أن الكتاب قد وزع في إحدى الاثنينيات منذ شهرين أو تزيد، كان الهدف هو إتاحة الفرصة للحوار والمناقشة حول الكتاب، والآن يبدو أنني وضعت نفسي في مفترق طرق، فما دام أن النقاش هو الهدف فعندئذٍ تكون الأطراف الراغبة في النقاش هي التي تطرح القضايا أولاً، وأتولى أنا الرد أو المداخلة في الموضوعات المثارة، لأنني أعتقد أن الكتاب وقد وجد في الوسط الثقافي منذ عام، قد عُرف من كافة المهتمين بقضية الكتاب الموضوعية أو بقضية الكتاب النظرية. كما أن توزيع الكتاب في الاثنينية في جلسات سابقة كان أيضاً يتيح فرصة للقراءة، مما يجعل أسباب النقاش تصدر من الراغبين فيه.
- على أني أود أن يكون الكتاب هو محور الجلسة لأني إذا ما قست نفسي بالذين جلسوا على هذا الكرسي من قبلي فأنا لست إلا تلميذاً لهم، وما تجربتي وخبرتي قياساً بتجارب الأساتذة الذين جلسوا على هذا الكرسي في السنوات الثلاث الماضية إلا تجربة تدب على استحياء إذا قيست بتلك التجارب الشامخة. فلتغفروا لتجربتي حياءها، ثم إذا ما هي استحت توارت وابتعدت عن جو يثير الحياء في نفسها. لهذا فإنني لو انتقلت إلى الكتاب لأجعله قضية الليلة، ولعلني من خلالها أحاول أن أجير التقدير الليلة ليكون لحمزة شحاته، رحمه الله، الرجل الذي مر من حياتنا قبل أن نتمكن من أن نعطيه حقه من الإِجلال والإِكبار والتكريم، وما كان الكتاب إلا محاولة لتكريم الفكر والعطاء الإِنساني إذا قبل هذا العطاء، ولذلك فإن حمزة شحاته عندما صار أمامي نموذجاً إنسانياً كبيراً وشامخاً وشاهقاً، صرت أنا أسير نحو هذا النموذج لأكبر هذا النموذج وأستخلص من هذا النموذج القوي الإِنسانية الكلية الكبيرة التي يمثلها هذا النموذج.
- كان الأستاذ العزيز أستاذي الجليل الأستاذ محمد حسين زيدان قد وجه لي سؤالاً في الأسبوع ما قبل الماضي، سألني عن سبب اختياري لحمزة شحاته ليكون موضوعاً لكتابي؟ وقد أجبت ليلتها وقلت: إنني لم أختر حمزة شحاته، ولكن حمزة شحاته هو الذي اختارني، وهذه هي الحقيقة. في الواقع أن الموضوع إذا سما وكبر وعظم لا يكون مادة مختارة ولكن يكون هو المادة التي تقوم بالاختيار، هي التي توجه الدراسة والبحث. على أن الباحث إذا كان أكبر من مادته فالمادة إذن تضيع بين يديه وتكون صغيرة، والحقائق التي يصل إليها تكون صغيرة بطبيعة الحال. لكن إذا كانت المادة أكبر من الباحث وأكبر من الطرح النظري فعندئذٍ المادة التي هي موضوع البحث تسمو بالباحث وبالنظرية، لتفتح له آفاقاً لم تفتح من قبل. هذا ما حدث مع حمزة شحاته.
- حمزة شحاته هذا الرجل الذي بهرني، أول ما بهرني هو أنني في مسعاي للبحث عن هذه الشخصية التي كانت بالنسبة لي لغزاً كنت أطرق أبواب عارفيه وبعضهم موجود هنا، وقمت بتسجيلات للقاءات معهم. كنت أطرق أبوابهم وأسألهم عن هذا الرجل، وكانوا كلهم رجالاً مثقفين، كل واحد منهم بمثابة الند لحمزة شحاته، ولكني أجد كل واحد منهم يثني على حمزة شحاته ثناءً يتجاوز به حد الصفات العادية لرجل عادي، أي أنهم اخترقوا قاعدة المعاصرة حجاب. فنحن تعلمنا من أسلافنا أن المتعاصرين عادةً يقلل بعضهم من شأن بعض، ولا تظهر عظمة الرجل إلا بعد أن يمضي عصره ويأتي جيل آخر ينظر إليه بإنصاف، ولكن علاقة شيوخنا وأساتذتنا مع حمزة شحاته بالرغم من المعاصرة كانت علاقة موضوعية، يكبرون هذا الرجل ويثنون عليه ثناءً بالغاً، اجتمعوا على الثناء واتفقوا عليه.
- من هنا كانت المعادلة المنطقية العادية: إن إجماع الناس على حمزة شحاته يرمز إلى عظمة الرجل، ولا بد أن نبحث عن هذا الرمز. ومن هنا بدأت بالبحث عن نصوصه الشعرية والنثرية ورسائله ومقولاته، واكتشفت خطوة أنني أمام نموذج أدبي عربي، قد يكون إضافة عربية تأتي بجانب المعري وبجانب أبي حيان التوحيدي، وبجانب جبران خليل جبران. هذه الأمثلة التي هي أمثلة غريبة في أدبنا، لأنها تجمع مواهب متعددة مع حِسٍّ اغترابي وعُصابي.
- وأشار الأستاذ محمد حسين زيدان في مناسبات عديدة وقال: إن حمزة شحاته وأضاف إليه حسين سرحان هما الرجلان اللذان يجيدان الشعر والنثر معاً، وهذه ميزة في الغالب تتعذر على كثير من الكُتَّاب، إذ أن الكُتَّاب منذ أن قرر أفلاطون في العصور الماضية أن الكاتب يجيد في موهبة واحدة فقط ولا يتمكن من إجادة مواهب أخرى، وإذا ما دخل إلى مواهب أخرى ليجيدها أسقط عليها موهبته السابقة، فظلت موهبته السابقة تفرض وجودها على المواهب الأخرى وتصطبغ بها، حيث تجعلها نسخاً لها وليست موهبة قائمة بذاتها. لكن حمزة شحاته تمرد على هذه القاعدة فأجاد في الشعر والنثر بشروطهما. وكانت المعضلة لكي ندخل إلى هذا النموذج المتميز الذي أتقن أشياء كثيرة إضافةً إلى الأشياء الأدبية، لدرجة أن الأساتذة من أصدقائه أشاروا إلى إجادته حتى في عزف العود، في لعب الشطرنج، وحتى في الطبخ والطبيخ، حتى في الحديث وكانوا يروون عنه أنه يتحدث لعشر ساعات وبعضهم قال عشرين ساعة، دون انفصال. وكان يجادل ويناقش، وكان له من القدرة أن يقنع سامعيه دون أن يجرح كبرياءهم أو إحساسهم بأنفسهم، أي أنه استطاع أن يقيم معادلة بين القدرة العلمية والتقدير الأخلاقي للمستمع.
- من هنا صرت في مواجهة مع رجل ليس كأي أديب أو كأي إنسان، مما يقدمه لنا تاريخ الأدب، وهذا يتطلب أن ندخل إليه من خلال نظرية تحمل القدرة على النظرة الكلية، فلم يكن من سبيل إلا أن أسلك طريق الألسنية. والألسنية تتجه إلى مدارس عديدة، ومن أبرز مدارسها التي اعتمدت عليها أو اتجاهاتها التي اعتمدت عليها وسميتها مفاتيح النص هي ثلاث، الأولى: البنيوية، والثانية: السميولوجية، والثالثة: التشريحية. وأبدأ بالأخيرة التي هي القضية المطروحة الآن في النقد الأدبي والتي هي التشريحية.
- فالتشريحية تقوم أهم ما تقوم عليه على مفهوم الأثر، ومفهوم الأثر يقول: بأن العمل أي عمل هو بأثره وليس بجوهره، وما يتركه العمل في نفوسنا هو حقيقة هذا العمل. طبعاً هذا مفهوم يتسق اتساقاً تاماً مع المفهوم الإِسلامي للعمل في الحياة، ولست بحاجة أن أذكركم وجميعكم بمثابة أساتذتي بالحديث النبوي المروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو أول الأحاديث التي تعلمناها في المدارس حديث: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه". نبدأ الآن ربط العمل بالنية، أي أن العمل بأثره وبالهدف الذي يقصد من ورائه وليس بجوهره، لأن الهجرة وقعت من رجلين تحركاً حسياً من مكة المكرمة وركبا جمليهما واتجها إلى المدينة المنورة، فالحدث الحسي قد تم وكان من الممكن أن توصف تلكما العمليتان بأنهما هجرتان، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام وقد أبلغه الله أو أشعره الله باختلاف النوايا بين الاثنين سجل لأحدهما الهجرة ونفاها عن الآخر، أي أن الحدث لا يوصف بناء على ما حدث حسياً، ولكن بناءً على القوة النفسية التي تحيط به انطلاقاً منذ البدء وانتهاءً بالغاية.
- إذن مفهوم الأثر عندما نأتي إليه في النص، وهو أن النص ليس في جوهره ولكن في أثره، نكون إذن في مواجهة مع مفهوم فلسفي من الممكن أن يفلسف لنا تفاعلنا وتحركنا مع الحياة، هذا التحرك وهذا التفاعل إذا استطعنا أن ننطلق منه ومن خلاله فنحن عندئذٍ نستطيع أن ندخل الأدب إلى الحياة، لا لكي يكون مجرد جمالية تزين الحياة، ولكن لكي يكون قوة فاعلة توجه الحياة وتؤثر فيها، وتنطبق عندئذٍ النظرية مع السلوك ونعيد الربط بين المعتقد وبين المسلك. وهذه القضية التي هي ثنائية المعتقد والمسلك هي المشكلة التي أرى أن أمتنا الإِسلامية وأمتنا العربية خاصةً تعاني منها أشد العناء، وهي التي أوصلت بها إلى هذا الانحدار الحضاري، لأنها تعتقد شيئاً ولكنها تسلك مسلكاً آخر مختلفاً عما تعتقده. فإذن لكي نحول أمتنا مرةً أخرى إلى أمة متحضرة، علينا أن نعيد الربط بين معتقدها ومسلكها ونفسر عملها بناءً على وظيفة هذا العمل في المجتمع، وليس بناءً على مجرد حدوثه.
- يحضرني هنا أثر أو مقولة تروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه... يقول علي: "المجتهد المخطئ أحب إليّ من ألف زاهد" هذه المقولة تتضمن هذا المعنى السامي، وهو أن العمل لا يكفي فقط أن يكون صالحاً في ذاته، ولكن لا بد أن يكور مصلحاً لغيره؛ لأن الزاهد رجل رغب في النجاة بنفسه وسعى إليها وترك غيره يغرق في آثامه، أما المجتهد حتى وإن أخطأ فإنه سعى لكي ينقذ الآخرين من آثامهم ويسلك بهم طريق الصواب.
- هذه معادلات وإن كانت تبدو فلسفية إلا أننا إن حاولنا أن نترجمها ترجمة مسلكية على النص الأدبي وعلى الدرس الأدبي - وأنا بالضرورة وبكل تأكيد مجالي هو مجال الأدب – فهي الثغرة التي أستطيع أن أتحرك فيها، فإذا استطعنا أن نسحب المفهومات الإِسلامية مستعينين بتطبيقها بمفهومات حديثة، تتساوق هذه المفهومات مع بعضها، وجعلنا النص سواء هذا النص كان حمزة شحاته كأثر أدبي متكامل أم كان غير حمزة شحاته. لكن موضوعي هو حمزة شحاته فعندئذٍ نحن نسعى أن نقيم معادلة نظرية ربما تكون فلسفية، لكن هدفها ليس التفلسف وإنما هو التطبيق.
- سعيت من هذا المدخل إلى أن أطبق الألسنية، فالألسنية طبعاً تقوم أول ما تقوم على الثنائية التي طرحها دي سوسير وفرق فيها بين الآنية والتاريخية، على أساس أن دراسة اللغة يجب أن تنبع من أساسها الآني وليس أساسها التاريخي.. أساسها الآني هو المادة التي نستطيع أن نتعامل معها كوجود أمامنا.. كنص ماثل أمامنا، وليس كامتداد تاريخي معجمي يمثل الدلالات التاريخية للكلمات.. النص في حقيقته هو ما هو ماثل أمامك، وليس ما كان قبل النص مما يمثل رصيداً معجمياً للنص. فتفريق سوسير بين الآنية والتاريخية على أساس أن ضرورة دراسة اللغة يجب أن تنبع عن الطريقة التي تستخدمها الآن كشيء ماثل أمامنا قاده لأن يفرق بين نوعين من أنواع التمثل التطبيقي لهذه النظرية وهو ثنائية اللغة - الخطاب. فالشيء المشترك بين الناس عامةً الذي نشترك فيه مع امرئ القيس ونشترك فيه مع الآنية من بعدنا ولو بعد ألف عام من الآن هو اللغة، وهي تمثل مستودعاً كبيراً يشترك فيه كل الناطقين بهذه اللغة، ثم بعد هذا المستودع الكبير الذي ننهل منه نحن جميعاً ما أنطقه أنا أو ينطقه فلان من الناس هو يمثل الخطاب، فنحن إذن بين شيئين: اللغة، وهذه شيء مشترك بين الناطق والمتلقي، بين القديم والحديث والآني، وبجانب اللغة نجد الخطاب الذي هو خصوصية فردية، وهو الشيء الذي قمت أنا بانتقائه من هذا المستودع الكبير، واستخدمته على لساني.
- هذا الشيء الذي يتم استخدامه على لساني سيتلقاه المستمعون أو القراء أو الذين يأتون بعد ذلك بزمن، وسيعيدونه إلى اللغة ليستطيعوا تفسيره حسب أعراف اللغة. العلاقة أيضاً أنني أقدم خطاباً، هذا الخطاب مأخوذ من اللغة، ثم بعد ذلك يعود إلى اللغة وهو امتداد لها ولكنه في الوقت نفسه إثراءً لها. فكل شاعر يأتي ويكتب شعره إنما استمد قصيدته من الموروث اللغوي العظيم الذي ورثه عن أسلافه، وبمقدار ما استمد من هذا الموروث فإنه يعطي لهذا الموروث، لأن قصيدته ستدخل إلى هذا الموروث، ومع الزمن ستغني هذا الموروث صياغات واستخدامات ومصطلحات جديدة، ستجعل هذا الموروث ينمو وباستمرار...
- بعد ذلك تأتي نظرية مهمة أضافها البنيويون وهي: نظرية العلاقة، وهي أن أي نص من النصوص إنما يتكون من بنىً صغرى، هذه البنى الصغرى تتجمع مع بعضها لتكوين بنية كبيرة هي النص، ولكي نفهم هذه البنية الكبيرة فعلينا أن نخترق الكل متجهين إلى الجزء لنعود من الجزء إلى الكل. هذه الطريقة استعادتها البنيوية من الفيزياء الحديثة، فالفيزياء الحديثة قامت على اختراق الجسد إلى الذرة ومن الذرة تعود إلى الجسد، ولم تكتف الفيزياء الحديثة بالطرق القديمة التي تتعامل مع الجسد فقط ولكنها نفذت إلى الذرة، وكذلك علينا في النصوص أيضاً أن لا نكتفي بالجسد الخارجي، ولكن علينا أن ننفذ إلى الذرة الجزئية الصغيرة التي نفحصها ونفحص مجموعها من الذرات ومجموعها من الجزئيات، ومن خلالها نعود إلى الكل الذي هو الإِجماع التام للنص أو لمجموعة النصوص، لنفهم العلاقة بين البنية الصغرى والبنية الكبرى، هذا يطبق تطبيقاً تاماً مفهوم إنما الأعمال بالنيات، على أساس أن قيمة الشيء في وظيفته وليست في جوهره. فما دامت البنية الصغرى مع بنية أخرى ثانية وثالثة تتضافر مع بعضها لتكون النص الكامل، فامرؤ القيس عندما يقول: قفا نبك لو وقف عند هذه الجملة لكانت جملة أمر يوجهها لرجلين لكي يقفا وليبكيا معه على شيء ما، ولكنه عندما يستمر ويقول:
"قفا نبـك مـن ذكـرى حبيب ومـنزل
بسقط اللوى بيـن الدخــول فحومـل"
- ويستمر في قصيدته إلى آخرها، وتصبح كلمة أو جملة: قفا نبك جزءاً لا يتجزأ من التكوين الكبير الذي انتهى مع البيت الخمسين أو البيت الثمانين، وبدون قفا نبك التي هي الجملة الأولى لن يتسنى لنا فهم صحيح وتام للبيت الأخير، لأن القصيدة كل متكامل بعضه ينمو مع بعض تماماً، مثل ما نقول: الرقم العشرون هو مجموعة أرقام تبتدئ من 1 إلى 19 ثم تفضي إلى الرقم 20 أي أننا لو حذفنا الرقم 1 فلن نحصل على الرقم 20 ولكن سنحصل على الرقم 19. وكذلك لو حذفنا 2 أو 3 أو حذفنا رقماً في الوسط فسيتناقص الرقم 20، فالرقم 20 قيمة كلية تكونت من مجموعة الأرقام 1، 2، 3، إلى آخره... إلى أن أصل إلى رقم 20.
- فالعلاقة بين الجزء والكل علاقة عضوية لا يتسنى معها أن نفصل جزءاً، مجرد فصل جزء سيغير الكل وسيغير صورة الكل. وهذه نظرية أخذ بها من علم النفس الجشطاط.. علم النفس الجشطاط، وهي نظرية (الكل) قالوا إننا لو نظرنا إلى الوجه ونظرنا إلى مكونات الوجه من عينين وأنف وفم إلى آخره، لو عزلنا العين وحدها وأقمنا معادلات رياضية عما في العين من صفات، وعزلنا الأنف وحده وأقمنا معادلات رياضية عما فيه من صفات، وكذلك الفم إلى آخره.. ثم جمعنا رياضياً هذه الصفات لوجدنا أن في الوجه من الصفات أكثر مما في تلك الصفات معزولة، أي أن الأشياء عندما تتكون مع بعضها تعطي قيماً أكثر من القيم الموجودة في كل واحدة وحدها. إذا وضعنا شيئاً مع شيء من خلال العلاقة بين الشيئين ينمو شيء ثالث ليس في الأول وليس في الثاني، ولكنه ينبثق من تقابل الاثنين معاً.
- إذن نظام العلاقة نظام مهم ونظرية العلاقة ومفهومها مهمة، من هنا اتكأت عليها البنيوية لكي تصدر من البنية فاحصة لها، لتميز طبيعة العلاقة بينها وبين البنية الأخرى. ومن هنا قال شتراوس الناقد البنيوي: إن مهمة البنيوي أي يقول لنا لماذا الأعمال الجميلة تأسرنا؟ أي أن العمل الجميل يكون جميلاَ في مستويات ذوقية، ثم نأتي لنحاول أن نفحص أسباب هذا الجمال، وهذا هو الذي يؤدي بنا بالتالي إلى تفكيك النص أو تشريحه لنعرف جزئياته التي تصل إلى كله.
- ثم هناك المدرسة السميولوجية، وهي علم الإِشارات، وهي التي تقوم على مبدأ أن اللغة نظام من العلامات (الإِشارات) يتكون من مجموعة من (الدوال) فالكلمات إشارات وعلامات تتحرك صوب المتصورات الذهنية. فكلمة قام أو جلس هي كلمة رمزية، لكن معنى قام أو جلس هو المعنى الذي يقوم لدى المتلقي، فلو أن رجلاً لا يفهم معنى قام ولا معنى قال مهما قلنا له هاتين الكلمتين فهو لن ينفعل بهما أولن يتفاعل معهما، لأنه لا يفهم المدلول الذي تدلانه عليه، فإذن مع كل كلمة.. الكلمة تمثل إشارة والإِشارة لا بد أن تكون مفهومة من المتلقي، الإِشارة لا تحمل معناها، ولكن الذي يحمل المعنى هو المتلقي لأنه يربط بأن هذه الإِشارة تحمل ذلك المعنى، فقام تحمل صفة النهوض من الجلوس، إذا كانت هذه الكلمة لا تمثل هذا المعنى في ذهن المتلقي، فالكلمة عندئذٍ إشارة مبهمة لا يمكن تفسيرها. هذا هو المعنى الذي أشارت إليه السميولوجية بين علاقة الدال والمدلول، وأن العلاقة بينهما هي شيء لا بد أن يتم تحققه على يد المتلقي الذي سيقوم بتفسير هذه الإِشارة بناءً على ما لديه من رصيد.
- من هنا تتأكد علاقة اللغة مع الخطاب، فالإِشارة تمثل خطاباً لا يمكن تفسيره إلا بالعودة إلى اللغة، فنحن في كل مرة نتلاقى مع كلمة لا نفهمها أو لا نعرف معناها، أول ما نفعل هو أن نعود إلى القاموس أو أي معجم من معجمات اللغة لنستشير هذا المعجم عن معنى هذه الكلمة، أي أن الكلمة إشارة، وصرنا نبحث عن مدلول هذه الإِشارة لكي نجده في معجم اللغة.
- أخشى أن أكون قد أثقلت وأطلت لا أدري، لكنني وضعت في موضع لا بد أن أضع مقدمة، أرجو أن يكون كلامي ليس إسهاباً مملاً، لكنني أسعد بأي سؤال أو كلام أو مداخلة حول الموضوع.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1305  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 60 من 187
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج