شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
وتضحك الأقدار
كانت ((سهام)) ذات جمال ملحوظ بين أترابها في حارة ((الصيادين))، وكانت منذ لدونة عودها مشهورة بين أترابها بمحافظتها على كرامتها وشرفها بالرغم من أنها كانت تعيش مع والدها الكفيف على واردات دار صغيرة هي كل ما يملكون، وقد تقدم إليها ((خطاب)) كثيرون ولكنها كانت تعتذر إليهم بمسؤوليتها تجاه والدها الضرير.
وجاءتها ذات صباح جارتها ((أم توفيق)) فابتدرتها ((سهام)) قائلة:
ـ أسمعت آخر الأخبار عن ((حندوس)) يا أم توفيق؟
ـ لا... هل من جديد بعد اعتذارك اللبق...؟؟
ـ البركة فيك يا أم توفيق وفي آرائك النيرة...
ـ العفو يا سهام... فأنت تعرفين أني لا أضمر سوءاً أو أحس بكره ((لحندوس))، إنما رأيت أنه ليس الرجل الذي ستسعدين معه فهو غليظ الطبع، خشن المعاملة، تزوج أكثر من مرة، وطلق، والرجل الذي يتعود على الطلاق لا يفهم معنى الحياة الزوجية...
ـ في الحقيقة هذه الناحية هي التي أخافتني منه حين قلتها لي، لأني ما علمت بها إلا منك... هذا بالإضافة إلى فارق السن...
ـ إذاً، فما هي آخر الأخبار عن ((حندوس))؟
ـ بلغني أنه يتهدد ويتوعد لأنه ظن أني فضلت عليه شخصاً آخر...
ـ فليفعل ما شاء له أن يفعل، فعين الله لا تنام عن الظالمين وعين الشرطة ترصد المعتدين والمجرمين... المهم...
ـ المهمّ ماذا؟
ـ موضوع عملية والدك؛ فالدكتور قد حدد لها يوم الخميس القادم... ووالدك يجب أن يدخل المستشفى قبل العملية لإجراء الفحوص اللازمة... فهل جهزت ما يلزم له؟
ـ من حيث ملابس والدي وغياراته كلها جاهزة. ولكن هل تدبرت أجرة المستشفى والطبيب؟
ـ لقد تدبرتها والحمد لله.
ـ ألف شكر... ربنا يقدرني على رد الجميل... متى تريدين أن نذهب للكاتب العدل يا أم توفيق؟
ـ ولم نذهب للكاتب العدل؟
ـ لرهن الدار مقابل ما ستدفعين للمستشفى وللطبيب الجراح..
ـ لا موجب للرهن يا سهام، فوالدك والدي وما سأدفعه إن شاء الله ستسددينه في المستقبل، المهم... ربنا ينجح العملية ويعيد إلى والدك نور عينيه.
ـ جزاك الله عنا كل خير.
ـ إذن نأخذ الوالد غداً إلى المستشفى بإذن الله..
ـ بإذن الله..
ـ مع السلامة وإلى اللقاء...
* * *
وفي أحد المقاهي المنتشرة على شاطىء ((الزهور)) جلس ((حندوس)) مع زميل له يحتسيان الشاي. وكان ((حندوس)) يدخن بصورة عصبية وبنهم استرعى انتباه زميله ((سلوم)) فسأله:
ـ ما هذا يا ((حندوس))؟ إنك تدخن بشكل جنوني أتريد أن تكون أول إنسان ينتحر من التدخين؟!...
ـ خلاص يا سلوم خلاص؛ لم تعد للحياة قيمة في نظري بعد أن رفضت ((سهام)) الزواج مني...
ـ ((سهام))!! غير معقول... أكاد لا أصدق ما تقول؟
ـ ولكن هذه هي الحقيقة المرة يا ((سلوم)) أقولها وأنا أشك فيما أقول كأني أروي شيئاً لم أعشه ولم أتذوق مرارته وآلامه وأحزانه...
ـ يلوح لي أن ((سهام)) حين اتخذت قرارها لم تكن مالكة لرشدها ووعيها...
ـ كيف يا سلوم كيف؟
ـ احتجاج ((سهام)) بوالدها الأعمى ليس سبباً وجيهاً لامتناعها عن الزواج.
ـ لعلها تفكر في غيري... لعل قلبها مشغول بفتى من شباب اليوم...
ـ وهل هنالك فتى في شبابك ورجولتك يا ((حندوس)). إن ((سهام)) ستندم حين لا ينفع الندم...
ـ سلوم... يهمني حالياً أن أعرف من هو الشخص الذي فضلته ((سهام)) علي..
ـ لا أظن أن هنالك مزاحماً لك في الميدان ولكن...
ـ ولكن ماذا؟
ـ أعداؤك يا ((حندوس)).
ـ أعدائي... ليس ذلك ببعيد... أجل سأبحث عنهم وسألقنهم درساً لن ينسوه..
ـ وأنا سأساعدك في البحث عنهم...
ـ شكراً... وأرجو أن تعثر على الفتى الذي فضلته ((سهام)) علي...
ـ حسناً... كن مطمئناً يا ((حندوس)) فسيأتيك ((سلوم)) بالخبر اليقين.
ونجحت العملية التي أجريت لوالد ((سهام)) وارتد بصره إليه، وخرج من المستشفى وكله ألسنة شكر وحمد الله تعالى ثم للطبيب الجراح ولكبير الممرضين ((سمير)) الذي اعتنى به عناية فائقة تركت أثراً عميقاً في نفس ((سهام)).
و ((سمير)) فتى من حارة السَّقايين، جميل الصورة لماح الذكاء افتقد والده في حادث سيارة وهو طفل فكفله خاله ونشأه تنشئة صالحة وعلمه حتى المرحلة الثانوية وكاد يدخل الجامعة لولا وفاة خاله، إذ اضطر إلى أن يشتغل بالمستشفى. وقد استطاع بكده وجده وسهره ودماثة أخلاقه أن يصبح كبير الممرضين فيه خلال سنتين من بدء انتسابه.
وغرق ((سمير)) في حب ((سهام)) منذ اللحظة الأولى التي جاءت فيها بوالدها إلى المستشفى وأعجبت ((سهام)) بحسن معاملة ((سمير)) لأبيها وتفانيه في خدمته أثناء وجوده بالمستشفى، وتحول هذا الإعجاب إلى بداية حب بعد الزيارات التي كان يقوم بها ((سمير)) لوالد ((سهام)) بحجة وضع مراهم على عينيه تارة ووضع قطرات وكمادات تارة أخرى. وكان من نتيجة ذلك أن تقدم ((سمير)) لخطبة ((سهام)) فقبل والدها وتم الزفاف في هدوء وبساطة شأن أبناء الطبقة الكادحة.
وجن جنون ((حندوس)) حين بلغه الخبر فطفق يشد شعره ويضرب كفاً على كف، ويزفر كل زفرة تكاد روحه تصعد معها، وزميله ((سلوم)) يحاول أن يهدىء من ثائرته:
ـ بلى.. بلى.. فالمثل يقول:
ـ إن من خشي العفريت لا يلبث أن يراه...
ـ ولكن ((سهام)) سوف تندم على فعلتها هذه..
ـ والله ما أدري يا ((حندوس)) كيف تقاعست عن محاولة خطبة ((سهام)) للمرة الثانية بعد أن أبصر والدها حتى جاء هذا الغريب من حارة ((السقايين)) فاختطفها من بين يديك..
ـ صدقت يا ((سلوم)) أنا شخصياً لا اقدر أن أعلل سبب تقاعسي، ألعلّه المكتوب.. مكتوب علىَّ الشقاء.. مكتوب علىَّ الحرمان...
ـ لا تحزن يا ((حندوس)) فالفتيات ((على راس من يشيل)).
ـ ولكن ((سهام)) ليست ككل الفتيات إنها..
ـ إنها ماذا؟
ـ خلقت من طينة غير طينتهن..
ـ يا حندوس يا أخي يا حندوس.. قل لأنك تحبها حباً يعميك عن رؤية غيرها.. لم لا تخطب حميدة بنت يعقوب..
ـ يظهر أنك كفَّنت الذوق ودفنته يا ((سلوم)).
ـ كيف يا سيد العارفين؟..
ـ حميدة تضعها في خفة وملاحة ((سهام)).. يظهر أنك مركب ((نضارة)) عشرة على عشرة أو نضارة قديمة..
ـ أما من حيث نظري فالحمد لله ستة على ستة...
ـ نظر القراءة والكتابة غير نظر المحبة والغرام.. فهمت يا حذق؟...
ـ فهمت...
ـ فهمت... برافو عليك..
ـ والعمل يا ((حندوس)).
ـ لازم أهاجر من البلد...
ـ لماذا؟ لماذا؟
ـ بأي وجه ألقى الأصحاب والأحباب والفتيات اللائي يرون بطل أحلامهم ((حندوس)) قد مرغ كرامته في التراب ولد ((مغموص)) اسمه سمير.
ـ لكن الزواج قسمة ونصيب.
ـ هذه لغة الاتكاليين.. وأنا الآن بين أمرين: إما أن أرتكب جريمة أحافظ بها على سمعتي أو أرحل من البلد..
ـ وأيهما اخترت..؟؟
ـ كلاهما مر يا ((سلوم)) غير أنني أميل إلى الرحيل لأن ارتكاب الجريمة يعرضني للسجن وعذاب السجن وأنا غير مستعد لتحمل ذلك..
ـ لم لا تكلف أحداً من صنائعك بهذه المهمة؟
ـ مثلاً.. أنت يا ((سلوم))!!
ـ لا يا عم.. يفتح الله.. أنا رجل أقوال لا رجل أعمال..
ـ حتى لو كلفت أحد صنائعي بهذه المهمة فلن أخلص من ملاحقة رجال الشرطة وسيكون مصيري غياهب السجن مع الفاعل الحقيقي بتهمة التحريض وهذا ما لا أرضاه..
ـ إذن فما الرأي يا حندوس؟
ـ هذا ما سنتفق عليه قريباً وقريباً جداً..
وتأتي ((أم توفيق)) كعادتها لزيارة ((سهام)) وهي في طريقها إلى عملها اليومي لتترك ولدها ((توفيق)) لديها فتستقبلها بالبشر والترحيب. وحول فنجان القهوة تقول ((أم توفيق)):
ـ ها... يا سهام... طمنيني... هل أنت مرتاحة في حياتك الجديدة؟
ـ الحمد لله يا أم توفيق ((فسمير)) في الحقيقة نعم الزوج العارف بواجبه نحوي ونحو والدي.
ـ هذا توفيق من الله سبحانه وتعالى.
ـ إنه جد عطوف على والدي يرعاه ويعتني به كما لو كان أباه... ووالدي أيضاً يحبه ويتفقده إذا ما تأخر في المجيء من عمله لأن شغله في المستشفى يأخذ أكثر وقته.
ـ الحياة جهاد يا سهام ((واكتساب لقمة العيش ليس أمراً سهلاً... أنت ترين كم أشقى وأكدّ وألفّ وأدور من بيت إلى بيت في سبيل لقمة العيش. ولكن..
ـ ولكن ماذا يا أم توفيق؟
ـ أراك بالرغم من الفرحة التي تشيع في وجهك تبدين قلقة وشاردة الذهن.
ـ لقد حلمت حلماً مزعجاً..
ـ خيراً إن شاء الله يا سهام...
ـ إن شاء الله خير...
ـ ألعلّك رأيت ((حندوس)) في المنام فصحوت متكدرة الخاطر وقد رأيته...
ـ ((حندوس))... على فكرة يا أم توفيق...
ـ قولي يا سهام...
ـ ((حندوس)) أصبحت أخشاه أكثر من ذي قبل...
ـ كيف تخشينه يا ((سهام)) وقد كان أول المهنئين ((لسمير)) على زواجه منك...
ـ إنه مثل ((حية التبن)) كما يقول المثل... إنه أحنى رأسه للعاصفة لكي يدبر لي ولزوجي مكيدة..
ـ رد الله كيده في نحره.
ـ والغريب أن زوجي ((سمير)) على علاقة طيبة ((بحندوس)).
ـ ألم تخبريه بتهديده لك عندما رفضت الزواج منه؟.
ـ لم تكن لديَّ الجرأة الكافية لفتح هذا الموضوع مع ((سمير)). بعدما سمعته يثني على رجولة ((حندوس)) ومساعدته للبؤساء والمساكين...
ـ ولكن يجب أن تحذريه من ((حندوس)) هذا.. وإذا كنت لا تجرئين على زوجك فسأقول له أنا ذلك...
ـ ليتك تفعلين وسأكون لك من الشاكرين...
ـ حسناً والآن أستودعك الله فلديَّ ارتباطات مع بعض السيدات اللواتي يرغبن في أن أصحبهن إلى المحال التجارية لشراء حاجيات وملابس.
ـ رافقتك السلامة وحالفك التوفيق وإلى اللقاء..
ـ شكراً يا سهام وإلى اللقاء...
ـ مع السلامة.. مع السلامة..
ويقهقه ((حندوس)) حين سأله ((سلوم)) قائلاً:
ـ ما هي أخبار ((سمير)) يا ((حندوس))...
ـ لقد صدق المغفل الربح الخيالي.
ـ إذن فالأمور تسير حسب الخطة المرسومة.
ـ تقريباً يا ((سلوم)).
ـ وماذا عن الدار ورهنها وهو بيت القصيد.
ـ وعد المغفل بأن يقنع عائلته بالرهن...
ـ للتاجر المحترم.
ـ للتاجر المحترم ((جمعان)) أم أنت يا ((حندوس))؟
ـ أنا يا مغفل أنت أيضاً.. أنا أطلب من ((سمير)) أن يرهن الدار باسمي.. وهل ترضى ((سهام)) بالرهن حين تسمع باسمي؟
ـ يا لك من داهية.. ولكن..
ـ ولكن ماذا؟
ـ كيف وجدت التاجر المزعوم ((جمعان)).
ـ إنه ممثل بارع وأعتقد أنه لو اشتغل بالتمثيل لنجح...
ـ أخشى أن ينطلي تمثيل ((جمعان)) عليك فتصبح الدار ملكاً له إذا ما عجز ((سمير)) عن التسديد..
ـ لا تخشَ يا ((سلوم)) فقد حسبت لكل شيء حسابه ولديَّ أوراق ومستندات على ((جمعان)) تحبط أية محاولة للغش والخداع من جهته...
ـ حسناً.. حسناً.. ومتى تنتظر أن يعود المغفل ((سمير)) بالجواب؟
ـ لا أدري، ولكني علمت أنه مهتم كل الاهتمام بالأمر يحلم الأحلام الجميلة، ويبني قصور الآمال الواسعة العريضة..
ـ حقاً إنه مغفل.. ومغفل جداً...
ـ مسكينة ((سهام)) لقد غشها وغرر بها...وخدعها بمظهره وبأحاديثه المُنَمّقة ومجاملاته حتى وقعت في حبائله...
ـ والغواني يغرهن الثناء.
ـ صدق الشاعر.. على كل حال ستصحو ((سهام)) قريباً لتجد أحلامها وقد تبخرت وأنها كانت تسعى وراء سراب..
ـ أراك يا ((حندوس)) كما يقول المغني: ((يا بايعني وأنا شاريك)).
ـ إنه الإخلاص في الحب يا ((سلوم))..
ـ أحقاً تقول إنك تحب ((سهام)) بعد كل ما جرى...
ـ أجل إني أحبها وسأبقى على حبها حتى الأبد..
وعقدت الدهشة لسان ((سهام)) وران عليها صمت رهيب، وطفر بها الخيال إلى أجواء بعيدة المدى فتراءت لها المؤامرة في أبشع صورها، وأحط وسائلها، وأحاط فكرها المثير، وحبها الصادق ((لسمير)) المأساة. فتوقفت حائرة بين الاستجابة والرفض. لقد أدركت أن ((حندوس)) وراء ذلك وأنه عازم على قطع موردهم الوحيد.. إنه يريد أن ينفذ وعيده.. موجات من الانفعالات تتلاطم على شطآن أفكارها وتتكسر ثم لا تلبث أن تزيد بنفس القوة والعنف.
أما ((سمير)) فكان كالراهب المتبثل أمام تمثال العذراء ينتظر كلمة زوجه الحاسمة... وأخيراً نطقت ((سهام)) قائلة:
ـ أواثق أنت يا ((سمير)) من ((جمعان))؟!
فأسرع ((سمير)) قائلاً:
ـ بكل تأكيد يا حبيبتي!
فتنهدت ((سهام)) تنهد المصدور ثم قالت:
ـ إذن فالدار وصاحبة الدار ملك يديك..
وانكفأ ((سمير)) يقبل يدي زوجته ورأسها بشكل هستيري، و ((سهام)) لا تمكنه من ذلك حفظاً على كرامته وهيبته ولكن ((سمير)) انقلب في لمح البصر طفلاً أجابت أمه سؤاله فانهال عليها لثماً وتقبيلاً كيفما اتفق.
ونام ((سمير)) نوماً هانئاً عميقاً يحلم بالثراء المنتظر.. أما ((سهام)) فلم يغمض لها جفن.. إنها تعرف المصير...إنها تفكر في الاستعداد لأيام عجاف وليالٍ طَخْياء...وظلت على هذه الحال حتى الهزيع الأخير من الليل ثم انسلت بهدوء من فراشها وذهبت وتوضأت وصلت بخشوع وحرارة وابتهلت إلى الله أن يكفيهم شر ((حندوس)). وأن يرد كيده في نحره...واستمرت في صلاتها ودعائها حتى أذنت صلاة الصبح فأدتها وعادت إلى فراشها وقد بعث الإيمان في قلبها شيئاً من الطمأنينة والتسليم لقضاء الله وقدره.
ورهنت الدار ((لجمعان)) وتسلم ثمنها ((سمير)) وأعاده إليه ليتاجر به وعاد ((سمير)) إلى ((سهام)) ليخبرها أن شريكه ((جمعان)) قد سافر من أجل هذه الصفقة التجارية الرابحة... فدفع ((سهام)) فضولها فسألته قائلة:
ـ ما هي هذه الصفقة التجارية التي ذهب شريكك لإنجازها؟
ففكر ((سمير)) ملياً ثم قال:
ـ لقد عاهدت ((شريكي)) على ألا أبوح بها...
وقاطعته زوجه قائلة:
ـ أهي من الخطورة بمكان حتى تستأهل السرية؟
ـ نعم يا حبيبتي... إنها...
وحاول أن يبوح بالسر ولكنه لاذ بالكتمان... وأدركت ((سهام)) ذلك فقالت بسخرية:
ـ شمس تطلع.. خبر يبان.. المهم يا زوجي العزيز أن تفكر في إيجاد مورد ثابت لنا، فالتجارة - كما تعلم - مغامرة.. وكل مغامرة معرضة للربح أو للخسارة، فقاطعها زوجها محتداً:
ـ فال الله ولا فالك يا شيخه.. فكري في النجاح... إن ((جمعان)) أكد لي أن هذه الصفقة رابحة مية في المية...
وتنهدت هيفاء وقالت:
ـ ربنا يجعل العواقب سليمة...
وانصرف ((سمير)) لعمله... وانصرفت ((سهام)) إلى أعمالها.. وفي عصارى ذلك اليوم زارتها جارتها ((أم توفيق)) فرحبت بها هيفاء وأوسعت لها صدر مجلسها كما يقولون..
كانت أم توفيق سيدة مسترجلة.. مات عنها زوجها وخلف لها ولدهما (توفيق) ولم يترك لها من حطام الدنيا شيئاً.. وعادها كثير من الخطاب فرفضت وفضلت أن تنكب على تربية ابنها الطفل فكانت تتركه عند جارتها ((سهام)) وتذهب هي إلى السوق تأخذ ((عينات)) الأقمشة من التجار وتطوف بها على البيوت في النهار وتأخذ عمولة على ما تبيع وعطفاً ومساعدة من تبيع عليهن من السيدات.. وفي الليل تسهر على ((تكتيل)) الصمادات (الغتر). وقد درت عليها أعمالها هذه ربحاً طيباً.. اشترت به داراً مؤلفة من طابقين: سكنت واحداً منها وأجرت الثاني.. ثم استخدمت سيدة من أقاربها لمساعدتها على العناية بالطفل والبيت ومؤانستها في وحدتها.
وكانت أم توفيق تحفظ ((لسهام)) رعايتها لابنها أيام الشدة. فكلما وجدت لديها فراغاً زارت ((سهام)) أو جاءت ((سهام)) لتزورها... وكان الطفل توفيق ينادي ((سهام)) دائماً بـ ((ماما)).. و ((سهام)) تحبه كما لو كان ابنها بحق وحقيق..
ولاحظت أم توفيق أثناء هذه الزيارة أن ((سهام)) ليست كعادتها فسألتها إن كانت تشكو من شيء.. فأجابتها بالنفي... ولكن عيني ((سهام)) تفضحانها.. ولم تشأ أم توفيق أن تلح على صديقتها ((سهام)) كما أن هذه خشيت على صبرها أن يذوب أمام أسئلة أم توفيق فلجأت إلى تغيير مجرى الحديث وقالت:
ـ في الحقيقة يا أختي.. أنا أشكو من الفراغ القاتل لا شغل اقطع به فراغي ولا طفل أشغل به نفسي..
فقاطعتها أم توفيق قائلة:
ـ أما الطفل فهذا بيد الله وما زلت في مقتبل العمر وربنا كريم... وأما الشغل فموجود إذا ما سعى الإنسان إليه..
ـ وأين هو الشغل؟! أريد أن أقوم بعمل أساعد به زوجي...
ـ حسناً يا ((سهام)) ما رأيك أن تشتركي معي...
ـ يسرني ذلك... ولكني لا أستطيع أن (أدور) على البيوت كما تفعلين لأن زوجي ((يحتاج إلى عنايتي بأكله ومشربه وبيتي يحتاج إلي وليست لدينا إمكانية لاستئجار صبي أو خادمة...
ـ حسناً.. إذن أنت تقومين (بالتكتيل)... وعلى فكرة أنا أعرف أنه لديك مبادىء خياطة، فقاطعتها ((سهام)) قائلة:
ـ أما من جهة (التكتيل) فأنا على أتم الاستعداد.. وأما الخياطة فمع إلمامي بها إلا أن عدم وجود (مكينة) هو حجر العثرة في ذلك..
فضحكت أم توفيق وقالت:
ـ ولا يهمك يا أختي أنا آخذ المكينة بالتقسيط على اسمي... بس هل أنت مستعدة للمشاركة؟ فابتسمت ((سهام)) وقالت:
ـ من الآن يا ست أم توفيق...
ـ توكلنا على الله..
ـ توكلنا على الله..
وصدقت أم توفيق في كلامها... وفي ضحى اليوم التالي لزيارتها شوهد حمال يدق باب ((سهام)) ومعه المكينة.. وبعد وصوله بدقائق جاءت أم توفيق وخلفها خادم يحمل ((بقشة)) كبيرة...
ووضعت المكينة في جانب من الغرفة.. و (فردت) أم توفيق ما في (البقشة) فإذا بها (الصمايد) وست قطع من قماش لصنعها ثياباً للأطفال. ففرحت ((سهام)) بذلك ولم تترك كلمة شكر في قاموس معرفتها إلا رددتها وأم توفيق تردد:
ـ العفو يا أختي أنا لا أنسى (جمايلك) على ولدي توفيق.. اتركينا الآن من عبارات الشكر... ودعينا نقرأ الفاتحة وندعو الله أن يبارك عملنا..
فقرأتا الفاتحة ودعيتا الله.. وسارت أم توفيق لدارها بعد أن زودت ((سهام)) بلوازم الخياطة ومقاييس الثياب.. وودعتها ((سهام)) وفي كل جانحة من جوانحها شكر لأم توفيق..
وعاد ((سمير)) في المساء إلى داره فراعه صوت ((المكينة)) وفضلات القماش متناثرة هنا وهناك فنهضت ((سهام)) للقائه فبادرها قائلاً والاستغراب يعلو محياه.
ـ من أين لك هذا؟
ـ البركة في أم توفيق جارتنا.. أجلس يا حبيبي وسأطلعك على كل شيء..
وقصت عليه ما جرى بينها وبين أم توفيق، وبعد أن انتهت ربت ((سمير)) على كتفها وقال والفرحة تشيع في وجهه:
ـ أصبحت تاجرة يا ((سهام))..
فضحكت وأجابت:
ـ مفيش حد أحسن من حد... أليس أنا تاجرة من (منازلهم).
وضمها إليه وهو يضحك ملء شدقيه ثم انفلتت من بين يديه وذهبت لتحضير العشاء وبعد أن تعشيا انصرفت هي لشغلها وعكف هو على قراءة بعض الصحف والمجلات..
وتلقت ((سهام)) آخر الأسبوع حصتها من أرباح عملها فغمرتها فرحة طاغية وحمدت الله سبحانه وتعالى على ما أنعم وكررت عميق شكرها وعرفانها بجميل أم توفيق.
وفرح ((سمير)) بكسب زوجه الكسب الذي سيمنحها بعض الرفاهية والسعادة.
ومرت الأيام ولا أخبار عن ((جمعان)) وبدأ القلق يساور ((سمير)) فكانت ((سهام)) تهون عليه الأمور وتمسح بحنانها ما يعتريه من قلق وحيرة.
ودر شغل ((سهام)) وأم توفيق)) عليهما أرباحاً طيبة... فتوسعا في عملهما واستخدما بعض البنات للقيام ببعض مستلزمات الخياطة الروتينية.. واستأجرتا غرفتين في منزل جارة لهما لتكونا نواة (مشغل للخياطة).
وبارك الله لهما عملهما لأنه بني على إخلاص وتقوى ومخافة الله. وصارت ((سهام)) تقتصد من دخلها وتوفر لليوم الأسود كما يقولون.
وجاء هذا اليوم الأسود حين نشرت الصحف المحلية أن دورية من جنود الحدود قبضت على عصابة من المهربين كانت تحاول تهريب كميات كبيرة من البضائع عبر الحدود وأن الدورية تبادلت إطلاق النار مع المهربين فقتل ثلاثة من أفراد العصابة وقتل جندي من الدورية وجرح أربعة واستسلم بقية المهربين. وقد تبين من التحقيق البدائي أن المدعو ((حندوس)) يرأس هذه العصابة وأنه مهرب عريق في مهنته هذه وقد أودع مع أفراد عصابته في السجن وختمت وزارة الداخلية دكانه ومنزله بالشمع الأحمر كما قبضت على جميع من لهم علاقة به وباشرت التحقيق معهم..
ما أسرع ما تنشر أخبار السوء، وما أكثر رواتها وناقليها. لقد طرق باب ((سهام)) أكثر من واحد وواحدة ليخبرها بأن زوجها ((سمير)) زج به في السجن. وتفنن الرواة في صياغة الخبر وإسناده وحشوه (ببهارات) جاء بها خيالهم الخصيب..
ومع أن ((سهام)) كانت تدرك منذ البداية أن هذه الصفقة التجارية خاسرة لا محالة إلا أنه لم يخطر ببالها أن تبلغ المأساة إلى حد وضع زوجها في السجن. لقد صعقت المسكينة حين علمت بالنبأ وتمنت لو كان لها من رجولة أم توفيق شيء لأسرعت إلى السجن.. إلى دائرة البوليس.. إلى... إلى... لتخلص زوجها مما هو فيه.
وبينما هي في هذه الحالة السيئة وافتها أم توفيق وكأنها ملاك أرسله الله إلى ((سهام)) في تلك الساعة الحرجة لإنقاذها فأسرعت إليها تقول والبكاء يخنق عباراتها.
ـ أدركيني يا أم توفيق ربنا ما يوقعك في كرب...
وتربت ((أم توفيق)) على كتف ((سهام)) وتقول وهي تتصنع الابتسام.
ـ تشجعي يا ((سهام)) ياما يمر على بنات الناس.. المهم قولي لي هل صحيح أن زوجك على علاقة وطيدة بهذا المهرب؟ أنا زي أختك لا تخبئي عني شيئاً..
هل تغتر ((سهام)) بهذه العبارات؟ نعم لقد عملت لها أم توفيق ما تفعله أخت لأختها أو أم لابنتها...
فهل تبوح؟ كلا إن ((سهام)) من السيدات اللواتي يعرفن ويقدرن قيمة السر وخطورته.. ولذلك بادرت قائلة بكل شدة وجزم.
ـ أبداً يا أم توفيق..
ـ ولكن الناس يقولون إن ((حندوس)) كان يصطفي زوجك على سائر أصدقائه ومعارفه..
ووجمت ((سهام)) قليلاً واسترجعت في سرعة علاقة ((حندوس)) بها ووعيده لها.. على أنها ما لبثت أن قالت في إصرار:
ـ ربما كان يؤثره لإخلاصه في عمله.. وما أقل المخلصين في هذه الأيام..
ـ ولكنهم..
فقاطعتها ((سهام)) متلهفة:
ـ ولكنهم ماذا؟
ـ الناس يقولون إن زوجك شريك له.. وأنه كان الشخص الوحيد الذي شوهد في وداع ((حندوس)) يوم سفره...
فعضت ((سهام)) على نواجذها وقالت:
ـ لقد كان ((سمير)) في وداع أحد معارفه واسمه ((جمعان)) وتصادف أن كان ((حندوس)) أيضاً مسافراً على الطائرة نفسها فالتقى به اتفاقاً أو من قبيل الصدفة كما يقولون.
ـ صحيح يا أختي.. ولكن الناس.. تحاول أن تجعل من كل شيء سبباً وتتخذ من أتفه الأمور ذريعة للاتهام.. إن أول ما تتجه إليه أفكار الناس في مثل هذه الحوادث هو الناحية السوداء منها...
ـ إنهم يختلقون ويفبركون، ويَغْيّرونَ الأدلة وبالتالي يصدرون الحكم..
ـ لا حول ولا قوة إلا بالله.. والآن يا أختاه كيف السبيل إلى تخليص ((سمير)) إن المسكين لا يتحمل ظلام السجون وقسوة السجانين..
وتبكي ((سهام)) بحرقة وصوت مسموع يَسْتَفِزُّ الأفئدة الصم. وقلبت أم توفيق الأمر على جميع وجوهه.
ـ اسمعي يا ((سهام))..!
ـ كلّي أذن صاغية يا أختاه..
ـ سواء كان زوجك على علاقة بهذا المهرب أم لم يكن.. يجب علينا أن نسعى لفكاكه وتبرئته مما نسب إليه.
ـ شكراً لك يا أم توفيق.
ـ لا شكر على واجب يا أختاه.. دعيِ الأمر لله واعتمدي عليَّ بعده. فسأعمل بكل جهدي وطاقتي لتخليصه من هذه الورطة..
وتهتف ((سهام)) من أعماق قلبها:
ـ جزاك الله عنا كل خير..
واستجوب البوليس ((سمير)) وشدد في التحقيق معه، ولكنه ظل ثابت الجأش وهادىء الأعصاب متزن التفكير فلم يجد البوليس ولا المحققون الآخرون أيَّ مُستمسك قانوني ضده ولا قرائن تدل على اشتراكه من بعيد أو قريب في هذه الجريمة، وكان العدل يقضي بإطلاق سراحه، بيد أن المحققين رأوا توقيفه في السجن ريثما ينتهون من أخذ إفادات بقية زملائه.
واستطاعت أم توفيق بعلاقاتها الحسنة مع زوجات الموظفين الذين بيدهم الحل والعقد أن تحملهم على التزام جانب الرحمة في قضية ((سمير)) فتخفف أيام توقيفه من ثلاثة أسابيع إلى أسبوع واحد أفرج عنه بعده وعاد إلى منزله وهو لا يدري بأي وجه يقابل زوجته بل كيف يداري سوأته..
واستقبلته زوجته ومعها جاراتها وعلى رأسهن أم توفيق بالزغاريد والزينة وأقبل جيرانه ومعارفه يهنئونه بالسلامة.. ونحرت ((سهام)) خروفين تصدقت بلحم واحد منهما على فقراء الحي وأولمت الثاني لمعارف زوجها وأصدقائه...
وعادت ((سهام)) تنتظم في عملها مع أم توفيق وعادت الفرحة ترفرف على أرجاء تلك الدار.. وحدبت ((سهام)) على زوجها وحنت عليه لتسرّي عنه آثار الصدمة والنكبة، وتحيي في نفسه أملاً قدمه في أيام محنته قرباناً على مذبح يأسه وقنوطه..
وحكم على ((حندوس)) بالسجن خمس عشرة سنة مع الأشغال الشاقة وعلمت ((سهام)) بالنبأ فودت لو أن الحكم كان مؤبداً أو إعداماً... إن شبح انتقامه يطاردها حتى وهو في سجنه.؟
وتضايق ((سمير)) من قعوده من دون عمل ومن بقائه عالة على زوجته يقتات من عرق جبينها بينما كان الأحرى بها هي أن تعيش على كده بيمينه وصارت تنتابه بعض حالات عصبية والمسكينة ((سهام)) تحاول بكل ما لديها من حنان وعواطف أن تخفف عنه هذه النوبات ولكنها لم تفلح، إن ((سمير)) يريد أن يعمل ولكن لا سبيل إلى ذلك. إن القضاء برأه ولكن الناس لم تبرئه بعد.. إنه حكم لا يرحم.. إنه حكم تتغلب فيه العاطفة على الحقيقة فتواريها في ظلمات سحيقة لا تخرج منها لترى النور أو يرى المجتمع نورها إلا بمعجزة.. وهل نحن في عصر المعجزات؟
وشكت ((سهام)) إلى أم توفيق حال ((سمير)) وكيف أنها لم تترك وسيلة لإسعاده إلا فعلتها، فضحكت أم توفيق وبلغ ضحكها إلى القهقهة فوضعت ((سهام)) كفها على فم أم توفيق خشية أن يسمع ((سمير)) ذلك فيستاء وأدركت أم توفيق حرج ((سهام)) فهمست في أذنها قائلة:
ـ الدواء بسيط يا عبيطه.
فسألتها ((سهام)) بلهفة..
ـ وأين يباع هذا الدواء؟! بربك قولي..
ـ فكتمت أم توفيق ضحكها وقالت..
ـ دواء زوجك في إيجاد عمل له..
ـ وكيف السبيل إلى ذلك.. لقد كلمت زوجات بعض صديقاتي بأن يجدن عملاً لزوجي في متجر أي زوج من أزواجهن فكن يتهربن أو يلفقن بعض الحجج الواهية أو يبدين أسفهن لعدم وجود وظيفة شاغرة..
وتعتدل أم توفيق في جلستها وتشعل سيجارتها وتفتأ في دخانها المتصاعد ما وصل إليه تفكيرها من حل لهذه المعضلة وتقول:
ـ هل ادخرت شيئاً من عملك معي؟
ـ نعم يا أختاه، خمسة وعشرون جنيهاً..
ـ حسناً.. سآتيك غداً صباحاً بمثلها من عندي.. فكلمي زوجك هذه الليلة بأن يذهب غداً - (للبلدية ويستأجر كشكاً) ويضعه على مفترق الشارع الجديد وسآخذ له على اسمي البضائع. وتنكب ((سهام)) على يدي أم توفيق تلثمها وتشكرها وهذه تدفعها برفق قائلة:
ـ ((سهام))... لا تشكريني بل اشكري الله.. إني صديقتك وشريكتك في السراء والضراء..
ـ لقد عملت ما لا يفعله والد لولده أو أم لابنتها ولا أدري بأي لسان أشكرك على (جمايلك) الموصولة.
ـ العفو يا ((سهام))... استودعك الله.. وإلى اللقاء..
ـ مع السلامة.. مع السلامة..
وفتح ((سمير)) الكشك.. وفتح الله به له الرزق.. فسدد ما استدانه من أم توفيق.. ووضع أمله في الله فزاد دره وكسبه، وفي خلال سنتين اشترى قطعة أرض.. ولم تمضِ خمس سنوات حتى أصبح ((سمير)) من التجار المعروفين فبنى له ((فيلا)) أنيقة أصبح تنسيقها وجمالها حديث الناس ومثار إعجابهم، وتناسى الناس والمجتمع حكمه أو (لحس حكمه) وقد أقبلت الدنيا على ((سمير)) وصار في نظر المجتمع التاجر المثالي في معاملته وشرفه.. يا للتناقضات.. يا للعجائب؟!!
وتوسع ((مشغل الخياطة)) وأصبح مدرسة لتعليم الفتيات على الخياطة والتدبير المنزلي وجيء بالمدرسات المتخصصات له وتناوبت سهام.. وأم توفيق الإشراف عليه..
وذات صباح اعتكفت ((سهام)) في منزلها ولم تستطع الحضور للمدرسة فعلمت أم توفيق بالأمر فهرعت على عجل إلى دار ((سهام)) فوجدتها في سريرها فسألتها بلهفة عما تشكو فأسرت إليها بما تشكو فإذا أم توفيق تهتف والفرحة تفسر كلامها.
ـ مبروك... مبروك يا حبيبتي... ألف مبروك.
وابتسمت ((سهام)) وشدت على يد أم توفيق قائلة..
ـ الله يبارك فيك يا أم توفيق عقبال أولاد توفيق..
ـ شكراً يا حبيبتي عقبال فرحتنا بسلامتك..
ـ الله يسلمك..
وتضع ((سهام)) مولودتها ((نسرين)) في ذلك الجو الذي مر معنا..
وسارت الأمور في مجراها الطبيعي لا يعكره إلا بعض الهواجس التي تقلق بال ((سهام)) خشية وعيد ((حندوس)) لقد أصبحت لا تفكر في خطره عليها وإنما على ابنتها بالدرجة الأولى. وكثيراً ما تسيطر عليها هذه الهواجس حتى لتنسى نفسها في زحمتها ولا تصحو منها إلا على صوت ابنتها تناديها بأعذب ما تحب أن تسمعه والدة من ولدها أو حينما يشدها زوجها برفق من كتفها قائلاً:
ـ صح النوم يا هوه.. نحن هنا يا عباد الله وحد الله وتثوب ((سهام)) آنئذ إلى رشدها وتبتسم في تكلف وتعتذر بما يسعفها به فكرها في تلك السويعة.. وتمر الأيام و ((نسرين)) تكبر والوالدان لا يتركان وسيلة من وسائل العناية بها إلا اتخذاه. وكان ((توفيق)) يلازم ((نسرين)) كلما وجد فرصة لذلك وعندما بدأت تذهب للمدرسة كان يزاملها في سيارتها فيطمئن على دخولها بوابة المدرسة ويذهب هو إلى مدرسته. وفي أيام العطلة يلازمها كظلها. وكانت ((سهام)) و((أم توفيق)) تباركان هذه الصداقة وتنميان هذا التعاطف بينهما وتنتظران بفارغ الصبر اليوم الذي تزف فيه ((نسرين)) إلى ((توفيق)) فإن والدي ((نسرين)) لا ينسيان فضل ((أم توفيق)) وأياديهما البيضاء في أيام الشدة والمحن.
ومرضت ((أم توفيق)) ولعلّ لأيام الإرهاق سبباً في ذلك. وأشرفت ((سهام)) على خدمتها بنفسها. وأدخلت ((أم توفيق)) المستشفى لإجراء عملية جراحية فكانت ((سهام)) تنام في نفس غرفة المريضة لتعتني بها فوق عناية الممرضات.
وعوفيت ((أم توفيق)) ونصحها الأطباء بالسفر للخارج للاستجمام والراحة وانتهزت ((سهام)) و ((سمير الفرصة فسافرا معها وبالطبع رافقهم ((توفيق)) و ((نسرين)).
وقضى الجميع وقتاً طيباً أفادهم صحياً وفكرياً، وقد كانوا في أمس الحاجة إلى مثل هذه الراحة بعد حياة طويلة من الكد والكفاح.
وزحفت السنون وزحف معها حب ((توفيق)) بقوة وعنف وكبر واستقام عوده، ولكنه مع الأسف كان حباً من جهة واحدة. إن ((نسرين)) لا تشعر بأي حب أو ميل إلى ((توفيق)) إلا بمثل ما يشعر به رفيق طريق نحو رفيقه وكانت ((سهام)) تحس ذلك من ابنتها فتتميز غيظاً، وتكاد تتفطر حسرة وأسى على أنها لا تلبث أن تعلل ذلك بفارق السن بينهما وأن الأيام كفيلة بتنمية هذا الحب في قلب ابنتها وتفتيت حواجز الجفوة والقسوة فيه.
ورأت ((أم توفيق)) بثاقب بصرها سحب الفشل تتلبد في سماء هذا الحب وآلمها اندفاع ابنها في هذا الظلام الدامس وفي مسيرة لا فائدة منها إنها جعجعة بلا طحين، وقعقعة بلا نضال... فهل تترك هي أيضاً للزمن تبديد هذه السحب كما تركتها صديقتها وشريكتها ((سهام)) نعم... نعم.. من يدري فنحن في عصر المفاجآت.
ولئن ارتضت ((أم توفيق)) هذا الحل فإنها لم ترتضيه وهي مقتنعة بجدواه إنما كانت مكرهة بأن تلجأ إليه.. إنها لا تريد أن تشذ عن حل أو رأي ركنت إليه صديقة العمر ((سهام)) وحصل ((توفيق)) على الشهادة الثانوية وحصلت ((نسرين)) على الشهادة الابتدائية وأقام والد ((نسرين)) حفلاً فخماً في داره لولديه ((توفيق)) و((نسرين)) ابتهاجاً بنجاحهما.
وصممت ((أم توفيق))، على إرسال ابنها لاستكمال دراسته الجامعية في الخارج ليعود ((مهندساً (قد الدنيا). وكان لها ما أرادت وسافر على بركة الله ((توفيق)) وتألمت والدته لفراقه ولكنها كانت تتأسى بعطف صديقتها ((سهام)) عليها ورعاية والد ((نسرين)) لها رعاية الأخ لأخته.
وكانت رسائل ((توفيق)) إلى ((نسرين)) لا تنقطع وإلى والدته كذلك ولكنها بالطبع لم تكن بمقدار تلك.. وكانت ((نسرين)) تجيب على بعضها وتتجاهل البعض الآخر فإذا ما عاتبها توفيق في رسائله التالية انتحلت أسباباً واهية لعدم الإجابة.
ومرت السنة الأولى واستطاع ((توفيق)) بجده وذكائه أن يتغلب على أزمة اللغة وأن يدخل الجامعة في كلية الهندسة، وقد فرحت والدته وفرح معها والدا ((نسرين)) وظاهرتهما ((نسرين)) الفرحة.
وأحس ((توفيق)) لأول مرة بأن ((نسرين)) لا تبادله الشعور نفسه، وكانت صدمة قاسية على قلب ((توفيق)) البكر، ولكنه صمد لها وانصرف بكليته إلى دروسه وتناسى أنه كان في يوم من الأيام يحب ((نسرين)) وكان أول ما فعله أن قلل بالتدرج رسائله إليها وإذا اتفق أن كتب إليها بمناسبة ما ترسَّم في عبارته وخاطبها مخاطبة الأخ لأخته أو القريب لقريبه.
وفرحت ((نسرين)) بهذا التبدل والتحول الذي طرأ على ((توفيق)) وباركته جداً فلم تعد تجيب حتى على رسائله في المناسبات.. وانصرفت تهدهد حبها الجديد ((لمدحت)) نجل أحد الأثرياء وسليل أحد البيوت العريقة في بلدها.
تعرفت نسرين بمدحت بينما كانت تبتاع ملابس لها من أحد المتاجر ففتنها بجماله الساحر وقوامه الممشوق وعينيه النجلاوين ولباسه الأنيق فتسمرت في مكانها في ذلك المتجر ولاحظ ((مدحت)) ذلك وكانت نظرة فابتسامة تركت في قلب ((نسرين)) جرحاً لا يندمل.. وإذا عرفنا أن ((نسرين)) كانت آنئذ في سن المراهقة أدركنا مبلغ خطورة هذا الحب عليها. وإذا عرفنا أن ((مدحت)) كان (دون جوانا) ذكياً بارعاً في مسايسة ومداورة فريسته أدركنا مبلغ اللعبة الخطيرة التي أقدمت عليها ((نسرين)) وترحمنا على مستقبلها سلفاً، فقد كانت صيداً هيناً بالنسبة لخبرة ((نسرين)) في هذا المضمار فتبعها عن بعد بسيارته حتى عرف دارها وعرف بالطبع مدرستها ولم يجد صعوبة في تنسيق رسالة غرامية ملتهبة بعث بها مع أخته التي كانت تدرس معها في المدرسة نفسها وغرقت ((نسرين)) بعد هذه الرسالة إلى (شوشتها) في حبه وصارت تترصده كلما مر من أمام دار أبيها وتظاهر ((مدحت)) بحبه لها فجنت المسكينة ولو تطلعت في قرارة نفسه لوجدت أنه إنما كان يتلهى بها كما يتلهى الطفل بدمية ويتلاعب لاعب الكورة المفن بكورته.
ومن الغريب جداً ألاَّ يؤثر هذا الحب العنيف على دراسة ((نسرين)) بل أعطاها نوعاً من الجد والمثابرة على دروسها فكان نجاحها مضرب المثل بين زميلاتها، ولعلّ إخلاصها في حبها هو الذي قوَّى من عزيمتها على بلوغ النجاح مهما كلف الثمن لتبرهن لحبيبها بذلك أنها أهل لحبه الآن وزوجة له مستقبلاً يفخر بها ويعتز.. ولعلّ هذا الاجتهاد غطى على الأخبار التي ترامت لأمها عن هذه العلاقة وبددت بعض الشكوك التي ساورتها وأقلقت مضجعها، ومع أن ((سهام)) لم تسكت حينما بلغتها هذه الأنباء المزعجة بل فاتحت ابنتها بطريقة لبقة بما سمعت بيد أن هذه أنكرت بشدة. ولما طلبت إليها والدتها أن تنقطع عن زيارة أخت ((مدحت)) استجابت لطلبها فصارت تلتقي به عن طريق الرسائل المتبادلة وأحياناً في بيت قريبة له.
ونالت ((نسرين)) الشهادة الثانوية بتفوق وحضر ((توفيق)) خصيصاً للاشتراك في حفلة التخرج وكانت مفاجأة غير سارة لها، لقد خشيت أن ينفتح باب زواجها منه ثانية بعد أن قفلته هي بيدها.. وصح ما كان يتوقعه فقد راجت شائعات الزواج بين الكواليس، ونقلت ((نسرين)) الخبر إلى أخت ((مدحت)) لتبلغه لأخيها وانتظرت أن يتقدم ((مدحت)) لخطبتها لأنها كانت مطمئنة إلى أن والدها سيقبل بالنظر لمركز والد ((مدحت)) المرموق رسمياً وشعبياً..
وخاب ظن ((نسرين)) في ((مدحت)) فلم تتلق أي صدى للخبر الذي أسرت به لأخته؛ حتى المكالمات الهاتفية التي كان ((مدحت)) يجريها معها يومياً وتكلمه هي على أساس أنه (إحدى صديقاتها) انقطعت. وكادت الصدمة تزلزل كيانها ولكنها تجلدت وحاولت أن تستطلع جلية الأمر، فهاتفت أخته ولما قرع الجرس وأجابت عليه أخته وأرادت ((نسرين)) أن تبدأ حديثها إذ بصوت غير صوت أخته يجيبها إن ((ستي الصغيرة غير موجودة)).
وترنحت ((نسرين)) من شدة الصدمة وارتمت على أحد المقاعد وهي فاقدة الوعي وصحت لتجد نفسها على سريرها وحولها والدها وأم توفيق وولدها و(كونصلتو) من الأطباء ويتمنَّى الجميع لها البُرء والعافية.
وعلم ((مدحت)) بمرضها وعرف أن ذلك بسببه فأرسل أخته تعودها وزودها برسالة حشاها من زخرف القول ومعسول الكلم... وانتهزت أخته خلوَّ المكان فناولت ((نسرين)) الرسالة فقرأتها على عجل وكانت علامات الانفعال تظهر على محياها، وبعد أن فرغت منها طوتها ووضعتها في صدرها وابتسمت ابتسامة المطمئن المرتاح... وبادلتها أخت ((مدحت)) ابتسامة عريضة شفعتها باعتذارات ملفقة ولكنها منسقة تقبلتها المسكينة أو المغفلة ((نسرين)) قبولاً حسناً... ألم أقل لكم إن ((مدحت)) حاذق في مهنته...
وأبلَت ((نسرين)) من مرضها وشفيت منه تماماً، وفي ذات يوم كانت ((نسرين)) تجلس على (مرجيحة) نصبت لها خصيصاً تحت ظلال الأشجار الوارفة إذا بأم توفيق تدنو منها فتسلم وتنزل ((نسرين)) من مرجحتها وتقبل يد ((أم توفيق)) ويجلسان على أحد المقاعد المنتشرة في الحديقة. وتلتفت ((أم توفيق)) هنا وهناك ولما اطمأنت إلى عدم وجود أحد يسمع حديثهما فاجأت ((نسرين)) بقولها:
ـ استمعي يا ((نسرين)) أنا زي والدتك.. وأعلم بالعلاقة التي بينك وبين ((مدحت)) فلا تحاولي أن تبرئي نفسك منها... أنا.....
وقاطعتها ((نسرين)) قائلة:
ـ أنا ماذا... أنا ماذا؟
ـ اسمعي أنت تعلمين رغبة والديك بأن تكوني لتوفيق..... وهذه الرغبة بالطبع ضد إرادتك...
وحاولت ((نسرين)) الكلام فأسكتتها أم توفيق قائلة:
ـ لا تقاطعيني... اسمعي... إنني وتوفيق لا نريد أن نكرهك على زواج (بالعافية) أو (بالنبُّوت) كما يقولون، وأنه يهمني مصلحتك كما تهمني مصلحة ولدي ((توفيق)). أنا لا أريد أن يكون هذا الزواج سبباً في تحطيم صداقة وأخوة بنيناها طوال هذه السنين...
وانفرجت أسارير وجه ((نسرين)) وهي تتابع بانتباه دقيق حديث ((أم توفيق)) التي اعتدلت في جلستها وعلا صوتها قليلاً عما كان عليه حين قالت:
ـ ((نسرين)) سأحلك من هذا الزواج على شرط...
وفاجأت ((نسرين)) هذه الصراحة، وكانت مفاجأة سارة بالنسبة لها، غير أن فرحتها شابها بعض القتام بعبارة ((على شرط)) التي وردت في كلام ((أم توفيق)). وحفزتها الرغبة لاستجلاء هذا الشرط فأسرعت تقول بلهفة:
ـ وما هو هذا الشرط يا خالتي؟
ـ قبل كل شيء أحب أن أطمئنك يا بنيتي أن ((توفيق)) يبادلك الشعور نفسه الذي تحسينه.. إنه يعتقد أن الزواج الذي لا يكون أساسه الحب المتبادل والاحترام المتبادل لن يكتب له البقاء.
وأحست ((نسرين)) بدبيب من الطمأنينة يسري في عروقها فاهتزت وانطلقت (تؤمن) على كلام أم توفيق التي تابعت حديثها قائلة:
ـ ثانياً أنت تعلمين أن والديك يرغبان أو يسعيان جاهدين لتوطيد ما بيننا من صداقة ومودة برباط من النسب والقربى. وأنه لمن المؤسف جداً ألاَّ تكون الظروف مؤاتية لتحقيق هذه الرغبة..
فقاطعتها ((نسرين)) قائلة:
ـ كم حطَّم مثل هذا الرباط ما كان بين بعض الناس من صلات مودة وصداقة.
ـ صحيح يا بنيتي.. فالرباط الذي يهدف إليه والداك لا شك سيهدم ما بيننا من وفاق ووئام وسيؤدي إلى القطيعة الأبدية لا قدر الله.
ولذلك انتهزت فرصة غياب والديك فسعيت لمقابلتك اليوم على انفراد لنتعاون معاً على تفادي هذا المصير المظلم.
ـ وكيف يكون ذلك.. إني على أتم الاستعداد للتعاون يا خالتي.. قولي بالله..
ـ إليك سياق الحديث يا بنيتي... اسمعي: إن سياسة التحدي والمجابهة التي تنتهجينها وإستعلاءك بين زميلاتك وصديقاتك في مناسبة وبغير مناسبة أنك سترفضين الزواج من ابني ((توفيق)) مهما كلفك الثمن...
هذه السياسة طبعاً ستقابل من جهتنا بنفس القوة والعنف.. وهذا بالتالي سيجر إلى القطيعة وهدم صرح الصداقة المكين ما بين عائلتينا..
وحاولت ((نسرين)) أن تنكر هذا الإعلان ولكن ((أم توفيق)) قاطعتها بحزم قائلة:
ـ لا تحاولي الاعتذار أو الإنكار فأنت لا تجهلين علاقتي بكثير من والدات وأخوات زميلاتك وصديقاتك.. فحرصاً على وشائج المحبة التي تربط ما بيننا يجب أن تذعني لشرطي.
وقاطعتها ((نسرين)) قائلة:
ـ إني مستعدة لقبوله قبل سماعه...
ـ شرطي هو: أن تقلعي عن سياسة التحدي والمجابهة، وتتفادي التصريحات التي تسيء إلى ما بيننا من علاقة.. وأن تتخلصي بلباقة في المواقف الحرجة.
ـ أعدك يا خالتي وأقسم على ذلك...
ـ اسمعي يا بنيتي... أنت في سن تقدرين فيه الأمور، وتفهمين أن موضوع زواجك من ((توفيق)) موضوع حساس بالنسبة لوالديك وهو لهما ((منية العمر))... وعلاجه يحتاج إلى دقة وحنكة وإلى مخطط مرسوم.. والتكتيك الأول الذي سأستعمله هو تأجيل الزواج وأنا أعرف كيف أصل إلى ذلك بطرقي الخاصة.....
وقاطعتها ((نسرين)) قائلة:
ـ التأجيل يا خالتي لا يحل المشكلة بل يعلقها وربما تحدث مضاعفات تزيد في تعقيد المعضلة.
وضحكت ((أم توفيق)) وربتت على كتف ((نسرين)) وقالت:
ـ إن الحل الفوري يا بنيتي للمعضلة سيجر إلى الكارثة التي نعمل على تجنبها، كما أن عنصر الزمن سيعطيك الفرصة الكافية لتعرفي ما إذا كان ((مدحت)) يريد أن يضع خاتمة سعيدة لغرامه.. أليس كذلك يا ((نسرين))؟.
وأحنت ((نسرين)) رأسها خجلاً وتصببت عرقاً، وتبلَّد تفكيرها فلم تدر بماذا تجيب..
وقطعت ((أم توفيق)) على ((نسرين)) حيرتها حين قالت بجد وحزم:
ـ وأؤكد لك يا بنيتي بأننا لن نقف حجر عثرة في طريق زواجك من ((مدحت))..
وارتمت ((نسرين)) على صدر أم توفيق تدفن فيه خجلها وتقول والكلمات تتعثر على لسانها.
ـ صحيح يا خالتي... صحيح..
وأجابت ((أم توفيق)) وهي تداعب بأصابعها شعر ((نسرين)) بقولها:
ـ أقسم لك على ذلك.. غير أني أود أن أقول...
ونهضت ((نسرين)) عن صدر ((أم توفيق)) وقاطعتها قائلة:
ـ تقولين ماذا يا خالتي؟
ـ إنه ليس قولاً بل نصيحة تسديها أم إلى ابنتها...
ـ قولي يا خالتي..
ـ احذري يا بنيتي شباب اليوم... لا تغتري بمعسول القول ولا بالرسائل الملتهبة.. إن شرف البنت كعود الثقاب لا يشتعل إلا مرة واحدة.
ـ شكراً لك يا خالتي على هذه النصيحة القيمة.. وثقي أني سأكون عند حسن ظنك بي...
ـ ربنا يوفقك يا بنيتي ويكفيك شر أولاد الحرام.
وهمت ((أم توفيق)) بالانصراف وإذا بها تبصر ((سهام)) ومعها ((توفيق)) قادمين نحوها فاسترخت في مقعدها.. وجاءت ((سهام)) مشرقة الوجه باسمة الثغر فسلمت واعتذرت عن تأخرها في زيارة صديقة لها في المستشفى.. فأجابت ((أم توفيق)) قائلة:
ـ لا لزوم للاعتذار يا أختي، لقد أتيت من دون سابق ميعاد والبركة في (القمورة) ((نسرين)) ربنا يحفظها فقد أمتعتني بحديثها حتى إن الوقت مرَّ بدون أن نشعر به.
وقال ((توفيق)):
ـ في الحقيقة تأخرت يا ماما وأنت تعرفين أننا مرتبطون بموعد سابق وحاولت الاتصال بدار عمي ((سمير)) فوجدت التلفون معطلاً فحضرت بنفسي والتقيت بخالتي ((سهام)) على الباب... هيا بنا يا ماما...
وقالت ((سهام)):
ـ لسه بدري يا جماعة..
ورد ((توفيق)) قائلاً:
ـ كان يسعدنا البقاء لو لم نكن مرتبطين بموعد سابق..
وقالت والدته:
ـ إيه رأيكم نروح بكره على البحر نتغدى هناك ونقضي سحابة النهار، إلا إذا كنتم مرتبطين بموعد سابق..
وتلتفت ((أم توفيق)) إلى ((نسرين)) قائلة:
ـ إيه رأيك يا حلوة..
فأجابت ((نسرين)) قائلة:
ـ أنا بأمركم...
واتفق الجميع على قضاء نهار الغد على ساحل البحر... وعلم ((مدحت)) بأمر هذه الفسحة عندما هاتف ((نسرين)) كعادته في كل يوم.. فأخبر أخته ((سلمى)) بها فوجمت قليلاً ثم قالت:
ـ ما رأيك أن نقنع والدتي ونذهب نحن أيضاً إلى المكان نفسه.. وربما كانت فرصة لإيجاد تعارف بين والدتي ووالدة ((نسرين)) ووالدة ((توفيق)).
ولم ترق الفكرة كثيراً ((لمدحت)) إلا أنه رضخ أخيراً لرغبة أخته قائلاً:
ـ أنا شايفك رايحة توقعيني في حب ((نسرين)) غصباً عني.. أنت عارفة أنني لا أحبها وإنما أستلطفها وأتظاهر لها بالحب شفقة على عواطفها من أن تتحطم إذا ما عرفت بالحقيقة..
ـ ولماذا لا تحبها يا أخي... إن فيها كل المؤهلات الطيبة.. حلوة.. جميلة.. غنية مثقفة.. أخلاق عالية.
ـ صحيح يا ((سلمى)) ما تقولين.. فهي بالرغم من اندفاعها في حبي حريصة على كرامتها وشرفها أنت تعرفين غزواتي ولكن هذه البنت تختلف عن كل البنات اللواتي تعرفت بهن...
ـ طيب.. ولم لا تفكر في الزواج منها... ما دامت هذه صفاتها وأخلاقها...
ـ لسه بدري يا عبيطه.. خليني أهيّص وانبسط قبل أن أدخل في (زنزانة) الزواج...
ـ وهل الزواج بالبنت الصالحة الرضية ((زنزانة)).. مسكينة ((نسرين)) لو علمت بذلك لماتت بالسكتة القلبية.. حرام عليك.. يا أخي أنت لك أخت وما تخافش انو ربنا يسلط عليها واحد زيك يلعب بعقلها وعواطفها زي الكورة...
ـ أنا يا أختي كالنحلة أطير من زهرة إلى أخرى..
وتقاطعه أخته قائلة:
ـ ربنا يسلط عليك (دبور) أو دبورة يا شيخ... اتق الله في بنات الناس واعلم أن الله بالمرصاد.
وقهقه ((مدحت)) ساخراً قائلاً:
ـ الله.. الله.. يا ستنا الشيخة.. نفعنا الله ببركاتك..
فاحتدت ((سلمى)) وقالت:
ـ أضحك.. أضحك.. فسيأتي اليوم الذي تندم فيه ولات ساعة مندم..
وصرخ ((مدحت)) في وجه أخته محتداً قائلاً:
ـ كفاية نصايح.. خليها لك يا فصيحة.. إنني لست بحاجة إلى من يرشدني أو ينصحني.. ما شاء الله... أنت كمان صرت ولية أمري... أنا لا أسمح لك مستقبلاً بالتدخل في شؤوني..
وكظمت أخته غيظها وقالت:
ـ أنت حر يا أخي في تصرفاتك... المهم تحب تروح معنا البحر...
وأجاب محتداً:
ـ لن أذهب.. لن أذهب...
كانت ((سلمى)) من جيل ((نسرين)) سناً، وكانت محبوبة من والديها لرجاحة عقلها ومعرفتها بواجباتها.. وكانت ذكية مجتهدة، وقد نالت شهادة التوجيهية في السنة التي حصلت عليها ((نسرين)) ولم يعرف عنها شيئاً غير طبيعي في سلوكها وأخلاقها كما أنها كانت آية في الجمال الذي لم تستغله كما استغله أخوها ((مدحت)) في إيذاء بنات الناس. وكان والدا ((سلمى)) يتمنيان لو أوتي ((مدحت)) مثلما أوتيت أخته من فطنة وذكاء وتفكير متجه إلى الخير لا إلى الشر..
ولم تجد ((سلمى)) صعوبة في إقناع والدتها بالذهاب إلى النزهة للبحر.. وسواحل البحر أو هذه الشطئان كم كانت سبيلاً للتعارف بين أناس قد لا يحتمل أن يتعارفوا لو لم يلتقوا على بلاجها. وهكذا تعرفت والدة ((سلمى)) ((بسهام)) و ((أم توفيق)) وتعرفت ((سلمى)) ((بتوفيق)) والفضل لبلاج البحر وصداقة ((نسرين)) و ((سلمى)).
وقد قضى الجميع نهاراً ممتعاً ما عدا ((نسرين)) التي استاءت من عدم حضور ((مدحت)) وقد اعتذرت عنه والدته وأخته. وفي العصر انتقل الجميع إلى (شاليه) والد ((مدحت)) وكانت مفاجأة لهم أن يجدوا والد ((نسرين)) ووالد ((مدحت)) جالسين هناك يلعبان ((النرد)) الطاولة، وكانت ((نسرين)) أشدهم سروراً بهذه المفاجأة فقد عقدت عليها آمالاً عريضة. ولم تنقص من سرورها إلا غياب ((مدحت))...
وانتظم الشمل ولعب ((توفيق)) مع والد ((مدحت)) (عشرة طاولة) فغلبه بسهولة وغلب عمه ((سمير)) أيضاً.. وبعد اللعب انتقل الجميع إلى مائدة الشاي ودار الحديث مع دوران أقداح الشاي وحدثهم ((توفيق)) وكانت ((سلمى)) أشدهم افتناناً بتوفيق وحديث توفيق وكمال توفيق وأخلاق توفيق.. ولم يشأ (كيوبيد) أن يعلق ((سلمى)) بتوفيق وحدها بل علق والدها به فقد أعجب جداً بتوفيق فكنت تسمعه أثناء حديث ((توفيق)) يردد:
ـ ما شاء الله... ما شاء الله... ربنا يحرسك يا بني...
وقد زادت هذه الكلمات حب ((سلمى)) أواراً واشتعالاً، وشعرت ((نسرين)) لأول مرة أنها ضيعت كنزاً ثميناً. وأثار عطف والد ((مدحت)) أحاسيس جديدة في قلب ((توفيق)).. لقد حرم من حنان الأبوة في طفولته فجدد عطف والد ((مدحت)) عليه حناناً طوته السنون في تلافيف ضلوعه... وتطلع إلى عيني ((سلمى)) الحلوتين الهائمتين المتسمرتين على وجهه فأدرك بحاسته السادسة الصادقة ما ينتظره منهما من أحداث.. ونظر إلى والدته فرأى ابتسامة حلوة عريضة تغمر محياها فعرف مبلغ سعادتها به فحمد الله في قرارة نفسه على أن أتعاب والدته لم تذهب سدى وأن الله سيعوضها في شخصه ما حرمت من سعادة.
وقضَّ هذا العطف مضاجع والدي ((نسرين)) ورأيا بثاقب بصرهما خطره على ابنتهما ولو اطلعا على الغيب لاختارا الواقع. وأحبت والدة ((مدحت)) توفيق وتمنت لو كان لابنهما قليل من فصاحة وكياسة ولباقة توفيق. وعضت إصبعها ندماً أن تنجح المرأة (الدلالة) أم توفيق في تربية وتنشئة هذا الابن المعجزة وأن تفشل ابنة الحسب والنسب فيما أفلحت فيه تلك. حكمتك يا إلهي لقد قدرت وقسمت وعدلت فلا عتاب ولا ملامة..
وعاد الجميع كل إلى داره بعد أن استمتعوا بنزهة جميلة، وندم ((مدحت)) على عدم ذهابه معهم بعد أن أسهبت والدته في وصف جمال تلك الفسحة ولم يغمض ((لسلمى)) جفن في تلك الليلة.. لقد أحبت ((توفيق)) حقاً وكان حباً صادقاً استقر في قلب ناصع البياض لا يعرف الغش ولا الخداع ولا النفاق ولا الرياء..... لقد بدأت ((سلمى)) تقلب الأمر على وجوهه.. وتنهض من سريرها وتتطلع في المرآة لترى هل فيها ما يجذب ((توفيق)) إليها... فيجيبها غرورها ويتبعها بإجابته وتعود إلى عقلها لتناقشه: هل حقيقة ((توفيق)) هو الرجل الذي تتمناه؟ أو ترى أنها مقدمة على عملية خطيرة أشبه بعملية ((نسرين)) حب من جانب واحد.. و ((توزيعات)) فنية عاطفية يوزعها لاعب الكرة الفنان على زملائه... ويشتد فيها سعير الحب فتشد خصلات شعرها حين ينحاز تفكيرها إلى جادة الفشل... إلى مرارة الحب... إلى قسوته... إلى... إلى وتضرب مخدتها بقبضة يدها وقد ترمي بها إلى نهاية السرير. وظلت على هذه الحال من العواطف في مدّها وجزرها حتى لاحت تباشير الفجر فتناولت الوسادة المهجورة وضمتها إليها ونامت ويداها تعانقانها.
وبصرت ((أم توفيق)) بعينيها النفاذتين صوب حب عاصف بين ولدها و ((سلمى)) وخشيت من العاصفة لأنها تجرف دائماً ما أمامها لا تشفق ولا ترحم، وحسبت حساباً طويلاً لتأثير هذا الحب على دراسة ابنها الجامعية... إنه في السنة النهائية التي يصبح بعدها مهندساً (قد الدنيا) على حد تعبيرها.. وغادرت سريرها وفتحت باحتراس الباب، وتطلعت إلى غرفة ابنها... إنها مضيئة والليل قد زحف إلى نصفه الآخر وأقفلت الباب... وعادت واضطجعت في مرقدها وقد أيقنت أن ابنها يعيش في عاصفة... وابتسمت بمرارة من سخرية القدر... واطمأنت نفسها إلى هذا التعليل وتلت ما تيسر من آي الذكر الحكيم وراحت في سبات عميق...
وهوم الليل وخفتت مصابيح دور البلدة إلا مصباح ((توفيق)) فقد سهر مع صاحبه، ولعلّه استمرأ السهر فازداد نوره تألقاً ولمعاناً وتوفيق يضرب أخماساً في أسداس ويرسم زوايا ومثلثات وقصوراً.. ثم ينسفها ويقوضها بمعوله ويدكها بقوة صبره وتحمله.. ثم لا يلبث أن ينهار جلده فيعود كما بدأ وهكذا دواليك حتى أدرك تفكيره الصباح فكنّ واستراح يحلم بالليالي الملاح..
واستيقظ ((توفيق)) على قرع بابه وأمه تناديه:
ـ قم يا حبيبي.. تلفون علشانك.
وقفز ((توفيق)) من فراشه وارتدى على عجل روبه وفتح الباب فإذا بأمه تقول له وفي وجهها ابتسامة ماكرة:
ـ تليفون من بيت والد ((سلمى))..
ـ والد ((سلمى)) مين يا ماما..
ـ الله.. الله نسيت والد ((سلمى)) السيد وجيه...
ـ أيوه.. أيوه يا ماما... يظهر أني لسَّه في حالة نوم... وماذا يريد سعادته؟
ـ سعادته يطلب أن تتصل به في مكتبه حالاً لأمر هام وقد أعطاني رقم تلفونه الخاص.. وتناول الرقم الخاص فيهاتف والد ((سلمى)) وبعد الانتهاء من المكالمة يقول لوالدته:
ـ سعادته يأمر أن أذهب إلى داره بعد عصر هذا اليوم... إن شاء الله خير..
ـ إن شاء الله خير يا بني..
ويريد أن يذهب للحمام فتمسك به والدته وتقول:
ـ هنالك مكالمة أخرى يا دون جوان.
وتضحك ملء شدقيها وتوفيق يقول لها:
ـ مع مين يا ماما..
وتمعن والدته في ضحكها وتقول:
ـ وهوه في غيرها.. ربنا يحرسها.. يالله كلمها..
ـ أكلم مين؟ أنت تتكلمين بالألغاز يا ماما..
ـ سلمى.. وهوه في غيرها..
ثم تتابع قولها مازحة:
ـ لقد هاتفتني والدة ((سلمى)) تسألني عن صحتي الغالية جداً عليها وسألت عنك ايضاً ثم كلمتني ((سلمى)) بعدها وبعد المقدمة الموسيقية طلبت أن تكلمك إن كنت بجانبي ولما أجبتها أنك نائم قالت: خليه يكلمني لما يفيق... يالله كلمها مستني ايه...
ـ حاضر يا ماما.. حاضر...
وتنصرف والدته عندما بدأ يدير قرص التليفون.. إنها حماة من الطراز (القارح) جداً... من يدري رُبَّما ستكون قنبلة ذرية إذا قدر لتوفيق أن يتزوج من ((سلمى))..
ويدور حديث مهذب بين ((سلمى)) و ((توفيق)) وتعلم منه أنه سيزور والدها بعد عصر هذا اليوم وتنتهي المكالمة وترمي ((سلمى)) بالسماعة بعد أن قبلتها بحرارة.. وتسرع لتخبر أمها والفرحة تشيع في كل لفظة من كلامها. وتلاحظ والدتها ذلك فتقول:
ـ ولماذا كل هذا الاهتمام يا سلمى.. أمعجبة أنت أيضاً بتوفيق؟
وتجيب ((سلمى)) بكل صراحة:
ـ وأنت يا ماما ألست كذلك؟
ـ صحيح.. ولكن ليس باللهفة التي تغمر كلامك.
ـ ماذا تعنين يا ماما؟
وتتباطأ والدتها ((مزنة)) في كلامها حين تقول:
ـ أعني.. إني أحس أنك تستلطفين ((توفيق))...
ثم تبتسم وتربت على كتف ابنتها قائلة:
ـ قولي يا بنيتي.. أنا والدتك.. مستودع أسرارك.. صارحيني لا تخبئي عني شيئاً... فلي من تجاربي ومحبتي لك ما أساعدك به...
ـ صحيح يا ماما... صحيح يا ماما...
ـ قولي.. لا تخافي.. كوني صريحة وصادقة.. أنا أمك...
وأجابت ((سلمى)) وفي كلامها غمغمة من شدة الخجل:
ـ سأقول يا ماما... سأقول...
وقصت ((سلمى)) على أمها أحاسيسها وانطباعاتها وكانت صريحة معها فلم تترك شيئاً مما تشعر به نحو ((توفيق)) إلا شرحته وبينته لوالدتها.
وفرحت ((مزنة)) لوثوق ابنتها بها واطلاعها على كل ما كان يعتمل بنفسها من جهة، وخشيت من هذا الحب ((الصاروخي)) من جهة أخرى. لقد كانت الأم في موقف دقيق يحتم عليها التصرف بحكمة ولباقة وإلا فقدت ثقة ابنتها بها وبالتالي قد تفلت ((سلمى)) من قبضتها... فبدأت ما بدأت بقبلة طبعتها على خد ((سلمى)) قائلة وهي تصطنع ابتسامة دبلوماسية:
ـ أنا ممنونة من ثقتك بأمك يا بنتي.. ومقدرة في الوقت نفسه شعورك.. وتتصورين قديش كبرت في عيني.. وأنا بصفتي والدتك وأعلم منك بتجارب الحياة ومشاكلها على أن أبصرك بكل شيء فواجبي يقتضيني ذلك..
وتقاطعها ((سلمى)) قائلة بلهفة:
ـ قولي يا ماما.. أنا أقدر نصائحك.. وأحب أن تساعديني على ما أنا فيه...
ـ ما في شك أن ((توفيق)) شاب مهذب مثقف فيه مؤهلات الشباب الطيب ولكن...
ـ ولكن ماذا يا ماما... ماذا يا ماما...
وتربت والدتها على خدها قائلة:
ـ حيلك يا حبيبتي.. حيلك...
ثم تبتسم ابتسامة ماكرة وتقول:
ـ يظهر أنك طبيتي لشوشتك..
وتحني ((سلمى)) رأسها خجلاً، وتتابع ((مزنة)) كلامها:
ـ يا بنيتي، الحكم على الأشياء من أول وهلة أو أول نظرة حكم غير سليم.. وأنت كما يظهر حكمت على مثالية توفيق بوازع من قلبك وليس من عقلك، إنني اتفق معك أن كل شيء في توفيق يحمل على محبته والإعجاب به، ولكن جلسة واحدة معه لا يمكن أن تعطي الأدلة والبيانات الكافية للحكم عليه.. والتسرع يا بنيتي في مثل هذه الأمور عواقبه وخيمة...
وتقاطعها ((سلمى)) قائلة:
ـ إن ما تقولينه يا أماه هو المنطق السليم والطريق القويم...
وتنهال على وجه أمها لثماً وتقبيلاً وهي تقول:
ـ شكراً لك يا ماما أنت فتحت عيني وبصرت تفكيري بأمر هام وهو عدم الحكم على الأشياء بمجرد رؤيتها...
ـ أنا دائماً افخر بك وأقول إن قوة تفكيرك تتغلب على قوة عواطفك.. شوفي يا بنيتي أبوك وأنا يهمنا سعادتك في هذه الحياة.. يهمنا مستقبلك.. يهمنا أن نجد الشخص الكفء الذي يسعدك وترتاحين معه.. وقد يكون ((توفيق)) هو ذلك الشخص، لكن يجب أن نسأل عنه وندرس أحواله ونتعرف به أكثر حتى نتبين صلاحيته من عدمها... ثم هنالك نقطة يجب أن نعرفها قبل كل شيء عن ((توفيق))...
ـ وما هي يا أماه؟
ـ العلاقة التي بين أم توفيق وابنها من جهة والسيد ((سمير)) وعائلته وابنته ((نسرين)) من جهة أخرى علاقة كما شاهدناها أمس متينة وقوية وكما يتحدث الناس أيضاً إن أم توفيق هي سبب الخير الذي يتمتع به ((سمير)).. وليس ببعيد أن تكون نية ((سمير)) متجهة إلى تزويج بنته ((نسرين)) من ((توفيق)) على الأقل وفاء ورداً لجميل والدته..
وتضحك ((سلمى)) فتسألها أمها عن سبب ذلك فتجيبها:
ـ ((نسرين)) تحب أخي ((مدحت)) يا ماما... وتموت في حبه..
ويفجأ ((مزنة)) الخبر فتقول:
ـ وأخوك.. هل يبادلها الحب؟
ـ أبداً يا ماما إنه يلعب بعقلها (كورة).. يضحك عليها المسكينة.. وهي تبني القصور والآمال على كلامه المزيف...
ـ غريب أول مرة أسمع هذا الكلام.. مسكينة لقد لاحظت عليها أمس أنها كانت غير مرتاحة بالرغم من أن كل شيء كان يبعث على البهجة والسرور. والله إنها بنت حلال وجميلة خسارتها في ((مدحت)) غضيب الوالدين..
ثم تنفعل ((مزنة)) فتستطرد قائلة:
ـ أنا لازم أنبهها وأحذرها من ((مدحت)) قبل أن تقع في الهاوية..
ومر بمخيلة ((سلمى)) - في سرعة - فيلم استعراض شاهدت فيه أمها وهي تحذر ((نسرين)) من ((مدحت)) وألاعيبه فتنصاع ((نسرين)) لتحذيرها وتتخلى عن حب ((مدحت)) وتنزل على رغبة والديها فتتزوج من ((توفيق)) يا للهول: يا للكارثة:.. وإذا ((سلمى)) تقاطع والدتها قائلة:
ـ وما يدريك يا أماه أن حب ((نسرين)) قد يقوم اعوجاج أخي ويقوده إلى جادة الصواب سريعاً، وأنا لاحظت مؤخراً أن أخي معجب بحرص ((نسرين)) على كرامتها وشرفها.. والإعجاب ربما يكون بداية خير وهداية ((لمدحت))..
وأدركت ((مزنة)) ما تهدف إليه ابنتها وتغلب حب الأثرة في نفسها على حب النصح والإرشاد فإذا بها تقول:
ـ صحيح.. من يدري..؟ ربنا يجعلها من نصيبه...
وتؤمن ((سلمى)) من كل قلبها على عبارة أمها... وتتابع ((مزنة)) حديثها قائلة:
ـ لنرجع إلى موضوع توفيق...
ـ قولي يا ماما.. قولي...
ـ يمكن توفيق يحب ((نسرين)) ووالداها بالطبع سيزوجانها له شاءت أم أبت..
ـ لقد أقسمت ((نسرين)) أمامي أنها ستنتحر إذا أرغمت على الزواج من ((توفيق)).
ـ طيب.. هذه نقطة تسترعي الانتباه جداً يا بنيتي...
ـ ولماذا يا ماما...
ـ بالنظر للعلاقة الوطيدة بين عائلتي ((نسرين)) و ((توفيق)) لا بد أنها لاحظت في ((توفيق)) أشياء لم تعجبها فكرهته.. لأنه من غير المعقول أن ((توفيق)) الذي سحرنا جميعاً أمس لا يستطيع أن يستولي على قلب طفلة صغيرة ((كنسرين)) لازم هنالك خفايا اطلعت ((نسرين)) عليها بحكم احتكاكها اليومي بتوفيق فكرهته بسببها..
ـ كلامك معقول يا ماما...
ـ علينا ألا نتسرع وأن تضبطي يا بنيتي فرامل عواطفك حتى ينجلي الصبح لذي عينين.
ـ سأفعل يا أماه... سأفعل..
وأثبت ((توفيق)) جدارته وكفايته في المهمة التي أنيطت به وتنبأ له أعضاء اللجنة المهندسون بمستقبل باهر في عالم المهندسين...ورفع هذا التقدير والإطراء مكانته لدى الأستاذ ((وجيه)) وعظم بالتالي شأنه لدى ((مزنة)) حماة المستقبل - ودق إسفيناً قوياً في قلب ((سلمى)). أما من جهة ((مدحت)) فلم يكن بينه وبينه أي انسجام.. لقد حاول ((توفيق)) أن يعزز مركزه لديه مراراً ولكنه كان يمنى بالفشل الذريع في كل محاولة وأخيراً ترك للأيام حل هذه المشكلة...
واستطاعت ((مزنة)) أن تدرس ((توفيق)) عن كثب بل لقد ذهبت إلى أبعد من ذلك حين سأله والد ((سلمى)) في إحدى جلساتهم العائلية قائلاً:
ـ ربنا يقدرنا يا ابني على مكافأتك على جهودك المخلصة في أعمالنا.
فانتهزتها فرصة وعقبت على ذلك بقولها وابتسامة ماكرة تغمر محياها:
ـ إن شاء الله نهنيك بحصولك على الدكتوراه في الهندسة.. ونخدمك حين زواجك من ((نسرين))... البنت الطيبة الحلوة يا سلام عليها ربنا يحرسها..
وأدرك ((توفيق)) بذكائه المتقد ما ترمي إليه ((مزنة)) فأجاب قائلاً:
ـ أشكرك يا سيدي كما أشكرك يا سيدتي على تمنياتكما الطيبة.. أما بخصوص زواجي من ((نسرين)) فهل يجوز زواج أخ من أخته؟
وأثلج صدر ((مزنة)) جوابه وكادت تقبله من فرحها وسرورها وشاركها والد ((سلمى)) الفرحة ثم أردف قائلاً:
ـ العفو يا ولدي... إذا كانت ((مزنة)) قد أحرجتك بإثارة موضوع الزواج..
وتابعته ((مزنة)) قائلة:
ـ صدقني يا ولدي لم اقل ذلك إلا بناء على الإشاعات المتواترة.. وما كنت أعرف هذه الحقيقة من قبل فمعذرة يا بني...
ـ العفو يا سيدتي فإنك لم تسيئي إليَّ في شيء أبداً.. وما قلته هو ما تردده الشائعات وتنشره بين الناس...
وسارت الأمور حسب الخطة التي رسمتها ((مزنة)). وتولهت ((سلمى)) في حب ((توفيق)) ولكن أمها كانت تكبح جماح عواطف ابنتها وتوصيها بالضغط على أعصابها وشعورها.. وكم كانت المسكينة تتألم بسبب ذلك ولكنها حين تفيىء إلى عقلها ترى أن ما تقوله والدتها هو عين الصواب فترتاح وتهدأ وهكذا دواليك..
وضاقت والدة ((نسرين)) ذرعاً بجمود أم توفيق وعدم مفاتحتها في موضوع الزواج.. ولعب (الفار) في عبها - كما يقولون - وهداها تفكيرها إلى أن إحجام أم توفيق عن هذه المسألة الحيوية بالنسبة لعائلتيهما ناجم عن شيء لاحظته على ((نسرين)) ذلك لأنها تعلم علم اليقين أن ((أم توفيق)) من السيدات العالمات بدقائق أسرار البلد بالنظر لطبيعة عملها. وقوي هذا الاتجاه في خاطر ((سهام)) عدم ظهور أي شيء غير طبيعي في العلاقة بين ((نسرين)) وتوفيق ((إنها علاقة عادية لا شيء فيها يستلفت النظر أو يبعت على التفاؤل... إنها على العكس أصبحت تبعث على التشاؤم ولا سيما بعد أن ظهر جلياً ركود في ميول ((توفيق)) نحو ((نسرين)) بعد ذلك التأجج المريع... وحصلت ((سهام)) إلى نتيجة واحدة فقط هي وقوف أم توفيق وابنها على علاقة ((نسرين)) بشخص آخر...
وشددت ((سهام)) الرقابة على ابنتها من دون أن تشعرها بذلك.. واهتبلت فرصة غياب ((نسرين)) ففتشت غرفتها تفتيشاً دقيقاً فعثرت على قسم من الرسائل التي كان يبعثها ((مدحت)) إلى ((نسرين)) وتصفحتها - في سرعة - فتبين لها أن ابنتها أيضاً كانت تبادله رسائله الغرامية. وكادت تقع ((سهام)) على الأرض من هول الصدمة ولكنها تمالكت وأرجعت كل شيء إلى قواعده وطبيعته... وعادت تجر رجليها جراً إلى غرفة نومها فأغلقتها خلفها وارتمت على سريرها تنشج كالثكالى وتقول كالأيامي:
ـ يا للفضيحة! يا للعار!
وظلت تلطم على وجهها وتقول:
ـ أين كنت؟ كيف لم أعرف كل ذلك... يا لتغفيلي.. يا لخيبتي..
وتمشي في الغرفة جيئة وذهاباً وهي لا تدري كيف تعالج هذا الأمر.. وكلما جال بخاطرها أن علاقة ابنتها (بمدحت) ربما وصلت إلى حد الإثم طالت اللطمات بشدة على خدها ورأسها... ولا تدري كم مضى من الوقت عليها وهي على هذه الحال حين قرع باب غرفتها بشدة.. وكان الطارق زوجها ((سمير)) فتظاهرت بالمرض والإعياء وذهبت لفتح الباب وهلع قلب ((سمير)) حين رآها وأسرع إلى الهاتف ليستدعي الطبيب فأقسمت عليه ألا يفعل وقالت:
ـ إنه عارض بسيط يا ((سمير)) سيزول بإذن الله..
ـ تقولين عارضاً بسيطاً.. انظري وجهك في المرآة لتري كيف أنه منتفخ ومحمر تتخلله زرقة.. دعيني أرسل في طلب الدكتور..
ـ أرجوك يا ((سمير)).. أرجوك يا ((سمير))...
وتجلدت وذهبت إلى الحمام واستطاعت بكمادات من الماء... وطبقة من المساحيق تخفيف الاحتقان.. وعادت وهي تتصنع الابتسام وتتفكر في اختراع أكذوبة بيضاء تهدهد بها قلق زوجها عليها فقالت:
ـ لقد كنت أبكي يا ((سمير))..
ـ ولم تبكين يا حبيبتي..
ـ أبكي لأنني نسيت والدي بعد أن أفاء الله علينا من نعمه الشيء الكثير. لقد نسينا التصدق عنه، لقد ألهتنا الدنيا عن تلاوة آي الذكر الحكيم على روحه.. لقد ذكرت كل هذه الأشياء وأنا على سريري ولا أدري ماذا فعلت بنفسي حتى وجدتني على ما أنا عليه..
وانطلت على ((سمير)) هذه الكذبة البيضاء وأكد لها أنه سوف لا ينسى واجبه تجاه أبيها وسيبدأ منذ اليوم في عمل اللازم.
وعادت ((نسرين)) من زيارتها، وما إن علمت بالخبر حتى هرعت إلى غرفة أمها على عجل وقد أخذ منها الاضطراب مأخذه فارتمت على صدر أمها وهي تقول:
ـ سلامتك يا حبيبتي يا ماما.. راح الشر.. خير إن شاء الله... ماذا أصابك. لقد غادرت المنزل وأنت تتمتعين بصحة جيدة فما الذي جرى؟ طمنيني يا ماما طمنيني...
وتطلعت إليها وكادت تقول لها: اسألي نفسك أيتها العاشقة الولهانة.. ولكنها ربطت على قلبها وألجمت لسانها واكتفت بتمتمة مبهمة...
والتفت إليها زوجها ((سمير)) قائلاً:
ـ أما تشعرين بتحسن يا ((سهام)) الآن..؟
وتتظاهر بالعافية فتجيب:
ـ نعم..
ثم تنهض وهي تقول:
ـ يالله نتغدى يا ((سمير)) لقد أخرناك عن موعد غدائك ووقت راحتك.. ويرد عليها:
ـ راحتي وهنائي هو سلامتك يا وش الخير...
وتبتسم ابتسامة الرضاء والامتنان... وتتدخل ((نسرين)) في الحديث قائلة:
ـ وأنا يا بابا نسيتني..
ويجيبها بحنان الأبوة الدافق:
ـ لا.. يا نور عيني.. كلك خير وبركة..
وكانت ((سهام)) أثناء الغداء ساهمة وكأنها منهمكة في تفكير هام... وتطلع إليها ((سمير)) وقال:
ـ إيش؟ عدنا للوجوم والسرحان.. إيه اللي شاغلك يا ستنا قولي يمكن نساعدك في حل ما يشغلك..
وتردف ((نسرين))... قائلة:
ـ صحيح يا ماما... يمكن بابا يساعدك..
وتضيق ((سهام)) ذرعاً لكلامها:
ـ اسكتي أنت... خلوني يا جماعة في حالي..
وخيم صمت رهيب على الجميع.. وبعد الغداء دلفت ((سهام)) إلى مخدعها.. وجلس ((سمير)) في الصالون يدخن سيجارته ويتناول قهوته. أما ((نسرين)) فتبعت والدتها فوجدتها مستلقية على سريرها فجلست بجانبها وبدأت تعبث بشعر أمها، وتداعبها قائلة:
أنا بنتك وقد كبرت الآن.. والمثل يقول: إذا كبر ولدك خاويه...
وتقوم ((سهام)) وتسند ظهرها على حافة السرير وتساعدها ((نسرين)) على وضع الوسائد خلف ظهرها... وبعد ذلك تلتفت ((سهام)) إلى ابنتها وتتطلع إليها من قمة رأسها إلى أخمص قدميها وتقول:
ـ والله كبرت يا ((نسرين)).. فهل كبر عقلك مع كبر سنك؟
وترد عليها ((نسرين)) متسائلة:
ـ والله ما أنا فاهمة حاجة يا ماما...
ـ صحيح... لو كنت فاهمة ومقدرة للأمور كنت أدركت خطورة العمل الذي تقومين به...
وبدأ الشك يساور ((نسرين)) بأن والدتها ربما عرفت بعلاقتها ((بمدحت))، ولكنها تظاهرت بالغباء لتضع النقط على الحروف فقالت:
ـ كمان مش فاهمة يا ماما.. بلاش ألغاز.. وضحي يا ماما أنا ابنتك..
ـ وتصرين على الغباوة... عجيب أمرك يا ((نسرين))... أقول:
ـ قولي يا ماما.. قولي..
واعتدلت في جلستها وظهر الجد والحزم في كلامها وقالت وهي تشد ((نسرين)) من كتفها:
ـ قولي يا (مقصوفة) العمر إلى أي حد وصلت علاقتك ((بمدحت))...
وتبهتها المفاجأة وتدرك أمها ذلك فتردف قائلة:
ـ قولي يا سافلة.. يا منحطة.. كبرتِ وصرتِ تحبين وتتبادلين رسائل الحب..
وتصفعها بشدة على وجهها وتركلها برجلها فتقع على الأرض.. وتنهض ((سهام)) وتدوس بقدمها على صدرها قائلة:
ـ قولي إلى أي حد وصلت علاقتك ((بمدحت)) قولي قبل أن استدعي والدك ليطلع على مخازي ابنته التي سودت وجههه...
وتضغط بقدمها على صدر ((نسرين)) وتقول:
ـ قولي... قولي قبل أن أكسر أضلاعك...
ـ سأقول يا ماما.. سأقول..... سامحيني... سامحيني..
وسردت ((نسرين)) لأمها علاقتها ((بمدحت)) من طقطق للسلامو عليكم...
وهدأت ((سهام)) قليلاً بعد أن تأكدت من أن شرف ابنتها لم يمس، ولكن مراجل غضبها ما زالت في أشد غليانها.. فنهضت ثانية من مقعدها فانكمشت ((نسرين)) في مكانها استعداداً لضربات أخرى بينما دموعها تنهمر في صمت على خدودها وهي تقلب موضوع ابنتها على وجوهه، وكلما فكرت في حرج موقفها مع أم توفيق إذا ما علمت بهذا الأمر ودت لو مزقت ابنتها إرباً إرباً، ولكنها حين تذكرت أن الحق كل الحق عليها بالدرجة الأولى لتقصيرها الذي لا يغتفر في تنشئة ((نسرين)) النشأة الصالحة... وإن عليها أن تتحمل وزر تدليلها لابنتها الوحيدة ذلك الدلال الذي تجني مرارة ثمره وربما فضائحه مستقبلاً من يدري... حين تذكر كل ذلك تنهال على خديها لطماً وعلى شعرها شداً ونتفاً...
وأثار هذا المنظر ((نسرين)) فكفت عن البكاء وتسمرت عيناها في والدتها وهي تقوم بهذه الأعمال الجنونية.. وأرهق ((سهام)) هذا المجهود فارتمت على أحد المقاعد القريبة من ابنتها وحملقت فيها قائلة:
ـ تعالي..... تعالي...
واقتربت منها ((نسرين)) وهي ترتعد فأمسكت ((سهام)) بأذنها وشدتها وقالت:
ـ هذه آخر مرة أحذرك فيها.. فإن عدت لمثلها ثانية فلن يكون لك عندنا جواب إلا الذبح كالخروف..
وأشارت بيدها..... فارتمت ((نسرين)) تقبل قدمي والدتها وتعتذر طالبة الصفح والغفران وأمها تقول لها:
ـ الصفح لن تناليه ما لم تثبتي أنك أهل له بامتناعك نهائياً عن هذا الولد المايع وقطع علاقتك به إلى الأبد...
ووعدت ((نسرين)) وأقسمت على ذلك وابتسمت ((سهام)) ابتسامة ساخرة وقالت:
ـ سنرى..... سنرى... قومي... وانسحبي إلى غرفتك بهدوء.
ـ أمرك يا ماما... أمرك يا ماما...
وذهبت ((نسرين))، وقامت ((سهام)) واضطجعت على سريرها تحاول النوم فلا تستطيعه، وأخيراً تغلب عليها الإجهاد فنامت.
أما ((نسرين)) فبعد أن غسلت وجهها وغيرت ملابسها استلقت على أحد المقاعد وسبحت في بحر من التفكير متلاطم الأمواج، كلما غشيتها لجة قذفت بها إلى صخور من اليأس زرعتها أمها القاسية هذا اليوم على شاطىء حب وليد عاشت تهدهده طيلة هذه الأيام وترعاه وهي تنتظر أن يكبر وأن تجني ثماره، فإذا بأمها تئده في مهده وتخنقه بيد من حديد وقلب لم يتذوق طعم الحب، ولم يتجرع كؤوس عذابه، وليالي سهاده... لو كانت أمها تزوجت أباها عن حب كالذي تعيشه هي الآن ما عاملتها بهذه القسوة.. بهذه الوحشية مستحيل.. مستحيل.. وطفر ((بنسرين)) الخيال فتراءى لها حبها مُسجَىً أمامها وهي منكفئة على جدثه تسقيه شآبيب دموعها المحترقة، وتنعيه بلواعج عواطفها الملتهبة...
ورأت ((نسرين)) ألا مفر من النزول على إرادة والدتها... إن المسألة أصبحت من الخطورة بحيث إن أي رجوع إليها سيكلفها حياتها... صحيح أنها مستعدة للتضحية بحياتها في سبيل مرضاة ((مدحت)) لو أن ((مدحت)) اتخذ خطوة جدية في مسألة الزواج.. إنه عندما يأتي ذكر هذا الموضوع.. عرضاً في لقائهما، يحتج بأنه لا يريد أن يقدم على ذلك إلا بعد نيله الدبلوم وحصوله على عمل يؤمن به حياتهما الزوجية، إنه لا يود أن يعيش عالة على أبيه..
كلام معقول، ومنطق سديد، ولكن متى يحصل ((مدحت)) على الدبلوم وبالتالي على الشغل؟ إنه حتى الآن لم يحصل على التوجيهية. لقد حصلت هي عليها.. أما هو ففشل حيث هي فازت..
دوامة من الأفكار والآراء المتباينة تعيشها ((نسرين)) ولا ترى بصيصاً من الأمل أو بارقة رجاء في الجو.. وبينما هي في هذه الدوامة إذا بفكرة تهبط عليها فجأة فتسكن نفسها إليها وربما جاء معها الأمل المنشود... يقول المثل: رب ضارة نافعة و ((نسرين)) بعد نزول هذه الفكرة عليها أصبحت تقول: يجب أن امتنع عن الاتصال ((بمدحت)) وأعمل المستحيل لوضع أعصابي وعواطفي في ثلاجة.. فإذا كان ((مدحت)) صادقاً حقاً في حبه لي، فإنه لا شك سيخطو خطوة حاسمة في هذا الأمر ولا شك أن والديّ سيرحبان بذلك.. وعاشت ((نسرين)) تنتظر خطوة ايجابية من قبل ((مدحت)).
وجاء ((توفيق)) إلى أمه ذات مساء.. ولم يجد صعوبة في شرح ما بنفسه لها وأنه فاتح ((سلمى)) في أمر الخطبة فسكنت والفرحة تكاد تدوي في كل جانحة منها... والسكوت بالطبع في مثل هذه المواقف إقرار.
وفرحت أمه بذلك ولكنها سألته قائلة:
ـ هل فهمت أن هنالك استجابة من والدي ((سلمى)) لو تقدمت بطلب يدها...
ـ نعم يا ماما.. وهذا أيضاً ما فهمته من ((سلمى)) عرضاً، ومن أمها ((تلميحاً)). والأمر الآن متروك لموافقتك ورضاك عنه..
فقبلته والدته وابتسمت:
ـ وهل لدى كل أم أسعد من يوم زفاف ابنها أو ابنتها؟! مبروك يا ولدي مبروك..
ثم تنهدت تنهيدة عميقة: فسألها توفيق عما بها فأجابت:
ـ ليت والدك على قيد الحياة إذن لبعثنا به يخطب ((سلمى)) من أبيها.. ولولا ((نسرين)) لطلبت من ((سمير)) أن يفعل...
فقاطعها ((توفيق)) قائلاً:
ـ البركة فيك يا ماما.. كما أن هنالك شخصية مرموقة تعرفت بها أثناء اشتغالي بأعمال السيد والد ((مدحت)) وأظنك تعرفينها فقد زارتني عدة مرات..
ـ آه تذكرت الأستاذ ((مختار)) كبير مهندسي وزارة الأشغال العامة..
ـ أيوه يا ماما عليك نور!..
ـ نعم الرجل.. نعم الرجل...
وقاطعها ((توفيق)) قائلاً:
ـ إنه صديق حميم لوالد مدحت... ولو فاتحته في هذا الأمر فلن يتأخر في القيام بهذه المهمة..
ـ على بركة الله.. على بركة الله..
ويحاول ((مدحت)) الاتصال ((بنسرين)) هاتفياً مستعيناً بصديقته بائعة الهوى، ((جمالات)) التي كان يطلبها من شقتها موهماً ((نسرين)) أن ((جمالات)) هذه خالته.. وكان هاتف بيت ((نسرين)) يجيب إجابة واحدة أنها غير موجودة... وفي إحدى المرات أخذت الهاتف أم ((نسرين)) وانهالت شتماً وتقريعاً على المتكلمة.. وكانت ((نسرين)) تسمع شتائم والدتها وهي في غرفتها وكأنها طعنات توجه إلى صدرها... إنها تتألم لأنها تعتقد أن ((مدحت)) سيتألم حين تخبره ((خالته))، وما درت المغفلة أن خالته ((جمالات)) تهاتفها وهي في حضن ((مدحت)) والكأس ثالثهما.
وانقطع الاتصال الهاتفي يومين ثم عاد إلى الرنين في كل يوم وكانت الإجابة هي الإجابة والشتائم هي الشتائم..
وقد حطمت هذه المكالمات اليومية أعصاب ((نسرين)) وألقت في روعها أن ((مدحت)) مُتدله في حبها، وزاد الطين بلة انقطاعها عن الخروج إلا في حراسة أمها الشديدة.. ولاحظت أم توفيق التبدل الذي طرأ على معاملة ((سهام)) لابنتها فأدركت أن في الجو غيماً كثيفاً وقد يكون سحابة صيف لا تلبث أن تنقشع فآثرت ألا تتدخل ولا سيما وأن وقتها مشغول بالاستعداد لخطبة ((سلمى)) من أبيها...
وذهب كبير المهندسين السيد ((مختار)) لخطبة ((سلمى)) من أبيها ((لتوفيق)) وذهبت والدته أيضاً إلى والدتها للغاية نفسها... وقد رحب والد ((مدحت)) وحرمه بهذه المصاهرة وسألا عن ((توفيق)) قائلين:
ـ أين هو؟ لِمَ لَم يحضر؟
فرد كبير المهندسين:
ـ لقد استحى يا أخي..
وقهقه السيد وجيه وقال:
ـ ادعه يحضر..
ـ ومعه الشبكة..
وأمن سعادته على كلامه قائلاً:
ـ ومعه الشبكة..
واستدركت ((أم توفيق)) قائلة:
ـ يجب أن تقيم حفلاً فخماً لتقديم الشبكة فقد شرفتمونا بهذه المصاهرة..
فرد والد ((مدحت)) قائلاً:
ـ خلي الأمور تمشي ببساطة حتى الخطبة والزفاف، أريدها أن تكون في منتهى البساطة، فقد آن لنا أن نتخلص من التقاليد البالية والنفقات الباهظة التي جعلت شبابنا يحجمون عن الزواج من بناتنا ويسعون للزواج من الأجنبيات تفادياً للمصاريف التي لا يقرها شرع ولا نظام. أريد أن أجعل من زواج ابنتي قدوة لغيري من الآباء.
وحضر ((توفيق)) ومعه (الشبكة) فألبسها معصم ((سلمى)) وقبّل يدي والديها ويد والدته وقرأ الجميع الفاتحة وتمنوا لهما التوفيق.
و ((مدحت)) هل رضي بالهزيمة وهو الذي لم يدخل معركة غرامية إلا كسبها.. هل يرفع الراية البيضاء اليوم... لا.. لا.. لن يكون ذلك أبداً.. ولن يسجل هذه الهزيمة على نفسه.. لقد تدارس الموضوع مع قرين سوء له وعلى شاكلته واتفقا على وضع خاتمة لهذه المعركة في شقة خالته المزعومة..
وفي الصباح التالي شوهدت ((خالة مدحت)) المزعومة تدخل دار ((سمير)) في الوقت الذي خرجت فيه ((سهام)) لتعزية إحدى صديقاتها...
وضغطت ((الخالة المزعومة)) على الجرس ففتحت الخادمة الباب وسألتها عما تريد.. فأجابت:
ـ هل الست ((سهام)) هنا.. أريد أن أحدثها بشأن ابنتي التي تدرس في مدرستها...
وردت الخادم قائلة:
ـ الست ((سهام)) غير موجودة..
ـ متى ستعود؟
ـ لا أدري..
وأوشكت الخادم أن توصد الباب بوجهها فإذا بالخالة المزعومة تقول متظاهرة بالإعياء:
ـ ألا يمكن أن انتظرها على باب البيت؟ فقد جئت من مكان بعيد وأنا كما ترين أكاد أقع من التعب والإعياء...
وترامى هذا الصوت وبعض من الحديث إلى سمع ((نسرين)).. ولم تصدق أذناها ذلك.. إنه صوتها يا ربي.. إنها خالة حبيب العمر.. أحقاً هي.. يالله.. وهرعت ((نسرين)) إلى الباب فإذا هي أمام ((جمالات)) خالة حبيبها ((مدحت)).. التي انتهزت فرصة تطلع الخادم إلى ((نسرين)) فأشارت إليها بأن تتجاهلها.. وجاءت ((نسرين)) وكلمتها الخادم بأمرها فقالت لها ((نسرين)).
ـ دعيها تسترخ قليلاً ريثما تسترد أنفاسها فإنها مجهدة كما يظهر..
وصدعت الخادم بأمر ((نسرين))، ودخلت ((الخالة المزعومة)) إلى (الأنتريه) ورمت بجسمها في تمثيل رائع على أحد المقاعد. وأدركت بالطبع ((نسرين)) أهمية هذه الزيارة فأشارت إلى الخادم بأن تصنع فنجان قهوة تركي للزائرة.. وفي أثناء قيام الخادم بهذه المهمة كلمتها ((جمالات)) عن ((مدحت)) وأنه مريض يشكو السقم من شدة الحب وأنه فاتح والديه في مسألة خطبتها وأنهما وافقا مبدئياً على ذلك وأنه يريد أن يراها لاطلاعها على التفاصيل وعلى بعض الأمور الهامة.
وصدقت ((نسرين)) كل ذلك ثم أردفت قائلة:
ـ أما لقائي به في شقتك يا ((جمالات)) فمن رابع المستحيلات، فالرقابة عليّ شديدة.. وابتسمت ((جمالات)) ابتسامة ماكرة:
ـ لا شيء مستحيلاً تحت الشمس.. إن الحب يذلل العقبات ويفتح الأبواب المغلقة...
ولما شاهدت الخادم مقبلة بصينية القهوة قالت مسرعة:
ـ إنه إنه ينتظرك في شقتي يوم الأحد الساعة العاشرة صباحاً.. سيموت إذا لم يرك...
وحضرت القهوة وشربتها الخالة المزعومة وبعد ذلك قالت:
ـ يظهر أن الست ستتأخر.. في أمان الله...
وأجابتها ((نسرين)) وهي في شبه شرود:
ـ في أمان الله... في أمان الله...
وأوصدت الخادم الباب خلفها وتلفتت إلى ((نسرين)) قائلة:
ـ عرفت يا ستي اسمها...
ـ أبداً يا أم سعيد... لأنها كانت تعبانة بالمرة.....
وألقت هذه الزيارة على ((نسرين)) هماً جديداً إلى همومها العديدة.. ومع أنها استبشرت بخبر الخطبة إلا أن عقلها شرد بها إلى التفكير في إيجاد الطريقة السليمة لمقابلة ((مدحت)) إنه يريد لقاءها لأمر هام.. يجب أن تخترع.. يجب أن تجند طاقات تفكيرها للوصول إلى ((مدحت)) في شقة خالته ((جمالات)) وأعياها التفكير فأغفت وهي تحلم بلقاء ((مدحت)) ولم تصح إلا على وكزة شديدة من أمها توقظها بها وهي تقول:
ـ قومي يا خايبة.. قومي يا منيلة على عمرك.. قومي يا وش الفضايح... قومي..
واستيقظت ((نسرين)) وهي ترتجف رعباً وهلعاً وتساءلت:
ـ عملت حاجة يا ماما.. والله ما عملت أي حاجة... إسألي أم سعيد..
وبصرت بوالدها قادماً فقالت بصوت عال:
ـ يا رب خذني وريح ماما مني...
وتجيب أمها:
ـ يا رب: يا رب:
وصرخ ((سمير)) قائلاً:
ـ وتطلبين لها الممات واحنا ما شافتك يا نون حتى شابت العيون... وليش الدعاء هاذا كله ليش لأن ((توفيق)) (شبك) بنت الأستاذ وجيه.. يتهنوا يا ستي.. بنتنا مش رايحه تبور...
تعالي يا روحي تعالي...
وخطت ((نسرين)) في سرعة إلى أبيها فضمها إليه وقال:
ـ أنت زودتيها كتير يا ((سهام)) في معاملتك للبنت... أنا شايف صحتها تتدهور.. حرام عليك نحنا عندنا كم ((نسرين)) إذا كنت متضايقة منها أنا حابعثها لأمريكا لتستكمل دراستها الجامعية..
وكادت ((سهام)) تبوح له بأسباب ثورتها على ((نسرين)) غير أنها فضلت السكوت ورأت في إرسال ((نسرين)) للخارج حلاً جذرياً للمشكلة بالنسبة ((لمدحت)) وبالنسبة ((لتوفيق)). فسفر ((نسرين)) سيقضي على جميع الأقاويل وبكم كثير من ألسن السوء والشائعات التي لا ترحم. ولما تبلور هذا الميل في نفسها بادرت قائلة:
ـ والله أنا في نفسي إرسالها للخارج منذ حصلت على التوجيهية، وكنت أنت تمانع.. وأنا مسرورة الآن لموافقتك...
ويجيبها قائلاً:
ـ خلاص.. توكلنا على الله.. خذي في التحضيرات اللازمة فيما يخصك وسأتولى أنا تحضير ما يخصني...
ثم يرفع ((نسرين)) من رقبتها قائلاً:
ـ وأنت يا روحي موافقة ولا ايش؟
وكادت تقول: لا.. لكن نظرات أمها الحادة أجبرتها على أن تقول:
ـ أنا موافقة على كل ما تختارونه من أجلي..
ويقبلها والدها ويقول لها:
ـ روحي قبلي راس أمك وإيدها واطلبي رضاها ودعاها...
وأسرعت ((نسرين)) فأدت المهمة على خير ما يجب والتفت ((سمير)) إليهما بعد ذلك قائلاً:
ـ نحن جعنا يا جماعة.. مفيش غدا.. يعني صيام اليوم...
واصطنعت ((سهام)) ابتسامة مجاملة وقالت:
ـ الغداء جاهز.. وحديث ((نسرين)) هو الذي أخرنا.. هيا بنا.
وارتاحت ((نسرين)) في قرارة نفسها للصراع الذي بدأ بين والديها وأدى بالنتيجة إلى تخفيف ضغط أمها عليها، كما ارتاحت جداً لخبر (شبكة) ((توفيق)) ((لسلمى)). وتحول الشك الذي كان يخامرها من الكلام الذي نقلته ((الخالة المزعومة)) عن لسان ((مدحت)) إلى يقين. إن ((مدحت)) سيستعجل أبويه وأنهما لا بد ملبيان طلبه بعد أخته ((سلمى)). ولئن أزعجها عزم والديها على إرسالها للخارج من جهة فقد سرها ذلك، ومن جهة أخرى إن هذا السفر سيكون فرصة لها للتخلص من حب ((مدحت)) إذا لم يصدق في وعوده، كما أن رحلتها ستهيىء لها المجال العلمي الواسع والتجارب الكثيرة، والحياة الجديدة...
وكانت أم توفيق وابنها جد مخجولين من ((سمير)) و((سهام)) وكانا يخشيان أن تؤثر هذه المصاهرة على ما بينهم من صداقة ومودة وتعاون في جميع الميادين. ولقد تبدد هذا الخوف بزيارة التهنئة المفاجئة التي قام بها ((سمير)) وزوجه لهما ولوالد ((مدحت)) وأمه.. وكان ظهورهما بهذه الروح الرياضية العالية مثار إعجاب وتقدير من الجميع.. ولقد انتهز ((سمير)) وزوجه زيارتهما لأم توفيق وابنها فأكدا لهما أن ما حدث لم ولن يؤثر من جهتهما على ما بينهم من حب وود وتعاون.. وبالطبع كان جواب أم توفيق وابنها بنفس الروح بل وأشد...
وفي عصارى اليوم السابق للموعد الذي ضربه ((مدحت)) للقاء ((نسرين)) كانت هذه مع والدتها تبتاع بعض الحاجيات اللازمة لرحيلها وإذا بها وجهاً لوجه مع ((الخالة المزعومة)) فارتبكت وكادت تلحظ أمها ما هي فيه إلا أن ((نسرين)) استعادت رباطة جأشها، وانتهزت انشغال والدتها بالتفرج على الملابس فأسرت إلى ((الخالة المزعومة)) بأنها ستكون في شقتها في الموعد المحدد. وفي لمح البصر اختفت ((جمالات)) وأسرعت لتزف إلى ((مدحت)) البشرى وأية بشرى...
ولاحظت ((سلمى)) في صباح الموعد المحدد أن أخاها مهتم بزينته وهندامه أكثر من أي يوم آخر، كما أن آثار السرور الممزوج بالتفكير تتجلى في صفيره بينما هو يسرح شعره ويتأنق في لبس بدلته.. ولم تجرؤ على مفاتحته لأن علاقتهما ما زالت على حالها من القطيعة منذ خصامها الأول، وزادت الحال سوءاً فوق سوئها بعد خطبة ((سلمى)) ((لتوفيق)) ابن ((الدلالة)) كما يقول ((مدحت))...
ودق جرس التلفون فهرع أخوها للإجابة وأغلق الباب خلفه خشية أن يسمع أحد حديثه. ووضعت ((سلمى)) أذنها على ثقب الباب لتسترق السمع واستطاعت أن تلتقط العبارات الآتية من كلام أخيها:
ـ أنا قادم حالاً.. خلي ((جمالات)) تحضر كل حاجة.. وأنت خليك في المكان المتفق عليه..
وكادت تصرخ ((سلمى)) وقد تراءت لها بشاعة الجريمة، إنها تعرف من قبل علاقة أخيها ببائعة الهوى ((جمالات)) وتعرف علاقته أيضاً ((بنسرين)) وسمعت وقع أقدام أخيها وهو يغادر الغرفة فانزوت في أحد الأركان.. وعندما جأر صوت سيارته معلناً مغادرته ساحة الدار، أسرعت إلى الهاتف وطلبت منزل ((توفيق)) فلم تجده هو ولا أمه، وطلبت دار سهام فلم تجدها أيضاً ولا زوجها فصممت على إبلاغ الأمر إلى أبيها وأمها ولسوء الحظ كان تليفون والدها مشغولاً وأمها كانت في زيارة..
وتضافرت الظروف لتهيئة جو صالح لهذه الجريمة.. وفي الوقت الذي دخلت فيه ((نسرين)) شقة ((جمالات)) كانت ((سلمى)) بسيارتها تقف أمام المبنى الذي أشادته أم توفيق و ((سهام)) ليكون ملجأ للأيتام، حيث وجدت ((توفيق)) وأمه و ((سهام)).. وبدون سابق سلام صرخت ((سلمى)) قائلة:
ـ الحقوا بنتكم في شقة المومس ((جمالات)) شارع (69) عمارة (بنيوتي) شقة (19) إلحقوها قبل أن يفترسها أخي ومن معه...
واستقبلت ((الخالة المزعومة)) ضيفتها ((نسرين)) بالأحضان والقبلات وهرع ((مدحت)) للقائها فشد على يدها شد الأصحاب، وسلم عليها سلام الأحباب.. واحتوت الثلاثة مقاعد أعدت خصيصاً لهذه المناسبة...
وقامت ((الخالة المزعومة)) لصنع القهوة فرجتها ((نسرين)) ألا تفعل لأنها لا تستطيع الانتظار طويلاً بالنظر لظروفها المعروفة.. وعندها قالت ((جمالات)) وابتسامة ماكرة تغير محياها:
ـ إذن أنا أستأذن وأترك لكم الحرية للتحدث...
وأجاب ((مدحت)) هو الآخر مبتسماً:
ـ شكراً يا خالتي.. شكراً...
وذهبت إلى باب الشقة الخارجي ففتحته بهدوء فدخل ((قرين السوء)) في خفة اللصوص.. وخرجت ((جمالات)) وأغلق ((قرين السوء)) باب الشقة وأحكم رتاجه وانتظر ((دقة)) ساعة الصفر...
وبمجرد ذهاب ((جمالات)) من مجلس ((مدحت)) و ((نسرين)) قالت هذه بلهفة وهي تتطلع إلى ساعتها:
ـ قل وأوجز لماذا دعوتني.. فوقتي يمر بسرعة والرقابة علي شديدة كما تعلم..
واعتدل ((مدحت)) في جلسته وقرب مقعده منها وقال:
ـ دعوتك يا حبيبتي لنبت في أمر زواجنا...
وشاعت الفرحة في وجه ((نسرين)) ولاحظ ((مدحت)) ذلك فتابع كلامه قائلاً في وضع تمثيلي رائع:
ـ لقد أصبحت لا أطيق البعد عنك يا حبيبتي.. ولا يمكنك أن تتصوري كم تعذبت وتألمت من البعاد الذي حكمت به والدتك علينا..
ـ ووضع يده في يدها فلم تمانع وقد بدأ يسحرها بكلامه فقال:
ـ وقد كلمتُ والدتي وهددتها بالانتحار إن لم أتزوج..
وعلت وجه ((نسرين)) مسحة من الخجل الممزوج بالفرحة، وأردف ((مدحت)) قائلاً:
ـ ولكن والدتي طلبت مني أن أسألك...
وقاطعته ((نسرين)) قائلة:
ـ تسألني عن ماذا... قل...
ـ أسألك عما إذا كانت والدتك ستقف حجر عثرة في سبيل زواجنا... فتقنع والدك برفض طلب والديّ حينما يتقدمان لخطبتك...
فغضت ((نسرين)) طرفها خجلاً وقالت بهمس:
ـ لا أظن والدتي تقف في سبيل ذلك.. وخاصة وأنا مطمئنة من جهة والدي..
ـ حسناً يا حبيبتي... وأنت ما رأيك...؟
فسكتت... فاقترب منها أكثر وقال:
ـ قولي يا حبيبتي قولي... موافقة... موافقة...
وتمتمت ((نسرين)) قائلة:
ـ إسأل قلبك...
واقترب منها ((مدحت)) أكثر فأكثر فشعرت أنه يحاول تقبيلها فأرادت أن تحبط محاولته فسألته:
ـ أين خالتك ((جمالات))؟؟
ـ ذهبت للسوق لقضاء بعض الحاجيات.
ـ ولكني أسمع حركة في الداخل.
ـ إنه قريب خالتي وقد تركته ليقوم بخدمتنا.
ـ حسناً إذن فأنا أستأذن.
ـ إلى أين يا حبيبتي.
ثم أمسك بها وأدركت ((نسرين)) أنها وقعت في الفخ فقالت:
ـ دعني أذهب فقد تأخرت.
ـ وتتركينني.. لا.. لن تذهبي.
وبرز قرين السوء فأيقنت ((نسرين)) بالخطر ولا سيما عندما اقترب منها هذا القرين يريد أن يكمم فاها فصرخت:
ـ آه يا نذل يا سافل..
وضحك ((مدحت)) ثم بدأ مع صاحبه يكممان فم ((نسرين)) وهي تصرخ وتحاول أن تتخلص منهما.
وفي أثناء ذلك سمعا طرقاً شديداً... على الباب وصوت آمر يقول:
ـ افتح.. افتح.. أنا البوليس.. افتح وإلا كسرت الباب...
وأسقط في يدي المتآمرين وأعطى الصوت قوة للفريسة للمحاولة للإفلات من الفخ، واشتد الطرق على الباب وبدأت الجهود لخلعه تشتد.. فقال ((قرين السوء)) لـِ ((مدحت)).
ـ احكم إغلاق فم ((نسرين)) بالمخدة وسأتولى أنا ((تصريف)) البوليس بشوية فلوس...
وقال ((مدحت)):
ـ يا لفكرك الجهنمي!... اذهب واتركني مع زوجتي...
وضربته ((نسرين)) برجلها ضربة مؤلمة فصرخ متألماً:
ـ ضرب الحبيب زبيب.. وقعتي يا حلوة.. وحلَّ أكلك...
وفتح ((قرين السوء)) الباب فاندفع ((توفيق)) وخلفه والدته و ((سهام)) وفوجىء ((قرين السوء)) بذلك فسألهم قائلاً:
ـ من أنتم.. ماذا تبغون؟... يا الله اخرجوا.. يا حرامية.. أنا الذي سينادي البوليس مش أنتم.. يا الله اخرجوا.. بره.. بأي حق دخلتم...
وابتدره ((توفيق)) قائلاً:
ـ بالحق الذي سرقتم فيه بنتنا يا مجرمين...
ثم أمسك بتلابيبه قائلاً:
ـ أين ((نسرين)) قل أين هي وإلا هشمتك... يا سافل...
ـ ((نسرين)) مين يا رجل.. أنت غلطان.. اخرج من هنا أحسن لك قبل أن أدعو البوليس...
وانتهزت ((سهام)) حديثهما فجاست الدار تفتيشاً فعثرت على ((نسرين)) و ((مدحت)) يكتم أنفاسها بمخدة ويثقل جسمه عليها.. فصرخت:
ـ إلحقوني.. ((نسرين)).. هنا.. ((نسرين)) هنا.....
ولكم ((توفيق)) ((قرين السوء)) بقبضة يده فوقع على الأرض والدم ينزف من فمه ولحق إلى حيث كانت أمه و ((سهام)) تضربان ((مدحت)) بكل ما تصل إليه أيديهن فقال لهما:
ـ دعوه.. كفى.. يا الله بنا نمشي.. ولنتركه لضميره يحاسبه على فعلته...
وتصدى له ((مدحت)) قائلاً بتهكم وقد لعبت الخمرة برأسه:
ـ ربوا بناتكم يا حضرة.. ولا تتركوهن صيداً هيناً لكل ذئب يا نسيبي يا جوز أختي العزيز يا ابن الدلالة.. وأجابه ((توفيق)) قائلاً:
ـ هذا شرف لي يا ابن الأكابر..
وحاول ((توفيق)) ومن معه الخروج فإذا ((بمدحت)) يمسكه من ((كرافتته)) قائلاً:
ـ فين رايح يا صهري العزيز... رايح قبل ما نصفي الحساب اللي بيننا...
ولكم ((توفيق)) بكلتا يديه فسقط هذا على أحد المقاعد والدم ينزف من أنفه وقبل أن يقوم من مكانه هاجمه ((قرين السوء)) محاولاً ضربه من خلفه فعاجله ((توفيق)) بضربة من مزهرية على رأسه فشجته فسقط على الأرض مغشياً عليه... وبركت عليه وهي تصرخ:
ـ اقطعي يا ((سهام)) إحدى الستائر وشقيها لنربط المجرم بها..
وتعاونتا على شد وثاق ((قرين السوء)) بينما انشغل ((توفيق)) في صراع مرير مع ((مدحت)) حتى تغلب عليه أخيراً بضربة قاضية.. فقامت ((سهام)) وأم توفيق بشد وثاقه أيضاً..
وخرج الثلاثة ومعهم ((نسرين)) إلى دار أم توفيق حيث تأكدوا من سلامة شرف ((نسرين)) بواسطة إحدى الحكيمات.. وبعد ذهاب الحكيمة.. أكلت ((نسرين)) علقة ما أكلها كلب في جامع كما يقولون... وعرف ((سمير)) بالأمر وذاقت ((نسرين)) من غضبه حصة الأسد...
واتفق الجميع على ضرورة الإسراع في تسفير ((نسرين)) لأمريكا، قطعاً للشائعات التي ستنتشر مهما حاولوا إخفاء الحادث.. وبعد أن وصلوا إلى هذه النتيجة استأذنهم ((توفيق)) في الذهاب إلى والد ((مدحت)) واطلاعه على حقيقة الأمر قبل أن يسبقه ((مدحت)) فيلفق تهماً وأكاذيب عليه ما أنزل الله بها من سلطان، وأقر الجميع رأيه وقبله ((سمير)) قبلة تفيض بالحنان الأبوي والشكر على ما فعل من أجل ابنته، ورجته ((سهام)) أن يشكر ((سلمى)) فلو لم يقيضها الله لهم لوقعت الواقعة.
وشرح ((توفيق)) لوالد ((مدحت)) بحضور زوجه ((مزنة)) القصة من أولها إلى نهايتها مستعيناً ((بسلمى)) في تبيان بعض جوانبها فغضب غضباً شديداً من فعلة ابنه وطلب من ((توفيق)) أن يأخذه إلى مكان الحادث.. فتوسل إليه ((توفيق)) ألا يذهب لأن مشاهدة الناس لشخصية مرموقة مثله تدخل شقة ((مومس)) ستحدث ضجة وفضيحة كبيرة ستؤثر على مركزه وسمعته وبالتالي على ((سمير)) وسمعة ابنته في الوقت الذي تحاول فيه التستر على ما جرى وكتمانه في مهده. وأصر والد ((مدحت)) على الذهاب متنكراً مع ((توفيق)) وذهبا و ((مزنة)) مشفقة أن يرتكب زوجها ما يشين سمعته.
وكانت ((جمالات)) قد عادت إلى شقتها لتطمئن على سير المؤامرة. وكانت صدمة قاسية لها حين وجدت ((مدحت)) ورفيقه موثوقين ودماؤهما تنزف فحلت وثاقهما وشرعت في إسعافهما.. وما كادت تنتهي من مهمتها حتى قرع جرس شقتها ففتحت الباب وإذا بها وجهاً لوجه أمام والد ((مدحت)) و ((توفيق)) فتراجعت قليلاً ثم تسمرت في مكانها من الخوف.. وأحكم ((توفيق)) رتاج الباب خلفه وتطلع إلى ((جمالات)) شذراً فارتعدت فرائصها وكأنها أصيبت بقشعريرة حمى.. ثم سألها بصوت آمر قائلاً:
ـ أين زبوناتك يا فاجرة... قولي وإلا...
وسحب مسدسه فشهقت وأشارت إلى حيث يوجدون فأمرها أن تمشي أمامهم فصدعت.. وفتحت باب الغرفة التي بها ((مدحت)) وقرينه ودلفت ومن خلفها هو وتوفيق ((فبهت)) ((مدحت)) وهو يرى أباه وانكمش في مكانه.. وحذا حذوه رفيقه..
وأشار والد ((مدحت)) إلى قرين السوء آمراً أياه بالخروج فوراً.. فما صدقت أذناه ما سمع فهرع وتبعه ((توفيق)) ليوصد الباب خلفه... ثم عاد.. والتفت إلى ((جمالات)) وإلى ابنه فأمرهما بالجلوس فجلسا وهما يرتجفان ثم وجه الكلام إلى ((جمالات)) قائلاً:
ـ اسردي قصة المؤامرة وإياك أن تكذبي فسأخمد صوتك بطلقة واحدة إن حاولت الكذب فأجابت والكلام يرتعد بين شفتيها:
ـ سأقول الحق بس ارحمني... ولا تقتلني...
ـ لن أقتلك إذا صدقت..
وقصَّت عليه علاقة ((مدحت)) بها وعلاقته ((بنسرين)) وبغير ((نسرين)) وجاءت إلى ذكر المؤامرة الأخيرة فروتها كما تعرفها.. وعندما انتهت تطلع إلى ابنه قائلاً:
ـ ماذا تقول يا مجرم.. يا سافل..... في قولها..؟
فنكس ((مدحت)) رأسه ولم يحر جواباً ثم نهض والده وبصق في وجهه قائلاً:
ـ أنا بريء منك براءة الذئب من ابن يعقوب... اذهب عليك لعنتي وغضبي أنت مطرود من بيتي.. ولئن حاولت الدخول قتلتك بمسدسي هذا...
ثم التفت إلى ((جمالات)) وقال:
ـ أما أنتِ يا داعر، فستعرفين مصيرك هذا اليوم...
وبحركة عسكرية أدار ظهره وخرج يتبعه ((توفيق)).
وعز على ((مزنة)) والدة ((مدحت)) أن يطرد ولدها ويتبرأ منه والده وأن يكون ذلك من (تحت راس) ((توفيق)) صهر المستقبل... إن ابنها لم يحاول ما حاول لو لم تشجعه البنت (القليلة التربية) ((نسرين)) كانت نظرة ((مزنة)) إلى فعلة ابنها نظرة أية امرأة في مستوى تعليمها وتفكيرها.. إن (جسارة) ((نسرين)) أو ((وقاحتها)) بذهابها إلى لقاء ابنها في شقة ((مومس))... قد غيرت نظرة الإعجاب التي كانت تحملها ((لنسرين)) وقلبت موازين تقديرها لها.. فقد أصبحت في نظرها لا فرق بينها وبين بائعة الهوى ((جمالات)) فكلاهما بائع في سوق الهوى.. وأيضاً ((مدحت)) شاب كأي شاب آخر اشترى مما وجد معروضاً في هذه السوق.. فهو - في رأيها - غير ملوم بالنسبة للبنت ((الفالته)) ((نسرين))...
وآلمها جداً وحز في نفسها أن يلقى ((مدحت)) من زوج أخته هذا الضرب المبرح الذي كاد أن يودي به.. وفي سبيل من..؟ في سبيل بنت تدخل سوق الدعارة كأي بائعة أو عارضة..، واعتورت ((مزنة)) الوساوس من أن يكون ((توفيق)) يحب ((نسرين)) وأنه رأى ((زبوناً)) ينافسه عليها فحاول إخماد أنفاسه.. والمعركة التي جرت بين ((توفيق)) وابنها ((مدحت)) كانت معركة حياة أو موت... والأنكى من ذلك أن ترى ((سلمى)) تقف بجانب من أراد أن يقضي على أخيها.. هل الحب أعماها كما أعمى ((نسرين)) حين ذهبت طائعة مختارة إلى لقاء أخيها وهي تعلم أنه ما اجتمع رجل وامرأة على انفراد إلا كان الشيطان ثالثهما؟!
وخلصت ((مزنة)) من دوامة تفكيرها إلى قرار حاسم يقضي بأن تفعل المستحيل لإحباط زواج ((توفيق)) من ((سلمى)) وشرعت في تنفيذه بطرقها الخاصة وما أقدر الحموات على تدبر (المقالب) واختراع ((المنغصات)) والمنكرات لأتفه الأسباب.
ولاحظ ((توفيق)) التغير الطارىء على حماته المنتظرة، ولم يدر بخلده أنه تغير مدبر مفتعل يهدف إلى ((تطفيشه))... وفزع إلى ((سلمى)) يسألها تفسير ما يرى.. فاستمهلته الإجابة.. وسرعان ما عرفت، و ((فرخ البط عوام)) كما يقول المثل، فأعلنت ((توفيق)) به.. فشكرها ووعدها بأنه سيدمر هذا المخطط وسيرجع المياه إلى مجاريها.. فتنهدت ((سلمى)) وابتهلت إلى الله التوفيق ((لتوفيق)) ونقل ((توفيق)) أنباء ((حماته)) إلى زميلتها في مدرسة الحموات أمه فابتسمت وقالت:
ـ شيء طبيعي.. لو كنت مكانها لفعلت ما تفعل...
وانفجر ((توفيق)) ضاحكاً وقال:
ـ ماما.. ماما.. ايش هادا.. هم الحموات لبعضيها..
ـ لا.. ولكن هذه هي الحقيقة المجردة..
فسألها ((توفيق)) قائلاً:
ـ والعمل إيه يا ماما..
ثم قبلها وقال:
ـ فين خططك الهائلة يا ست الحموات.. أرسلي من إحدى قواعدك صاروخاً ذرياً ينسف مخططات ((حماتي)) أو أي إشعاع ذري فإنها ست كويسه.. والظروف هي التي ألجأتها إلى اتخاذ هذا الهجوم... كما تقولين...
ـ صحيح يا بني.. يجب أن تفكر جدياً في حل هذه المشكلة قبل أن يستعصي حلها... وأنا أريد أن أسألك...
ـ قولي يا ماما..
ـ أتعرف أين يسكن ((مدحت)) بعد أن طرده والده وحلف بالطلاق من أمه إن أرسلت له أي لون من المساعدة...
ـ لا أدري يا والدتي.. إنما الذي يسأل (مايتوه)...
ـ إعمل من جهتك وأنا سأعمل من جهتي وعلى الله الاتكال..
ـ الموضوع يحتاج إلى (شوية) سرعة لأن موعد عودتي للجامعة قد أزف ولا أحب أن أغادر هذا البلد قبل أن تتسوى هذه المسألة بأي شكل من الأشكال.
واستطاعت ((أم توفيق)) بأساليبها وطرقها الخاصة أن تهتدي إلى المكان الذي يقطنه ((مدحت)) وكان عبارة عن غرفة في الدور الأرضي (البدروم) من منزل السيد ((عصام)) مساعد المدير العام لشركة الوقود والتدفئة الوطنية، وأن والد ((مدحت)) قد وضع رقابة غير منظورة عليه وأنه يعيش في حالة ضنك وبؤس، وأن الناس تجافوه حتى شلّة الأصحاب التي كانت تنهل من معين (جيبه) انفضوا من حوله وتنكروا له. واسودت الدنيا في عينيه وكاد يلجأ للسؤال لولا بقية عزة في نفسه. ودخلت ((أم توفيق)) المنزل متخفية وأدخلت من تحت إفريز الباب الخاص بسكن ((مدحت)) مغلفاً فيه شيء من النقود وصارت توالي هذه العملية الفينة بعد الفينة وفي أوقات غير معينة.. وانفرجت حال ((مدحت)) بهذا العون غير المنظور أو المنتظر.
أما ((توفيق)) فصار يتخذ كل فرصة تواتيه لترقيق قلب والد ((مدحت)) على ابنه.. ومرت الأيام سراعاً و ((توفيق)) يقتات صبره حتى كاد ينفد، ومقالب ((مزنة)) تزداد يوماً عن يوم وتتعدد وتتلون، ولولا رصيد الثقة الكبير الذي يحتفظ به فؤاد والد ((مدحت)) لنجحت خطط ((مزنة)) في تدمير مشروع زواجه...
و ((مدحت)) أصبح متلهفاً لمعرفة فاعل الخير.. وكم من مرة حاول أن يترصده ولكنه فشل في كل محاولاته.. وزاده فشله رغبته في المعرفة إلى أن جاء اليوم الذي اكتشف فيه السر... كانت ((أم توفيق)) تدخل الظرف من تحت الباب فإذا بإحدى سكان المنزل تصطدم بأم توفيق بينما كانت هذه منحنية لتأدية مهمتها... وإذا بها من إحدى معارفها الحميمات... فتعتذر لها.. وتصر تلك على أن تشرفها ((أم توفيق)) بالزيارة وشرب فنجان قهوة على الأقل... وتحاول هذه الإفلات ويشتد تمسك تلك بها.. ويفتح ((مدحت)) الباب... وإذا به وجهاً لوجه مع ((أم توفيق)) التي ما إن شاهدته حتى سارعت في الذهاب مع الست المعرفة لشرب القهوة فناداها ((مدحت)) قائلاً:
ـ يا ست ((أم توفيق))!.. يا ست ((أم توفيق))... خَلِّي توفيق ينتظرني في بيتكم الليلة...
وأجابته ((أم توفيق)) قائلة:
ـ حاضر يا بني.. أهلاً وسهلاً بك...
ـ شكراً.. شكراً...
وعادت ((أم توفيق)) لتخبر ولدها بما جرى فأكبر عملها وغمرها من فرحه بقبلاته... ووصل ((مدحت)) في الوقت المحدد واستقبلته ((أم توفيق)) وابنها استقبالاً حاراً وانتظرا ما تتمخض عنه هذه الزيارة فإذا به يقول:
ـ لقد جئت لأشكرك يا والدتي فقد صنت وجهي عن مذلة السؤال بعد أن تنكر لي من كنت أغرقهم بإحساني و (جمايلي)..
فقاطعته ((أم توفيق)) قائلة:
ـ العفو يا بني إنني لم أقم إلا بما يجب أن تفعله والدة نحو ابنها...
ـ لقد فعلت ما لم تفعله والدتي التي تنكرت لي مع المتنكرين...
وقاطعه ((توفيق)) قائلاً:
ـ لا تقس في الحكم عليها يا ((مدحت)) فلسوف تعرف أنها ما نسيتك قط بل كنت تعيش معها وألزم لها من خيالها... ولكن يمين الطلاق الذي أقسمه والدك هو الذي أجبرها على هذا التنكر.. وقال ((مدحت)) والدموع تتساقط من عينيه:
ـ مسكينة ماما... مسكينة ماما... يا ليتني أستطيع لقاءها لأغمر يديها ورجليها بقبلاتي وأعتذر لها عن قسوة ظنوني بها... فما كنت أدري بكل هذا لو لم أسمعه الآن منك.
وربتت ((أم توفيق)) على كتفه قائلة:
ـ ستراها قريباً يا حبيبي... هيا بنا نتعشى فقد أسعدتنا بزيارتك هذه الليلة...
وانتهزت ((أم توفيق)) جلوس ابنها مع ((مدحت)) في الصالون بعد الانتهاء من العشاء وانشغالهما في الحديث فهاتفت بيت والد ((مدحت)) فردت عليها ((سلمى)) وبعد كلام المجاملة طلبت منها أن تعطيها والدتها لتكلمها.. وكانت ((مزنة)) بجوار ابنتها وهي تهاتف ((أم توفيق)).. وكادت تتمنع عن المكالمة لولا أن ((سلمى)) كانت قد أنبأت سلفاً أم توفيق بوجودها. وأخذت ((مزنة)) السماعة وابتدأته ((أم توفيق)) بالسؤالات التقليدية وردت ((مزنة)) بالطبع بالإجابات التقليدية ثم سألتها ((أم توفيق)) عن صحة والد ((مدحت)) وما إذا كان موجوداً الآن في الدار. فأجابت أنه بخير وأنه حالياً غير موجود. فاطمأنت ((أم توفيق)) واهتبلت الفرصة فقالت:
ـ لدي صديقة عزيزة عليك يا ست ((مزنة)) وقد عادت من سفرة طويلة وتريد أن تكلمك...
وفجأ ((مزنة)) ذلك فلم تستطع إلا أن تقول:
ـ يسعدني أن أكلمها.. قولي لي من هي...
وابتسمت في نفسها وقالت:
ـ ستسمعينها حالاً.. انتظري من فضلك قليلاً لأدعوها من الصالون لتكلمك...
وألقت ((أم توفيق)) بالسماعة جانباً وهرعت لتدعو ((مدحت)) ليكلم أمه.. فتردد هذا خشية أن يكون في ذلك ضرر لها.. ولما طمأنته بعدم وجود والده في البيت أسرع إلى الهاتف وقبل أن يتكلم تكلمت ((أم توفيق)) قائلة:
ـ حاضرة يا ست ((مزنة))...
ولما أجابت هذه بنعم ناولت السماعة ((لمدحت)) الذي قال:
ـ ماما... حبيبتي ماما.. أنا ((مدحت)) أنا في دار (مامتي) أم توفيق كيف حالك يا ماما.. وكيف أختي ((سلمى)) وأبي كيف هو طمنيني عنكم... أنا بخير... أم توفيق فضلها لن أنساه...
وكادت تقع ((مزنة)) مغشياً عليها من الفرحة... فانهمرت دموعها واختلطت بعباراتها وهي تخاطب ابنها وخطفت ((سلمى)) السماعة من أمها وحدثت أخاها وهي تبكي الأخرى فرحاً وحبوراً ثم ناولت السماعة لوالدتها التي تمالكت وطلبت من ابنها أن يعطيها أم توفيق لتشكرها ودار حديث طويل بين ((أم توفيق)) وأم ((مدحت)) واشترك في المكالمة أيضاً ((توفيق)) وقد أزالت هذه المكالمة غياهب الشك التي تلبدت في سماء علاقة العائلتين وختمت ((أم توفيق)) الحديث قائلة:
ـ ((مدحت)) سيسكن مع أخيه ((توفيق)) حتى تزول الغمة فكوني مطمئنة يا ست ((مزنة)) سأرعاه كما أرعى ابني وزيادة...
فشكرتها ((مزنة)) وانتهت المهاتفة وكان ما كان سحابة صيف تقشعت بحكمة ((أم توفيق)) ودهائها وبعد نظرها...
واجتمعت ((أم توفيق)) بعد ذلك ((بسمير)) وزوجه ((سهام)) التي أبدت قلقاً كبيراً من جراء الشائعات التي ما تزال رائجة وتأتي كل يوم بجديد حتى أصبحت تهدد مستقبل ابنتها ومستقبل زوجها في عالم التجارة والتجار.. فأثنت ((أم توفيق)) على كلامها وأردفت قائلة:
ـ طالما ((مدحت)) موجود في هذا البلد ومطرود من قبل أبيه فلن تنقطع الشائعات.. فلو استطاع أحد أن يعيد العلاقات بين الأب وابنه إلى مجراها الطبيعي عندها يمكن التغلب على هذه الشائعات أو كسر حدتها على الأقل...
وقاطعها ((سمير)) قائلاً:
ـ وكيف يمكن التغلب على ذلك..؟
وانتهزت ((أم توفيق)) الفرصة فقالت على الفور:
ـ هل أنت على استعداد للتضحية في هذا السبيل؟
وفاجأ ((سمير)) و((سهام)) هذا السؤال... وران عليهما صمت مطبق، قطعته ((أم توفيق)) بقولها:
ـ ها... ماذا تقولان؟
وأجاب ((سمير)) والتردد يتعثر في إجابته:
ـ والله ما أدري بماذا أجيب...
وأردفت ((سهام)) قائلة:
ـ أريد أن أسألك ما هو نوع التضحية التي تطلبينها منا؟
وابتسمت ((أم توفيق)) بدهاء وقالت:
ـ في الحقيقة ليست تضحية بالمعنى المفهوم منها...
وقاطعها ((سمير)) قائلاً:
ـ لقد زدت الأمر غموضاً على غموضه.. كوني صريحة يا أختاه فأنت منا ونحن منك وما يسوءنا يسوءك وما يفرحنا يفرحك... قولي بالله عليك..
ـ ربما علمتم أو لم تعلموا أن كثيرين راجعوا والد ((مدحت)) ليصفح عن ابنه، ولكنه لم يستجب لأي رجاء بالرغم من أن بينهم شخصيات لها وزنها ومقامها... غير أني أعتقد أنه ربما يستجيب أو يستحي إذا.....
وتوقفت ((أم توفيق)) عند كلمة ((إذا)) لترى وقعها على سامعيها فأدركت ((سهام)) ما ترمي إليه فقالت على الفور:
ـ ما عمرنا سمعنا أن أهل القتيل يذهبون لاسترضاء القاتل..
وعقب ((سمير)) على كلام زوجه قائلاً:
ـ صحيح... مش معقول.. تطلبين منا هذه التضحية يا ((أم توفيق))...
واعتدلت ((أم توفيق)) في جلستها ثم قالت:
ـ الظروف تحكم.. وعلى الإنسان العاقل أن يحني رأسه أمام العاصفة العاتية...
وقالت ((سهام)) بحدة:
ـ بس الناس تقول ايش... أتريدين أن تفتحي باباَ جديداً للشائعات لا.. لا.. طلبك فظيع.. فظيع لا يمكن قبوله...
وشرعت ((أم توفيق)) تداور في كلامها فقالت:
ـ أنا لا أجبركما على هذه التضحية بل لا أملك ذلك.. وقد قلت من البداية:
هل أنتما مستعدان للتضحية.. إن بقاء ((مدحت)) في هذا البلد معناه بقاء الشائعات وخروجه من البلد تخفيف للشائعات وربما قتل لها.. ولا يمكن الوصول إلى هذه النتيجة إلا بصلح ((مدحت)) مع أبيه...
ورد ((سمير)) قائلاً:
ـ وإذا صفحنا كما صفح غيرنا ولم يستجب لرجائنا ماذا سيكون موقفنا أمام الناس؟ أظن عندها يجب أن ندفن أنفسنا أنا و((سمير)) (ونختفي من الوجود).
وأجابت ((أم توفيق)) بهدوء الحكيم:
ـ أنت يا أختي تعجلت خاتمة الموضوع قبل البدء فيه...
وقاطعتها ((سهام)) قائلة:
ـ كيف..؟؟
وأجابت ((أم توفيق)) قائلة:
ـ النقطة المهمة في كلامي هو مبدأ التضحية.. إذا كنتما تقبلان به ندخل في التفاصيل...
وقال ((سمير)):
ـ ولنفرض أننا قبلنا بمبدأ التضحية.. ادخلي في التفاصيل:
ـ حسناً.. في حالة قبولكما سنجس النبض.. فإذا تلمسنا ميلاً واستجابة اقدمنا وإلا مكانك تحمدي أو تستريحي..
وراقت ((لسمير)) الفكرة فقالت:
ـ جميل ما تقولين... اتفقنا...
ـ قريباً وقريباً جداً.
وانتهزت ((أم توفيق)) وابنها أول لقاء مع والد ((مدحت)) وزوجه ((مزنة)) فكلمتهما على انفراد في موضوع ((مدحت)) فقاطعها قائلاً:
ـ أرجو ألا تفتحي يا ست ((أم توفيق)) هذا الموضوع، فأنا لن أرضى عن ((مدحت)) أبداً ولا أحب أن تزجي نفسك فيه وأنت تعلمين مبلغ تقديري لك وعطفي...
فقالت ((أم توفيق)) على الفور:
ـ وإذا راجعك أهل القتيلة فيه فهل تقبل رجاءهم.. وأنت تعلم أن موضوع ((مدحت)) - واسمح لي بأن أكون صريحة معك - يهمهم حله بأي شكل وبأي تضحية.. لأن بقاءه بهذه الحال قضاء على سمعة ابنتهم للأبد.. وهذا أمر لا ترضى سعادتك عنه...
وفاجأ والد ((مدحت)) ذلك.. فوجم قليلاً ثم أردف قائلاً:
ـ إنني أقدمت على طرد ((مدحت)) إرضاء ((لسمير)) وزوجه...
فقاطعته قائلة:
ـ إن ((سمير)) وزوجه يقدران بالشكر لك هذه الخطوة الرادعة.. ولكن الأمر أصبح يتطلب القضاء على الإشاعات التي تطالعهم في كل يوم بخبر جديد ورواية سخيفة...
ويلتفت والد ((مدحت)) إلى ((مزنة)) قائلاً:
ـ وأنت يا ((مزنة)) مالك ساكتة؟
فاعتدلت في جلستها وأجابت:
ـ أنت صاحب الشأن في هذا الأمر وبيدك حله وأنا معك في كل خطوة تتخذها...
وتطلع والد ((مدحت)) إلى ((توفيق)) قائلاً:
ـ وأنت يابا شمهندس.. هل تسمح عن إساءة ((مدحت)) لك؟
فوقف ((توفيق)) وأحنى رأسه ثم جلس وقال:
ـ العفو يا سيدي العفو.. إن ((مدحت)) وأنا كلنا نلتمس عفوك ورضاك..
ثم هجم على يدي والد ((مدحت)) فقبلها وقبل رأسه وقال:
ـ أرجوك يا سيدي الصفح والعفو عن ((مدحت)) فقد كفاه ما لقيه من تأديب فقبله والد ((مدحت)) وقال:
ـ يا ست أم توفيق.. أرجوك تبلغي السيد ((سمير)) وحرمه أنني وأم مدحت سنزورهم غداً نسألهم الصفح والعفو عن ((مدحت))..
وصرخت ((أم توفيق)):
ـ يا للنبل! يا للأخلاق الكريمة..
وعقب ((توفيق)) قائلاً:
ـ إنك يا سيدي بعملك هذا تضرب للناس مثلاً رائعاً في سمو الأخلاق، وعظمة التواضع...
وغمرت الفرحة الجميع.. ثم استأذنت ((أم توفيق)) وابنها من والد ((مدحت)) لنقل هذا الخبر السار إلى ((سمير)) وزوجه..
وعاد ((مدحت)) إلى بيت أبيه... وتكسرت فعلاً حدة الإشاعات واستطاع ((توفيق)) بما له من دالة على والد ((مدحت)) أن يقنعه بإرسال ((مدحت)) معه للخارج لاستكمال دراسته وحالف ((التوفيق)) ((توفيقاً)) فنجح وحصل على دبلوم الهندسة المعمارية... ونجح أيضاً ((مدحت)) وزفت ((سلمى)) إلى ((توفيق)) في حفل بسيط متواضع كان مثار إعجاب الطبقة المثقفة الواعية في ذلك البلد.. وقد خرجت الصحف المحلية وهي تكيل المديح والثناء للخطوة التي حطم بها هذا السيد الجريء تقاليد بالية أكل الدهر عليها وشرب.
وعاد ((مدحت)) ينتظم في دراسته.. وقد لاحظ والداه تحسناً ملموساً في أخلاقه وطباعه وعاداته.. والتمس ((توفيق)) من والد ((مدحت)) أن يصحب معه ((سلمى)) ويستكمل دراسته للماجستير والدكتوراه.. وفي الوقت نفسه يشرف بطريقة ما على سير ((مدحت)) الجامعي، فراقت الفكرة لوالد ((مدحت)) ودعا لهم جميعاً بالنجاح والفلاح...
وخمدت جذور الإشاعات التي كانت تؤرق والدي ((نسرين)) وعاودهما البشر والصفاء لو لم يعكره خروج ((حندوس)) من السجن.. بعد إكماله مدة عقوبته وفوقها خمس سنوات أخرى بسبب محاولات وجرائم ارتكبها داخل السجن.
لم يتعظ ولم يرتدع ((حندوس)) بعد سجنه هذه المدة الطويلة بل خرج وقد تأصلت فيه غريزة الإجرام وأصبحت له ضرورة كضرورة الهواء لحياة الإنسان. لقد خرج ناقماً على البشرية وعلى الناس.. لقد خرج وهو كافر بكل نعم الله... خرج ولسان حاله يقول: ((ويل للناس مني)).
وعرف ((سمير)) بإطلاق سراح ((حندوس)) من السجن فأصابه كرب شديد.. ولم يشأ أن يعلن زوجته بذلك بل ترك الأمر هذا لظروف أكثر ملاءمة...
وزار ((حندوس)) ((سمير)) في مكتبه فرحب به وصارحه باستعداده لمساعدته مادياً ومعنوياً على بدء حياة استقامة جديدة.. فضحك ((حندوس)) وقال:
ـ وهل أبقت غياهب السجون بصيصاً من أمل في حياة استقامة جديدة...ثم احتد في كلامه قائلاً:
ـ عشرون سنة يا ((سمير)) قتلت خلايا الشفقة والرحمة في قلبي.. الويل لمن يقف في طريقي أو لا يلبي طلبي...
وكان ((حندوس)) بكلامه هذا يهدد ضمناً ((سمير)) الذي أدرك ذلك فتعوذ بالله من الشيطان الرجيم وابتهل إليه جلت قدرته أن يكفيه شره..
وأخذ ((حندوس)) مبلغاً من المال وذهب وهو يبتسم ابتسامة ماكرة قائلاً:
ـ إلى اللقاء يا شريكي العزيز... فالجوعى من أمثالي لهم حق مكتسب في أموال المتخمين من أمثالك...
واضطر ((سمير)) إلى مداراته قائلاً:
ـ تجدني في خدمتك دائماً يا شريكي العزيز...
وانصرف ((حندوس)) وهو يقهقه ملء شدقيه.. وجلس ((سمير)) إلى مكتبه وفيه من الهم ما يغشى عينيه. وعندما عاد إلى منزله كان مربد الوجه، كئيب المنظر فسألته ((سهام)):
ـ هل تشكو من مرض؟
ـ يا ريت.. يا ريت..
واستعاذت بالله من إجابته وقالت على الفور:
ـ وهل ما تشكو منه أعظم شأناً من المرض؟
ـ نعم إنه...
وقاطعته زوجه قائلة:
ـ استحلفك بالله إلا ما قلته..
ـ إنه ((حندوس)).. لقد خرج من سجنه..
فصرخت ((سهام)) بتفجع:
ـ آه: آه!!
ثم سقطت مغشياً عليها.
وتبين من الفحص الطبي أن ((سهام)) أصيبت بجلطة دموية وأن حالتها غير ميؤوس منها بعد الإسعافات الأولية التي أجريت لها، وأن عليها التزام الراحة التامة في فراشها حتى يزول الخطر.
ولازمت ((أم توفيق)) صديقتها ((سهام)) طيلة مدة مرضها حتى اجتازت مرحلة الخطر وأذن لها الطبيب المداوي بمغادرة السرير.. ولم يستطع ((سمير)) أن يكتشف سر الصدمة ولو أن هاتفاً من الشك بدأ يراود نفسه غير أنه كان يخشى من نكسة قاضية على زوجه إن هو فاتحها، ولهذا ترك للزمن حل هذا اللغز..
وجاء ((حندوس)) ذات يوم إلى ((سمير))، واخبره أنه قرر أن ينصاع إلى رأيه ويعمل بمشورته ويطوي صفحة قاتمة مظلمة ليفتح صفحة جديدة مشرقة، وأنه فعلاً استأجر من السيد ((عصام)) مساعد مدير شركة الوقود والتدفئة الوطنية دكاناً يتخذ منه مسكناً لبيع الأراضي والعقارات، وبعبارة أوضح مكتب ((سمسرة)).. فرح ((سمير)) بما سمع وشجعه وقدم له مبلغاً طيباً يصلح أن يكون بداية ناجحة لعمله.. ولم يدر ((سمير)) أن ((حندوس)) سيتخذ من مكتبه هذا تغطية (كومفلاج) لأعماله الإجرامية، فقد علم ((حندوس)) بطرقه الخاصة أن شركة الوقود والتدفئة الوطنية تقوم بعمليات تهريب واسعة وأن مدير هذه الشركة هو الرأس المفكر والدينامو المولد لكل هذه العمليات...
وقد استطاع ((حندوس)) بتردده على مكتب ((السيد عصام)) مساعد المدير أن يتعرف إلى أحد الجنود المجهولين في عمليات التهريب وأن يكتسب ثقته وأن يبرهن له في عدة مواقف أنه أهل للثقة به.. وهكذا تعرف ((حندوس)) بالمدير وأصبح من الجنود الذين يعتمد عليهم المدير المذكور في عملياته الإجرامية... حتى قرناءه، في هذا الميدان...
وكان ((عصام)) على عكس مديره شاباً مستقيماً.. نشأ نشأة عصامية توفي والده وهو في سن الطفولة فربته أمه، وحدبت عليه وأحسنت تربيته وتثقيفه.. والتحق بوظيفة سكرتير في شركة الوقود والتدفئة بعد حصوله على ((ليسانس في الآداب)) من الجامعة، وتدرج في المناصب حتى وصل إلى رتبة مساعد المدير.. وكان معروفاً لدى زملائه بدماثة أخلاقه، ودقته في معاملته والمحافظة على كرامته... وبلغ من حرصه على ذلك أنه يثور لأقل هفوة يشعر معها أن كرامته أهينت أو خدشت.. بل لا يتورع عن كيل الصاع بعشرة أمثاله لكل من يحاول مس كرامته حتى ولو كان رئيسه..
وقد حاول المدير أن يتخلص منه ولكن مجلس إدارة الشركة كان يتمسك به، ويحبط مؤامرات المدير ضده... واستحكم العداء بين المدير ومساعده، ولم يستطع أي منهما الفتك بخصمه وظل كل منهما يتربص للآخر...
وفاتح المدير جنديه (الخبير) ((حندوس)) في موضوع التخلص من ((عصام)) فوعده أن ينفذ ذلك واستطاع ((حندوس)) بهذا الوعد أن يسيطر على المدير الذي أصبح في يده كالخاتم...
وانهال الثراء على ((حندوس)) بحساب وبغير حساب.. وحن وهو في هذا النعيم إلى من يشاركه التمتع به.. وتذكر ((سهام)).. وجمال ((سهام)) حبه الأول الخالد الذي لم تستطع الأيام ولا الحوادث محو آثاره ورسومه من قبله وخاطره وخياله.. وحاول الاتصال بها بطريقته الدنيئة فكان الفشل نصيبه من جهة، وكان الهزال والسقام نصيب ((سهام)) من جهة أخرى. فقد أصبحت فريسة نوبات عصبية.. واحتار ((سمير)) في أمرها فلم يترك أحداً من أطباء بلده المشهورين إلا استشاره.. وأخيراً نصحه والد ((مدحت)) بأن يأخذها للمعالجة في أوروبا أو أمريكا فاقتنع بذلك وأخذ في أسباب السفر...
وعلم ((حندوس)) بالأمر فهاله أن يبتعد عنه حبه الأول والأخير، وانتابته هو الآخر نوبات عصبية فأدمن على الخمر وموائد الميسر لعلَّه يسلوها فلم يستطع الصبر والسلوان، فصمم في إحدى لياليه الحمراء على التخلص من حبه فوضع قنبلة مؤقتة في صندوق سيارتها الخاصة في صباح اليوم الذي كانت مزمعة السفر فيه.
وسبق ((سمير)) زوجه إلى المطار مع الحقائب، واستقلت ((سهام)) ومعها ((أم توفيق)) سيارتها وقبيل وصولها ساحة المطار انفجرت القنبلة فقتلت ((أم توفيق)) و السائق على الفور ونقلت ((سهام)) إلى أقرب مستشفى وكانت حالتها خطيرة جداً. وهرع ((سمير)) إلى المستشفى فوجد زوجه تحتضر، وفي إحدى صحوات الموت اعترفت له بالسر الذي بينها وبين ((حندوس)) وأنها تتهمه.. وتوسلت إليه بأن يحرص على حياته وحياة ابنته ثم أسلمت روحها إلى خالقها...
واهتم الرأي العام بهذا الحادث الخطير وطالب شرطة الأمن بضرورة القبض على الفاعل أو - الفاعلين.. وقبض على ((حندوس)) في جملة المشبوهين ولكنه قدر أن ينسل من هذا الموضوع كما تنسل الشعرة من العجينة.. وكانت صدمة قاسية على ((سمير)) وفاة زوجه وإطلاق الشرطة سراح ((حندوس)) فأصبح خائفاً يترقب بالدقيقة والثانية المصير نفسه.. غير أن انقطاع ((حندوس)) عن زيارته طمأنه بعض الشيء... ولو إلى حين...
ولاحق المدير ((جنديه)) ((حندوس)) يستنجزه وعده فأكد له أنه سيريحه نهائياً منه وطلب منه أن يمهله ريثما تفتر أعصاب البوليس وتهدأ، وينسى الناس الجريمة الأولى البشعة...
وظل ((حندوس)) يفكر بجد ويتحين الظروف الملائمة إلى أن جاء، ذات مساء زميله الذي ادخله في هذه العمليات ليخبره أن المدير قد قام بعملية تهريب بواسطة زملائهم الآخرين وأنه جنى من ورائها مئات الألوف وأنه يحتفظ بهذه المبالغ في داره.. فقال ((حندوس)):
ـ إن اعتماد المدير على غيرنا معناه أنه ينوي التخلص منا.....
وأمن زميله على كلامه.. وتابع ((حندوس)) حديثه قائلاً:
ـ وما رأيك يا ((فرهود)) في الأمر؟
ـ الرأي عندك يا ((حندوس))...
ففكر ((حندوس)) قليلاً... ثم طرقع إصبعيه بحركة عصبية وقال:
ـ هل أنت مستعد؟
فقاطعه ((فرهود)) قائلاً:
ـ مستعد لماذا؟
ـ للتخلص من المدير والاستيلاء على المال...
فبرقت عينا ((فرهود)) وهمس قائلاً:
ـ كيف.. كيف.. قل يا ((حندوس)).
وتنحنح ((حندوس)) وبلع ريقه وقال:
ـ لدي مفتاح شقة المدير والباقي مفهوم... موافق.
ـ موافق... موافق...
وتشابكت يداهما وتعاهدا على التنفيذ..
ودخلا شقة المدير حسب الخطة المرسومة.. وما كادا يفرغان من فتح الصندوق الحديد حتى فوجئا بالمدير يدخل عليهما شاهراً مسدسه وقبل أن يفتك بهما فتكا به وقتلاه بمسدسه وكان من النوع الذي لا تسمع طلقاته... وأفرغا ما بالصندوق بدون أن يتركا آثاراً لبصماتهما ونزلا من سلم الخدم وسترهما الليل...
وكانت الخطة التي اتفق عليها ((حندوس)) وزميله لصرف أنظار رجال الأمن عنهما أن يضعا مسدس المدير في دار ((عصام)) مع شيء من المال وبذلك يوجهان نظر الشرطة إليه بالنظر للعداء المعروف بين المدير و ((عصام))...
وقبض رجال الأمن على ((عصام)) وفتشوا داره فوجدوا مسدس المدير وشيئاً من المال.. فأنكر ((عصام)) التهمة ولكن تهديده للمدير يوم الحادث بالقتل قوى أدلة الاتهام ضده... فأصدر المدعي العام مذكرة توقيف بحق ((عصام))... وبدأ التحقيق يأخذ طريقه القانوني..
وكان للمدير المقتول زوج لعوب، شغفت ((بعصام)) وتدلهت في حبه حتى الجنون... وكانت لا تترك وسيلة من الاتصال به إلا سلكتها، وكان ((عصام)) يردها رداً جميلاً، ويصدها بلباقة، وينصحها بالإخلاص لزوجها، وكان كلما أمعن في صده كلما زادت هياماً وغراماً، وكان أن زارته في بيته ذات يوم وارتمت على أقدامه تتوسل إليه أن يرحم حبها وقلبها فرفعها من تحت أقدامه وقال لها:
ـ أنا الذي يجب أن ارتمي على قدميك أسألك الإبقاء على بقية من عفة أحملها وإيمان يكاد اغراؤك المتواصل يزعزعه... استحلفك بالله إلا ما خليتني وشأني... واذهبي فستجدين الملايين من العشاق لهذا الجمال الطاغي...
وغلى بركان الثورة في نفسها وودت لو تنهال عليه صفعاً، ولكنها تمالكت وحملقت في وجهه قائلة بسخرية مريرة:
ـ صحيح... أنك لا تستحق هذه النعمة...
ثم بصقت على الأرض وخرجت وأوصدت الباب خلفها بقوة...
وجلس ((عصام)) إلى أول مقعد وتمدد واسترخى وكأنه أزاح هماً كبيراً وعبئاً ثقيلاً... لقد كان بوسع ((عصام)) أن ينتقم من خصمه المدير في زوجه أغلى شيء لديه، ولكنه كان شريفاً في كل شيء حتى في خصومته...
وتحول حب زوج المدير ((لعصام)) إلى حقد وكره ومقت وحرب لا هوادة فيها... ولسنا مغالين إذا قلنا إن العداء الفظيع الذي استحكم بين ((عصام)) والمدير كان بسبب دسائسها ووشاياتها.
وانتهزت زوج المدير وقوع التهمة على ((عصام)) فسعت بجمالها ومالها للتأثير على الشهود والمحققين ليوجهوا الشواهد والقرائن ومجرى التحقيق إلى تجريم ((عصام)).. ما أشد انتقام المرأة، وما أقسى قلبها وما أشد فتكها... وما أعظم كيدها!...
وبذل ((عصام)) كل الجهود للدفاع عن نفسه فوكل أقدر المحامين وأشهرهم في بلده للدفاع والمرافعة ولكن الوقت يمضي وحبل المشنقة يضيق شيئاً فشيئاً حول عنقه. وكان ((حندوس)) ورفيقه يساعدان زوج المدير ويمدانها بالمال وبالمعلومات ويظهران لها كل إخلاص وعطف على قضية زوجها الراحل وهما يهدفان إلى إبعاد الشبهة عنهما.. ويهدف ((حندوس)) بالإضافة إلى ذلك إلى كسب قلب هذه الزوجة اللعوب فقد وقع في حبها وغرق فيه حتى (شوشته).
ونالت ((نسرين)) الدبلوم في العلوم الاجتماعية.. وعادت إلى أبيها لتكون بجانبه بعد أن فقد زوجته.. وود ((سمير)) أنها لو لم تأت لأنه كان يخشى عليها من ((حندوس)) تنفيذاً لوصية والدة ((سهام)).. ولكن لمن يتركها في أمريكا بعد أن أكملت دراستها الجامعية...
واشتغلت ((نسرين)) في وزارة الشؤون الاجتماعية فكانت تنتظم عملها الرسمي في أوقاته وبعده تعود لتشرف على العناية بوالدها.. وقد تغيرت ((نسرين)) في طباعها وعاداتها واقتبست كثيراً من العادات الأمريكية..... وقد عارض ((سمير)) - بادىء الأمر - في توظف ابنته ولكن نزل أخيراً على رأيها بعد أن أقنعته، ولكنه كان يدعو الله أن يسخر لها (ابن الحلال) ليسترها في حياته.. وفعلاً تقدم كثيرون لخطبتها وبينهم الأكفاء ولكنها كانت ترفض وتعتذر بأن الوقت لم يحن بعد لزواجها... ويئس والدها من أمر زواجها فصار يرفض هو كل من يتقدم إليه طالباً يدها أو يطلب إليه أن يراجع ((نسرين)) رأساً...
وانصرف الناس عن ((نسرين)) وعادوا يجترون حبها الماضي ((لمدحت)) ووصلتها هذه الشائعات فلم تحفل بها.. أما والدها فقد جرى بينه وبينها كلام تعدى حد العتاب إلى الغضب والنرفزة ولكن ((نسرين)) كانت تجيبه بعبارة واحدة:
ـ هل أنت الذي ستتزوج أم أنا؟
وعندما يجيبها بأنه والدها وأعرف بصالحها تقول له:
ـ لم أعد طفلة يا أبتاه.. حتى أحتاج إلى مرشد أو وصي...
أجل تغيرت ((نسرين)) في تفكيرها وطريقة معاملتها لوالدها الذي هدَّه الكبر فلم تصبح لديه القوة على فرض سلطانه... فلجأ إلى ((توفيق)) الذي عاد هو الآخر بعد أن حصل على الدكتوراه في الهندسة وتوسل إليه وإلى زوجه ((سلمى)) بأن يقنعا ((نسرين)) بالزواج... فاستجابا لرغبته وفاتحاها فكان جوابها التقليدي:
ـ ليس لدي الوقت الآن للتفكير في الزواج وتحمل مسؤولياته..
وخطر ببال ((توفيق)) وزوجه أنها ما تزال تفكر في ((مدحت)) بيد أن ((مدحت)) قد تزوج بزميلة له في الجامعة وبارك والده هذا الزواج واعتبره إيذاناً بنهاية عهد (الولدنة) عند ((مدحت)).
ومع كل هذا الخاطر فما زال ((توفيق)) يعتقد جازماً أن ((نسرين)) تحب ((مدحت)) وأنها قررت (الترهب) بعد زواج ((مدحت))... من يدري... ربما عدلت عن ذلك في المستقبل...
ونقل ((توفيق)) وزوجه فشلهما إلى ((سمير)) الذي تأثر جداً وكاد يُشلَّ من شدة الصدمة.. ولكن ((توفيق)) استطاع بلباقته وكياسته أن يهون الأمر على ((سمير))... ولكن ((سمير)) ما زال قلقاً على مصير ابنته إذا فاجأته المنية ولم تتزوج.. ومع أنه بدأ يتظاهر أمام ابنته وأمام الناس بعدم اهتمامه بأمر زواجها، إلا أنه كان يمضي الليالي الطوال ساهراً يفكر في مصيرها بعد وفاته إلى أن هداه تفكيره إلى حل أودعه في وصيته وختمه بالشمع الأحمر وأودعه أحد البنوك التي يتعامل معها...
وانهمكت ((نسرين)) في عملها الرسمي، وأعادت النشاط إلى ملجأ الأطفال الذي أنشأته والدتها وأم توفيق وشاركت في كثير من الجمعيات النسائية الخيرية حتى أصبح اسمها يتردد بالثناء على كل لسان.. ووجد والدها في أعمالها الخيرية وثناء الناس على ابنته بعض العزاء..
وفجع ((مدحت)) في والده إثر عملية جراحية خطيرة وقد شيعته الدولة وموظفوه بما يليق من إكبار واحترام... وعاد ((مدحت)) من أوروبا بعد أن طلق الأجنبية وقد تنكَّر ((لتوفيق)) واعتدى على حصص والدته وأخته الإرثية ولولا هدوء ((توفيق)) واتزانه وحكمته لاتسعت شقة الخلاف بين ((مدحت)) من جهة ووالدته وأخته من جهة أخرى. وبالرغم من فظاظة ((مدحت)) فقد استطاع ((توفيق)) أن ينتزع لحماته وزوجه أكثر حصصهما الإرثية.. من فم الوحش... وأدى ذلك إلى القطيعة بينهم.. وعوض ((توفيق)) بحنانه وعطفه ما لاقته ((مزنة)) من عقوق وخسة من ولدها ((مدحت)) الذي انطلق من ((القمقم)) وعاد إلى سالف سيرته الأولى وزاد فيها أبواباً من الخمر والميسر والموبقات على جميع أصنافها وأنواعها ودرجاتها.....
ومرض والد ((نسرين)) مرض الشيخوخة، وأحسنت ((نسرين)) العناية، وأحاطته بكل رعاية ولكن مرض الشيخوخة لا دواء له... وهكذا أخذت حال ((سمير)) تمشي الهوينا من سيىء إلى أسوأ... وكلما أحس ((سمير)) بدنو أجله أشفق على مصير ابنته بالرغم مما ترك لها في وصيته، وكان في الأوقات التي يحس فيها بتحسن صحته يلمح من قريب أو بعيد بمسألة الزواج وأنه كم كان يتمنى أن يرى له حفيداً أو حفيدة... وكانت ((نسرين)) تطمئنه بأنها ستلبي رغبته حالما يقوم من فراش مرضه وهي تعلم أنه فراش الموت...
وعندما حضرت ((سمير)) الوفاة، طلب إلى ابنته ((نسرين)) أن تدنو منه. فدنت فقبلها وأسر إليها بالوصية التي تركها باسمها في البنك من دون ذكر محتوياتها ثم تشهد وشهق شهقة خفيفة صعدت معها روحه إلى بارئها...
وتضافرت الأدلة ضد ((عصام)) الذي أنفق كل ما يملك من مال ودار ولكن حبل المشتقة يضيق حول عنقه وغمر ((حندوس)) ورفيقه سرور ما بعده سرور.. وبدأ يتردد على الأرملة اللعوب التي أدركت بسابق خبرتها ما يهدف إليه فشرعت تمتص ثروته شيئاً فشيئاً وتظهر له من الحب ما يزكي ما تأخذه منه بينما هي في الحقيقة كانت قد وقعت في حب زميله فعلاً... وأنفق ((حندوس)) على الأرملة كل ما جمعه من وراء زوجها ومن طرقه الخاصة.. وعندما شعرت الأرملة اللعوب بأن هذا النبع قد نضب ولته ظهرها وتزوجت من زميله... فجن جنونه وصمم على الانتقام.
وفتح مدير البنك وصية ((سمير)) لابنته بحضور محاميها وحضور محامي البنك ومندوب من المحكمة الشرعية وآخر من قبل وزارة المالية والاقتصاد.
وقرئت الوصية فإذا بها تنص على ما يأتي:
((أنا الموقع أدناه ((سمير)) بن محمود حسني أوصي وأنا بكامل قواي العقلية وعن طواعية مني ورضا لابنتي ((نسرين)) بنت سمير بن محمود بمبلغ نصف مليون جنيه إذا هي تزوجت خلال ثماني وأربعين ساعة من فتح هذه الوصية.. وفي حالة عدم تنفيذها لهذا الشرط أوصي بالمبلغ إلى الجهات الخيرية التي تختارها الجهات الشرعية المسؤولة)).
وتطلع الحاضرون إلى ((نسرين)) التي تطلعت بدورها إلى محاميها وهي في حالة دهشة شديدة فإذا بمحاميها يقول:
ـ إن موكلتي على استعداد لتنفيذ شرط الموصى قبل نهاية الأجل المحدد في هذه الوصية.
وختمت الوصية وأعيدت إلى مكانها وانصرف الحاضرون. واجتمعت ((نسرين)) بمحاميها بعد ذلك مباشرة لتسأله عن تسرّعه في الإجابة فجعلها تحت الأمر الواقع..
فأجاب المحامي:
ـ ولكنه مبلغ مغرٍ يستأهل التضحية...
فابتسمت وقالت:
ـ طيب دبرني يا طبيبي كما يقول المثل...
ـ لكل عقدة حل وسنتعاون معاً لإيجاد الحل...
ودار الزمان دورته وبدد ((مدحت)) على موائد الخمر والميسر وسوق البورصة كل ما ما ورثه عن أبيه وما استولى عليه عنوة من حصص أمه وأخته وبدأ الدهر كعادته يكشر له عن نابه فتطلع إلى حل لما هو فيه فإذا جميع الأبواب قد أوصدها بيده وإذا بالخلص من أصدقاء والده وأصدقائه الذين تنكر لهم قد تنكروا له والبادىء أظلم.. وأخيراً خطرت بباله ((نسرين)) وكيف أنها حتى الآن لم تتزوج.. لعلّها ما زالت تحبه... كيف نسيها في زحمة ثرائه ولياليه الحمراء... فلماذا لا يزورها ربما يجد عندها الحل النهائي لمستقبله..
وفوجئت ((نسرين)) ((بمدحت)) يزورها في بيتها في الصباح التالي لفتح الوصية، ولا شك أنها كانت تعرف عن أحواله وحياة المجون التي عاشها بعد وفاة أبيه وقصته مع أمه وأخته.. لا شك أنها عرفت كل ذلك عن طريق ((توفيق)) فعلاقتها به ظلت على ما كانت عليه أيام الآباء.. كل ذلك جال بخاطرها وهي ترى ((مدحت)) يقف أمامها ذليلاً منكس الرأس يسألها الصفح عما بدر منه مبدياً استعداده لإصلاح غلطته...
وتفحصته ((نسرين)) بعينها من رأسه إلى أخمص قدميه، وبدون أن تطلب إليه الجلوس قالت له وهي تئد كل خلية أو ذرة من عاطفة في نفسها له:
ـ لقد ترهبت من أجلك وحرمت على نفسي الزواج بسببك، وأغضبت والدي بسببك وكنت أنتظر الساعة والدقيقة واللحظة التي تتقدم فيها لوالدي بطلب يدي وإصلاح غلطتك كما تقول الآن.. ولكنك لم تفعل وانشغلت عني بلهوك ومجونك وتركتني أجتر مرارة آلامي وخيبتي وأتلقى في صدري سهام الشائعات والشامتين والشامتات... والآن وبعد أن بدَّدْتَ ثروتك وتنكر لك عشاق مالك من رجال ونساء جئت إلي... لا... لا... لا..
ثم احتد صوتها وعلا وقالت:
ـ اخرج من هنا.. اخرج قبل أن أدعو الخادم ليخرجك بالقوة...
وبدون أن ينبس ((مدحت)) ببنت شفة خرج وهو يتعثر بأذيال ندمه وفشله... وما إن أوصد الباب خلفه حتى ألقت ((نسرين)) برأسها على مكتبها وراحت تبكي بمرارة وحرقة حتى بللت ما أمامها وكأنها بذلك تغسل بقايا غبار حبها ((لمدحت))... ولم تثب إلى حالتها الطبيعية إلا على رنين الهاتف فأخذت السماعة وإذا بالمحامي يقول لها:
ـ هل وجدت الحل..؟
وكادت تقول له: جاءني الحل إلى مكاني ولكن طردته إلى الأبد.. بيد أنها سرعان ما قالت وهي تصطنع اللهفة:
ـ لا.. يا أستاذ.. هل وجدته أنت؟
وأجابها كما قال أرخميدس:
ـ وجدته.. وجدته.. أنا قادم إليك...
فقاطعته قائلة:
ـ ما رأيك في أن تتغدى معي اليوم وسيكون لدينا المجال الواسع للتحدث في هذا الموضوع في منزلي أكثر من المكتب.
ـ حسناً... حسناً... ليكن...
وعلى مائدة الغداء ذكر لها الحل فبهتت وقالت:
ـ مش معقول.. أتزوج من إنسان سيشنق غداً!.. يمكن أنه لا يقبل هو... فقهقه المحامي وقال:
ـ يا ((نسرين)) هذا هو الحل الذي لا ثاني له طالما أن الوقت ملح وأنت ليس لديك أي شخص من قبل... فزواجك من ((عصام)) الذي سيشنق صباح غد يحل مشكلتك...
وقاطعته قائلة:
ـ وهل فاتحته في هذا الأمر..؟
فأجاب:
ـ أنا كنت محاميه وترافعت عنه وما زلت مقتنعاً ببراءته، لكن الأدلة والقرائن كانت محكمة وواضحة مما دعا المحكمة إلى إصدار قرارها بشنقه... المهم أنا فاتحته هذا الصباح.. ووعدته بمبلغ ألفي جنيه ادفعهما له مقابل ذلك...
ـ وهل قبل الزواج بي؟
ـ إن ((عصام)) شاب شهم عصامي كاسمه.. لقد أطلعته على ظروفك فقبل ولمحت له بمبلغ الألفي جنيه فأبى بالرغم من أنه باع كل ما يملك وأنفقه في سبيل الدفاع عن نفسه... ولما قلت له إن المبلغ ليس لك وإنما سندفعه إلى أمك المسكينة لتعيش به ريثما يخلق الله ما لا تعلمون وقاطعته ((نسرين)) قائلة:
ـ وبماذا أجابك...
ـ لقد اغرورقت عيناه بالدموع وقال اترك لك التصرف كما تشاء...
وبعد أن جرت مراسم العقد في السجن وانتهى كل شيء تطلع ((عصام)) إلى ((نسرين)) وقال:
ـ يا لسخرية الأقدار... يجود علي الدهر بمثلك في اليوم الذي أودع فيه هذا الزمان ثم هز رأسه.. و((نسرين)) مشدودة بكل جوارحها إلى كل كلمة يقولها. وقد بدا عليها التأثر والانفعال خاصة حينما قال لها:
ـ تسمحين لي بتذكار منك يصاحبني في مثواي الأخير ليذكرني بجنة الدنيا التي لم أتمتع بها إلا ساعة واحدة...
وبدون شعور ناولته ((نسرين)) منديلها فأخذه وقبله وشكرها.. وهنا جاء العسكري ليعلن انتهاء الزيارة.. فشد ((عصام)) على يد ((نسرين)) وقال:
ـ اقرئي الفاتحة على روحي كلما خطرت ببالك...
وذهبت ((نسرين)) مع محاميها إلى البنك حيث أبرزت لهم عقد الزواج وعقدت جلسة مستعجلة مع أصحاب الشأن في هذا الموضوع قرروا بعدها السماح ((لنسرين)) باستلام مبلغ الوصية...
وتلقى المدعي العام إشارة تلفونية هامة في مساء ذلك اليوم اتصل على أثرها بوزير العدل الذي وافق على تأجيل تنفيذ حكم الإعدام على ((عصام)) لإشعار آخر.. وتبين أن ((حندوس)) أراد أن ينتقم من زميله ((فرهود)) فأرسل إخبارية مغفلة التوقيع وضع فيها النقط على الحروف، مما حدا بالمدعي العام إلى إصدار أمر بتفتيش منزل زميل ((حندوس)) وقد وجد البوليس دلائل جديدة يمكن أن تتخذ دليلاً على اشتراكه في الجريمة.. وهكذا أمر أيضاً قاضي التحقيق بالقبض على ((فرهود)) وزوجته وتأجيل إعدام ((عصام)) ريثما ينتهي التحقيق وشدد المحققون الخناق على زميل ((حندوس)) (فانهارت أعصابه وخاصة عندما شهدت ضده زوجه قائلة إنها كانت تسمعه بالليل يقول وهو يحلم:
ـ اقتله... المسدس رصاص من النوع الذي لا يسمع له صوت...
وهنا بدأ يسرد للمحققين تفاصيل الحادث.. وبينما كان التحقيق معه يأخذ مجراه كانت هنالك مذكرة أخرى تصدر بالقبض على ((حندوس)).. وبمواجهة الشريكين انهارت أعصاب ((حندوس)) فاعترف بجرائمه جميعها.. وهكذا تجلت الحقيقة ناصعة فأعيدت محاكمة ((عصام)) وأطلق سراحه ونفذ حكم الإعدام على ((حندوس)) وزميله فرهود.
وعلمت ((نسرين)) بالنبأ فجن جنونها واتصلت بمحاميها الذي كان قد سمع بالخبر وطلبت منه المشورة فأجابها:
ـ أرى أن ننتظر الخطوة من جانب ((عصام))...
ولم تقتنع ((نسرين)) بهذا الرأي، وظلت تتنازعها أفكار وتصورات تشدها ذات اليمين وذات الشمال وهي تفكر في مخرج من هذا الزواج الذي جاءت به الأقدار لتسخر منها ويجعل منها حديثاً وحادثاً يتندر به الناس ويلوكونه على ألسنتهم كأن الله قدر لها في اللوح المحفوظ بأن تكون حياتها حديثاً للناس ومصدراً للشائعات والأقاويل والأراجيف...
أما ((عصام)) فبعد أن منّ الله عليه بإطلاق سراحه، كان ينتظر من الإنسانة التي كان سبباً في إسعادها وفيما ترفل فيه من بحبوبة ونعم - أن تهاتفه على الأقل تهنئه بالسلامة... أما أن تتنكر له بهذا الشكل الذميم فعمل لا يطاق ولا يرضاه ((عصام)).. إنه يعتبره تحدياً ومجابهة فهل كتب عليه هو أن يقضي بقية عمره مناضلاً يقابل التحدي بمثله والمجابهة بأشد منها... لقد عاش طفولته يصارع اليتم ويقارع الفقر حتى تغلب عليهما واستطاع أن يتعلم ويتثقف ثقافة جامعية، وعاد ليدخل في نضال مرير مع مدير شركة الوقود والتدفئة الوطنية ذلك الصراع الذي وضع رقبته على حبل المشنقة وكاد يودي به لولا رحمة الله... والآن وبعد أن ولد من جديد أيعيد سيرته الأولى؟ شلالات من الأسئلة والآراء كانت تنصب في بحيرة خاطره فتولد طاقات وطاقات من الفكر والوسائل والطرق، إن خصمه في هذه المرة يختلف عن خصومه السابقين.. إنه امرأة.. هي زوجه.. هي حبه الأول وقد يكون الأخير... دوامات من القلق والحيرة ترتطم بأسوار عقله وقلبه.. هل يقبل تحدي قلبه لا بل روحه بل وكل شيء عنده اليوم في الوجود؟
ولم يستطع ((عصام)) أن يصل إلى رأي بشأن ما فعلته ((نسرين)) وهو ساهد في فراشه حين لاحت تباشير الصباح، ونسماتها الملاح فنام وهو يعلل نفسه بحل لهذا الكفاح...
واستيقظ ((عصام)) على قرع جرس الباب.. فأسرع يفتحه وإذا الطارق ساعي البريد يسلمه رسالة ففضها فإذا بها من رئيس مجلس شركة الوقود والتدفئة الوطنية يبلغه فيها أن مجلس الإدارة قد قرر بالإجماع تعيينه مديراً للشركة وأن عليه أن يزاول عمله في أقرب فرصة ممكنة...
وبسط ((عصام)) يديه شكراً لله وأسرع يزف البشرى إلى والدته التي قامت إلى سجادتها وصلت ركعتين لله تحمده وتشكره على نعمه وآلائه... وارتدى ((عصام)) ملابسه وقبل يدي والدته وهرع إلى تسلم عمله ولسان أمه يزوده بمعين من الدعوات الصالحات...
وقرأت ((نسرين)) في الجرائد خبر تعيين زوجها مديراً للشركة ففرحت بما سمعت ورأت فيه بصيصاً من أمل قد يساعد على عزوف ((عصام)) عنها.. بل ربما يلهيه عنها ولعلّه يجد عند غيرها ما يسليه عنها... وسألت ((نسرين)) نفسها أهي حقيقة تكره ((عصام)) أو أنها تظهر ما لا تبطن؟ إن ((عصام)) كان سهماً في كل ما فعله من أجلها فلم لا تقبل بما ارتضاه القدر لها؟ إن ((عصام)) صنولها إنه نشأ نشأة عصامية كأبيها، إنه من بيئتها.. إنه من طبقتها.. إن والديها من حارة الصيادين ووالدي ((عصام)) من حارة ((المنجدين))... هل تريد زوجاً من الطبقة العليا..؟ من يدري أن من يدعون أنهم من الطبقة (الهاي) كانوا من الطبقة الدنيا.. من يدري أن من بين الطبقة الدنيا أناساً عنده من الشرف والكرامة والاستقامة أكثر من كثير من تلك الطبقة...
وكادت دوامة هذه الأسئلة تعصف بأعصاب ((نسرين)) وبالتالي بعقلها... وبينما هي على هذه الحال إذا بالتلفون يدق فتمسك بالساعة وإذا بسلمى تكلمها أنها و ((توفيق)) سيزورانها إذا لم يكن لديها مانع.. فرحبت ((نسرين)) بزيارتهما ووجدت فيها ((انتراكتا)) أو مسكناً لما هي فيه فقامت لتصلح من زينتها وتستعد للقاء صديقين حافظا على ودهما ومحبتهما لها وكانا لها نعم العون في الشدائد والملمات..
ووصل الدكتور المهندس توفيق وزوجته فاستقبلتهما ((نسرين)) بحرارة وبشاشة قلبية.. وتسيد الدكتور ((توفيق)) المجلس كعادته بأحاديثه ونكاته فانفرجت أسارير ((نسرين)).. وكان ((توفيق)) وزوجته يقصدان من الزيارة أن يعرفا موقف ((نسرين)) من الوضع الجديد.. إنهما كانا يعرفان الكيفية التي تم بها الزواج لأن ((نسرين)) اطلعتهما عليها مسبقاً ولذلك كانا مشوقين لمعرفة نواياها.. بعد أن جرت الرياح بما لا تشتهي السفن.. بيد أنهما لم يريا منها ما يشجعهما على السؤال فرضيا بغيمة السكوت.. وبعد أن مكثا ساعة من الزمن استأذنا في الانصراف لارتباط ((توفيق)) بموعد آخر.. فرجته ((نسرين)) أن يترك ((سلمى)) معها ريثما يعود من زيارته..
وخلت ((نسرين ((بسلمى)).. وتطلعت كل منها للأخرى ولسانها ما أن يهم بالكلام حتى يلجمه إحساس مبهم، وأخيراً تجرأت ((سلمى)) فقالت:
ـ ما الذي تنوين فعله بعد أن سارت الأمور على غير ما رسمتِ؟
وتنهدت ((نسرين)) ثم أجابت:
ـ أنا حائرة يا أختاه.. لا أدري ماذا أفعل.. لقد استشرت محامي فأشار علي أن أنتظر الخطوة من جانب ((عصام))..
وصمتت ((سلمى)) قليلاً ثم أردفت قائلة:
ـ ((نسرين)) أتسمحين لي أن أكون صريحة معك فإخلاصي يحتم علي ذلك..
ـ قولي إني أقدر أخلاصك وأبادلك الشعور نفسه فكوني صريحة معي فإني أكاد أجن من شدة تفكيري في هذا الأمر..
وقالت ((سلمى)) بنبرة مخلصة.
ـ أنت تحبين ((عصام)).. لا تحاولي الإنكار.. لقد لاحظت ذلك عليك وأنت تروين لنا مقابلتك ((لعصام)) في السجن.. كما أن الهواجس والأفكار التي تعيشينها بعد براءته وخروجه من السجن تؤيد ذلك.. كوني معي صريحة يا أختاه..
وتوقفت ((نسرين)) قليلاً ثم اندفعت تقول:
ـ لقد طلبت مني الصراحة وأحب أن أقول لك، إني أحببت ((عصام)) منذ اللحظة الأولى التي رأيته فيها وكنت ابتهل إلى الله في قرارة نفسي أن يقيض الله له البراءة.. ولكني بعد أن خرج من السجن رأيت حبي يشوبه الخوف والوجل.. إني لا أعرف شيئاً عن ((عصام)) عن أخلاقه، عن طباعه عن عاداته.. إنني أخشى أن أتعذب وأتألم كما تعذبت وتلوعت في حب أخيك.. إنني أريد وأحب ((عصام)) في مهده وقبل أن يرى النور.
وارتاحت ((نسرين)) بعد أن نفست ما بصدرها من هم، وتبسمت ((سلمى)) وهي تشعر بالراحة تزين محيا ((نسرين)) ثم اعتدلت في جلستها وقالت:
ـ شكراً لك على هذه الصراحة وعلى الثقة التي أوليتني إياها.. واسمحي لي أن أقول:
وقاطعتها ((نسرين)) بتلهف قائلة:
ـ قولي بالله.. قولي..
ـ أما عن أخلاق ((عصام)) فأحب أن أطمئنك إنه على خلق عظيم بشهادة رئيس مجلس إدارة الشركة التي يديرها الآن ((عصام)) فرئيس المجلس صديق حميم ((لتوفيق)) وقد أفاض في مدح ((عصام)) وأثنى عليه كثيراً..
وكانت ((نسرين)) تتابع بلهفة حديث ((سلمى)) عن ((عصام)).. وما كادت تتوقف حتى ابتدرتها ((نسرين)) قائلة:
ـ قد يكون ذلك صحيحاً.. ولكن.. هل ((عصام)) يحبني لشخصي أو لمالي أو يريد أن يلعب بعقلي وقلبي ((كورة)) كما لعب غيره من قبل..
وتغيرت لهجة ((نسرين)) ثم أردفت قائلة:
ـ أرجو ألا أكون قد أحرجتك بإثارة موضوع أخيك وما فعله بي..
وقاطعتها ((سلمى)) قائلة:
ـ أنت تعرفين ما فعله ((مدحت)) بي وبأبي، كما تعلمين أنني لم أكن راضية عن كل ما فعله والآن لم يبق لي أخ أو أب غير زوجي.. غير أنني حزينة على والدتي التي ما زالت تحب ابنها وتبكي كلما ذكرته خاصة بعد نزوحه نهائياً إلى أوروبا والعودة إلى زوجته الإنكليزية.
ـ الجنة تحت أقدام الأمهات..
وقاطعتها ((سلمى)) قائلة:
ـ لنعد إلى الموضوع.. ما دمت ترتابين في حب ((عصام)) وتريدين أن تتأكدي من صدقه في حبه أو عدم صدقه، فما رأيك أن توعزي لمحاميك بأن يفاتحه في أمر الطلاق أو أقول لتوفيق ((يتولى هذه المهمة، على إني أرى أن يتولى محاميك ذلك ونحن معك نتداول النتائج التي يصل إليها.
ـ رأي سديد يا أختاه.. بورك فيك.
وضغط ((عصام)) على كبريائه.. مدفوعاً بحبه الجارف ((لنسرين)) فهاتفها في مكتبها يطلب منها تحديد موعد له ليزورها.. وفجأت ((نسرين)) المهاتفة، غير أنها تمالكت وحددت له موعداً.. وبعد انتهاء المكالمة اتصلت بمحاميها وأخبرته بما جرى وطلبت منه أن يكون حاضراً حين زيارة ((عصام)).
ووصل ((عصام)) في الوقت المحدد وكانت مفاجأة له أن يجد المحامي في انتظاره معها فسلم على الجميع وأخذ مقعده.. وبعد مقدمات المجاملة هنأته ((نسرين)) ببراءته فأجابها بصراحته المعهودة..
ـ شكراً يا مدموزيل ((نسرين)) لقد جاءت تهنئتك متأخرة بعد أن كنت أنتظر أن يكون صوتك أول صوت أسمعه بعد خروجي من السجن.. ولكن قسمتي كده..
وحاول المحامي أن يداري الموقف بعبارات لولبية... فهز ((عصام)) رأسه.. وجاء الخادم بالقهوة فاعتذر ((عصام)) عن شربها ولما سألته ((نسرين)) لماذا؟ أجاب:
ـ إن وجود صديقي المحامي يا مدموزيل ((نسرين)) يدل على أنك رميت بإحدى قفازيك في وجهي فهل أقبل بعد ذلك شرب قهوة خصم يتحداني.. لا يا مدموزيل.. شكراً لك على سماحك لي بالمقابلة.. وثقي أن سلاحي قد كسرته أمام سلاحك الفاتك وسأترك لضميرك يحاسبك على ما تفعلين معي.. والآن استودعك الله وأدعوه أن يهديك سواء السبيل.
ونهض ((عصام وسار في طريقه بخطى ثابتة متئدة وترك ((نسرين)) ومحاميها يضربان أخماساً في أسداس حول الخطوات التي سيخطوها ((عصام)) بعد هذه الزيارة وقررا أن يفاتح المحامي ((عصام)) في أمر الطلاق.. وفعلاً قام بهذه المهمة ولكن ((عصام)) سخر من طلبه وأجابه قائلاً:
ـ أتطلب مني أن أبيعك روحي.. لقد طلبت يا هذا المستحيل.. قل ((لنسرين)).. إني أحببتها بكل جوارحي وستظهر الأيام صدق ما أقول..
ونقل المحامي ذلك إليها.. ومع أنها سرت بذلك في قرارة نفسها إلا أنها طلبت إليه أن يستمر في محاولاته.. أما ((عصام)) فقد تدله في حب ((نسرين)) وبالرغم من متانة أعصابه فقد بدأت أعراض الحب تظهر عليه فهزل جسمه وحالفه السهاد وخشيت أمه على صحة ابنها التي أخذت تنهار بسرعة فتحاملت على نفسها وقصدت دار ((نسرين)) وشرحت لها ما يقاسيه ابنها فردتها ((نسرين)) رداً جميلاً وقالت لها:
ـ إني مستعدة لدفع أي مبلغ يريده إذا طلقني..
فأجابتها أم ((عصام)) بلهجة تنضح بالإباء وتيفض بالسخرية:
ـ إذا كان المال يا ست ((نسرين)) في رأيك هو كل شيء، فلتعلمي أن حب ولدي لا يباع ولا يشتري ومع كل ذلك فسأعمل كل جهدي للتخفيف عما يقاسيه ابني بسببك وسأحاول إقناعه بتلبية طلبك طالما أنت تكرهينه إلى هذا الحد..
ونهضت وفي أثناء ذلك قالت ((نسرين))
ـ سأدفع له أي مبلغ يريده إذا فعل..
فضحكت ((أم عصام)) ساخرة وقالت:
ـ ألم أقل لك أن حب أبني لا يباع ولا يشترى، إنه سيستجيب إلى رغبتك بدون مقابل وسينفذها حتى ولو كلفته حياته..
وانصرفت ((أم عصام)) وودعتها ((نسرين)) حتى الباب الرئيسي.. وبعد ذهابها عادت ((نسرين)) إلى غرفتها الخاصة تبكي بكاء مراً على قسوتها وفظاظتها..
ونقلت ((أم عصام)) إلى ابنها حديث زيارتها ((لنسرين)) فبكى بكاء مراً وكلما حاولت أمه تهدئته اندفع في بكائه حتى انتابه صداع شديد اضطرت أمه إلى استدعاء أحد الأطباء الذي قرر إدخاله إلى أقرب مستشفى..
وعلمت ((نسرين)) بذلك وحاولت أن تزوره ولكن عقدة فشلها في حبها الأول منعتها من ذلك.. بيد أنها هي الأخرى ازدادت لواعج حبها الأول وغرامها اشتعالاً فكانت تهدهده بصلوات وابتهالات إلى الله بالبرء والعافية ((لعصام)) والشفاء لها من مرض الحب إذا كان مصير هذا الحب مصير حبها السابق.
وانتظر ((عصام)) مهاتفة أو زيارة من ((نسرين)) ولكن هذه لم تفعل فأيقن ((عصام)) أن كرامته قد أمتهنت إلى حد لم يبق فيه لقوس الصبر منزع.. فتجلد وبدأ يصارع حبه ويقاومه حتى استطاع خلال إقامته في المستشفى أن يكسر شوكته وإن لم يقدر على التخلص منه وخرج من المستشفى وهو مصمم على تطليق ((نسرين)) وانتظر بعد خروجه من المستشفى مكالمة من ((نسرين)) ولكنها لم تفعل فزاد ذلك في تصميمه على الطلاق ولم يشعر إلا بيده تشد إلى سماعة الهاتف وأصابعه تضغط على أرقام هاتف المحامي الذي رد بقوله:
ـ نعم يا أستاذ ((عصام)) هل من خدمة استطيع تأديتها؟
فشكره قائلاً:
ـ أريد الاجتماع ((بنسرين)) في مكتبك مساء الغد.. فرتب ذلك من فضلك وأعلمني...
ـ سأفعل.. سأفعل.. مع السلامة..
واتصل المحامي ((بنسرين)) وأبلغها الخبر وطلب إليها أن تأتي ومعها دفتر الشيكات.. ولم تنم ((نسرين)) ولا ((عصام)) تلك الليلة.. وفي الموعد المحدد وصل ((عصام)) إلى مكتب المحامي فوجد ((نسرين)) بانتظاره فحياها وأخذ مكانه وبعد أن احتسى القهوة تطلع إلى المحامي وقال:
ـ يا حضرة المحامي لا أحب أن آخذ كثيراً من وقتك الثمين.. لقد حضرت لتنفيذ ما طلبته المدموزيل ((نسرين)) من والدتي..
وتطلع المحامي إلى ((نسرين)) التي أخرجت بيدين مرتجفتين دفتر الشيكات من حقيبتها ووقعت على ورقة منه وأعطته إلى المحامي الذي سلمه بدوره ((لعصام)) قائلاً:
ـ أستاذ ((عصام)) هذا الشيك موقع من موكلتي (على بياض) لتضع فيه بيدك أي مبلغ تراه ثمناً لتطليقك موكلتي..
فتناول ((عصام)) الشيك وتطلع فيه وقال وابتسامة باهتة ترين على محياه:
ـ يا مدموزيل ((نسرين)) لقد قالت أمي لك قبل أيام إن حبي لك لا يباع ولا يشترى.. فأنت عندي أثمن من كل شيء في الدنيا..
ـ ثم مزق الشيك إرباً إرباً والتفت إلى المحامي قائلاً:
ـ إنني أعلم أن رغبة ((نسرين)) إرادة لا مفر لي من اطاعتها حتى ولو كلفتني حياتي.. وما دامت موكلتك ترغب في أن تعيش طليقة على أشلائي فإني على استعداد لتنفيذ طلبها على الفور.
ـ ثم أخرج صرة من جيبه ودفعها إلى ((نسرين)) قائلاً:
ـ وهذه الألفا جنيه التي اشتريت بها زواجي أردها إليك ومعها الدبلة والمنديل والآن يا حضرة المحامي إنني مستعد لتوقيع اجراءات الطلاق..
وكانت ((نسرين)) يحمر وجهها ويصفر وصدرها يعلو ويهبط وجبينها يتصبب عرقاً وعيناها تحتقنان بالدموع وهي تنصت إلى كلامه. وعندما مد يده ليسلمها الصرة والدبلة والمنديل لم تتمالك نفسها فنهضت وهي ترتجف من رأسها إلى أخمص قدميها وقالت وهي تدفع يد ((عصام)) وتصرخ والبكاء يخنق صوتها:
ـ لا.. لا.. يا زوجي يا أعز إنسان علي....
ثم ارتمت على صدره..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1500  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 39 من 65
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي

الكاتب والمحقق والباحث والصحافي المعروف.