شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مراحل تطور الأدب عندنا (1)
يأبى عليَّ صديقي الأستاذ الكبير صاحب المنهل الأغر إلا أن أكون بين يديه حالما يدعوني لأكتب فيما يروق له أن أتصدى من مواضيع لا أدري كيف يتأتى له استنباطها، فإذا بي لا أعصي له أمراً وإذا به بعد ذلك يتبسم ويضحك ثم يغرق في الضحك حتى أشكره في رضائه عما قدمت له من صفحات ضئيلة خافتة الضوء، مع أنها لم تشف منه غليلاً، أو لم تلم لِمَا رمى إليه من فائدة قرائه، أو تدسيم مجلته، وبالرغم من تعودي ذلك منه وتعوده هذه السطحية مني فما كان مني أن أحاول التخلص من تكليفه ما دام يظن بي خيراً، ويحسب أن عندي ما يجعل الإصغاء إليه أو التأمل فيه وما أحسب شعوري هذا مانعاً من إغرائه إياي مرة بعد أخرى على أن (أطب) في حلبة لم تمهد وما يزال بها الكثير من (حراجل الكر) ولا محيص لنا من أن نسير ونسير حتى نستنير، وأن لا نجهل أننا في عصر تُقاسُ فيه عظمة الأمم وحضاراتها بالطاقة الميكانيكية وأن نتذكر دائماً ذلك المثل الصيني: (الطواف حول العالم يبدأ بالنطق الأدبي).
أفترض المنهل الأغر أو صاحبه أو الأصح فرض أن يكون مقالي في عدده هذا تطور الأدب (من حضرة جنابه)،، أذكر أنه عندما تفتحت أذهاننا أول ما لابسنا الحياة وشعرنا بتكاليفها كان الناس منقسمين إلى أنواع ثلاثة:
(1) عالم وطالب علم.
(2) تاجر وملاك.
(3) عامل ومحترف.
أما الوظائف والموظفون - فما كان لهم من وجود إلا ما ندر، أما الفريق الأول، فمع أنه العنوان البارز والفريق الممتاز فإن اهتمامه بالبيان وأساليبه لم يتجاوز في أحسن أحواله وأرقاها طريقة الحريري في (مقاماته) أو (بديع الزمان الهمذاني) و (الصاحب بن عباد) ومن إليهما من أصحاب الرسائل الذين يعنـون في الغالب بالمحسنات اللفظية ويتقيدون بمناهج عصورهم التي أكل الدهر عليها وشرب، وهم في دروسهم وحلقاتهم ومذكراتهم لا يكادون يخرجون عن الأفق الضيق الذي وجدوا أنفسهم محاطين به خلفاً عن من سلف من وسائل الكتابة والنظم والنثر قصارى أحدهم إذا انطلق محلقاً في أجواء الأدب أن يروي لك شعراً أو يسجع لك خطاباً أو جواباً لا بد لسامعه أو قارئه أن يعد إلى جانبه قاموساً لغوياً يفك منه بعض الألفاظ التي تعتبر فيه حلية لا يتم جماله إلا بها أو أن ينظم قطعة من الشعر تعلو وتهبط بقدر ما أوتي من ملكة مصقولة أو مغلولة.. يجامل بها صديقاً أو يرثي حبيباً أو يستعطف ذا مكانة أو سلطان.
وأما الفريق الثاني: التاجر والملاك، فالغالب منه مشتغل بما يعنيه وحسبه أن يحسن قلة القراءة والكتابة. وأن يعبر عما يريد في مراسلاته مع زبائنه وعملائه، وأن يسجل في دفاتره ما قبض وما صرف، ولا مجال بعد ذلك للتزيد من معضلات النحو والصرف والبيان والبديع اللهم إلا القليل الأقل جدا من الذين لا يعدمون في أوقات الفراغ ما يملأونه بالمطالعات المختلفة فتفاجأ منهم بما لا تنتظره عند الآخرين من ذوي (المحافظ) و (اللالات).. وكل من هذين الفريقين لا يختلف أسلوبه في المراسلات عن الفريق الآخر،.. فالعناوين والألقاب تبدأ: (بحضرة جناب المكرم المحترم.. الخ.. وتنتهي (ومهما يلزم من الخدمة..) وما بينهما برزخ لا يبغيان.. ولعلَّ العهد قد بَعُدَ بقراء المنهل عن (اللالات) فنقول إنها أداة تشبه (الشمعدان) ولها زجاجة مزخرفة في أعلاها طيها شمعة بيضاء ذات ذبالة يستصبح بها الطالب ليلاً بين يدي المدرس في حلقات المساجد، وكان المترفون من الطلاب يتخيرون أصنافها ويزركشون غلافها، شأنهم في كل ما يمس مظاهرهم من قمة الرأس إلى أخمص القدم.
وأما الفريق الثالث: العامل والمحترف، فلم يترك له العرق والنصب من الوقت الكثير أن يختلط عند فراغه بالفريقين الأولين في سمر أو قمر، و (ليلة) أو (قيلة) و (خرجة) أو (فرجة).. فإذا كان من أهل الذكاء الخارق استطاع أن ينقف بعض ما يدور في المجالس والأندية من أحاديث في الأدب أو الفكاهة أو التاريخ فإذا ما انتهى به المطاف إلى عقر داره أو اجتمع بأهل طبقته كان بينهم صاحب المنبر والطيلسان، وإذا اختلى بأهله وولده في داره كان مصدر الهناءة والإيناس لهم بما ينثره بينهم من طرف وحكايات.. وأضاحيك ودعابات. ولا ننكر أن من بين هذه الطائفة رجالاً لا يلحق غبارهم في القصص وحسن التمثيل وأن لهم مواهب ممتازة منها الحفظ لما يسمعون أو يقرأون على أمية فيهم لم تعق ألسنتهم عن الطلاقة والذلاقة فيخلب المتحدث منهم سامعيه بما وعى غير متعثر ولا متعذر وكم كنا نصغي إلى بعضهم وهم يقصون من (سيف بن ذي يزن) ومن (عنترة) و (أبي زيد الهلالي) وما تـلا ذلك من (ألف ليلـة وليلـة) وغيرها ومن أساطير الشرق القديم، إنهم بحق ذوو مدارك نادرة سواء في كثرة ما تدخره ذاكرتهم أو ما يتمتعون به من خفة الروح وحلاوة التحديث وخلابة الأداء ولو هيئ لهم أن يتعلموا لكانوا في عداد العباقرة.. أذكر على سبيل المثال قريباً كان لي من أسرتنا وكنا في وطيس الحرب العالمية الأولى سنة 1332 - 1333 هـ ونذر الثروة العربية تتصايح من كل جانب (وأصحاب العقول الكبيرة والقلوب البصيرة لا يكادون يلهمون الانبساط والابتسام لفرط ما هم مكبدون به من أزمات الحياة وضيق العيش وضنك الغلاء وكانت مواد الغذاء مفقودة لانقطاع المدد من جهات البحر، والحجاج قد انسدت أمامهم الطرق إلى مكة.. وبقاياهم استعيدوا منها إلى بلادهم وأسواق المزاد العلني: (الحراج) لا تجد المشترين، فإلى كل واحد منهم عشرة يعرضون سلعهم ليأخذوا بأثمانها بعض ما يقتاتون به وعوائلهم كما يقولون في (جبهة الأسد) أو (في قبة الفلك).. وبالرغم من كل ذلك كان قريننا يسامرنا ليلة ويعقد لنا جلسات تمتد من بعد الغروب إلى منتصف الليل، يعرض فيها علينا - ونحن دون الحلم أو مراهقون - ضروباً من الفروسية وألواناً من الصور والأخيلة في البطولة والبسالة تنتقل بنا من الشعر إلى النثر، ومن السلم إلى الحرب، ومن الهجوم إلى الدفاع، حتى يستغرق وقتنا ويسرق من جفوننا طيب الرقاد ونحن مصغون إليه لاهون بما يقص، متلهفون على ما يستأنف، وكنا إلى ذلك نرمقه بعيون هي الإعجاب والإكبار ونمنحه مِنْ حبنا وإكرامنا ما نضن به على غيرة وكنت بنوع خاص أبالغ في إغرائه بإهدائه ما تصل إليه يدي من أنصاف رؤوس السكر المصري المكرر، وكان في تلك الفترة إحدى الأمنيات التي يسيل لها لعاب الأسر ذوات الثراء.. ولا أضن عليه - بربعة - من (الفصفص المملح) الأبيض حينما كانت المعارك الكبرى تدور في بقاع الأرض في العريش و (الدردنيل) وفي (لياج وفردون) هكذا كان شأن القصاص غير المحترفين من هذه الطبقة.. فأما الزمازمة والمطوفون - فقد كانوا في موقف لا يحسدون عليه لما سبق أن نوهنا عنه من انقطاع ورود الحجاج حتى غلب على أكثرهم أن يبحثوا عن أبواب للارتزاق لم يكن لهم بها سابق عهد، وهم الذين تضرب الأمثال بسخائهم وبذخهم وترفهم، ولهم من العوائد والتقاليد والعنعنات ما يجعلهم) (قوم هم (2) الأنْفُ) غير أن الحرج العام أخذ يجتاحهم في تلك المخمصة وذلك السخب فرأينا بعض من كان يشار إليه بالبنان.. غير آنف أن يلتمس سبباً أياً كان للحصول على ضرورات العيش ومطالب الحياة، وفي الواقع أن هذا الفريق من الناس كان قبيل تلك الحرب الضروس مظهراً رائعاً للأرستقراطية في زيه وزهوه، وجده ولهوه، ودارت به الأيام حتى أدرك بعد لأي أن خير الأمور الوسط.. ونعود إلى ما نحن بصدده، فقد دار الفلك وشبت الثورة العربية ولا نكران أنه كان هناك أفذاذ من رجال العلم لا يكادون يتجاوزون أصابع اليد إن كثروا وكانوا مختلفي الأساليب فالذين أتيح لهم أن يطالعوا المجلات والصحف وما إلى ذلك نمت ملكاتهم مما يعبونه من الأدب القديم لم يتحولوا عنه ونعوا على الآخرين ترسلهم.. كان ذلك في غير ما ضجة وما نقد يظهر عليهما الجمهور لانعدام الصحف المحلية، فلما تأثرت البلاد بالحركة القومية وأنشئت المدارس الجديدة وغذيت بالأساتيذ الذين أستُقدموا من الأمـة العربية الشقيقة وصدرت صحيفة أو صحيفتان، إن لم تكونا من الطراز الأول فإنها الباكورة الأولى في بلد لا عهد له بمثلها.. حينئذ فقط تطلع الشباب إلى الكتابة أو الخطابة وأخذ المتميزون منهم يحاولون النظم في جرأة وإقدام وما يزال بهم الطموح حتى قال الذين كان يهذي منهم الشعر، وما كاد (الفتح السعودي) يتفرغ للإصلاحات الداخلية حتى اتجهت العناية الكبرى من لدن حضرة صاحب الجلالة. الملك عبد العزيز الأول - إلى نشر المعارف ومحاربة الأمية، وبذل في ذلك من الأموال ما لا يعد ولا يحصى، وكان مما جعله بحكمته السامية وسيلة إغراء للطالب مكافأة شهرية تُصرَفُ للطالب عند أول كل شهر أو ختامه، وبدأت.. الرسالات تترى بالبعثات إلى مصر وغيرها من البلدان في مختلف العلوم والفنون.. وفُتحت المدارس التحضيرية والابتدائية، والثانوية والمعهد العلمي وشجعت كل حركة ترمي إلى محق الجهل وسحقه في المدن والقرى، واستمر ذلك في الزيادة والنمو وأضيف إليه ذيوع الصحف والمجلات والكتب والمؤلفات وتقريب المواصلات وحكم الاتصال بمختلف البيئات وما تيسر الوقوف عليه أثناء الرحلات.. أدى ذلك كله إلى ما نرى ونسمع في وقتنا هذا من نضج وإنتاج وأنه لمن الإنصاف أن نشيد بالجهود الكبيرة التي بذلها المعنيون بالنهضة الأدبية بين ظهرانينا، ولن تنسى الأجيال المتعاقبة كل يد أسداها في هذا السبيل رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه في تدعيم أركانها وتوطيد بنيانها وهم في غنى عن التسمية والإعلان وحسبهم اغتباطاً أن يشهدوا البذور مثمرة والغراس دانية القطوف.
وإننا على ضيق الخطوات التي انتهينا إليها حتى الآن يجب أن نكون متفائلين فرحين مستبشرين، ففي وسع أقلام لا حصر لها أن تصول وتجول.. وتنظم وتنثر، وتؤلف وتصنف وأن تعقد الفصول الطوال في كل ما في البلاد من أحاسيس ومشاعر وخوالج ولواعج وآلام وآمال.. ومنها ما يقف في الصف الأول إذا قيس بالنوابغ من ذوي طبقته في كل بلد عربي مهما سبقنا إلى مناهل العمل ومشارع الثقافة، وليس في ذلك غلو وإسراف وفي وسع كل منبر يُنْصَبْ ُ أن يتهادى عليه الخطباء الذين يملكون أعنة القول من مختلف الطبقات والأسنان لا فرق في ذلك بين مرتجلٍ ومرتجزٍ وناثرٍ وشاعرٍ.
وظاهرة أكثر أهمية في نظري من أن يكون صاحب البيان أديباً فقط تنصرف عنايته كلها إلى المواضيع التي اصطلح الناس قديماً على أن تنعت بالأدب أو تتصل منه بسبب، تلك هي اشتغال النخبة الممتازة من أساطين الكتاب والشعراء بصميم الحياة وأغراضها وبهمسات النفوس وأشجانها وقيام الكثير منها بالمناصب ذات الخطر والمسؤولية .. وبالأعمال الحرة ذات الحركة الدائبة التي لا تفتأ تتطلب منهم المزيد من التقدم والتقويم فهم بذلك حريّون أن يجملوا من تجاربهم وممارساتهم أبحاثاً جديدة يطلعون بها على الشعب توسيعاً لآفاق المعرفة وتثقيفاً للأذهان..
وإني لأذكر أن مجلتنا هذه الزاهرة كانت قد طرحت قبل حين سؤالاً على القراء عما إذا كان أدبنا قد أصبح صالحاً للتصدير أم لا يزال محلياً؟!! ولو كنت ممن يعتد برأيهم في هذا الباب فإني أنضم إلى الفريق الذي يؤمن بأن لدينا ما يصلح للتصدير.. بشرط واحد.. ذلك أننا لا نعتبر ما نصدره آخر (الموديلات)!...
ولا أنه يجب أن يكون أول صدوره تاماً كاملاً لا أمت فيه ولا عوج، إن كل ما ينبغي علينا التدرع به في مثل هذا الموقف إنما هو إثبات الوجود وبذل الموجود، وأن لا نطمح في أول أدوار.. التجربة أن ننتهي إلى آخر المراحل التي قطعها من سبقونا السير منذ أحقاب وأحقاب.
والحق أن معاذيرنا كانت معقولة غير قابلة للرفض ولا للتحريج قبل اليوم والتصدير على قدر الإنتاج والأسواق إنما تنفق على قدر الرواج.. وأخيراً وليس آخراً كما يقولون وبعد ثلث قرن منذ تبلج الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. هاهي محطة الإذاعة تقام لها الدار شاهقة البناء وهي تنادي الذين يشعرون بالإيمان من أعماقهم بما يجب عليهم أن يزودوا به إذاعة تتجاوب أصداؤها من مهابط الوحي ومآرز الدين ومطلع الرسالة إنها تنصب لكي نقوم بواجب عظيم وليس كمثيلاتها من المحطات التي يقصد منها محض التسلية والترفيه .. وما في برامجها مهما اتسعت أو ضاقت.. ما يتوفر مثله في غيرها من حيث الميول والشهوات النفسية أو ما يقتل الوقت ويبعث على المرح إنها إذاعة لا تقاس بمثيلاتها فيما اعتاد السامعون الإصغاء إليه من جميع الآفاق. إن مهمتها الأولى النصيحة والإرشاد وتذكير المسلمين بما غفلوا عنه من صحيح العقائد وقواعد الأحكام وقويم الأخلاق وما هم بحاجة إليه من غذاء روحي يدفع بهم إلى ما اختاره الله لهم من عزة وكرامة ومجد وسلطان ثم هي بعد ذلك ستقوم بوظائف الهيئات التعليمية في تعميم المعارف وإحياء تراث العرب والإسلام، وهي لا تنهض بهذا العبء الثقيل إلا إذا اختلف إليها العلماء العاملون والأدباء المبرزون ومن يستظلون بألوية العلم والأدب والبيان.. إنها إذا تهيأ لها أن تصدع بما أمرت
وأن تتغلغل في أحشاء العالم الإسلامي جادة غير هازلة مبشرة تارة ومنذرة أخرى فستكون قرة لعيون الموحدين ومؤذنة بالفجر الصادق تتلألأ به الآفاق بين المحيط الأطلسي وشرق الصين.
وعلينا أن نزجي آيات الشكر إلى حكومة جلالة الملك المعظم وسمو ولي عهده المفدى بما أسدوه إلى الأمة والبلاد من فضل كبير بإنشاء هذه المحطة، وما بذلوه من أجل ذلك من جهد ومال فقد أصبح في اصطلاح الشعوب المتحضرة والدول ذات الكيان المستقل أن إقامة هذه المحطات من أبرز مظاهر الحضارة ومن أمورها التي لا غنى عنها ما دامت تعيش على هذه الأرض المتوّجة وبين مخلوقاتها الحية.. فهل أعددنا لها ما تنتظر؟ إننا نرجو أن تكون محققة ما يتعشمه فيها المتشوقون لخير الحديث، والذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه وبالله الثقة وعليه التكلان.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :384  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 638 من 1070
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأربعون

[( شعر ): 2000]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج