(( كلمة الأستاذ عبد الكريم نيازي ))
|
على إثر العبارة الأخيرة التي ختم بها الأستاذ عبد المقصود خوجه كلمته تحدث الأستاذ عبد الكريم نيازي فقال: |
- بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. |
|
- أصحاب السعادة.. نحتفل هذه الليلة المباركة وفي هذه الأمسية الرائعة بتكريم رائد عملاق، وشامخة من شامخات الفكر في هذا العصر، وشخصية عالمة مفكرة وهبت الحياة العربية والإِسلامية والعالمية أسمى مقومات الفكر، وأروع كنوز الثقافة، وأغلى ثمار الحضارة، نحتفل هذه الليلة بتكريم علم من أعلام الفكر العربي والإِسلامي والإِنساني هو الأستاذ والرائد والمفكر الدكتور زكي نجيب محمود. وشخصية العالم والمفكر الأستاذ زكي نجيب محمود لها جوانب كثيرة مضيئة مشرقة تغري بالبحث والتأمل. فهو واحد ممن أخذوا على عاتقهم مسؤولية التنوير العقلي والوجداني للإِنسان العربي المسلم، ليسود على أرضه ومصيره.. وهو نتاج لحضارتين متغايرتين.. فأصوله راسخة في الحضارة العربية الإِسلامية، وفروعه ساحقة في الحضارة الغربية، وهو مزيج فريد من العالم والأديب، والفيلسوف والمفكر الذي تجيء كتاباته علماً وفكراً وفلسفة هي إلى الأدب أقرب. وأدب هو في باب العلم والفكر والفلسفة أدخل وهو بأجمعه المربي والأديب، والعالم والفيلسوف، والصحفي والمفكر وبذرة العلم والأدب والفلسفة مغروسة في أعماق الأستاذ الدكتور زكي نجيب محمود منذ الصغر. |
- فهو أستاذ للفلسفة في الجامعة وفي ميدان الحياة كاتب ومفكر، وفي مجال البحث العلمي باحث كبير، وعالم محقق، وفي عالم الصحافة كاتب وأديب تفتحت عيناه على الأدب. |
- تتميز كتاباته عن غيره بمذاق خاص. إنها تتسم بطابع الفلسفة والعلم والفكر، وهذه هي طبيعة التفكير العلمي الفلسفي المبني على أسس ومبادئ، فإذا قرأنا للأستاذ الدكتور زكي نجيب محمود شيئاً فلا نتصوره إلاَّ وقد جلس إلى مكتبه وبيده قلم يمزج العلم بالدين، والفكر بالفلسفة، والأدب بحقائق العلم ونظريات الفلسفة. وأسلوبه ليس فيه الترداد ولا التكرار، وكل كلمة لديه تهدف إلى معنى لا تزيد عليه ولا تنقص، وهذا المزج بين العلم والدين، والفكر والفلسفة جعله لا يضع حدوداً بين المعاني العلمية، والمعاني الأدبية، والأفكار الفلسفية، والمبادئ الدينية، فكلها معاني إنسانية إسلامية والفارق بينها مفتعل. |
- والأستاذ الدكتور زكي نجيب محمود كان يعرف مقدماً أن الطريق أمامه شاق، ولكنه كان يؤمن دائماً بأن العلم ينتصر، وفي سبيل العلم وهب حياته وضحى براحته وركب البحر ليقضي سنوات طويلة بعيداً عن وطنه متنقلاً بين جامعات أوروبا ليعود بعدها وقد اكتسب علماً واسعاً، وفلسفة إيمانية عميقة، وعدداً من الشهادات وافرة ويعمل أستاذاً بالجامعة، ويتولى مسؤولية القيادة لعدد من المؤسسات العلمية في مصر العربية الحبيبة، وهو بين هذا وذاك يرسي بتضحيات باسلة قواعد علمية جديدة، يخوض بسببها العديد من المعارك ينتصر حيناً، وينهزم أحياناً. ولكن إيمانه بالعلم وبالفكر الأصيل والفلسفة الإِيمانية الملتزمة يتضاعف ويتضاعف، ولا يعوقه شيء. |
- ولقد أحب الأستاذ الدكتور زكي نجيب محمود الصحافة فاختارها منبراً لنشر نظرياته العلمية، وأفكاره الفلسفية، وموضوعاته الأدبية حتى أصبحت الصحافة في نظره رسالة كبيرة، والصحفي في رأيه لن يكون صحفياً "بالفهلوة والشطارة" وإنما بالاطلاع والثقافة. إنها قيم ومبادئ آمن بها وكانت بالنسبة له أسلوباً ومنهجاً نلمحه في كتاباته في صحف ومجلات القاهرة، لأنه يؤمن بأن الفكر الذي يكتب ولا ينشر فكر سجين، وسجن الفكر كسجن صاحبه تضيق به إنسانيته. |
- وقد ظهرت بذرة الفكر بمعناه الشامل عند الدكتور زكي نجيب محمود عندما بدأ بتدريس الفلسفة في الجامعات المصرية مؤكداً أن الدين لا يتنافى مع العلم، وطابق بين ما جاء في القرآن الكريم وبين ما جاء في العلم من حقائق. ووظف الفلسفة لخدمة الدين، وطبق نظرية الإِيمان الفلسفي، تلك التي توفِّق بين ما جاء في الدين من حقائق وما تقدمه الفلسفة من نظريات. ومن خلال هذه النظرية يرى أن الإِنسان الفيلسوف يدرك وجود الله سبحانه وتعالى درساً وعقلاً ومنطقاً. |
- وليست ثقافة الأستاذ الدكتور زكي نجيب محمود الإِسلامية هي الباعث الوحيد لكتابته عن الإِسلام والقيم والأخلاق، فهو إلى جانب ثقافته الإِسلامية انطلق من نضاله لتحرير العقل الإِسلامي من الغزو الفكري والعقائدي والتشريعي لإِرجاع الإِنسان المسلم إلى ذاتيته، وأصالته، وحضارته، وهويته الإِسلامية. وقد أدرك منذ بداية حياته أن هناك تحدياً ضارياً يواجه العرب والمسلمين يتمثل في الاستعمار السياسي والعسكري والاقتصادي، كما يتمثل في الاستعمار الفكري والثقافي. وواجه المفكر الكبير كل أنواع التحدي بعمله وإنتاجه وجهوده وكتاباته ووجد أن من واجبه أن يواجه التحدي الثقافي، والفكري، والحضاري حتى يسترجع العرب والمسلمون كيانهم وحضارتهم ووجودهم المتميز، لا وجودهم الممسوخ في ظل ثقافة غربية دخيلة وافدة، وأفكار هدامة فاسدة مخربة. ولهذا دافع عن الثقافة العربية والإِسلامية، لا دفاع من يجد فيها تهمة يريد أن يبعدها عنها، ولكن دفاع من يجد تحدياً يواجهها وله القدرة على دفع هذا التحدي. ومن هنا فقد جاءت ثقافته الإِسلامية لتنجده بالحجة وتمده بالدليل وتزوده بالبرهان وتمكنه من أن يكون قوياً في حجته، عالماً في منطقه. |
- والمفكر الكبير الفيلسوف الدكتور زكي نجيب محمود عندما يكتب عن الإِسلام ومميزاته الخالدة يوضح أن أصوله ومبادئه نزلت بوحي من الله سبحانه وتعالى، فجاء كاملاً في معناه، شاملاً في مضمونه، سامياً في مغزاه، فاسحاً لنفسه طريق النمو مع الزمان. فهو متميز بصفة الكمال على عكس العقائد والديانات الأخرى، فهو قائم على أسس من العدل ومبادئ من الإِنصاف، وهو متميز بحماية الأمن والنظام والأفراد، وهو فوق هذا وذاك متميز بحماية الأخلاق والمجتمع من أن يقع في الانحطاط الخلقي، وهو متميز باتفاقه مع العقل لا بما يناقضه ولا بما يتنافى مع الفطرة السليمة أو يعارضها ويدافع مفكرنا الكبير عن الإِسلام ورجاله في عدد من مقالاته وكتبه. |
- والموضوع عنده قضية يأخذها من جانب التحدي ورد التحدي، وكما أن خصوم الإِسلام تهدده في كل قيمه ومبادئه ومقوماته، وهدفهم هو الهدم ليستطيعوا الاستيلاء على وطن بدون مقومات، وعلى شعوب بدون قيم، فإن رد التحدي يجب أن يكون بالدفاع عن كل القيم والمقومات سواء تعلقت بالأرض في حدودها الطبيعية أو بالإِسلام في عقيدته الخالدة، أو بالحرية في أبعادها الفكرية والإِنسانية، أو بالحكم في نظمه وأسلوبه وممارساته، أو بالتاريخ في حقيقته وفلسفته وودلالاته. وكانت نظرة الأستاذ المفكر إلى إصلاح المجتمع الإِسلامي نظرة شاملة فجاءت اهتماماته مركزة على كل جوانب الحياة الإِسلامية لأنه يريد لأمته التطور في جميع مجالات الحياة السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية أو الفكرية أو الحضارية، وهو المفكر الذي يعطي لأفكاره الإِصلاحية ودعواته التحررية القالب الصحيح الذي ينبغي أن تسير فيه والمنهج الصالح الذي لا ينبغي أن تتخطاه. |
- قرأت منذ عشرين عاماً الفصول النقدية والأدبية والثقافية التي كان يكتبها صديقنا الأستاذ الدكتور عبد العزيز الدسوقي، وقد استرعى انتباهي أنه يشير إلى فكرة بإلحاح تتلخص في أننا بطريقة لا شعورية نقرأ تراثنا العربي القديم في الوقت الذي نعيش فيه الحاضر، ونقرأ ما فيه من آثار ومنجزات، أي أننا باستمرار موصولون بتراثنا وأصولنا القديمة، موصولون بحاضرنا المعاصر، ومن خلال التفاعل بين الماضي والحاضر يخرج مُركَّب جديد فيه أجمل ما في الماضي وأجمل ما في الحاضر مستشرفاً المستقبل، هذا المُركَّب الجديد ليس فيه خصائص الماضي فحسب وليس فيه خصائص الحاضر فحسب ولكنه ثمرة تفاعل هذين العنصرين: الماضي والحاضر. |
- وقد كانت هذه الأفكار تلح عليه باستمرار، ومن هنا كان غرامي في تتبع هذه الفكرة عنده في مقالاته المتعددة، وقد كان يسميها المُركَّب الجديد الذي ينتج من الأصالة والمعاصرة، وإذا كانت هذه الفكرة قد أخذت ذروة نضجها واكتمالها عندما أصدرت وزارة الثقافة في القاهرة مجلة الثقافة الشهرية، فقد جعل شعار مجلة الثقافة الحرية، الأصالة، المعاصرة. وظلت هذه الفكرة تتردد بين الحين والحين في مقالاته ودراساته المتعددة التي كان يكتبها في المجلة على امتداد عقد من الزمان "عشرة أعوام"، ولا شك أنه بهذا يعتبر الرائد الأول لهذه الفكرة في عالمنا العربي، فكرة المركَّب الجديد الذي ينبت لا شعورياً في نفس الأديب والمفكر العربي من حصيلة تفاعل الماضي بالحاضر، والأصالة بالمعاصرة. |
- تذكرت كل هذا وأنا آتٍ لأحيّي الفيلسوف المفكر العالم الدكتور زكي نحيب محمود، والذي بدأت أقرأ له في منتصف السبعينات أفكاره حول هذا الأمر في كتابه "تجديد الفكر العربي"، فسعدت كل السعادة أن يتناول مفكر كبير عرف بإيمانه العميق بالحضارة الأوروبية، أن يتناول تراثنا بهذه الروح وبهذا الحماس الذي يكتب به هؤلاء الذين وهبوا حياتهم لحماية هذا التراث، والوقوف على ثغور هذه الحضارة العربية والإِسلامية يردون عنها افتراءات المفترين، وينفون عنها تحريف المخطئين، ويصدون عنها كيد الكائدين. |
- ولقد أسعدني أكثر وأكثر عندما اتصلت بالأمس بصديقنا الأستاذ الدكتور عبد العزيز الدسوقي وعرضت عليه هذه الأفكار فقال لي: (يا أخي.. الأستاذ الدكتور زكي نجيب محمود فيلسوف عربي كبير، ومفكر عظيم، وناقد أدبي ممتاز. وهو أحد العرب القلائل الذين يتذوَّقون الشعر وينقدونه بإحساس مرهف عميق وذوق مثقف نادر وتناول محدد مشرق ممتاز. وهو بهذا أستاذي وأعترف لك بأن نخاعي الثقافي تكَّون من كتبه فأبلغه تحياتي واعتذاري عن عدم الحضور، وتمنياتي له بازدهار الصحة، ليكتب لنا هذه المقالات الرائعة الجادة العميقة التي تؤكد أن القدرات العقلية والإِبداع الفكري والفني لا يرتبط بسن ولا بزمان. وأنا أقرأ له مقالاً بعنوان "رسالة من مجهول" انتزعتها من جريدة الأهرام، واحتفظت بها لإعادة قراءتها مرة ومرة لأحصل على تلك المتعة الذهنية والغبطة الروحية والجدل الفكري. |
- رجل كهذا أرجو أن لا توازن بينه وبين أحد من تلاميذه لأنهم جميعاً يسيرون على نهجه وعلى طريقته. ورغم كل ما قاله أستاذنا الأستاذ الدسوقي، ورغم أنني أشاركه في كل آرائه فإنني أقرر حقيقة وهي أن فكرة المركَّب الجديد الذي ينبعث لا شعورياً قرأتها منذ أكثر من عشرين عاماً في أوائل عقد الستينات الميلادي في مقالاته بين الأصالة والمعاصرة. |
- هذا لا ينفي أبداً إعزازي وتقديري واحترامي لضيفنا العزيز والإِشادة به، ولكن سيظل دائماً في نفسي هذا الجدار الذي يحول بيني وبين التفاعل الكلي معه، لأن كتابه "خرافة الميتافيزيقا" الذي قرأته منذ الصبا وفجر الشباب جرح إحساسي الديني وجرح مشاعري الروحية. قد يكون سبب ذلك قصور عقلي حينذاك أو عدم إدراكي الكامل لدروب الفكر المختلفة. |
- ومن هنا جئت الليلة لأطلب من أستاذنا أن يلقي الضوء على هذه الفكرة ليخرجني من حيرتي ليحسن التفاعل معه بصورة كاملة، ولا تبقى هذه الرواسب تحرك في نفسي الأسى والشجن، ومعذرة لهذه المصارحة، معذرة للمستمعين. أما أستاذنا المفكر الفيلسوف والفنان، ولا أظن أنه يتحرج أو يستاء من هذا، فالدرس الذي تعلمته منه هو الوضوح والدقة في التعبير، عما أشعر به والصراحة العقلية التي لا تضع أمامها محظورات أو مجاملات، علماً بأني تصديت لهذا الدعي المتسلق الدكتور فؤاد زكريا عندما هاجم مجلة الفكر وادعى أنه هو الذي خطط لمجلة الفكر المعاصر أهدافها ووضع لها فلسفتها. ومن هنا يطل بخبرته في إصدار المجلات، ويروح يهاجم بعنف المجلات المصرية، ويشدد النكير على مجلة الفكر الشهرية، لكنني ألقمته حجراً ووضعت الأمور في نصابها، وبيَّنت له أن مجلة الفكر المعاصر من ثمار أستاذنا الكبير الدكتور زكي نجيب محمود. فهو الذي حدد لها منهجها وزودها بمقالاته الرائعة التي تعتبر تطويراً هاماً في الفكر العربي الحديث، ورددت على فؤاد زكريا بعبارات أستاذنا الدكتور زكي نجيب محمود. لقد كنت أقرأ بالصدفة كتابه العظيم "قصة عقل" وإذا كنت أستطرد فإنني أشير إلى كتابه الآخر "قصة نفس" وهما كتابان من أهم الكتب العربية في مجال السيرة الذاتية، فيهما يؤرخ أستاذنا الكبير لحياته الفكرية والروحية، ولعل اهتمامي بهذا المفكر العظيم قبل أن أراه ليغفر لي بعض صراحتي هذه. |
- وخلاصة القول أيها الإِخوة أننا إذا كنا نكرم الأستاذ المفكر الفيلسوف الدكتور زكي نجيب محمود في هذه الليلة، لكونه ظاهرة من الظواهر الفكرية في العالم الإِسلامي المعاصر، لا لأنه يتميز بالمعرفة وسعة الاطلاع، وعمق البحث والفكر، وشمولية الأدب والعلم فقط، وإنما نكرمه مفكراً كبيراً تخطّى بالفكر العربي والإِسلامي الحدود الإِقليمية الضيقة إلى آفاق العالمية الإِنسانية الرحبة والواسعة. شكراً لكم جميعاً والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته... |
|
|