شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
المكتَـبَة الصّغِـيرة
لم يدر بخلد عبد العزيز الرفاعي - رحمه الله - عندما كانت فكرة المكتبة الصغيرة جنينا في مخيلته، أنها ستكون ذات شأن وستحظى بتقدير كل من يصله عطاؤها، ولم يكن يتوقع لها أن تصل إلى ما وصلت إليه من سعة الانتشار وقوة العطاء لأنه عندما داعبت خيالَه هذه الفكرةُ كانت التربية الدينية التي تعلمها في البيت والمدرسة والمعهد والمسجد قد بلغت عنفوانها، وهي المرحلة التي يكتمل فيها العقل نضجه والإنسان قوته وشدته، وكان من تأثير تلك التربية على سلوكه أن يرى أن نشر العلم واجب إلزامي على كل متعلم بحكم الشرع، فقد خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: "ما بال أقوام لا يفقَّهون جيرانهم ولا يعلَّمونهم ولا يفطنونهم ولا يأمرونهم ولا ينهونهم؟ وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتفطنون؟ والله لَيُعَلَّمُنَّ أقوام جيرانهم ويفطنونهم ويُفقهونهم ويأمرنَّهم وينهونهم وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتفطنون ويتفقهون؛ أو لأعاجلنهم بالعقوبة في دار الدنيا". وهكذا سار السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وتابعي التابعين، على النهج القويم الذي خطه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وأوضحته وثيقة صادقة ناطقة بالصواب تهدي من اتبعها إلى سبل الخير والرشاد، ومن هذا المنطلق وجد أنه قد نال من العلم ما يكون خاضعاً لتأدية الزكاة وهي تعليم غيره مما عِلَمَهُ، ولم تكن هناك وسيلة ميسرة أمامه إلا أن يشرع في تأليف كتيبات صغيرة ذات مواضيع عظيمة، لم تتطرق إليها الأقلام ولم يحفل بها الكاتبون، أو أنها جاءت نتفاً مبعثرة في كتب المؤرخين والأدباء السابقين بحيث لا تشدّ إليها لب القارئ، فجمعها وأعطاها قدرها من البحث والتنقيب والدراسة، حتى وجدت سبيلها إلى عقول القراء وملكت أفئدتهم وأصبحت تحتل مكاناً في مكتباتهم.
وكان يعتقد أن هذه المكتبة الصغيرة ستقتصر على المؤلفات الصغيرة التي يقوم بتأليفها، وفاء منه بالواجب الديني المفروض، ورغم قلة الإمكانات المتاحة له في تلك الفترة إلا أن عزيمته الحديدية المطاوعة مكنته من أن يباشر نشر مؤلفه الأول في هذا المشروع وهو "توثيق الارتباط بالتراث العربي"، وكان ذلك في صفر 1389هـ. ولقد تم توزيع نصف ما طبع منه هدايا لأصدقائه وأحبائه وأساتذته وزملائه ولمن تجمعه بهم صداقة حميمة، وكل صداقاته حميمة، تتوثق من أول لقاء لما يتمتع به من نبل ودماثة خلق، وجاذبية إنسانية تأسرك إليه.
وما بقي منه تركه لزواره الذين يقصدون دارته كل خميس، وما إن اطلع عليه الذين وصلتهم نسخ من هذا الإصدار، حتى أعلنوا عن إعجابهم بما احتواه من معلومات قيمة وأفكار دسمة تثري الساحة الأدبية، وأعربوا عن تقديرهم للشيخ عبد العزيز على الجهد الذي بذله في تحصيل مواد ذلك المؤلف، وطلب بعض الوزراء والمسؤولين بالوزارات ذات العلاقة بالأدب والعلم والفكر والتي تسعى إلى تنوير موظفيها ومنسوبيها وتزويد معارفهم أن يقوم الأستاذ الرفاعي بتوريد كمية كبيرة من ذلك تكفي لتوزيعها على من له ميول أدبية، وقد ساعدت هذه العملية على تخفيف عبء تكاليف الطباعة، وحققت بعض الربح المادي، كما طالبته بتزويدها بكميات مماثلة من الإصدارات المقبلة، اقتناعاً منهم بسلامة النهج الذي يسير عليه وسمو المعاني والأهداف التي يسعى إلى تحقيقها، من وراء القيام بنشر تلك الإصدارات، وكان للإقبال الكبير على قراءة هذا الكتيب، أثر بالغ ساعده على إعادة طباعته ست مرات كان آخرها عام 1408هـ.
ولقد كانت تلك الطلبات الضوء الأخضر له في الإسراع بتأليف الكتيب الثاني الموسوم بـ "جبل طارق والعرب" وأتبعه بالكتيب الثالث وعنوانه "خمسة أيام في ماليزيا" ولقد لاقى كل منهما إقبالاً منقطع النظير، ونفِدَت الطبعة الأولى منهما سريعاً. وهنا شعر بارتياح شديد وأيقن أن خطاه لم تحد عن الطريق السليم الذي رسمه لها، وأن المكتبة الصغيرة آخذة في النمو وأنها ستسد في يوم ما جزءاً من الفراغ الذي كان يشغل حيزاً كبيراً في المكتبة السعودية.
وما لبث غير بضع سنوات حتى بادر بعض أصحاب الأقلام النيرة بإرسال مؤلفاتهم إليه، لتكون وصائف لمؤلفاته في المكتبة الصغيرة، فرحب بتلك المشاركة ترحيباً حاراً، لأنه رأى أن فيها استجابة لدعوته الصامتة التي أعلنها من خلال فكرته الرائدة، في تضييق الفجوة الموجودة في المكتبة السعودية والتي يرى أن سِدادها يتوقف على تضافر جهود الأدباء والمفكرين والعلماء وكل ذي قلم سيال يستمد حبره من عاطفته وشعوره ومن خياله وفكره، يمزج في كتابته بين العلم والأخلاق وبين السلوك والعمل وبين الجد والهزل.
كانت الطباعة بالمملكة باهظة التكاليف، لا يستطيع القيام بها إلا الموسرون. ولذلك لجأ الكثير من الكتاب إلى طباعة مؤلفاتهم في مصر أو لبنان، أو سوريا، لتوفر المطابع، وكثرة الأيدي العاملة المدربة، ورخص أسعار الورق، وهنا يمكن أن نقول إن ضيق ذات اليد هي التي دفعت أولئك الكتاب والمؤلفين إلى السفر إلى الخارج لطباعة مؤلفاتهم، على أنّ دار الرفاعي للنشر لم تكن لديها الإمكانات المادية التي تجعلها في مصاف دور النشر الكبرى التي تهدف إلى تحقيق أرباح عالية، ولكنها جعلت نصب أعينها منذ نشأتها أن تقدم للقارئ كتباً يسد بها جوع عقله، ويروي بها عطشه العلمي دون أن يكون للربح نصيب يذكر في دخلها، من وراء نشر تلك الكتب إن لم تكن قد تعرضت للخسارة كثيراً في السنوات الأخيرة.
وفي إحدى زياراتي له في مكتبه بجدة والرياض، وهي كثيرة لما أكتسبه من ورائها من فوائد جمة، فأنا أتجه إلى مكتبه بحقائب فارغة إلا من الهواء، وأعود بها ملأى بما لذ وطاب من فنون العلم والآداب، ففي إحدى تلك الزيارات سألت أستاذي: هل هناك مردود من وراء هذه المكتبة الصغيرة، أو بمعنى آخر: هل هناك ربح يعود عليك من القيام بتأليف هذه الكتيبات وطباعتها ونشرها؟ فأجابني باستغراب ودهشة: عجبا يا أبا محمد هل تعتقد أنني أزرع في أرض سبخة وأضيع جهدي ومالي بلا جدوى؟
هناك ربح غير ملموس ولكنه متحقق أدركه بمشاعري وأحاسيسي فسألته ببلاهة: كيف تحقق ربحاً في زمن يشكو فيه الناشرون في العالم الغربي، قلة القراء، وضعف انتشار الكتاب، مما يعرض بعض دور النشر للخسارة الفادحة.
فأجابني: يا أبا محمد - هكذا تعود أن يناديني - إنني حينما عقدت العزم على تنفيذ رغبتي، لم أضع للربح المادي حساباً في تقديراتي، لأنني لم أجعله هدفاً من إخراج هذه المكتبة من فكرة تدور في خيالي إلى واقع ملموس، غير أني كنت أطمع في أن أحصل على قرَّاء لمواليد تلك المكتبة يرعونها ويحسنون العنايـة بها - فاكتساب شخص من هذا القبيل، هو أعظم ربح أحققه في حياتي.
وإذا أردنا الاستعانة ببعض المصادر، التي يمكن بها دعم هذه الرؤية، فإن أوثقها على الإطلاق - في نظري - ما خطه الشيخ عبد العزيز الرفاعي بيده، وقام بنشره قبل وفاته بأشهر، وذلك كتيبان يحمل أحدهما عنوان "رحلتي مع التأليف"، والآخر عنوانه: "رحلتي مع المكتبات" وهذان الكتيبان مصدران وموردان في آن واحد نستقي منهما، وإليهما نرد.
يقول في الصفحة - 43- من كتابه "رحلتي مع المكتبات" العبارات التالية التي نلمس فيها الصدق والوضوح وعدم التباهي والكبرياء: "أحسب أن مكتبة عبد العزيز مرزا - يرحمه الله - كانت هي الطعم الذي اصطادني صبياً إلى ذخائر (باب السلام) وهو اصطياد تدريجي، كان يكبر معي كلما قطعت من العمر شوطاً جديداً، وكنت أشتري منها فرخ ورق أو ريشة أو دفتر أو حبراً، ومن ترددي عليها، تعرفت على العم علي البوصي، الذي أخذت أشتري منه ملازم شعبية من قصص ألف ليلة وليلة مطبوعة في ورق رديء أصفر ولها غلاف أحمر رخيص ولكنه كان بالنسبة لي يمثل كتاباً عجيباً، فتح لي أبواب القراءة الحرة بعد كتابي الأول المفضل "القراءة الرشيدة".
وهل غير القلم والقرطاس والمحبرة والكتاب أدوات أساسية في رحلة الأديب لا غنى له عنها مطلقاً أينما حل وارتحل فهي عدته سلماً وحرباً، وهي عناصر رواج تجارته في سوق الأدب، على قدر طاقته يبرز ظهورها ونموها، والعدة إنما تكون أداة فعالة إذا كانت بيد تحسن التصرف بها وتقدر مواضعها.
وعبد العزيز الرفاعي أشار إشارة لّماحة إلى عناصر رحلته الكتابية بحيث يستلهم القارئ منها أنه لم يبرز أديباً كاتباً بارعاً من فراغ، ولكنه سلك الطريق السوي ودخل مَيْدان الأدب والتأليف والكتابة، من مختلف الطرق المهيأة، لذلك طرق أبواب المكتبات بمكة وجدة، وفي كل البلدان التي أتيحت له فرصة زيارتها، وانتقى منها بالشراء ما راق له وما وجد في نفسه رغبة لاقتنائه من كتب التراث.
وإذا رجعنا إلى كتيبه "رحلتي مع التأليف" صفحة - 23 - لقرأنا قصة المكتبة الصغيرة مفصلة، ولكيلا أحرمكم من الاستمتاع بما احتوته تلك القصة من مواقف عظيمة، تستحوذ على لب القارئ، وتستوقف نظره، ليرتوي من عذوبة كلماتها وليقتني مما تجود به عباراتها وليحلق مع صورها الرائعة في أجواء الخيال الممتع ويسبح بأحاسيسه في عالم لا ترقى إليه منغصات الحياة المادية، لكنني سأقدم بعض المقبلات التي أرجو أن تستحث رغباتكم في الإسراع إلى الوقوف على ذلك الكتيب لإشباع ما ترغبون أن تُطفئوا به نهمَ مدارككم، وهو نهم أحسست به قبلكم، ووجدت فيه لذة عظيمة تدفعني أن أجوب أعماق الكتب والصحف بحثاً عن فكرة جديدة، أقيم عليها جدارا من جدران دارة عشت أُمَنِّي النفس أن أظفر بها، وأستقر بها، أو بحثاُ عن روضة أنصب بها خيمة تظللني أشجارها، وتطربني أطيارها، وترقص أغصانُها، كلما هبت النسمات الندية بأزكى شذاً تبثُّه بين أرجائها فينالني منه، ما يجعلني أحلُم بدنيا لا تعيث فيها الأحقاد، ولا تعبث بها الجماعات والأفراد، تسود بها الطمأنينة، وتخيم عليها السكينة، أزهارها لا تكف عن صناعة الكحل للعيون، ومياهها تكتب في جريانها ملحمة الحياة كما تراها لا تستقر أمام عينيك طويلاً تدعو المتلقي إلى التفكير والتدبر وأخذ الحيطة والعبرة.
قال عبد العزيز الرفاعي عند حديثه عن المكتبة الصغيرة:
"مرت مرحلة شبابي دون أن أستقل بعمل أدبي خاص، فلم أنشر باسمي - منفرداً - أي كتاب حتى جاوزت الأربعين. في عام 1389هـ اشتركت في مؤتمر الأدباء السابع الذي انعقد في بغداد فألقيت فيه محاضرة مختصرة بعنوان (توثيق الارتباط بالتراث العربي) فأصدرته في كتيب، وكان هو الإصدار الأول، ثم أصدرت كتيباً عن جبل طارق، وثالثاً بعنوان (خمسة أيام في ماليزيا) ورابعاً عن كعب بن مالك - رضي الله عنه - ثم فتحت الباب لغيري ليشاركني في التأليف لهذه المكتبة، ولم تتجاوز مؤلفاتي في هذه المكتبة عشرة كتيبات".
 
طباعة

تعليق

 القراءات :771  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 17 من 30
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج