شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
رحْـلَة المعانَـاة
منذ الخطوة الأولى التي خطتها أم عبد العزيز وشقيقته عزيزة وأختهما لأمهما "مريم"، تلبّدت في سماء حياتهم سحُبٌ داكنة، لكنّها لم تمطر، وإنما ست عيون بل ثمان أمطرت دموعاً لا حزناً، وإنما فرحاً بالانتصار الذي تحقق لهم في خطوتهم الأولى، في رحلة المعاناة، تلك الخطوة التي جاءت بالفرج، وحلّت مشكلة السكن، التي كانت بالنسبة لأم عبد العزيز أصعب المشكلات حلاً في نظرها، لأنها لا تملك من المال ما يمكنها من الحصول على كفاف العيش، الذي يقيم الأوَد، ويسد الرمق، فكان حصولها على السكن بمثابةِ انتصارٍ على الخطوة الأولى، في تلك الرحلة الشاقة، التي ستخوضها مع ابنها وابنتيها.
شمرت عن ساعد الجِد، لتثبت جدارتها لمن زعم وتوهم أنها قد يمسها النصب، ويضنيها التعب، فتعجز عن مواصلة الإنفاق على أطفالها، فتستسلم لليأس وتتوسل إلى الغير، ليتصدق عليها وعلى أطفالها. غير أنها أثبتت بإصرارها، أنها أم مثالية قادرة على أن تربيهم تربية حسنة، وتسعى بكل ما أوتيت من قوة جسدية، أن توفر لهم ما يسد حاجتهم، من مأكل وملبس ومشرب، وإن بلغ حد الكفَاف في أغلب الأحيان، ولكن وجود بعض الشيء خيرٌ من عدم وجود أي شيء.
عكفت أم عبد العزيز وابنتها الكبرى على القيام ببعضِ الأشغالِ اليدوية وبيعها، في سبيل الحصول على المال، الذي يساعدها على سد مستلزمات ومتطلبات معيشتهم، فعبد العزيز لم يتجاوزه عمره حينئذ السادسة وشقيقته عزيزة طفلة رضيعة، لم تزل في سنتها الأولى أو بالأصح في الشهر السابع من ولادتها.
وحين تغلق الأبواب في وجهها، ولم تستطع بيع مصنوعاتها اليدوية، فإنها تلجأ إلى بيع ما لديها من حليِّ ذهبية، واستمرت على تلك الحال حتى نفِد ما لديها وبلغ عبد العزيز السابعة من عمره فأحسَّ بما تعانيه أمه، وعرض عليها أن يساعدها بقدر استطاعته، فكلفته ببيع بعض ما تقوم بصنعه، وما تقوم به أخته لأمه، فوجد في ذلك فرصة لبر أمه لتخفيف العبء عنها، وحمل ما كلفته به وتولى بيعه، وهو دون الثامنة من عمره.
كان يقوم بذلك العمل في فترة المساء، حيث كان يقضي فترة الصباح طالباً في مدرسة الصفا التحضيرية، وكانت أمه تمنحه من حصيلة ما يورده، هللة أو هللتين صباح كل يوم يتوجه فيه إلى المدرسة، تشجيعاً منها على مواصلة دراسته، وتحبيباً له على أن يتعشق المدرسة ويهواها، والهللة في تلك الحقبة من الزمن تمكن الطفل من أن يشتري بها بعض لوازمه المدرسية، وبذلك وضعت نفيسة بنت أحمد الرشيدي اللبنة الأولى، في بناء صرح عبد العزيز الرفاعي العلمي والأدبي والثقافي. وقد استطاع أن يوفر من مصروفه اليومي إذا زاد على هللتين هللة لشراء قصة من القصص الشعبية التي يميل من هم في سن الطفولة إلى قراءتها مثل "الزير سالم" و "حمزة البهلوان" و "نوادر جحا" وكلما أبصرته أمه متأبطاً كتاباً، ظهر السرور على وجهها، إعلاناً عن بالغ بهجتها بحبه للقراءة، لأنها تدرك منذ صغرها، قيمة الكتاب، كيف لا؟ وهي ابنة أحمد الرشيدي صاحب المكتبة الصغيرة بسوق الندى بجدة، والتي طالما جلست بها في غياب أبيها تبيع لمرتادي المكتبة ما يرغبون شراءه من الكتب، وأنها كانت زوج رجل عاشق للقراءة أفلا تشجع ابنها على القراءة، حتى ينال ما يناله العلماء والأدباء من مفاخر في ساحات الثقافة والأدب، وهي تدري أنها بعملها هذا فتحت الباب على مصراعيه لابنها حتى يغرق من هامته إلى أخمص قدميه، في حب القراءة والإطلاع.
وعندما بلغ عبد العزيز الثامنة من عمره، أدخلته أمه المدرسة العزيزية الابتدائية، وازداد تعلق الصغير بالقراءة، بل زاد فهمه لها، وفي هذه المرحلة تفتحت بواكير شاعريته، ونظم ما يمكن أن نطلق عليه إرهاصات شعرية، وفي كتيبه "رحلتي مع التأليف" يحدثنا عن ذلك فيقول في الصفحة السابعة: "وأحسب أن أول محاولة لي لكي أخربش شيئاً في دنيا الأدب، هو أن أصنع أبياتاً على طريقة أبي نواس. ليس في لهوه، ولكن في حكمته، بعد أن آل أمره إلى الحكمة، فقد وجدت في ديوانه أبياتاً في الحكمة والزهد.
مهما يكن الأمر فقد كتبت أبياتاً في الحكمة، ليس مهماً أن تكون ذات وزن، ولكن المهم أن تكون ذات قافية، وقد يغني عن الوزن استعمال (المساحة) ألا يكفي أن تكون الأبيات متساوية من حيث الطول، هكذا كانت البداية في عهد الدراسة الابتدائية".
ولعله يعني بأبيات الحكمة عند أبي نواس هذه الأبيات :
أرى كل حي هالكاً وابنَ هالك
وذا حسَبٍ في الهالكين عريـق
فقل لقريب الدار إنكَ ظاعـن
إلى منزل نائـي المحـل سحيـق
إذا امتحنَ الدنيا لبيبٌ تكشفتْ
له عن عدو في ثيـابِ صديـق
وكذلك هذه الأبيات:
خـلِّ جنبيـكَ لـرام
وامـض عنه بسـلام
مـتْ بـداء الصمـت خيـرٌ
لـكَ مـن داء الكـلام
ربمـا استفتحـت بالمـزح
مغـاليـق الحِمـام
رب لفظ ساق آجـال
نيـام وقيـام
إنمـا السالـمُ مَـنْ ألجـم
فـاه بلجـام
شبـتَ يـا هـذا ومـا تتركُ
أخـلاق الغـلام
والمنـايـا آكـلات
شـاربـات لـلأنـام
وربما قصد بها أيضاً هذه الأبيات:
ذهبت جدتي بطاعـة نفسـي
وتذكرت طاعـة الله نِضْـوا
لهف نفس علـى ليال وأيّـا
مٍ تمليتهنَّ لعبا ولهوا
قد أسأنـا كـل الإسـاءة فاللهــم صفحـا عنا وغفرا وعفـوا
وربما عنى بها هذه الأبيات المشهورة عنه:
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرةً
فلقد علمتُ بأن عفوكَ أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسنٌ
فبمن يلوذُ ويستجـيرُ المجـرم
أدعوك ربِّ كما أمرتَ تضرعاً
فإذا رددتَ يدي فمنُ ذا يرحم؟
مالي إليكَ وسيلـة إلا الرجـا
وجميل عفـوك ثم إني مسلـم
هذا عن ولعه بالشعر وتعلقه، أما عن صبابته بالقراءة وإدمانه على حبها، فإننا نجد الصفحة الثلاثين من كتيبه الموسوم بـ "رحلتي مع المكتبات" تحدثنا عن ذلك فتقول: "بعد بوابة الحنفية – على يسار الخارج من الحرم – تأتي مكتبة (عبد العزيز مرزا) وربما بعدها أو قبلها دكان صغير هو دكان (علي البوصي) وهذا كنت أشتري منه كتيبات صغيرة في ورقات تحتوي على قصص مجتزأة من (ألف ليلة وليلة)..
في الواقع أنني مدين لهذا الرجل، فقد كنت وأنا بعد صبي لم أتقن فك الحرف تماماً، أشتري منه هذه الكتيبات "اللذيذة" بهللة أو هللتين، وأستمتع بقراءتها، وأقرؤها على بعض أهلي. وإن كانت قراءتي لا تستلزم بطبيعة الحال قدرتي على استيعاب المعاني، أو قراءة الكلمات قراءة سليمة. ولكن هذه الكتيبات، كانت الخطوة الأولى التي قادتني إلى هواية المطالعة، إنها الدرجة الثانية من السلم الطويل، أما الدرجة الأولى، فقد كانت كتاب "القراءة الرشيدة".
لقد كان العم "علي البوصي" رجلاً طيباً متهاودا، وربما أدرك أنني إنما أوفر تلك الهللة أو الهللتين من مصروفي الجيبي الذي كنت لا أكاد أجده فكان أحياناً يكتفي بهللة واحدة للكتاب.
إن صلتي بالكتاب، في قراءاتي الحرة تبدأ بمكتبة "البوصي" فمنه كانت بداية تعاملي مع المكتبـات.
وفي مكتبة الشيخ "عبد العزيز مرزا" التي كنت أشتري منها أدواتي المدرسية كأوراق الكتابة، وأقلام البوصي والمراسم، عرفت الطريق إلى باب السلام، حيث سوق المكتبات وبائعي الكتب". وعن مكتبة عبد العزيز مرزا يقول في صفحة 43 من كتيبه "رحلتي مع المكتبات": "أحسب أن مكتبـة عبد العزيز مـرزا - يرحمه الله - هي الطعم الذي اصطادني صبياً إلى ذخائر "باب السلام" وهو اصطياد تدريجي كان يكبر معي كلما قطعت شوطاً من العمر جديداً، وما زالت حتى هذه اللحظة لا أستغني عن ذخائر"باب السلام".
ولقد حاولت العثور على شيء من تلك الأشعار، التي يعتبرها خربشة من الخرابيش، فقد توقعت أن يكون قد نسي موضعها، ويساعدني الحظ على وجودها، لكنني أجزم أنه وأدها مع كثير من الموؤدات، التي لم يسمح لها بأن تعيش طويلاً بين أدراجه، وفضّل أن تغيب عن الأنظار، قبل أن تولي الشمس الأدبار، ويسدل الليل ثوبه على النهار. وهذا التصرف ليس بمستغرب فعله من عبد العزيز الرفاعي لأنه ليس الأول في ذلك، ولن يكون الأخير، فقد فعله الكثيرون، لأنهم يرون أن في بداياتهم النثرية أو الشعرية ما لا يروق لهم قراءته إذا كبروا واشتدت سواعدهم وانطلقت خيالاتهم إلى عوالم من الإبداع شدت إليهم أنظار القراء، وأصبح مداد أقلامهم أحياناً لا يفي بكبح جماح ألسنتهم، لذلك يعمدون إلى تمزيق تلك البدايات أو إحراقها، والتخلص منها نهائياً كيلا تكون وصمة لهم إن وقعت بأيدي الحاقدين الذين يتربصون بهم الدوائر، واعتقد أنّ في ذلك مفتاح باب السلامة والأمان فقد قيل: إنّ من ألف فقد استهدف ولن يغفر له، أن يقال عن هذه كتابات أولى لم تحمل من سمات الكتابة إلا رص الحروف والكلمات، فتلك حجة واهية ليس لها في معيار الأدب والثقافة وزن صغر أو كبر، وهي حجة على الأديب لا له، فالكتابة أمانة من حق المتلقي أن ينتفع بها في حياته، فإذا كانت خواء لا جدوى منها ولا فائدة، فوجودها كعدمها سواء، لكني أرى أن عدمها خير من وجودها، لأنها تكفي القارىء مساوىء وجودها، لأن وجودها قد شغل حيزاً ثميناً من وقت القارىء، في غير مردود مادي أو معنوي، وبالتالي يكون وجودها مسبة ومضرة، ولعلي أحد الذين سلكوا هذا الطريق، عندما شعرت بمثل ذلك، فأحرقت كل شيء وأيقنت أنه لا يبلغ من سمات الشعر معشاراً، رغم أنه نشر في مجلات محلية مثل قافلة الزيت ومجلة الإذاعة السعودية. غير أنّ الاطمئنان النفسي يلعب دوراً كبيراً في الرضا أو عدمه، من أي عمل يقدم الإنسان على القيام به وينجزه، وعما يكون هذا الإنجاز قد حقق الهدف منه أم لا. وعلى كل فهذه وجهة نظر قد تلقى القبول عند البعض ويبدي البعض الآخر رفضها ولكل من الفريقين حجته.
ولنقرأ ما كتبه في مقدمة ديوان شعره "ظلال ولا أغصان" لنتبين سبب وأد تلك الأشعار، يقول في السطر الأخير من الصفحة الخامسة: "على أن ذلك الشطر الذي أسدلت عليه الستار، لا يعدو أن يكون مما ألف الناس من العواطف والأحاسيس، بل هو مما أحبوا منذ عهد امرىء القيس إلى عهد علي محمود طه، ولكني نظرت إلى الأمر نظرة أخرى، تقول : إن معظم هذه الأشعار - إن صح أن أسميها أشعاراً هو من زهو الصبا، ونضارة الشباب، وأن فيها شيئاً من نفحات ذلك العمر الغض الجديد، وهي نفحات تحمل مع الجِدَّة أشياءَ من وثبات الشباب، حملتها اليوم بعد السنين وقر وقاري، فقلت لها! قري حيت أنتِ". ومن الصعب على المتتبع أن يجد شيئاً من هذه الأشعار، التي قضى عليها بالسكون، والسكون هو الموت.
وهو يعبر عن هذه الأشعار في مكان آخر من مقدمة ديوانه بالأشجان، فنجده يقول في الصفحة العاشرة من ديوانه "ظلال ولا أغصان": "فقد كان هناك في الغابة أغصان، وكان لي فيها أشجان، أما الأغصان، فذوتْ، وأما الأشجان فانطوتْ، وقد رأيت أن أحجبها، فما عاد لها اليوم مكان إلا في الأعماق، وما كان في الأعماق قلَّما يطفو" فهو قد أودعها الحرز الأمين، الذي لا تستطيع الفكاك منه وهيهات هيهات لمثلها أن تجد مخرجاً ومنفذاً، تستطيع منه التسلّل، إلى الخارج.
على أن عبد العزيز الرفاعي لا ينكر أن بعض هذه الأشعار التي يعبر عنها بالشطر الآخر، قد تسربت إلى الصحف أو الأصدقاء عمداً أو كرهاً، فنجده يقول في مطلع الصفحة الخامسة من ديوانه الوحيد "ظلال ولا أغصان": "أما الشطر الآخر فقد زويته وطويته، مؤثراً أن يظلَّ حيثُ هو من مخبئه.. وإن كان قد تسرب أو تسلل منه شيء إلى الصحف أو الأصدقاء عمداً أو كرهاً، فقد آثرت اليوم، أن لا أقدمه، أو هذا على الأقل قراري حتى هذه اللحظة". وقد كان هو القرار الأول والأخير، ولعل الأيام تكشف لنا في المستقبل عن مكمنه ويتيسر نشره، وما ذلك على الله بعزيز.
وأكمل عبد العزيز الرفاعي المرحلة الابتدائية.
وكم كانت فرحة أمه وأختيه بذلك، لأنه الرجل الوحيد الذي يضعن آمالهن عليه، ويرينه ليس رجلاً واحداً، بل يمثل عدة رجال، فهو الأب والابن والأخ، وهو العائل والمساعد والشفيق والعطوف، وهو رب الأسرة وراعيها. وعبد العزيز يشعر بذلك، ويقرأ في نظراتهن تلك التصورات، وتلك الأحلام، ويبذل قصارى جهده في أن يكون مثلهن الأعلى، وسندهن، ويحقق لهن أمانيهن وطموحاتهن.
فقد صرف فترة الطفولة قراءة ودرساً وإطلاعاً. لم يشبع رغباته بما انغمس فيه أنداده من اللهو واللعب، بل قلما شارك زملاءه ورفاقه في حارته تلك الألعاب، التي يعتادون ممارستها، فقد كان يحرص على طاعة أمه حرصاً شديداً، ويبالغ في احترامها، ولا يعصي لها أمراً، وكانت تنصحه بأن يكون قدوة طيبة صالحة لغيره، وان يضع نفسه في المكان الذي يشار إليه بالبنان تحية وتقديراً واحتراماً، ولن يتم له ذلك إلا إذا كانت سيرته بين زملائه ومعلميه محل إعجاب الجميع، حيث لا تكف الألسنة عن الثناء عليه ويرغِّب كل أب ابنه أن يحذو حذوه، وأن يسير على نهجه.
أنهى عبد العزيز الرفاعي المرحلة الابتدائية، وقد استوعب في هذه المرحلة من العلوم والآداب، ما مكنه من القراءة الجيدة، والكتابة الراقية، وكيف لا يبلغ هذا المستوى، وهو الذي يقول في ديوانه في الصفحة التاسعة: "وقبل تخرجي من الابتدائية قرأت لـ (شوقي) و (الشريف الرضي)، وطالب في المرحلة الابتدائية يستطيع أن يقرأ شعر (الشريف الرضي)، وشعر (شوقي) لهو طالب نابغ، عنده القدرات على الإبداع، وعلى العطاء نثراً وشعراً، وقد كان ذلك، لكن عبد العزيز الرفاعي صادف بعد تخرجه في المدرسة العزيزية الابتدائية، وحصوله على الشهادة الابتدائية مشكلة عويصة نغصت عليه حياته، فقد وجد نفسه بين أمرين أحلاهما مر، فقد أدرك مقدار المشقة التي تقاسيها أمه وأخته في سبيل توفير المال الذي يمكنهم من العيش الكفاف فضلاً عما يكابده هو من قيامه بالعمل خلال أوقات فراغه، فطلب من أمه أن توافق على أن يقوم بدلاً عنها بالعمل، وترك الدراسة حتى يهيئ لأفراد الأسرة كل ما يحتاجون إليه من مأكل وملبس ومشرب. لكن أمه رفضت هذا، وأصرت على أن يواصل تعليمه، ويحقق رغبته في الحصول على شهادة عليا يستطيع بها أن يشغل مركزاً مرموقا في المجتمع، يجتذب أنظار الناس ويجعل أهله وأقاربه وجيرانه يثنون عليه، وتشعر هي بعظمتها، فهي التي حملت به وولدته وأرضعته لبنها، وسهرت من أجله ليالي مضنية، فالناس إن أشاروا إلى نباهة عبد العزيز، أو شطارته فإنما يشيرون إلى أمه، التي وضعت تحت تصرفه كل إمكاناتها، ووقتها وجهدها وحليها ونومها وعطائها، وضنت على نفسها بكل شيء، دون أن تبخل عليه بشيء.
لقد أصبح يدرك كل شيء، ويحاول أن يفعل شيئاً حتى يخفف العبء عن أمه التي أصبحت تتحمل كل شيء بعد أن تزوجت أخته من أمه، وانتقلت إلى بيت زوجها، غير أنه أمام إصرار أمه على رفض طلبه، وأنه يسعدها أن يصبح عالماً يحتل في كل دائرة مركزها تتجه الأنظار إليه منطلقة من كل نقطة على محيط الدائرة، وأمام هذا الإصرار لم يكن أمامه إلا أن يكثف جهوده ويوسع إطلاعه، ولا يكتفي بالدراسة النظامية التي يتلقاها على مقاعد الدراسة، إنما أخذ يدرس جثيا على الركب بالمسجد الحرام على أيدي الشيوخ الذين يتخذون من المسجد الحرام مدارس. كل شيخ منهم يمثل كلية مستقلة، فكلية الحديث، وكلية الأدب، وكلية اللغة والنحو، وكلية التفسير، وهلم جرا وبلغات متعددة.
لقد كان المسجد الحرام، والمسجد النبوي جامعتين عظيمتين في تاريخ الأمة الإسلامية، ارتوى منهما الكثير، وتخرج فيهما العلماء والفقهاء والمحدثون واللغويون، وما زالتا، وستظلان شمسين تشعان بالنور والهدى وتبعثان إلى شتى بقاع العالم أشعتهما، حاملة أعلام السلام والتقوى هداة مهتدين، داعين لا مدَّعين.
وأكب عبد العزيز على العلم وحضر مجالس العلماء، لكنه شعر أن حاجته للكتب أصبحت ضرورية لأن وسيلة القراءة والكتابة الكتاب، فهو الخزانة التي يجد فيها الطالب ما ينفعه حاضراً ومستقبلاً، لكن قيمة شراء الكتب باهظة، ولم يكن له مورد ثابت أو مؤقت يمكنه الاعتماد عليه في تأمين بعض الكتب اللازمة، وهو في ذات الوقت لا يستطيع أن يطلب من أمه أن تعمل فوق طاقتها لتفي له بكل طلباته المدرسية، والثقافية، وهي مع ذلك لو طلبها لفعلت المستحيل حتى تحقق له ما أراد.
الدراسة بالمعهد تتطلب المزيد من القراءة والإطلاع على كتب التراث. لكن الجيب خلو إلا من نظافته، فأخذ يضرب أخماساً بأسداس، وتحمله الأحلام إلى أن يبني منها قصراً على النجوم ثم لا تلبث أن تهبط به إلى الأرض، فإذا هو بين الرجاء والأمل، وبين الحزن والألم، واستبدت به الأفكار وهو لا يدري أي طريق يسلك حتى يستطيع أن يحقق رغباته دون أن يكلف أمه فوق طاقتها، ويزيدها ألماً إلى آلامها - فتوصل بعد أخذ ورد وإرخاء وشد بينه وبين نفسه، بينه وبين قدرته، بينه وبين عزيمته، أن يصارح أمه بما توصل إليه فقال لها: يا أمي لقد وصلت إلى حل وسط يرضيك أولاً وآخراً، ثم يرضيني، قالت له: وما هو هذا الحل الذي جئت به؟ فأجابها - وقد لمس في لهجتها نبرة الرضا-: لقد عزمت على أن أواصل تعليمي صباحاً، ثم أبحث عن عمل أشغل به وقت فراغي في المساء، وخلال الإجازات.
وجدت أمه في حل ابنها حلاً يدل على رجاحة عقل وحسن تدبير، وأيقنت عندئذ أن ابنها قد بلغ مبلغ الرجال عقلاً وسلوكاً وتصرفاً وتدبيراً، وإن لم يكن قد بلغ العشرين من عمره فما وسعها إلا أن تعلن موافقتها على الحل الذي جاء به.
وشمر عن ساعد الجد، وراح يبحث عن عمل يشغل به وقت فراغه، ويكتسب منه ما يساعد به أسرته، وقد يسر الله له أمره، وظفر بما يريد، وإن لم يكن بالقدر الذي يطمح الحصول عليه، وأصبح التوفيق بين الدراسة صباحاً والعمل مساء أمراً صعباً ومرهقاً، وحرم بذلك من كل ما يتمتع به أنداده من الشباب، ممن هو في مثل سنه أو يقاربه، ولم يعرف من مرحلة الشباب إلا الوجه الجاد، أما الوجه الذي يطفح بآثار النعيم واللهو وسيماء الرخاء والترف، فلم يدر ما هو وكيف يكون، وعندما وجد أنه قد يضطر إلى ترك أحد الأمرين المدرسة أو العمل قرر أن يترك المدرسة، وان ينصرف إلى العمل حتى يستطيع توفير لقمة العيش له ولمن يعول، لأن العلم يمكنه إدراكه بالقراءة المستمرة، والإطلاع الدائم على كتب التراث، وما يجد على الساحة الأدبية من كتب جديدة لمشاهير الأدباء في العالم العربي.
ترك عبد العزيز الرفاعي الدراسة المنتظمة في المعهد العلمي السعودي، ولكنه لم يتركها نهائياً، فقد حافظ على بقاء حبل متين يربطه بها وساعده على ذلك مدير المعهد في تلك الفترة السيد أحمـد العربـي - حفظه الله - فقد أعانه على أن يقوم بتدريس أبناء بعض الأسر الغنية التي تحتل مكاناً اجتماعياً مرموقاً، ممن يفدون إلى الطائف ومكة خلال عطلة الصيف، ويبقون فترة طويلة بهما تستغرق عدة شهور قد تزيد على ستة أشهر، على أن يتعهد بمذاكرة دروس الفصل الذي لن يتمكن من حضوره بوساطة مذكرات يبعث بها إليه أو بالأحرى يزوده بها بعض إخوانه وزملائه المخلصين، ثم عليه أن يؤدي في نهاية العام الاختبار النهائي جنباً إلى جنب مع زملائه في المعهد، ولعل هذه الفكرة من أوليـات التعليـم بالانتساب أو تطبيق نظام "المتقدمين للاختبار من المنازل".
وجد عبد العزيز في هذه الفكرة فرصة لم تخطر بباله، فاغتنمها وشكر لأستاذه هذه المكرمة التي وجد فيها مخرجاً من مأزقه الذي شعر أنه قد يغرق فيه، وتقدم في نهاية العام للاختبار النهائي ونجح، وقد عبر عبد العزيز عن ذلك صراحة في موضوع كتبه ونشره في المجلة العربية بالعدد 186 شعبان 1413هـ تحت عنوان "أيام حزينة. أمي" وذلك بعد مرور عام من وفاتها، وقد جاء في هذا المقال قوله: "وقد ظلت على حرصها هذا - الضمير في حرصها يعود إلى أمه - إلى أن أصبحتُ على أبواب الشباب، وعلى أبواب المعهد، وكان الإجهاد قد نال منها كل منال، فقد تضافرت عليها الأحداث، والأمراض، وحياة الجفاف، فلم يكن في وسعها أن تستمر في الكفاح. فحملت عنها العبء قبل أن اكمل السنة الدراسية النهائية في المعهد، فاستقبلت حياة العمل مدرساً، وإن ظللت على صلة بدراستي من المنازل، حتى حصلت على شهادة المعهد العلمي السعودي، وبذلك قرت عينها وانتهت متاعب العيش".
 
طباعة

تعليق

 القراءات :716  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 8 من 30
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.