شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الأمر الأول: أمور تتعلق بالنص:
وهذه الأمور لا تخرج عن:
أ- قضية الشكل والمضمون.
ب - قضية النظم.
جـ- مفهوم التوسط في التأليف.
د - مفهوم التكلف.
أ- قضية الشكل والمضمون:
اهتم أدباء العرب بالبحث في أسباب الجمال الفني، وراحوا يحللون أسباب الشعور بالجمال فور سماعهم نصاً أدبياً. هل ذلك الشعور يعود إلى الشكل؟ أي إلى الألفاظ والصياغة والصور والأخيلة؟.
أم يعود إلى المعاني اللطيفة، والأفكار الجليلة التي يتضمنها النص؟ أم الجمال يعود إلى الاثنين معاً: الشكل والمعنى؟.
والمدقق في قراءة كتب النقد العربي لا يكاد يطمئن إلى قول يذهب صاحبه فيه إلى تفضيل أحد العنصرين بمعزل عن الآخر، إلا ويجد لنفس القائل ما يثبت فيه اهتمامه بالعنصر الآخر، وقد يجد في نص ثالث ما يؤكد أنه عُني بالعنصرين مجتمعين معاً، وجعل إجادتهما معاً أساساً للحكم الجمالي.
ولتفسير ذلك أعرض نصاً "للجاحظ" يبين مدى اهتمامه بالألفاظ، يقول: "وذهب" الشيخ أبو عمرو الشيباني "إلى استحسان المعنى، والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي. والبدوي والقروي والمدني، وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولة المخرج وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك، فإنما الشعر صناعة، وضرب من النسج وجنس من التصوير" (1) .
ويقول في "البيان والتبيين": "إن حكم المعاني خلاف حكم الألفاظ لأن المعاني مبسوطة إلى غير غاية، ممتدة إلى غير نهاية، وأسماء المعاني مقصورة معدودة ومحصلة محدودة" (2) .
ويعبر عن نظرته الجمالية في الشعر فيقول: "أجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء سهل المخارج فتعلم بذلك أنه أفرغ إفراغاً واحداً وسبك سبكاً واحداً، فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان" (3) .
ويؤيد "ابن رشيق" رأي "الجاحظ" في الشعر الجيد موضحاً أن الجمال لا يكون إلا في كلام هذه صفته، فيقول: "وإذا كان الكلام على هذا الأسلوب الذي ذكره (الجاحظ)، لذّ سماعه، وخفّ محتمله، وقرب فهمه، وعذب النطق به، وحلي في فم سامعه، فإذا كان متنافراً متبايناً، عسر حفظه، وثقل على لسان الناطق به، ومجته المسامع، فلم يستقر فيها منه شيء" (4) .
ويجعل "علي الجرجاني" القاسم المشترك الذي ينصب عليه الحكم الجمالي في الشعر القديم أو المتأخر هو: روعة اللفظ، لأنه يقول: "إذا أردت أن تعرف موقع اللفظ الرشيق من القلب وعظم غنائه في تحسين الشعر، فتصفح شعر (جرير) و (ذي الرمة) في القدماء، و (البحتري) في المتأخرين، وتتبع نسيب متيمي العرب، ومتغزلي أهل الحجاز (كعمر) و(كثير) و (جميل) و (نصيب) وأضرابهم، وقسهم بمن هو أجود منهم شعراً، وأفصح لفظاً وسبكاً، ثم انظر واحكم وأنصف ودعني من قولك: هل زاد على كذا؟ وهل قال إلا ما قاله فلان؟ فإن روعة اللفظ تسبق بك إلى الحكم" (5) .
ويتبنى "أبو هلال العسكري" رأي "الجاحظ" في أن الجمال لا يكون إلا في اللفظ، ويقدم حججاً جديدة، فيقول: "وليس الشأن في إيراد المعنى لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي، والقروي والبدوي. وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه، وحسنه وبهائه، ونزاهته ونقائه، وكثرة طلاوته ومائه، مع صحة السبك والتركيب، والخلو من أود النظم والتأليف وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صواباً، ولا يقنع من اللفظ بذلك حتى يكون على ما وصفناه من نعوته التي تقدمت" (6) .
على أن الجمال قد يكون من جانب الصور والأخيلة، كما قد يكون من جانب الألفاظ والأسلوب، وخاصة إذا كان الوصف دقيقاً معبراً تماماً عن الصور، وقد تنبه لذلك "حازم القرطاجني" فقال: "ومن التذاذ النفوس بالتخييل أن الصور القبيحة المستبشعة عندما قد تكون صورها المنقوشة والمخطوطة والمنحوتة لذيذة إذا بلغت الغاية القصوى من الشبه بما هي أمثلة له، فيكون موقعها من النفوس مستلذاً لا لأنها حسنة في أنفسها بل لأنها حسنة المحاكاة لما حوكي بها عند مقايستها به" (7) .
وينطبق على هذه النظرية الشعور بجمال أبيات وصف الحمى "للمتنبي".
النصوص السابقة توحي بأن أصحابها ممن يجعلون الجمال في النص منصباً على الشكل وحده، ولكن من يتتبع جميع أحكامهم الجمالية يعثر لهم على نصوص أخرى تبين مدى أهمية المعنى في الحكم الجمالي للنص، حتى إن بعضهم أقام للمعاني دراسة، تبين شروط صحة المعنى.
فهذا "قدامة بن جعفر" -الذي عني بتقعيد النقد على قدر المستطاع- يلخص جودة المعاني بقوله: "جماع الوصف لذلك أن يكون المعنى مواجهاً للغرض المقصود، غير عادل عن الأمر المطلوب" (8) وهذا النص يوضح مدى اهتمامه "بتوازن" المعنى في حد ذاته وإن لم يصرِّح بالمعيار.
والأهم من اهتمامهم بالشكل، أو اهتمامهم بالمعنى، هو: اهتمامهم بالعنصرين معاً، واشتراط صحتهما معاً لجمال النص، وقد عثرتُ على نصوص تبين مدى اهتمامهم الفعلي بالعنصرين مجتمعين. وأكثر من ذلك اهتمامهم بمعيار "التوازن" بين الشكل والمعنى، بحيث لا يطغى جانب الشكل في النص على جانب المعنى، فتكون الألفاظ فصيحة والصياغة محكمة، فإذا ما فتشت عن مضمون النص، وجدته تافهاً سخيفاً.
كما أنهم لم يكن ليعجبهم أن يطغى جانب المعنى على الأسلوب، فيكون المعنى شريفاً لطيفاً والأسلوب مهلهلاً ركيكاً.
ومع ذلك فقد اختلفوا في تقييم المعنى من الجيد الشريف إلى الرديء السخيف. وبالطبع هذا الاختلاف حول تقييم المعاني يعود إلى اختلاف وجهات النظر في الحياة، وهذا يعود إلى بيئة الأديب وتربيته ومعتقداته الدينية وثقافته، ونظرة بعضهم إلى المعاني نظرة أخلاقية بحتة.
ولكن بالرغم من ذلك الاختلاف في تقييم المعنى. إلا أنهم حرصوا على "التوازن" بين المعنى والشكل.
يقول الجاحظ: "وأحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه فإذا كان المعنى شريفاً واللفظ بليغاً، وكان صحيح الطبع، بعيداً عن الاستكراه، منزهاً عن الاختلال، مصوناً عن التكلف، صنع في القلوب صنيع الغيث في التربة الكريمة" (9) .
ونقل "الجاحظ" عن "صحيفة بشر بن المعتمر": "من أراغ معنى كريماً فليلتمس له لفظاً كريماً فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف" (10) إذاً فقد تنبه "الجاحظ" إلى أن "التوازن" بين الشكل والمضمون يحقق الجمال في النص وإن لم يشر إلى المصطلح مباشرة.
وكما توصل "الجاحظ" إلى هذه الحقيقة، توصل غيره من النقاد، وتكلموا عن ذلك الجمال الذي لا يتحقق إلا بتوافق تام بين اللفظ والمعنى.
كما أنهم جعلوا من عيوب النص وقبحه: "ألا يقابل (الأديب) بين الألفاظ ومعانيها" (11) . وهذا ما حدا "بالجاحظ" أن يتجرأ ويقول: "وإني أزعم أن سخيف الألفاظ مشاكل لسخيف المعاني. وقد يحتاج إلى السخيف في بعض المواضع، وربما أمتع بأكثر من إمتاع الجزل الضخم من الألفاظ، والشريف الكريم من المعاني" (12) .
هذا النص يوضح أهمية معيار "التوازن" بين اللفظ والمعنى في تحقيق الجمال، حتى إن المعنى السخيف – كما قال الجاحظ – عندما يتلبسه لفظ سخيف "يوازنه" يحقق المتعة والجمال.
ومن هذا أرجح أن "الجاحظ" شعر بقيمة ذلك المعيار وإن لم يصرح به. حتى إنه طالب الكتّاب بـ "التوازن" الدقيق المعجب، الذي إن توخاه كاتب وجد نفسه يقابل سخيف المعنى بسخيف اللفظ وهذا في حد ذاته "توازن ".
وقد فصل "ابن رشيق" هذا "التوازن" الذي يجب أن يكون بين اللفظ والمعنى بقوله: "اللفظ جسم وروحه المعنى وارتباطه به كارتباط الروح بالجسم، يضعف بضعفه ويقوى بقوته، فإذا سلم المعنى واختل اللفظ، كان نقصاً للشعر وهجنة عليه، كما يعرض لبعض الأجسام من العرج والشلل والعور وما أشبه ذلك من غير أن تذهب الروح. وكذلك إن ضعف المعنى واختل بعضه كان للفظ من ذلك أوفر الحظ؛ كالذي يعرض للأجسام من المرض بمرض الأرواح.
ولا تجد معنى يختل إلا من جهة اللفظ، وجريه فيه على غير الواجب قياساً على ما قدمت من أدواء الجسوم والأرواح. فإن اختل المعنى كله وفسد بقي اللفظ مواتاً لا فائدة فيه وإن كان حسن الطلاوة في السمع" (13) .
وبعد هذا التفصيل من "ابن رشيق" في الأثر الذي يتركه اختلال أحد العنصرين -اللفظ أو المعنى- في العنصر الآخر، تبين لي أنه فطن إلى أن الذي يحكم جمال النص هو "التوازن التام" بين اللفظ والمعنى. فإذا كان اختلال أحد العنصرين قبح شبهه بالمرض، كان "توازن" العنصرين صحة وجمالاً.
لقد تنبه نقاد العرب أيضاً إلى قضية أخرى تجعلني أرجح أنهم لم يفصلوا بين اللفظ والمعنى، ألا وهي إدراكهم أن اللفظ بمفردها لا يمكن أن تكون جميلة أو قبيحة، إنما جمالها يكون في مدى مناسبتها للمعنى وهنا يقول "ابن طباطبا": وللمعاني ألفاظ تشاكلها فتحسن فيها وتقبح في غيرها (14) ".
وبناء على كل ما سبق فإني أرجح أن معظم نقاد العرب لم يفصلوا بين الشكل والمضمون في إدراكهم لجمال النص، وإنما أوهموا بهذا الفصل لأنهم كانوا يتحدثون عن الشكل بمعزل عن المضمون، أو يتحدثون عن المضمون بمعزل عن الشكل.
حتى "ابن قتيبة" والذي يفتتح كتابه بتقسيم الشعر إلى أربعة أضرب مما أوهم أنه يفصل اللفظ عن المعنى، إلا أن التدقيق في أحكامه على الشعر الجيد والرديء يفهم منه أنه أدرك أن الشعر يجمل أو يقبح بلفظه ومعناه معاً فهو يبين أن الشاعر الجيد عنده من استوفت قصيدته أغراض القصيدة في ذلك الوقت واستحكم بناؤها. والكلام على أغراض القصيدة العربية في وقته يمس الصياغة كما يمس المضمون. فهو يقول: "فالشاعر الجيد من سلك هذه الأساليب وعدل بين هذه الأقسام فلم يجعل واحداً منها أغلب على الشعر" (15) .
إذاً فالذي أوهم أن نقاد العرب فصلوا بين الشكل والمعنى، هو فصلهم في الحديث عن العنصرين، وربما كان ذلك أدعى في مقام تأليف الكتب وإرساء القواعد الأساسية للنقد.
فإذا كان حديثهم عن الجمال في اللفظ، أتوا بكلام يبين أهمية الشكل حتى إنه ليوهم أن مدار الجمال على مدى توفيق الأديب لشروط جمال الألفاظ.
فمثلاً من جمال اللفظ عندهم "أن يكون سمحاً، سهل مخارج الحروف من مواضعها، عليه رونق الفصاحة، مع الخلو من البشاعة" (16) .
وإن كان الكلام عن المعاني، شرحوا وفصلوا حتى يُظن أن مدار الشرف والحسن لا يكون إلا في المعنى، مع أنهم اشترطوا لجمال المعنى أن يكون بالغاً حد الجودة في أي غرض من الأغراض بغض النظر عن كون ذلك الغرض رفيعاً أو وضيعاً، وهنا يقول "قدامة": "وعلى الشاعر إذا شرع في أي معنى كان: من الرفعة أو الضعة... أن يتوخى البلوغ من التجويد في ذلك إلى الغاية المطلوبة" (17) .
ب– قضية النظم:
إن إدراك الجمال الفني لا يكون في الشكل بمفرده ولا في المضمون وحده، بل في النظم هو أرقى ما وصل إليه نقاد العرب في نظرتهم الجمالية للنصوص.
وهذه النظرة إلى العمل الفني على أنه وحدة فنية كانت لها إرهاصات متفرقة ولكنها نضجت واكتملت عند "عبد القاهر الجرجاني" (ت 471 أو 474).
وقد تتبعت بعض أحكامهم الجمالية في النظم لأتبين المحور الذي دار عليه الحكم الجمالي فيه، فوجدته يرتكز على معيار "التوازن" أي ترتيب الألفاظ على رتب المعاني ومقدار الألفاظ على مقدار المعاني.
فهذا "ابن طباطبا" يفصل القول في طريقة نظم الشعر على معيار "التوازن" الدقيق بين عناصر الشعر بقوله: "فإذا أراد الشاعر بناء قصيدة مخض المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه في فكره نثراً، وأعد له ما يلبسه إياه من الألفاظ التي تطابقه، والقوافي التي توافقه، والوزن الذي يسلسل له القول عليه. فإذا اتفق له بيت يشاكل المعنى الذي يرومه أثبته، وأعمل فكره في شغل القوافي بما تقتضيه من المعاني" (18) .
فكلام "ابن طباطبا" السابق يشير إلى "معيار التوازن" في النظم إن كان بين المعاني، والألفاظ، وإن كان بين المعاني والقوافي، وإن كان بين الألفاظ والوزن، وإن لم تكن الإشارة إلى أهمية "معيار التوازن" صريحة. ولكننا نستطيع فهم ذلك من النص السابق.
وبعد "ابن طباطبا" يأتي "عبد القاهر الجرجاني" ويؤكد أهمية النظرة المتكاملة إلى النص الأدبي، مبيناً أن الجمال لا يكون إلا في النظم، هذه النظرة قادته إلى تفسير سر جمال القرآن الكريم الذي بهر العرب بأسلوبه المعجز.
"فالجرجاني" أراد بقضية النظم تأكيد أن جمال القرآن لم يكن في أسلوبه وحده ولم يكن في معانيه بمفردها، وإنما كان في التعبير: "المتوازن" الدقيق بين كل معنى وما يناسبه من الألفاظ، ثم في ترتيب تلك الألفاظ على حسب المعنى.
ومن هذا المنطلق كوّن "عبد القاهر الجرجاني" فكرته في النظم وطبقها على النصوص الأخرى – أي غير القرآن – وقام بالرد على من يردون الجمال في النص إلى الألفاظ وحدها. ومن ردوده عليهم قوله:
"ومن البين الجلي أن التباين في هذه الفضيلة والتباعد عنها إلى ما ينافيها من الرذيلة، ليس بمجرد اللفظ، كيف والألفاظ لا تفيد حتى تؤلف ضرباً خاصاً من التأليف، ويعمد بها إلى وجه دون وجه من التركيب والترتيب، فلو أنك عدت إلى بيت شعر أو فصل نثر فعددت كلماته عداً كيف جاء واتفق، وأبطلت نضده ونظامه الذي عليه بني، وفيه أفرغ المعنى وأجري، وغيرت ترتيبه الذي بخصوصيته أفاد ما أفاد، وبنسقه المخصوص أبان المراد نحو أن تقول في: "قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل" "منزل قفا ذكرى نبك حبيب" أخرجته من كمال البيان، إلى محال الهذيان.. وفي ثبوت هذا الأصل ما تعلم به أن المعنى الذي له كانت هذه الكلم ببيت شعر أو فصل خطاب هو ترتيبها على طريقةٍ معلومةٍ، وحصولها على صورة من التأليف مخصوصة، وهذا الحكم أعني الاختصاص في الترتيب يقع في الألفاظ مرتباً على المعاني المرتبة في النفس المنتظمة فيها على قضية العقل" (19) .
على أن "الجرجاني" وبعد كل هذا الشرح المفصل لا ينسى أن يعلل اعتقاد بعض النقاد؛ أن الجمال في النص ينصب على اللفظ، ويعلل ذلك الاعتقاد بقوله: "فإذا رأيت البصير بجواهر الكلام يستحسن شعراً أو يستجيد نثراً، ثم يجعل الثناء عليه من حيث اللفظ فيقول: حلو رشيق، وحسن أنيق، وعذب سائغ، وخلوب رائع، فاعلم أنه ليس ينبئك عن أحوال ترجع إلى أجراس الحروف، وإلى ظاهر الوضع اللغوي، بل أمر يقع في فؤاده وفضل يقتدحه العقل من زناده" (20) .
وقد تبنى هذا الرأي بعد ذلك "حازم القرطاجني" الذي اهتم بمعيار "التوازن" في النظم ابتداءً من "التوازن" بين الحرف والآخر وانتهاءً بالنظم، ولكنه عبّر عن هذا المعيار بـ "التلاؤم" يقول: "والتلاؤم يقع في الكلام على أنحاء: منها أن تكون حروف الكلام بالنظر إلى ائتلاف بعض حروف الكلمة مع بعضها، وائتلاف جملة كلمة مع جملة كلمة تلاصقها، منتظمة في حروف مختارة، متباعدة المخارج مترتبة الترتيب الذي يقع فيه خفة وتشاكل ما، ومنها ألا تتفاوت الكلم المؤتلفة في مقدار الاستعمال فتكون الواحدة في نهاية الابتذال، والأخرى في نهاية الحوشية وقلة الاستعمال، ومنها أن تتناسب بعض صفاتها مثل أن تكون إحداهما مشتقة من الأخرى مع تغاير المعنيين من جهة أو جهات أو تتماثل أوزان الكلمة أو تتوازن مقاطعها، ومنها أن تكون كل كلمة قوية الطلب لما يليها من الكلم أليق بها من كل ما يمكن أن يوضع موضعها" (21) .
فهذا النص وإن لم يُصرح فيه بمعيار "التوازن" إلا أنه شرح هذا المعيار على خير ما يكون.
جـ– مفهوم التوسط في التأليف:
أثناء دراستي لنظرة العرب الجمالية للنصوص الفنية، لحظت أن لهم أقوالاً متفرقة تشيد بالتزام مبدأ التوسط في الكتابة، فماذا كانوا يعنون بالتوسط؟.
يقول "الجاحظ": "فالقصيدة في ذلك أن تجتنب السوقي والوحشي ولا تجعل همك في تهذيب الألفاظ وشغلك في التخلص إلى غرائب المعاني، وفي الاقتصاد بلاغ، وفي التوسط مجانبة للوعورة" (22) .
ويحترس "القاضي الجرجاني" من مفهوم التوسط وما قد يجره من فهم خاطئ فيقول: "فلا تظنن أني أريد بالسمح السهل الضعيف الركيك، ولا باللطيف الرشيق الأسلوب المخنث المؤنث بل أريد النمط الأوسط؛ ما ارتفع عن الساقط، وانحط عن البدوي الوحشي" (23) .
ويشرح "حازم القرطاجني" رأيه في التوسط بقوله: "إن الكلام إذا خف واعتدل حسن موقعه من النفس، وإذا طال وثقل اشتدت كراهة النفس له، وليس يحمد في الكلام أيضاً أن يكون من الخفة بحيث يوجد فيه طيش، ولا من القصر بحيث يوجد فيه انبتار، لكن المحمود من ذلك ما له حظ من الرصانة لا تبلغ به إلى الاستثقال، وقسط من الكمال لا يبلغ به إلى الإسآم والإضجار. فإن الكلام المتقطع الأجزاء المنبتر غير ملذوذ ولا مستحلى" (24) .
على أن هناك من فصّل الكلام في رأيه في مبدأ "التوسط" في التأليف، ألا وهو "علي بن خلف" الذي يقول: وينبغي لمن يؤثر التحقق بهذه الصناعة أن يسلك في الألفاظ مذهب "التوسط" الذي سلكه من تقدمه من أهل صناعته، فإنه هو الاعتدال ولا شيء أفضل من الاعتدال في الأمور التي يقع فيها تفاوت من جهتي الإفراط والتقصير، وقد علم أن المعتدل من كل شيء هو الأفضل والأحسن ولا سيما في الكلام" (25) .
ويشرح "علي بن خلف" ما قصده بـ "الاعتدال" بما يقربه من معيار "التوازن" فيقول: "ونحن وإن كنا قد خصصنا الكاتب على لزوم طريقة التوسط في الألفاظ فلسنا نقول إنه يجب أن يلزم هذه الطريقة في جميع الأحوال التي يحتاج فيها إلى المكاتبات والمخاطبات ولا يتعداها إلى غيرها، لكنا نقول: (إنه يجب أن ينتقل في استعمال الألفاظ على حسب ما تقتضيه رتب الخطاب والمخاطبين، وتوجيه الأحوال المتغايرة، والأوقات المختلفة ليكون كلاماً مشاكلاً لكل منها فإن أحكام الكلام تتغير بحكم تغير الأزمنة والأمكنة ومنازل المخاطبين والمكاتبين) ومتى لم يحصل التشابه والتشاكل بين ألفاظ الكتاب وبين ما يقتضيه الحال المكتوب فيها والزمان والمكان والكاتب والمكتوب إليه، عاد ذلك بالخلل على الصناعة والنقص على الكاتب والمكتوب عنه" (26) .
إن "ابن خلف" ينفي عن مذهب "التوسط" ما يوهم أنه التزام الأديب وعدم خروجه عنه دون اعتبار للمقامات والأحوال والأزمنة والأمكنة؛ لأنه بهذا الالتزام يكون مجافياً لأصل بلاغي لا يصح الخروج عليه وهو مراعاة مقتضى الحال.
ويدنو الرجل جداً من مفهومي "التوازن" بقوله: "ومتى لم يصل التشابه والتشاكل بين ألفاظ الكتاب وبين ما يقتضيه الحال المكتوب فيها والزمان والمكان والكاتب والمكتوب إليه عاد ذلك بالخلل على الصناعة".
فـ "ابن خلف" وصف "للتوازن" بمفهومه الفني دون أن يسميه وهذا ما يجعلني أقرر أن هذا المعيار ليس غريباً ولا بعيداً عن تصور نقادنا القدامى، فلو عدنا إلى النصوص السابقة نجد عند أصحابها نفس المفهوم مع تغير المصطلح. وكأنهم أرادوا "التوازن" ولكنهم أطلقوا عليه الاعتدال أو التوسط الذي أوهم أنهم أرادوا التزام حالة واحدة في التأليف. وقد شعر النقاد بما قد يجره عليهم هذا المصطلح من الفهم الخاطئ، فقام كل واحد منهم على حدة بشرح رأيه في الوسط، وما قصده من التزام ذلك المبدأ، وكيف أنه بعيد كل البعد عن التزام حالة واحدة في الكتابة بحيث يبدو فاتر العاطفة فاتر التأليف. فهذا ما كرهوه وعابوه، مما حدا "بابن رشيق" أن يقول: "وقال بعضهم: الشعر شعران جيد محكك، ورديء مضحك، ولا شيء أثقل من الشعر الوسط والغناء الوسط" (27) .
فالوسط الذي يعنيه "ابن رشيق" هنا؛ هو ما كان متوسطاً بين الجيد والرديء، وهو ثقيل فعلاً كما نعته الرجل، ولا يكون إلا مع برود العاطفة، وبرود الانفعال.
أما "التوازن" فمعناه أن يسيطر الأديب على عواطفه المشبوبة وانفعالاته القوية، فيوجهها، ملائماً بينها وبين المواقف والمعاني من ناحية، وبينها وبين الألفاظ من ناحية أخرى وبهذا يتحقق التوسط و "التوازن" ويلتقيان في معنى واحد.
د- مفهوم التكلف عند نقاد العرب:
من الأمور التي وجدت أن لها علاقة بمعيار "التوازن" مفهوم التكلف.
فإذا كان "التوازن" بين مقومات النص في التأليف معياراً جمالياً كان الإسراف في أي مقوّم من تلك المقومات قبحاً. والإسراف هو التكلف الذي رفضه النقاد القدامى وعابوه وجعلوه معياراً لقبح الكلام.
فهذا "الجاحظ" يبدي رأي العرب في جمال القول وقبحه فيقول:
"وهم كانوا يحبون البيان والطلاقة، والتحبير والبلاغة، والتخلص والرشاقة، فإنهم كانوا يكرهون السّلاطة والهذر، والتكلف، والإسهاب والإكثار... وكانوا يكرهون الفضول في البلاغة" (28) .
ويقول في موضع آخر: "وللكلام غاية، ولنشاط السامعين نهاية، وما فضل عن قدر الاحتمال ودعا إلى الاستثقال والملال، فذلك الفاضل هو الهذر، وهو الخطل وهو الإسهاب الذي سمعت الحكماء يعيبونه" (29) .
وهذا ما يؤيده معيار "التوازن" الذي يعد كل ما أشار إليه "الجاحظ" في هذا النص خللاً وقبحاً لخروجه عن حد الاعتدال و "التوازن".
أما كيف يقع التكلف في الكلام فـ "لابن قتيبة" رأي و "لحازم" رأي.
أبدأ بـ "ابن قتيبة" الذي أراد بالتكلف مرة الصناعة؛ أي تجويد الشعر وتنقيحه فإنه يقول: "فالمتكلف هو الذي قوّم شعره بالثقاف ونقحه بطول التفتيش وأعاد فيه النظر بعد النظر كزهير والحطيئة" (30) .
وبالطبع ما عناه هنا بالمتكلف لا يخرج شعره كما أتصور عن الشعر "المتوازن" الجميل.
ولكنه يستخدم نفس المصطلح حينما يعيب نصاً أفهم منه أنه أراد نفس ما عنيته بالتكلف، فهو يقول: "وتتبين التكلف في الشعر أيضاً بأن ترى البيت فيه مقروناً بغير جاره ومضموماً إلى غير لفقه" (31) هنا أجد أن التكلف يقع عند "ابن قتيبة" في عدم تناسب الأبيات وعدم ترتيبها الترتيب المنطقي الذي يجعل القصيدة تقوم على وحدة فنية وعضوية. وهذا بالطبع يصيب القصيدة بخلل يفقدها جمالها.
أما "حازم" فيصل الكلام في التكلف فيقول: "والتكلف يقع إما بتوعر الملافظ، أو ضعف تطالب الكلم، أو بزيادة ما لا يحتاج، أو نقص ما يحتاج، وإما بتقديم وتأخير، وإما بقلب، وإما بعدل عن صيغة هي أحق بالموضع، وإما بإبدال كلمة مكان كلمة هي أحسن موقعاً في الكلام" (32) .
فمن يتدبر كلام "حازم" هنا يجد التكلف عنده مرادفاً للخلل والقبح ومجافاة "التوازن" في التأليف أو النظم، فقوله: "بزيادة ما لا يحتاج أو نقص ما يحتاج" خلل، لأنه خروج عما يتطلبه المقام بالزيادة أو النقص وهذا هو "التوازن" وإن لم يصرح "حازم" بالاصطلاح.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2867  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 37 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء العاشر - شهادات الضيوف والمحبين: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج