شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
المقَالة السَّادسَة عَشرة
النفس الكبيرة تأنف من الغدر وتترفع عن الحقد وتضيق بالمهازل وتسخط على ذويها، تأنف الغدر لأنه من أكبر النقائص بل هو من أرذل الطباع، وتترفع عن الحقد لأنه لا يصدر إلا عن ضعاف النفوس وصغارها وتضيق بالمهازل وأصحابها لأنهم عجزوا عن دورهم في الحياة الرفيعة فمثلوا أدوارهم على هامش الحياة، ممقوتين مرذولين، وحيلة العاجز الغدر وطريقة الفشل الحقد وسمات الناقصين المهازل، والنفس الكبيرة تسمو بطبيعتها وتترفع بذوقها السليم عن تلك النقائص لأنها تتعشق المثل وتؤمن بالقيم، وبعكس ذلك النفس الحقيرة تلاحق الناس بشرها تتحسس طريق الغدر لتوقع بكبار النفوس، تفتش عن مواضع السقطات لتورط فيها النفوس، وتبحث عن هفوات الناس لتتنزل بهم الشرور، وتفتش عن أحوال الناس وتتجسس على تصرفها لتصب عليهم العقاب والويلات، النفس الحقيرة تبغض الصرحاء وتضيق بالصدق وتسخط عليهم لأن مؤهلاتها ومقوماتها الجبن والكذب والخديعة والغش للناس. صفات الرذائل هي سلاحها الذي تشهره على المتحررين من تلك الصفات الذميمة، ولقد عاب هذا الخلق الوضيع قادة الفكر أدباء وعلماء وشعراء، والأدب العربي يذكر لهؤلاء جميعهم قديماً وحديثاً أقوالهم وما قاله الشعراء عن تلك السجايا الدنيئة، وكان من هؤلاء البهاء زهير قال في سخط وتذمر:
ويأنف الغدر قلبي وهـو محتـرق
النار والله في هذا ولا العار
ويصف لنا البهاء زهير الغادر في تبرم ونقمة:
وصاحب جعلته أميري
أسكنته في داخل الضمير
أودعتـه الخفـي من أمـوري
فكان مثل النار للبخور
صحبته ولم يكن نظيري
قدمته وهو يرى تأخيري
وتضيق نفسه الكبيرة بهذا الغادر فيقول في غضب وثورة:
كم ألاقي منك ما لا
أشتهي لاقيت حينك
وعيون الناس تستحيي
وما أوقح عينك
لعن اللَّهُ طريقاً
جمعت بيني وبينك
ويثور على جماعة الغادرين له فيخاطبهم مجتمعين معلناً سخطه عليهم ناقماً على نقائصهم:
وكنت زمانـاً لا أقـول فعلتـم
ولكنني من بعدها سأقول
لعمري لقـد علمتموني عليكـم
وإني إذا عُلمتُ فيَّ قبول
سيندم بعدي من يروم قطيعتـي
ويذكر قولي والزمـان طويـل
ويوجه السخط على نفس وضيعة أبت إلا أن تعيش على موائد الخزي وعار الغدر وتهون بحقها إلى أتعس الخدمات وأرذلها:
يا أيها الباذل مجهوده
في خدمة أُفٍ لها خدمهْ
إلى متى في تعب ضائع
بدون هذا تأكل اللقمهْ
تشقـى ومن تشقـى له غافـل
كأنك الراقص في الظلمهْ
ولكن هذه النفس الحقيرة لا يردعها اللوم ولا يردها الصفع، فهي لا تحس بالكرامة ولا تشعر بالعزة، فمن حق البهاء زهير أن يكرر هذا القول وأن يزيده في عنف، وأن يواصل لها النقمة حتى يردها عن غيها وعبثها:
برح الخفاء وقلتها
مني إليـك بلا احتشـام
لم تبق فيك بقية
لا للحلال ولا الحرام
وهذا أشد ما يوصم به الحقير، وأقسى ما يصب عليه من اللوم والتقريع ويصف جفاة النفوس وسوء طباعهم ودناءة نفوسهم وانهم لا يقابلون المعروف بمثله ولا يحمدون لكريم النفس أعماله ويسيئون إليه في موضع إحسانه فيقول:
خليت كل الناس ما خلاكم
وقلت مالي أحد سواكم
وأنتم عليَّ ما أجفاكم
خلقيَ خلقي دائماً أرعاكم
وكل ما أسخطني أرضاكـم
والله لا أفلـح من يهواكـم
وبعد ذا سبحان من أعطاكم
وجميل منه وهو يختم وصفه بهذا الختام الموفق (سبحان من أعطاكم) وقد بلغ به الضجر والضيق أن يصب جام غضبه على رؤوسهم فيقول:
لعن اللَّهُ حاجةً
ألجأتني إليكم
وزماناً أحالني
في أموري عليكم
فعسى الله أن يخلـ
ـصني من يديكـم
وهكذا كانت نفس البهاء زهير وإحساس البهاء زهير، يسخط ويضيق ويتمرد على المهازل ويسوق إلى أصحابها أقسى العبارات وأشدها وقعاً على النفوس، يضيق بهم كما ضاق من قبله الفضلاء، ويقول كما قاله في حقهم وانتقاص قيمتهم الشعراء والأدباء والعلماء، ويزري بخلقهم الدنيء وصفاتهم البغيضة، ولا أود أن أوردها، هنـا من أقوالهم وأشعارهم ما تحمله كتب الأدب فإن في نقله تكراراً قد يمل منه القارىء ويسأم منه المطلع، ولكننا وقد عنينا ببحث البهاء زهير فلا بدّ وأن نخصه وحده بالنقـل ونورد من أشعاره ما ندلل به على إكمال دراستنا لأدبه وفنون شعره، هذا ما يقتضينا عرض النصوص الأدبية بشرح معانيها وتفسير مراميها أخذاً بقاعدة الدراسات الأدبية، أما أن نعمد إلى عرض ما في الكتب ونقل ما فيها وسرد عباراتها لنوهم القارىء أننا قمنا بواجب أدبي وأدينا بهذا دراسة أدبية وافرة بقدرتنا على النقل، فإننا بعملنا هذا لم نؤدِ أي مجهود أدبي سوى مجهود النقل وهو عمل مكرر وجهد تافه، وكثيراً ما نجد أثر هذا التصرف التافه في بعض مؤلفات حديثة تطالعنا بأقوال في النثر والشعر مسرودة من كتب الأدب لم تأخذ حقها الأدبي من دراسة ونقد وتحليل، وتعنون هذه المؤلفات بعنوان مؤلف لم يكن له فيها نصيب من الواجب الأدبي إلا أن يشغل وقته لجمع جهود الغير وهي مقروءة ومبحوثة من عهد بعيد، وأحق بهذا وأمثاله أن يعلنوا عن أنفسهم تجاراً للنقل لا أدباء ومؤلفين، ولا أريد أن أسمي هؤلاء بمؤلفاتهم ولا أذكرهم بالتأليف لأنه عمل لا يستحق الذكر ولا يحمل في حساب العاملين حق التقدير، وإننا لو أردنا أن نذكرهم أو نحاسبهم فقد يكون في حكمنا عليهم وكشفنا لهم إيلام لنفوسهم، ونرفع بأنفسنا عن الإِيلام والإِيذاء لشعور العاجزين وإنما نكتفي عن كشفهم بالإِشارة ونقتصر للتدليل عليهم بالعبارة، لقد طالعتنا كتب المتقدمين وقرأنا لهم آثاراً منقولة لمن سبقوهم في العلم والأدب فلم يوردوا النص خالياً من دراسة ولا الأثر بعيداً عن النقد والتحليل فكانوا في عملهم هذا مكان تقديرنا وإجلالنا، وتعلمنا منهم نقد الأدب ودراسته وشرح نصوصه وبحث معانيه.
ولا نود أن نعرض لهذه الكتب بالتسمية ونذكر للقراء أننا على علم غزير واطلاع واسع بأمهات الكتب ونعرض لهم أسماءَها لنبرهن للقراء أننـا نفوقهم معرفة ونزيد عنهم ثقافة واطلاعاً، ولا أحسب أن هذا يليق بطبيعة الأديب ومستوى ثقافته فإن الحكم على أسلوبه ونصيبه من الثقافة، يبدو جلياً في إنتاجه ولأن كتب الأدب القديم والحديث معروضة بين الناس في مكتبات عديدة يستطيع القارىء باستعداده النفسي واستعداده الدراسي أن يختار منها ما يتذوقه ويستطيع هو أن يهتدي برأي مرشده إذا شاء، لهذا كله لا أجد موافقاً عرض أسماء الكتب وذكرها، ولنمض مع البهاء زهير في سخطه وضيقه وتبرمه بالنفوس الرخيصة وقد اختار من تلك النفوس نفساً تتعالى على الناس في غير ما حياء ولا خجل، فسخر منها ومن مظاهرها الزائفة:
لك يا صديقي بغله
ليست تساوي خردلهْ
تمشي فتحسبها العيون
على الطريق مشكلَّهْ
وتخالها مدبرة إذا
ما أقبلت مستعجلهْ
مقدار خطوتها الطو
يلة حين تسرع أنملهْ
تهتز وهي مكانها
فكأنما هي زلزلهْ
أشبهتها بل أشبهتك
كأن بينكما صلهْ
تحكي صفاتك في الثقا
لة والمهانة والبلهْ
وعاب على آخر من أصدقاء المنفعة فقال يخاطبه موبخاً وناصحاً:
تجدد صبوةً في كل يوم
وتسكر سكرة من كل دن
أقـول الحـق مـالك من صديـق
فلا تعتب عليّ ولا تلمني
نصحتك لو صحوت قبلت نصحي
ولكن أنت في سكر التجني
ومن سمع الغناء بغير قلب
ولم يطرب فلا يلم المغني
ويبدو على البهاء زهير التعلق بهذا الصديق حتى إنه آثره بالحب وخاطبه بكلمة يا حبيبي بعد أن أذاقه من اللوم والتقريع، ومن حق البهاء زهير أن يحمل على الأصدقاء النفعيين الغادرين بحق صديقهم بل من حقنا جميعاً أن نلـوم ونزدري مثل هذا الطبع السقيم وقال في جماعة قد عرف منهـم الغدر والتنكر لصحبتـه والجحود لحقـه:
نراكم قـد بدا منكـم
أمور ما عهدناها
كشفتم بيننا أشيا
ء قد كنا سترناها
وكم جاءت لنا عنكـم
أحاديث رددناها
وأشياءٌ رأيناها
وقلنا ما رأيناها
وما زلتـم بنـا حتـى
خسرناكم بفعلاها
وكانت بيننا طاق
فها نحن سددناها
ولما كان البهاء زهير يملك دقة المعنى ويحسن اختيار اللفظ فقد أتى في كل موضوع من مواضيعه بوحدة القصيدة كاملة مضطردة في معانيها متسقة في حسن ألفاظها، فإذا بالبيت وقد ارتبط بسابقه ارتباطاً كاملاً واتصل بما يليه دون تفكك أو تنافر في المعنى أو تباين في اللفظ، وهو إذا أخذ بالموضوع بحثاً فقد أشبعه إشباعاً من حسن التركيب وجمال التركيز فلا تلمس في قصائده تناقضاً ولا تجاوزاً عن حد التعبير، وأنت حين تقرأ شعر البهاء زهير تلمس السهل الممتنع، جزالة في اللفظ متانة في المعنى، يصوغ من الواقع فناً ونغماً بعيداً كل البعد عن التعمية والغموض.
في هذه القصائد التي أوردناها وفي كثير من شعره عبارات وأساليب تنبع من حياتنا الجارية، والشعراء يتعالون عن استعمالها ويعدون ذلك تبذلاً ونزولاً بمكانة الشعر، ولم يكن البهاء زهير عاجزاً عن مجاراة غيره من الشعراء فقد كان كما روى عنه المؤرخون أنه قد درس الأدب والدين وعرف من أخبار العرب الجاهلية والإِسلامية ما ينم عليه شعره فكان بهذا عالماً وأديباً وكاتباً للسر في عهد الأيوبيين، وهذا دليل على منزلته من الرياسة العلمية والأدبية في ذلك العصر، ولا بدّ من عبقرية البهاء زهير أن توفق هذا التوفيق في إنتاج أشعار يطرب لها الخاصة ولا تكون العامة أقل بها طرباً بلغة الحياة الجارية في المجتمع، أفرغ عليها من فنه وحسن إبداعه ما امتاز به بين الشعراء، وحاز به تقدير المنصفين، فقد قال عنه ابن خلكان كما أسلفت "إنه السهل الممتنع" وهذا ما نلمسه في أشعاره من رقة وعذوبة وإبداع.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :803  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 17 من 21
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج