شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((كلمة الأستاذ الدكتور عبد الوهاب بوحديبة))
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على حبيبنا المصطفى، صاحب الكلمة الحكيمة، والرسالة الكونية التي لا تزال واقفة أمامنا لنفهم أوضاعنا، لنقَيِّمها ولنسير مع التاريخ الكوني ونقحم ثقافتنا العربية الإسلامية فيه، معالي الشيخ عبد المقصود خوجه، معالي الوزير، أصدقائي الأعزاء، أنا سعيد جداً بأن أكون معكم، وأن أجدني في هذا البلد، الذي انبثقت منه أحد أهم الحضارات الكونية، والتي ندين لها من حيث ما تعلمناه من تراثنا، ما شربناه من ماء نتعطش إليه مزيداً، مزيداً، مزيداً. تحدث السادة الأفاضل عن أهم مواقفي إزاء البحث العلمي، وطرحت بعض الأسئلة، أريد أن أجيب عنها بصفة إجمالية، وبصفة طوعية، من دون تكلف، أريد أولاً أن أقول إنني نشأت في القيروان، ثلاثمائة متر أو أربعمائة متر عن الجامع الأعظم، جامع عقبة بن نافع، ونهلت من القيروان ما نهلت، ولم ينسني شيء في حياتي ما تعلمته في تلك السنوات، التي كانت سنوات صعبة، نظراً إلى حضور الحماية، بل دخول القيروان في حرب ليس لنا فيها ناقة ولا جمل، احتلنا الألمان، ليحررونا من الفرنسيين، وساندوهم الإيطاليون، ثم أتى الإنكليز فحررونا من الألمان، والأمريكان ساندوهم، ثم أتى الفرنسيون مجدداً ليحررونا من الإنكليز ومن الأمريكان، الحرية كنا نسمعها ولا نتمتع بها، فكنا في تلك الأجواء نحتفظ بشيء أعدّه الآن الحصن الأخير للأمة العربية، الحاجز الكبير من دون مخاطر العولمة، هي الثقافة، الدرع المكين هو الدرع الثقافي، تعلمت في تلك السنوات بالقيروان محفوظة مدرسية "اللغة العربية ترثي نفسها" "لحافظ إبراهيم"، وبيت شعر من تلك المحفوظة، لا يزال الآن يسيطر عليّ، فكان بمثابة برنامج عمل ومنهاجية تفكير في الثقافة والحضارة العربية، تقول اللغة العربية على لسان حافظ:
أنا البحر في أحشائه الدر كامن
فهل سألوا الغواص عن صدفاتي؟
 
أمنيتي التي أرجو أن أكون قد وفّقت على الأقل جزئياً في تأديتها، هو أن أكون غواصاً في اللغة العربية، والثقافة العربية، أستخرج منها كنوزها، ومعالمها، ومقوماتها، مستعيناً بما تعلمناه في تراثنا العربي، وما تعلمناه وما نزال نتعلمه في التراث الكوني، الحقيقة ليس هناك مشكلة في الموافقة بين الماضي والحاضر، بين الحداثة وما بعد الحداثة، بين الثقافة العربية والثقافة الفرنسية والإنكليزية، كل مجتمع بمثقفيه، وأرباب أعماله، ومسؤوليه السياسيين، وعمالته وسواعده المفتولة، كل مجتمع يبني حاضره. لقد تعلمت عبارة بالفرنسية ونسيت من الذي قالها: "أيها الساري لا طريق أمامنا الطريق تفتحه خطانا".
من الذكريات الجميلة عندما نوقشت أطروحتي عن "الجنسانية في الإسلام"، وكانت اللجنة مكونة من عدد كبير من الأساتذة الفرنسيين، في العادة يكونون أربع أساتذة يوم ذاك كانوا ست، "جاك بيرك" المقرر للرسالة الأصلية، وكانت آنذاك الدكتوراه تنالها برسالتين، و"روجيه باستيد" كان مقرر الرسالة الثانية، "تحليل قصص الأطفال" في تونس. تكلم الأساتذة، ثم وقف الأستاذ "جاك لاكا" وكان يمسرح مواقفه ودروسه، أسلوبه كان كذلك، فقال لي:"سيدي بوحديبة لست أنت الذي كتبت هذه الرسالة". وسكت، تصببت عرقاً، وتنفست مدارج "روني ديكارت" في "السوربون" أنفاسها، سكت ثم أضاف: "وشرفي أنك لست أنت الذي كتب هذا".عندما قال هذا –وهي من مصطلحاته- فهمت ما قصده، وقال لي: "مجتمعك هو الذي تكلم بيمينك لتكتب هذه الرسالة". ارتحت آنذاك، وشكرته، وقلت له: "أستاذي أعدّ هذا أحسن ما يمكن أن يقدم إليّ بعد هذه السنوات الطويلة، التي بحثت فيها، نحن نأخذ، وأجدادنا أخذوا عن اليونان، عن الهند، عن الفرس، عن المسيحيين، عن اليهودية، ونأخذ اليوم وننهل، لدي كتاب لم ينشر بعد لأنني أراجعه باستمرار، عنوانه حتى الآن " الإسلام عالم في التاريخ" آخذاً بمصطلح فرنسي، وأخذت في هذا الكتاب أنظر إلى الحضارات الإسلامية العربية والإسبانية أندلسية، والبربرية والهندية والفارسية، كيف هذه الحضارات كلها من دون أن تفقد شيئاً من روحها، تتأقلم مع الرسالة المحمدية، تأخذ منها تصوغها وتنتج شيئاً جديداً كأنه لم يصدر قبله شيء، أمثلة عديدة في هذا الكتاب، مثلاً "كليلة ودمنة" أصله هندي، ثلاثة آلاف سنين قبل المسيح، هذه القصص انتقلت عبر الرحل في آسيا الوسطى، ووصلت إلى بلد فارس، حيث دُوِّنَ بالفارسية، ثم ترجمت وأعاد "ابن المقفع" صياغتها، ثم انتقلت إلى أوروبا، وأخذ منها عديد المؤلفين الفرنسيين والإنكليز، وآخر من أخذ منه "دوريس ليسينج" الكاتبة الإنكليزية، كلها حلقات تبدأ في بلاد الهند وتنتهي في عالمنا الحديث من دون انقطاع، ونجد تسلسلاً عجيباً لأطوار هذا الكتاب، كيف انتقلت وتطورت القصص، وتطورت الحكم، إلى أن وصلت إلى عالمنا هذا، لن أدخل في هذه التفاصيل، لأنها عديدة، لا أعتقد أن هناك حداثة أو ما بعد الحداثة، لأن ما نسميه حداثة اليوم هي "الغربنة" "التأورب" وهو استلاب لحداثتنا، ننتظر من الحضارات الغربية أن تقدم لنا على طبق ما يمكن لنا أن نتبناه لنبني حداثتنا " أيها الساري ليس هناك طريق، خطانا تفتح الطريق"، مثقفونا هم الذين يكتبون ذلك، ولكن شريطة ألا يتنكروا إلى جذورهم، وإلى ما تقدمه الحضارات الأخرى بما فيها الحضارات، التي لنا بعض الاحترازات اليوم حولها. كلنا نغوص في الثقافة، نستخرج من الثقافة اللؤلؤ والمرجان ونصوغه، وكتاباتي كلها تستخرج من الثقافة العربية جذورها، أذكر من باب التندر أنه يوم حصلت على التبريز في الفلسفة، وكنت أول تونسي وأول عربي ينال هذه الدرجة العلمية المعقدة، أخذت كتبي، ومذكرات دراساتي، وكراريسي، ووضعتها في حديقة الحي الجامعي وأضرمت فيها النار، كنت أقول العلم في الرأس لا في الكراس، ندمت على ذلك كثيراً لاحقاً، لأن من بين هذه المذكرات أشياء ثمينة نسيتها، لمجموعة من الفلاسفة الفرنسيين، ولكن كنت سعيداً جداً بتلك العلمية، أردت أن أقطع الجذور، وأن أبدأ من جديد حياة علمية، فعدت إلى تونس، كما عاد أهل الكهف في قصة "أفلاطون" إلى كهفهم، بعد أن تعلموا وأخذوا الحقيقة، عادوا إلى الظلمة حتى يعلموا أبناءهم وإخوانهم الحقيقة والمحبة، قضيت السنتين الأوليين من حياتي في مدرسة صعبة، أدرس الفلسفة، وكان مَن لا يجد مكاناً في المدارس الأخرى تسجله الإدارة في تلك المدرسة، فكان تلاميذي من العرب التونسيين والمسلمين، ولكن بينهم مسيحيون فرنسيون، وإيطاليون، ومالطيون، وبينهم فتيات أيضاً، عجزت الإدارة التونسية عن تسجيلهم في مدارس أخرى، فبعثتهم لـ"عبد الوهاب بوحديبة"، وكان ذلك بمثابة –في ظنهم– الامتحان، وفي ظني أنا البركة، فحمدت الله على هذا التنوع الثقافي، فكنت أتعلم من تلاميذي بقدر ما كانوا يتعلمون مني، وكانوا كذلك يتعلمون فيما بينهم، ونحاول أن نخرج من بين الطقوس اليهودية والمسيحية والفرنسية والمالطية وغيرها، القواسم المشتركة، وهي قيمنا الإسلامية، وقيمنا العقلانية الخالدة. تكلم أخي الأستاذ محمد علي عن "الجنسانية في الإسلام"، وقد كانت أطروحة الدكتوراه، ولم تكن لتكون على تلك الصورة، كنت أتصور في البداية شيئاً من الدراسة الميدانية عن السلوك الجنسي للعرب في الوقت الحاضر، إلا أنني اكتشفت عديد المصادر الفقهية، الحديث، الآيات القرآنية، الدراسات الفلسفية، والدراسات الاجتماعية، التي كانت تنظر إلى العلاقات الجنسية نظرة تحترم هذه العلاقات، وتعترف أنها هبة من الله، ولا ينبغي لنا أن نتنكر لها، بل كان ينبغي لنا أن نستمتع بها فنحمد الله على ما هدانا إليه، خلافاً للمسيحية ولديانات أخرى، وخلافاً لما كان يظنه بعض المتزمتين، الذين أدخلوا سلوكيات ومعايير لا نجدها في تراثنا القديم. لي كتاب أنجزته وتخلصت منه " ثقافة العطر في الإسلام" باختصار، لا أريد أن آخذ من وقتكم أكثر مما ينبغي، في الديانات كلها إلا الإسلام العطر أولاً للإله، العطر يدخل في الطقوس والتقاليد والتعبدات الهندية والمسيحية واليهودية، كجزء هو ملك من الله، بل تقول الكتب المقدسة المسيحية إن هذا العطر، وفيه وصفة دقيقة من حيث نوع العطورات، ونوع الموازين، وكيفية الخلط، هذا العطر لله فقط، ومن تعطر به فإنه يخرج عن الدين، نحن سبحانه وتعالى ليس في حاجة إلى عطورات، حتى القربان الذي نقدمه في عيد الأضحى، لا نقدمه لله، هي إعادة سلوك أتانا من الخليل سيدنا إبراهيم، واللحوم نأكلها ونتصدق بها، لَنْ يَنَالَ اللَّهَ ُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِنْيَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنْكُمْ ]الحج: 37[. العطر شيء من الدنيا، هو في الوقت نفسه مادة وفي الوقت نفسه روح، نتعطر به، واجب علينا (من عرض عليه طيب فلا يرده) بل هناك حديث (من حق المسلم أن يتعطر)، حق من حقوق الإنسان، غفل عنه الذين ينظرون اليوم إلى حقوق الإنسان، لأن العطر هو جمال في الدنيا، وكتب فيه أهل التصوف ما كتبوه، كما كتب فيه الشعراء ما كتبوه، واتخذه العلماء طريقاً لبحوثهم، الطيب يستعمل في الطب، الرائحة، كما اكتشف ذلك علماء النفس، والتحليل النفسي اليوم، بأن الطيب يدخل راحة جسدية فيروح على الإنسان، كتب الأطعمة كثيرة جديدة، كتب الفيزياء تدين للحضارة العربية الإسلامية بأمرين، تطوير جهاز " الأنبيق" وجعله آلة يومية نجدها في المنازل كلها، والكحول الذي مكّن لأول مرة في تاريخ الإنسانية من استخراج الزيوت الطائرة، وتثبيتها واستعمالها، ويقول مؤرخو العطورات في أوروبا إن صناعة العطر في أوروبا اليوم لم تكن لتكون لولا" الأنبيق" ولولا الكحول، وإلى آخره، وسأكون سعيداً جداً لما أغوص في قصيدة عربية، أو قصة عربية، أو حديث نبوي، أو آية قرآنية، أو نقش على بعض المقابر، وأستخرج منه شيئاً بمثابة الرمز الحيوي الذي نعطيه معنى، حياتي كلها خصصتها للبحث عن المعنى، لأن البحث عن المعنى هو أولاً وآخراً منبع فهم الذات، هذه الطرق التي أخذتها من أساتذتي الأجلاء، في فرنسا لما تتلمذت عليهم، ثم من كتبهم وكتب غيرهم، نأخذها ولكن نجدها، بل نجد أنفسنا لنغوص في البحر، وربما لو سمح الوقت لنا أن أذكر أن من أهم هذه الجواهر، التي استخرجتها ما وجدته في كتاب "ألف ليلة وليلة" وسميته عقدة "جودر"، والتي قلت هي النص العربي لعقدة "أوديب" في الحضارة الغربية، "جودر" وقصة "جودر" قصة عجيبة وتنتهي بهذه التوصيات: (لو فعلت ذلك تكون قد فككت الرموز وأبطلت الأوصاد وأمنت على نفسك)، خمس أو ست كلمات، تنصب فيها الحضارة العربية الإسلامية كلها، بل الحضارات كلها، (لو فعلت لكنت، فككت الرموز، وأبطلت الأوصاد وأمنت على نفسك) وظائف البحث العلمي، في مجتمعنا الحديث، ولا أتصور أن يمكن أن يكون مجتمعاً ما لا يؤدّي فيه علماء الاجتماع دوراً أساسياً للبحث عن الجذور، ولفهم الواقع ولإنارة المسؤولية، ولآخذ القرار عن بعض التوجهات السليمة، التي ينبغي لهم أن يأخذوها على الأقل بعين الاعتبار، أن أكون قد قمت بهذه الرسالة، فأكون وفياً لجذوري القيروانية، وفياً لما تعلمته عن أساتذتنا العرب قديماً وحديثاً، ووفياً كذلك لما تعلمته عن أساتذتنا في البلاد الغربية، أنا أعتز بحضوري معكم، وأعرف أن وجودي بينكم تعثر مراراً عديدة، الدعوة قديمة لكن الظروف حالت دون ذلك. سعيد جداً أن أكون في ضيافتكم، وأن أكون بين إخوة أعزاء كرام، وأن نمد اليد لشبابنا المثقفين، كما نفعل منذ عشرات السنين عبر مد أيدينا لهم، حتى يكون الشباب عنصراً فاعلاً، وليفتح الطريق بدوره أمام أمتنا، خصوصاً في هذه الظروف الصعبة التي نعيشها. شكراً مجدداً.
الشيخ عبد المقصود محمد سعيد خوجه: بعدما تفضلت وتكرمت وتحدثت، ليس لنا من قول إلا أن نحني رؤوسنا إجلالاً وتقديراً وإكباراً لعلمك وفضلك، والتجربة التي مرت بكم وأنتم تنثرونها اليوم أمامنا كاللآلئ، في هذا البحر المتلاطم الذي تعيشه الأمة العربية والإسلامية في الوقت الحاضر، نحن الذين نشكرك ونقدر مجيئك ونقدر شخصيتك، وما أنت عليه من فضل، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعنا بك دائماً، وأن ينفعنا من فضلك، وعلمك وإرشاداتك، إلى ما هو أحسن وأجل إنه سميع مجيب.
الدكتور "عبد الوهاب بوحديبة": كل هذا قطرة من بحر الثقافة العربية الإسلامية، مجرد قطرة، نهلنا منها ونعيد إليها ما استطعنا، لا أكثر ولا أقل.
 
 
طباعة
 القراءات :259  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 208 من 216
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور عبد الله بن أحمد الفيفي

الشاعر والأديب والناقد, عضو مجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود، له أكثر من 14 مؤلفاً في الشعر والنقد والأدب.