شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((كلمة سعادة الدكتورة بسمة عروس))
السلام عليكم جميعاً، وشكراً لكم. أوجه شكري أولاً للمؤسسة الراعية لهذه التظاهرة، التي شرّفتني بحضورها، وشرّفتني أيضاً بأن أكون في هذا المقام الجليل، وسأفصّل فيما بعد لما هو جليل لأسباب عديدة. وشكري ثانياً وأخيراً للزميل والصديق الدكتور معجب، الذي اختارني وهو لا يعرف أنني قد اخترته أيضاً، وهو المكرّم في هذه الجلسة، من دون أن يعرف أنني أيضاً مكرمة باختياره لي، فالتكريم يسري منه إليّ.
في الحقيقة هذا المقام بالنسبة إليّ مقام جديد كل الجدة، ونحن في جدة، فما اعتدت أن أتحدث في مقامات التكريم، اعتدت مقامات البحث العلمي، ولكن في هذا المقام سأقدم ما سيراوح بين الهاجس الأكاديمي وهاجس من يريد أن يتحدث في حفل تكريم لزميل وصديق على مستوى الانتظارات العلمية والبحث العلمي خصوصاً. عرفت الزميل والصديق الدكتور معجب أول ما عرفته، ولم تكن معرفة مباشرة عندما كنت في تونس وكنت أشرف يومها على تنظيم ندوة حول تقاليد الحجاج في الثقافتين العربية والغربية، وتحديداً الثقافة الفرنسية، وكان من المستكتبين وقد أمدّنا بورقة عنوانها من ثقافة الحجاج إلى ثقافة الحوار ولا أظن أنه ما زال يذكر ذلك، المهم سمعت يومها إطراء من أستاذي الدكتور حمادي صمود الذي يعرفه وهو صديقه، وبوصفي المشرفة فقد قرأت ملخص الورقة بشغف وأعجبت بهذا الأكاديمي السعودي ذي المرجعية الفرنكوفونية، وانتظرنا حضوره فاعتذر ولم يحضر، ولم أعلم أن الأقدار ستجعلني يوماً ما زميلة له في جامعة الملك سعود، وما كنت يوماً أفكر في هذا ولكن الأقدار والصدف تسعدنا أحياناً بالكثير، وصرت بعد أيام زميلة له في القسم نفسه وسمعت عنه، ومرت أيام أخرى وكنت أيضاً ضيفة مشرّفة، وشاركت في ملتقى النصر الذي يقيمه نادي جدة، وصادف أنه كان مشاركاً فيه، وكان اللقاء الأول وربما هي صدفة جميلة أيضاً، أن تكون جدة قد جمعتنا قبل سنين في ملتقى النصر وها أنا أيضاً في جدة مرة أخرى، لتجمعني من جديد وأتحدث في تكريمه، سألته أمس سؤالاً لماذا اخترتني وربما أزعجه هذا السؤال وهو سؤال ملغم فيه نية مبيتة لأنني كنت أعرف الإجابة عنه، وأعرف أنني لما حللت بجامعة الملك سعود كان لدي زميل يشاركني في الهم المعرفي وفي المرجعية الفرانكفونية، ما أذاب شيئاً ربما من بين ظفري الغربة العلمية، التي يمكن أن نحس بها أحياناً في مقامات أكاديمية مختلفة، وكانت هذه الورقة التي قلت إنني حاولت أن أتخلص فيها من سمة الأكاديمي، الذي قد يبدو ثقيلاً في مثل هذه المقامات، بنيتها على مراحل سأكون فيها في جانب داعية الجمع الكريم.
وفي مقام آخر ربما أغمز أو ألوح لزميلي ببعض المناطق البحثية أو بعض الأقاليم أو بعض المقترحات ربما، وأحاول أن أحفز فيه انتظاراً بحثياً، وهو الذي يكاد يجزم أن المشروع يوشك أن ينتهي، وأتحدث حديثاً ربما يختلف عما قد ينتظره، عن إنجازه البحثي والأكاديمي مستعيرة ذلك من عنوان روايته، وقد بنيت هذه الورقة على مناطق -إن صحت العبارة- في البداية سأتحدث عن ثقافة التكريم أو عن ثقافة الاعتراف، وسأختصر قدر الإمكان في حديثي عنها، اختصاراً يدعوني إليه هذا المقام، وإن حدثتكم بكل ما فيها لن آمن من المقت وإضاعة الوقت على رأي صاحب المقامة، ثم في مرحلة ثانية سأتحدث عن الزميل دكتور معجب وقد سميته الراقص أو اللاعب في ملاعب البحث، مستعيرة العنوان من عنوان روايته "رقص" وفي الأخير هامش لي أنا كما سبقت وذكرت.
ثقافة التكريم أو ثقافة الاعتراف،انطلاقاً من المرجعية الأجنبية لعبارة التكريم، أو المرجعية الفرنسية تحديداً، فإننا نجد التكريم أو ما يعبر عنه بعبارة (homage) يعود إلى تقاليد في أوروبا القرون الوسطى، ونوع من العلاقة بين السيد والمسود، وهو نوع من العلاقة تقوم في الآن ذاته على جانب فيه خضوع وجانب فيه التضحية وفيه التفاني، وفيه أيضاً نوع من الحب، ويكون من جانب هذا السيد أنه يقطع -ولا نقول خادمه– من يكون، فهو مرتبط به في إطار هذه العلاقة يقطعه قطعة أرض. هذا الجانب من العلاقة لا ينظر إليه، في بعده الإذعاني، على أنه نوع من الاستعباد ولكنه نوع إن شئنا من الاستراتيجية التي ثبتت في النظام الإقطاعي، قائمة على معان فيها البذل، فيها الإيثار، فيها التفاني، فيها المصالح المشتركة، وفيها التحابب والتفاعل، وإن ابتعدنا، فإننا نرى أن هذا المفهوم ينحسر ليحل محله مفهوم la reconnaissance مفهوم الاعتراف، وهو مفهوم تنهض به المؤسسات. وقد لاحظت أن هذا المفهوم خطير جداً خصوصاً في مجتمعاتنا الراهنة لأنه صار بديلاً للكثير من المظاهر، ولأنه بالنسبة إلى فيلسوف علم الاجتماع الألماني الشهير "أكسل هونيت" هو المفهوم الأساسي الذي يدخل في تفسير مفهوم العدالة الاجتماعية، ويؤسس لما يسميه هو بصراع الاعتراف، فالفرد يعيش داخل المجتمع ويخوض نوعاً من صراع الاعتراف، الذي فيه طرح لقضية الهوية وقضية أن هذا الفرد مادام يشعر بإنجازه فإنه يسعى دائماً إلى فرض هذا الانجاز بطريقة ما، والمؤسسة عندما تقوم بما يسمى بالاعتراف الثقافي فإنها تؤسس للعدالة الاجتماعية من منظور مفهوم الاعتراف لا من منظور آخر، وهذا في رأيي منظور فلسفي خطير، في إطار المجتمعات الحداثية وما بعد الحداثية، هذه المجتمعات التي أعلت من شأن الفردانية، ولكن بهذه الفكرة أو بهذا المدخل النظري تكون قد وازنت ما بين فكرة الفردانية ومابين مفهوم التضامن الاجتماعي العام، في حين تعدّ هذه المداخل فقط للتعريف بالأدوار الاجتماعية في بعدها الرمزي عندما نخوض فيها في إطار فكرة التكريم أو طقس التكريم، هذا بالنسبة إلى التكريم.
أمر الآن إلى زميلي الراقص في ملاعب البحث العلمي، عندما قرأت إنجازه العلمي ومقالات بحوثه، وتدبرت هذا المنجز فإنني لاحظت أن الرقص ليس في روايته وإنما الرقص في البحث العلمي، لِمَ؟ لأن رايتك يا زميلي تتجاوز في البحث العلمي زهو العالم بعلمه لتكتب البحث على هيئة نص إبداعي، فنحن نشعر معك أن الباحث يعمل على إشكالات بحثه بنوع من الشوق وبنوع من الاندماج، وتخرج لغته من قيود البيان الذي هو بيان جاحظي فهم وإفهام إلى التعبير الفكري الواسع، بما هو انعتاق، بما هو فيض، بما هو أصالة وصدق، تجعل البحث في مستوى التواصل الإنساني العام لا مجرد تمرين منهجي والتزام بقالب أكاديمي ضيق. من هنا يمكن أن أقف على مثال ربما هو المثال الذي شدني أكثر من غيره، حديثه عن فلسفة الحب أو المحبة، وحديثه عن ابن حزم، وعن الغزالي وعن ابن رشد وخصوصاً المنطقة المحببة إليّ وهو ربما لا يعرف هذا وهي الحفر في قنوات الحوارية، والحفر خصوصاً في خطاب باختين، فإلحاحه على الحديث عن الحوارية في مظان متعددة وفي مواضع متعددة، من منجزه يدل على رغبة الباحث في الخروج عن الابستيميات الأحادية، الابستيميات ذات المركزية الواحدة، التي تعمل على تثبيت رؤية مهيمنة للبحث عن ابستيميات إنسانية مفتوحة ومحفزة، فبحثه في رأيي عن الحوارية ليس بحثاً، الغرض منه إفهام الحوارية أو تطبيق الحوارية أو الدخول في قنواتها، بل هو دليل على قيم بحثية، فاختيار الباحث ما يهمني فيه وهو القيم التي يشيعها وما ينتج عنها، لأن الدرس ليس في ما كتبه بل فيما سيترتب على ما كتبه، والبحث في الحوارية أيضاً إن كان إيماناً بحضور الآخر فينا، فهو مؤشر مهم على القدرة على استكناه الذات بشكل عميق وواع، لأن فتح مجال التفاعل مع الآخر هو في الحقيقة استبطان لذواتنا، وأعني استبطان لذواتنا، هذه الملاحظة موجهة إليه، وفهم لها ومن هنا جاءت حفرياته الأنيقة في التراث في فكر ابن رشد وابن حزم وغيرهم، هذه الحفريات وكل ما فيها في الحقيقة أوصلتني إلى فكرة وهي أن القارئ لبحوث الدكتور معجب يحصل له نوع من الانطباع، بأن كاتب هذه السطور ليس مجرد باحث وإنما ما يكتب عنه هو سبيل لأن ينكتب هو من خلاله، يعني لا نشك أن القيم التي نلمسها عبر هذا المكتوب هي قيم حياة بالنسبة إلى هذا الكاتب، وفلسفة حياة، ونسمح لنفسنا بهذا الانطباع لأن ما يكتبه فيه من الحيوية، وفيه من الفيض ما يدعونا إلى هذا.
وصلنا إلى الهامش الذي ادخرته لي، وهو هامش يخصني، فيه خطاب مباشر موجه إلى الزميل والدكتور معجب، أقول له أنت درست الآخر، درست المرأة بعمق، درست الشعر، ودرست الآخر الغربي، ودرست العربي في منظور الغربي، ودرست المفكر، والفيلسوف، والفقيه، والمستنير، والمتوحش والارتجاعي، والمنغلق، وضعت تصوراً لمشروعات عن علاقة المؤسسات الأكاديمية ببعضها بعضاً، أخرى عن العلاقة بسياسات النشر، وأخرى تخصّ المشروعات الثقافية والوطنية، أي كنت في وظيفة الموجه والمستشار والأديب والأكاديمي والإداري والمبدع، ونهضت بهذه الأدوار كلها وهي كفاءات وكفايات ومهارات مختلفة ولكن متفاعلة، في رأيي حان الوقت الآن للتفكير في المشروع الذي لم يكتب بعد، وهو مشروع - في رأيي - تهجس به نفسك عبر كل ما قرأته لك، قراءة ليست خطية وليست مادية، أسميها القراءة يعني العالمة في مقابل القراءة الشعبية، أو القراءة العابرة، قراءة عبرت ما قرأته منك، قراءة إن شئت اتصالية، هذه القراءة هي التي أدت بي إلى هذا المقترح الذي قد تقبله وقد ترفضه، لكن حتى إن لم ترفضه أنا أعرف أنك ستتفاعل معه، كتبت كل هذا، وحان الوقت لتكتب ما أسميه بالتاريخ اللطيف، أو تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، تاريخ التأنث، تاريخ اللطائف، التي تترجم عن وجه آخر لهذه الثقافة، الوجه الذي يصور ما أسميه بالغبطة الفائقة بمستوياتها المتعددة، الغبطة بالمفهوم الفلسفي بمفهوم dialectique، الذي تحدث عنه الكثيرون وتحدثت عنه الفلسفة العربية، هذه إن شئنا دعوة إلى التفكير معي لأنني لا أرى التكريم غير أن نتفاعل في هذه الطروحات العلمية. على صعيد آخر، أي صعيد البحث الأكاديمي، أرجو أن توافقني في رأي آخر، وهو أيضاً نابع مما في داخلي، ومما قرأته، وهو أننا في قراءتنا للنص سواء كان نصاً أدبياً أو غير ذلك، لدينا هاجس هو هاجس الوفاء للمنهج، وهاجس توسل المقاربة ومحاولة الإيفاء بآلياتها، ونشعر أننا فرسان في حلبة عندما نملك ناصية النظرية ولما نقرأوها في لغتها الأصل، من دون اللجوء إلى الترجمة، يعني هذا هاجسنا الأكبر والأوحد، لكنني فيما قرأت لك وبشكل عام - أرجو أن توافقني في هذا الرأي – هل ترى أن الباحث على الرغم من تقيده بالحدود المنهجية، يبقى دائماً في غير مأمن من بعض الإسقاطات الذاتية؟ فهو إن نظر في السيرة الذاتية ربما يفسرها من خلال سيرته الذاتية، وهو إن نظر في مختلف التجارب، كتجربة الحب وغيرها، فلا بد أن يتأولها حتى داخل المنهج، انطلاقاً من بعض الإسقاطات، فحينئذ، حتى عندما ينظر في تجربة التغريب والهجرة، وهذا أظن أنك توافقني فيه، هذه المشاركة المنهجية الإسقاطية في الآن نفسه، التي تتلفع المنهج، وتتذرع بالنظرية، واقعة في أبرز القراءات النقدية بشكل عام، ولعلك تبرع في استخراج عللها الخافية.
هذه مجرد ملاحظات، لاشك أنني حاولت فيها قدر الإمكان أن أخرج من عباءة الأكاديمي ثقيل الظل في مثل هذه المقامات، وفي بعضها الآخر حاولت أن أشارك زميلي، الذي أظن أنه عرفني، وأشكره في هذا المقام الذي شرفني على اختياره لي حتى أتحدث في مقام تكريمه، كما أشكر جميع الحضور على رحابة صدرهم، وعلى إنصاتهم والشكر موصول أيضاً لهذه المؤسسة الراعية، التي شرفت الكثير من المبدعين، والتي كانت بحق نموذجاً للاعتراف بالمفاهيم كلها، التي ذكرت والتي لم تذكر في ورقتي، شكراً لكم.
عريف الحفل: نشكر سعادة الدكتورة بسمة عروس على هذه الكلمة الضافية، الكلمة الثالثة لسعادة الدكتور قينان الغامدي الصحافي والكاتب المعروف.
 
 
طباعة
 القراءات :519  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 185 من 216
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج