شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
وثيقة التسامح والاعتراف بالآخر.. ونصوص مغيبة عن الوعي العربي ..
يتحدث الناس في هذه الأيام عمّا استشهد به البابا بينديكت السادس عشر من أقوال مستمدة من بعض الشخصيات البيزنطية حيث كانت أوروبا تعيش عصور الظلام والتنكيل بالعلماء ثم محاكم التفتيش والتي كانت المكارثية الأمريكية في الخمسينيات والستينيات الميلادية، ثم أسطورة أرض الميعاد وقتل الأغيار، امتدادًا لها، ولو عدنا إلى القرن الإسلامي الأول لوجدنا أن سلوكيات رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم– وصحابته رضوان الله عليهم من بعده هي التجسيد الحقيقي لاعتراف الإسلام بحق الآخر في الوجود، وعدم إكراهه على تغيير عقيدته، بل وإعطائه الحرية في ممارسة شعائره الدينية، فعند دخول المسلمين فلسطين في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب –رضي الله عنه– طلب "البطريرك صفرونيوس" Sophronius" أن يكون تسليم القدس لأمير المؤمنين نفسه–وعندما لبى الخليفة الراشد عمر بن الخطاب طلبهم وجاء إلى الجابية حيث تم الصلح مع المقدسيين، حضر إليه رجل من اليهود وقال: (يا أمير المؤمنين لا ترجع إلى بلادك حتى يفتح الله عليك إيليا)، حيث كان اليهود يلقون اضطهادًا من الدولة البيزنطية، وينقل المؤرخ العالمي ظفر الإسلام خان في كتابه القيم (تاريخ فلسطين القديم) عن المؤرخ الغربي المعروف Adolph L. Wismar في كتابه (دراسة في التسامح الديني كما جسدته سلوكيات النبي محمّد وأتباعه من بعده) A study of Tolerance as Practiced by Mohammad and his Immediate Successors, New York, 1927.
 
ينقل عنه قوله الموثق (أنه لما أخذ العرب يفتحون بلاد الشام جعل اليهود يرحبون بهم استبشارًا بالنجاة من نير بيزنطة)، ولما دخل الخليفة القدس خاطب الجموع من غير المسلمين قائلاً: (يا أهل إيليا لكم ما لنا وعليكم ما علينا) ثم دعاه البطريرك (صفرونيوس) لتعقد كنيسة القيامة فلبى الدعوة وأدركته الصلاة وهو فيها فالتفت إلى البطريرك وقال له: (أين أصلي؟ فقال: مكانك صل.. فقال ما كان لعمر أن يصلي في كنيسة القيامة فيأتي المسلمون من بعدي ويقولون هنا صلى عمر ويبنون عليه مسجدًا)، [تاريخ فلسطين القديم، ص: 140].
 
ولقد كان العهد الذي أعطاه سيدنا عمر بن الخطاب –رضي الله عنه– لأهل القدس هو امتداد لوثيقة المدينة التاريخية التي كتبها الرسول صلّى الله عليه وسلّم بينه وبين الأوس والخزرج واليهود، وهي أول وثيقة حقوق إنسان في تاريخ البشرية، كما يعترف بذلك المستشرق الإنجليزي الراحل والأستاذ سابقًا في مدرسة الدراسات الشرقية بلندن (سرجنت) Serjeant, R.B كما يعتبر المستشرقون المنصفون أيضًا أن العهدة العمرية هي أحسن معاهدة توجد في التاريخ للتعامل بين شعب غالب وآخر مغلوب.
ويقول النص الكامل لهذه العهدة أو لهذه الوثيقة التي يجب أن يتعظ الجميع ببنودها وموادها المنضبطة شرعًا وإنسانية واعترافًا بحقوق الآخر (بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عبدالله: عمر أمير المؤمنين أهل إيليا من الأمان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وبقريئها وسائر ملتها، إنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينقص منها ولا من حيزها ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، وتنبه الخليفة عمر إلى أنه ربما يجد بعض سكان القدس حرجًا من البقاء تحت الحكم الإسلامي فأعطاهم الأمان حتى يصلوا إلى أماكنهم، فضمن العهدة ما يلي: فمن خرج منهم أي من سكان القدس من الأديان الأخرى، فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم) وكذلك أعطى الأمان لغير المسلمين الذين يريدون البقاء تحت الحكم الإسلامي مع دفع –الجزية- وهي رمز مقابل دفاع المسلمين عنهم كما يدافعون عن أنفسهم فتضمنت هذه الوثيقة الحقوقية الهامة هذه القضية بهذه المادة العظيمة التي تقول: ومن أقام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيليا – القدس– من الجزية.
وتذهب الوثيقة العمرية إلى أبعد من ذلك حيث تعطي الحق والأمانة للآخرين، الذين يريدون الانضمام إلى الجانب الآخر فنقول في هذا الشأن: (ومن أحب من أهل إيليا أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم)، ويذكر الجانب الآخر معترفًا به فيقول: (ومن شاء سار مع الروم ومن شاء رجع إلى أهله)، وقد ختم الخليفة عمر –رضي الله عنه وأرضاه– وثيقته المستمدة من روح الإسلام وسلوكيات سيدنا رسول الله –صلّى الله عليه وسلّم– بإعطاء الآخرين من غير المسلمين عهد الله ورسوله وهو أثمن وأغلى وأنفس ما كان يملكه السلف الأول من صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخلفائه الراشدين المهديين من بعده، فتقول عبارات هذا العهد الموثق والذي جسد حقيقة على أرض الواقع: (وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين)، ولقد سار عمر بن الخطاب في هذا الشأن على نهج الرسول والمعلم الأول سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخليفته الصديق من بعده الذي أوصى قواده بالوصية التالية التي يجب أن يعي أبعادها المسلمون أنفسهم قبل أن يعيها أعداؤهم. يقول رفيق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبوبكر الصديق رضي الله عنه: (لا تخونوا، ولا تغدروا، ولا تغلوا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا أطفالاً ولا شيخًا كبيرًا، ولا تقعروا نخلاً وتحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لما أكل، وسوف تمرون بأناس قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم إليه)، ويعلق الباحث ظفر الإسلام خان على هذه الوصية التاريخية الهامة بقوله: إن قلمي عاجز عن وصف هذه الوصية التي لا مثيل لها في قوانين الحرب لدى أية دولة وفي أي عصر ما عدا التاريخ الإسلامي الحافل بمثل هذه المواقف الخالدية.. [تاريخ فلسطين: ص 150].
لقد طار بعض الكتّاب العرب بمبادئ حقوق الإنسان الغربية والتي يطبقها الغرب على نفسه ولكنه يضرب بها عرض الحائط عند تعامله مع الآخرين، وتاريخ الاستعمار الغربي في البلاد العربية والأفريقية وشبه القارة الهندية وحتى مع دول آسيوية مثل اليابان، شاهد على تخلي الغرب عن هذه المبادئ وخيانته لها، كما أن المرء ليشعر بالحزن والأسى لأن بعض أبناء الإسلام قدّموا صورة مشوهة عن الإسلام ليس بتشددهم مع الآخر فقط، بل مع أهل القبلة من المسلمين الذين ينطقون بالشهادتين ويؤمنون هم وآباؤهم وأجدادهم بالتوحيد والألوهية لله وحده، ولكنهم من منظور الشك الذي تستمرئه عقول ونفوس البعض هم منحرفون عقائديًا ويرى هذا البعض من التكفيريين أن سفك دماء هؤلاء مما يتقربون به إلى الله، وهذا الاستمرار الضلالي هو وراء ما شهدته بعض البلاد العربية من حوادث لسفك دماء الأبرياء من شيوخ وأطفال ونساء، ولا يمكن لهذه الفئة أن تفيق من غفلتها وتعود لرشدها قبل أن تسعى المؤسسات المعنية في البلاد العربية والإسلامية لتجفيف منابع هذا الفكر المتشدد والتكفيري ومقابلته بالفكر الإسلامي الصحيح المبني على الوسطية والاعتدال والتسامح والذي يأتمر بحدود الله المبنية على عصمة دم المسلم وماله وعرضه، وأن التفتيش في عقائد الآخرين والتشكيك فيها أمر مجانب للحقيقة الإيمانية التي أتت بها آيات الكتاب الحكيم وأحاديث المصطفى صلّى الله عليه وسلّم.
فلقد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة أن من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: كفّوا عن أهل لا إله إلا الله لا تكفروهم بذنب، فمن كفّر أهل لا إله إلا الله فهو إلى الكفر أقرب، وإنه ليسعنا ما يسع صحابة رسول الله والتابعين والسلف الصالح، وأن هذا هو الإتباع حقًا وما سواه هو الابتداع وما بعد الابتداع إلا الهلاك، فنعوذ بالله من ذلك كله.
 
طباعة
 القراءات :209  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 65 من 100
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج