شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
شؤم الأدب (1)
جاءني من أحدهم بتوقيع "مستطلع" خطاب يقول فيه بعد الديباجة: "لا مراء يا سيدي أن الأدب فن جميل وممتع، ولكن ألا ترى أن الأدب حيث كان شؤم على أهله، ولا سيما على أربابه المبرزين فيه؟ ثم ألا ترى هذا العصر ومعركة الصناعة والعلم والمادة فيه، واستعلاء هذه الأشياء على ما سواها من الفنون والآداب؟
إني لأعتقد أن الأدب لا جرم في طريقه إلى الزوال وأن كوكبه لآخذ في الأفول والإدبار.. إلخ".
إن هذا "المستطلع" يصحح النظرة من عدة وجوه. والفكرة في نظري -كل فكرة- ينبغي أن تتناول من وجوهها المتعددة، فإن تناول فكرة كانت من ناحية واحدة مدعاة للخطر والانحراف.. ثم إنه لا توجد فكرة يمكن أن تبدو لنا بوجه واحد، ومقياس صواب الفكرة من خطئها أن ندرس ملابساتها، ونواحيها ونتعمقها، فإن رجحت وجهة لصحة فيها، أمكننا -مع التساهل- أن نعتبرها صحيحة إلى حد ما.
وإن كانت صحيحة الجوانب كلها -وهذا نادر- فقد استقام المقياس.
وإن رجحت جوانب الخطأ، فهي خاطئة، حتى في الضئيل من جوانبها الصحيحة؛ فقد يكون هذا الصحيح زائفاً، أو صحيحاً في ظاهره فقط أو صحيحاً إلى حدود معينة.
وهذه المقاييس الأدبية يجب ألا تبذل وتهدر فيقوم بضبطها واستعمالها أطفال في أعمارهم أو أطفال في أذهانهم ودراستهم.
إن شؤم الأدب ظاهرة عجيبة نلتمسها في الأدب العربي -دع الإفرنجي- فلا تخطئه في كل مكان وزمان.
فانظر إلى نهايات امرئ القيس وطرفة والحطيئة وما بعدهم في العصور التي تلت عصورهم.
وما برح الأديب منذ أقدم الأزمان ينعي حظه العاثر، ويشكو بؤسه الوافر، ويتقلب في النكبات والمخاطر، حتى أصبحت "حرفة الأدب" من أشد الحرف ضرراً بصاحبها وقسوة عليه ونحساً لطالعه.
وأصبحنا نرى مثل ابن المعتز وهو نسل الخلائف العباسيين ينكبه أدبه ويفضي به إلى مثل ذلك المصرع المؤلم؛ حتى قال فيه من قال:
لله درّك من ملك بمضيعةٍ
ناهيك في العلم والآداب والحسبِ
ما فيه (لوّ) ولا (ليتٌ) فتنقصه
وإنما أدركته حرفة الأدبِ (2)
واستمر الزمان، وهو حرب على الأدب وأهله يذهب بهم أفظع المذاهب، ويضمر له شر العواقب، فجاروا بالشكوى، وصاحوا بالتذمر، وغنّوا بؤسهم وشقاءهم أبدع الغناء وأرقه، وأسلبه للعقول، وأذهبه بالألباب.
قال أحدهم:
ما إن تزيدت حرفاً تحته أدب
إلا تزيدت حرفاً تحته شُومُ
كذاك من يدعي حذقاً بصنعته
أنّى توجّه فيها فهو محرومُ (3)
ولو أردت أن أضرب الأمثال على ذلك بروائع الأقوال لطال بي المطال.
بيد أن هذا الزمان -في ما أعتقد- قد سطع فيه نجم الأدب، وعزت دولته ونبغ فيه أدباء عالميون أصبح لهم أثر أي أثر في توجيه العقول والنفوس والشعوب، فوق ما أتيح لهم في شرف الذكر ورفاهة العيش ووفرة المال.
وفي أوروبا وروسيا وأمريكا ومصر أبلغ الأدلة على ذلك.
وارتفاع حظ الأديب وعلو شأوه رهن ببلاده وأمته يتقدم بتقدمها ويتقهقر بتقهقرها؛ ففي البلدان التي تقوم الحياة الاجتماعية فيها على جواهر الأفكار وفرائد المعاني والقيم الروحية والذهنية، يحتفظ الأديب فيها بمكانة ممتازة، ويبلغ فيها شأواً رفيعاً.
وأضيف إلى ذلك أن الأديب نفسه له حظ كبير بقوة شخصيته وكرامة نفسه وارتفاع شيمته في التقدم بنفسه إلى فوق أو الارتكاس بها إلى أسفل.. ومزاج الأديب ومذهبه في الحياة وطريقة معاملته للناس، وأخلاقه الطبيعية كل ذلك حقيق بأن يتجه به الاتجاه اللازم ويضعه في الموضع المناسب.
وإذا استطاع الأديب أن يخدم نفسه، ويسمو بها عما يشينها من التكالب على السفاسف والملق الرخيص، والإعناق وراء الصغائر، فإنه -مهما كان غنياً أو فقيراً- يستطيع بلا ريب أن يحرز لنفسه المكان المشرف الممتاز.
وإذا رأيت أديباً يتدحرج على الرغام، فليس ذلك لأنه معدم في حياته فحسب، ولكن لأنه كذلك معدم في نفسه وفي نظرته إليها واعتزازه بها واحتفاظه بخصائص الجوهر الكريم فيها.
وبعد، فلعل في ما يأتي من عصور زاهية مشرقة ما يسلك بالأديب في هباب دنياه مسلك الإنسان الممتاز المكرم.
"ومن لم يكرِّم نفسه لا يكرَّم"، كما يقول صاحب الحوليات (4) .
وأخشى أن "مستطلعاً" ما يزال مستطلعاً إلى الآن.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :312  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 174 من 182
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور زاهي حواس

وزير الآثار المصري الأسبق الذي ألف 741 مقالة علمية باللغات المختلفة عن الآثار المصرية بالإضافة إلى تأليف ثلاثين كتاباً عن آثار مصر واكتشافاته الأثرية بالعديد من اللغات.