شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أحلام وأوهام (1)
للكونت إسبيرو كتاب طريف سماه "معجم الأحلام" نقل إلى العربية منذ أمد قريب، وقد ضمّن مؤلفه شيئاً كثيراً من حقائق العلم الحديث في ما يختص بالأحلام وتعليلها وتأويلها وما يحيط بها من الوضوح حيناً ومن الغموض حيناً آخر، وزيّن علاوة على ذلك بالرسوم الخيالية التي تمثل الأحلام من شتى الصور. على أن حقائق العلم لا تروق دائماً لمن يريد في أحلامه متاعاً وسلوى، لأن العلم يجد والحلم يهزل، وفي هذا من المناقضة والتباين ما لا يستوجب التدليل عليه.
ولعل من طرائف الأحلام أن يصادف -مثلاً- أن أستجدي في منامي بعض أصدقائي، وأطلب منه شيئاً أراه في يده وتصبو نفسي إليه، فيأبى علي ويشيح عني فأجد في نفسي من مرارة الخيبة وإخفاق المسعى ما يثير في قلبي زوبعة سيهوجاً من المقت له والحقد عليه واستبدال صداقته الحميمة بعداء شديد. وهنا أنتبه من نومي متيقظاً وتجتمع مشاعري تماماً، ولكن آثار حلمي الغريب لما تزايلني فما يبرح ذلك الصديق "المظلوم" ممقوتاً في نفسي وقلبي في أشد العزوف عنه والاجتواء له حتى يعي "عقلي الباطن" كما يقول الفلاسفة. فأفكر ثم أفكر، وأفهم حينذاك أني ما كنت إلا في غرور!
وقد أكون وسناناً مستغرقاً في نوم لذيذ مريح حيث مشاعري راكدة وأعصابي مخدرة كأني محمول على جناح رفاف من الأثير وأريد وأنا في مثل هذه الحالة الممتعة أن أنقلب على جنبي الآخر فيخيل إلي حينئذ، بل يتحقق لي أني سأسقط في بئر عميقة، أو سأنحدر في هاوية سحيقة فأثب واقفاً مذعوراً حتى إذا خيل إلي أني اطمأننت إلى السلامة وأمنت من السقوط، ثاب إلي عقلي، واسترجعت ما ذهب من جأشي، فإذا المسألة كلها صورة خيالية يجسمها الوهم ويلفقها الحلم.
ولا تطمئن النفس إلى مثل هذه الخيالات العابثة إلا عندما تكون في غيبوبة تامة لا تعي ولا تشعر، ويكون العقل المميز بمعزل عنها مخلداً إلى الراحة، مستجماً من عناء التفكير ريثما تنتبه النفس وتستجمع وسائل يقظتها، فعندئذ يعاودها العقل حيث يأخذ مكانه من الرأس مستأنفاً عمله.
وقد علل بعض العلماء المحدثين الأحلام بأنها "شهوات منقمعة".. ولو أن الإنسان لا يحلم إلا بما يشتهيه ويهفو إليه فؤاده لصح هذا الرأي، وكان هذا التعليل مقنعاً، ولكن كثيراً ما يحلم المرء بما لا يشتهيه ولا يقع منه موقع الرضى والإعجاب، فقد يرى -مثلاً- أنه قد مات أو تضعضعت مكانته الأدبية أو الاجتماعية أو تلاشت ثروته المالية أو أصيب في حبيب أو نكب في أمر أو فشل في مسعى أو أخفق في أمل.
فهل هذه المصائب "شهوات منقمعة"؟؟
ويقول بعض علماء النفس إن الإنسان لا يمكن أن يحلم إلا بما شاهد في ليلته، وعلَّلوا ذلك قائلين ما معناه: إن الإنسان إذا رأى في ليلته أشياء عجيبة أو مخيفة أو محببة مما يستلفت النظر أو يستفز الشعور أو يبعث على التأمل وإمعان الروية، فإن هذه الأشياء تترك في طوايا نفسه أثراً عميقاً وتنطبع في مخيلته فلا تبرحها حتى يستعرضها في منامه مرة أخرى بفعل تأثيرها القوي.
على أن هذه النظرية لا يعقل أن تطبق في كثير من الأحوال؛ ذلك لأنك قد ترى في يقظتك شيئاً عجيباً أو مخيفاً أو محبباً، وقد يؤثر عليك ويستحوذ على لبك.. ولكن ما تكاد مناظره يسدل عليها الستار حتى يختفي تماماً من ذاكرتك وإن كان قد ركن إلى قرار بعيد من نفسك فلا تحلم به في هجوعك وإن كنت تكثر من ذكراه وتستعيد من صوره في يقظتك.. وقد تحلم بالشيء العهيد الذي مضت على حدوثه سنون طويلة في حين لا تعرف أي سبب في بعثه من رمسه وإعادة ذكراه القديمة التي محاها الزمان وسحب عليها أذياله.
والأحلام لا تكون طريفة ممتعة حقاً إلا إذا ناقضت الحقيقة تماماً؛ فمن مناقضتها للحقيقة تتكون مفارقة مضحكة، وقد يذهب الحلم في خياله الوثاب إلى مدى بعيد كأن يمثل لك أشياء لا يمكن أن تعقل ولا يمكن أن تدخل في حيز إمكان تصديقها والتسليم بها، فالحلم بهذه المثابة يزجي إليك صوراً رائعة وأطيافاً عجيبة من مخلوقاته التي لا تحصى والتي لا تمل مشاهدتها ولا يسأم استعراضها، وقد يكون أحدنا قعيد داره لم يبرحها إلى غيرها ولم يطوِّف في الآفاق ولا يعرف شيئاً عن الأمم والمدن والبحار إلا ما يقرؤه في كتب الجغرافيا ومذكرات الرواد وأسفار التاريخ، فيخيل إليه حلمه العقيم أنه غامر بنفسه وخاض العباب وتجشم الصعاب وجاب القارات كلها نائيها ودانيها وشام من الشعوب والعواصم والمناظر الطبيعية ما لا يخطر على البال ولا يدور في الخلد ولا يمكن أن تحققه الأقدار.
وعلى هذا النمط الفذ الغريب تكون الأحلام المدهشة التي تسمو بالنفس إلى فضاء خيالي شاسع يقصر الإدراك عن تصوره.
غير أن الشيء الوحيد في الأحلام الذي يجب أن يسترعي النظر ويدعو إلى التفكير والتأمل هو أن يتساءل المرء منا في نفسه:
ماذا تكون حالته لو أن كل ما حلم به في سباته يتحقق له في يقظته من خير وشر وحسن وقبيح؟؟
هذا السؤال لا يحسن [أن] (2) يجيب عنه إلا من أناخت عليه الأحلام بكلكلها ولقي منها عناء شديداً، ولا شك أن الناس ستختلف حظوظهم فيها، فمنهم شقي وسعيد، وعسى أن أكون أنا والقارىء الكريم من السعداء، وإنا لنقنع من السعادة بطيفها في المنام، فإن في سعادة الأحلام بعض العزاء لمن شقي في يقظته وانتابه البؤس في حياته.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :388  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 101 من 182
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ عزيز ضياء

[الجزء الرابع - النثر - مقالات منوعة في الفكر والمجتمع: 2005]

أحاسيس اللظى

[الجزء الثاني: تداعيات الغزو العراقي الغادر: 1990]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج