شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
صورة (1) ...
لم يكن الإلحاح من عادتي، ولكن دُفعت إليه دفعاً، فماذا أصنع؟ وقد اضطرنا الهجير واللغوب بعد طول السير والسدى أن نستضيف بدواً وجدنا مضاربهم على قيد أمتار منا وأنخنا رواحلنا وعقلناها وتوكلنا وارتمينا في ظل هذا الخباء المصنوع من الوبر الأسود، وجاءتنا فتاة ورمت إلينا ببعض الفراش وشيئاً من القهوة والحطب وقالت: اصنعوا قهوتكم كما تريدون، وسأصنع غداءكم إلى أن يأتي "ماجد".
ففهمنا أن ماجداً هذا هو رب البيت -لشد ما كنا أذكياء- وقلت لها: يا أمة الله إنا نريد لبناً.
قالت في حسرة وخفر: ومن أين لنا باللبن، ولستم في وقت صبوح أو غبوق، والماشية بعيدة في مرعاها على هزال فيها وجدب في مراعيها.
واستأنفت أقول وكأني أناجي نفسي: كلا، لا بد من لبن مهما يكن الأمر.
وسمعتني، فتنهدت ومضت.
كلا... لم يكن الإلحاح من عادتي، ولكني دفعت إليه، فقد ألهبنا الصيف، وأسعرنا الحر، وأحسست أن بطني يكاد يغلي، وأصبحت ضنيناً بلعابي أزدرده وأمتصه ولا أتركه يتجاوز لهاتي فآنس له مثل وقع القطرة الباردة من المطر ولكن في فلاة واسعة.
وأفادني أحد رفاقي بأن اللبن بارد جد بارد ولن نجد ما هو أجدى منه في مثل هذا الحريق المستعر، واصطدت كلمته كما يصطاد القط فأراً بعد سغب وإجهاد وألححت في طلب اللبن هذا الإِلحاح السخيف، وتركت المسكينة تذهب تستجدي جيرانها في حياء وانكسار لتسعفنا باللبن.
ومعلوماتي الصحية لا يعتمد عليها لضآلتها، فإني ما أزال حتى اليوم أعتقد أن اللبن بارد كالثلج، فوق اعتقادي أنه أبيض كالرخام، وسواء عندي أصح هذا -طبياً- أم لم يصح، فإن ذلك لا يغير من اعتقادي أبداً.
وجاءت باللبن فكأنما جاءت برأس كليب وما رأس كليب؟
فشربنا وابتردنا، وجاءت بتمر فأصبحنا تامرين لابنين، وسكتت عصافير بطوننا عن الزقزقة بعد الشبع والري، فأمكننا عندئذ أن نتثاءب ونتمطى، ونلمس بطوننا ونمن عليها -والمنة لله- ونربت على جوانبها فكهين.
ونهضت بعدئذ فصنعت لرفاقي قهوة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين والشاربين على السواء.
وطفقنا نتضاحك ونتعابث إلى أن أتى "ماجد" وكان هو -حقاً- رب البيت، ألم أقل لكم إنا كنا أذكياء؟ فرحب ما وسعه الترحيب، وضحك لنا كأنه يعرفنا منذ سنين، حتى لقد حككت ذاكرتي محاولاً أن أعرفه، ولكن ذاكرتي كانت جرباء التذّت بالحك فقط ولم تهدني إلى معرفته.
وذبح وسلخ وطبخ، فأكلنا وشربنا خير مأكل ومشرب، وأخذ ماجد يحدثنا آنق الحديث، ويباسطنا أحسن المباسطة، فكأنما نحن كنا مضيفيه المرزوئين وكان هو الضيف الطارق.
ثم انطلقنا إلى رواحلنا فحللنا عقلها واستوينا على أكوارها وذهبنا نخب ونوضع.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :716  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 104 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

محمد سعيد عبد المقصود خوجه

[صفحة في تاريخ الوطن: 2006]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج