شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
بَطل الأبطال
للأستاذ عبد الرحمن عَزام
عمل مشكور حققته رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة في قيامها بإعادة طبع هذا الكتاب للأستاذ المرحوم عبد الرحمن عزام عن "بطل الأبطال" محمد صلوات الله عليه!
والكتاب في أصله أحاديث قيمة أرسلها المؤلف عن طريق المذياع، تحدث فيها عن بعثته صلى الله عليه وسلم ودعوته للدين الحق.. وعن شجاعته ووفائه، وزهده، وقناعته وتواضعه وتعبده وعفوه وصفحه وبره ورحمته وفصاحته وبلاغته وحسن سياسته وحكمته في تصريف الأمور، وعن أثر الدعوة المحمدية في الفرد والجماعة، فأبان للناس -كما يقول المرحوم الشيخ المراغي في تقديمه للكتاب- أروع ما عرف البشر من سيرة.. وأجمل ما وعى التاريخ من خلق.. وأعلى ما روت الأيام من عظمة: عظمة النفس المستمدة من صميم القلب، ومكنون السرائر، العظمة التي لا يكسبها الإنسان بماله أو سلطانه، أو منصبه، أو جاهه، ولكنها مشتقة من نفسه مفطورة في خلقه لا يزيدها الرخاء وتنقصها الشدة ولا يظهرها الغنى ويخفيها الفقر.. العظمة الثابتة في نفس العظيم ثبات قوانين الله في أرضه وسمائه، والسارية في أعماله سريان إرادة الله في سننه "فلن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلاً".
يقول الأستاذ الفاضل مؤلف الكتاب: إن ذكرى الأبطال والتحدث عنهم لمن أحب الذكريات، وأطيب الأحاديث، ذلك لأنهم أعلام الهدى في تاريخ البشرية، وأنهم المنارات في آفاق الظلمات.
ومن هؤلاء الأبطال من امتازوا باتساع دائرة تأثيرهم وسلطانهم فلم تقم في وجوههم عقبات العصبية، ولا عقبات الزمن..
أولئك هم المبرزون في تاريخ الإنسانية، وأولئك هم الذين كان لإصلاحهم الخلود والأثر الباقي، وأعظم هؤلاء هو محمد صلى الله عليه وسلم، بإجماع المفكرين..
يقول فيه "كرلايل": كان مولده مبعثاً للنور من الظلمات.. ويقول السير موير: لم يكن الإصلاح أعسر ولا أبعد منالاً منه وقت ظهور محمد، ولا نعلم نجاحاً وإصلاحاً تم كالذي تركه عند وفاته.. ويقول ليونارد: إن كان رجل على هذه الأرض قد عرف الله، وإن كان رجل على هذه الأرض قد أخلص له، وفني في خدمته بقصد شريف، ودافع عظيم، فإن هذا الرجل بلا ريب هو نبي العرب..
ويروي المؤلف عن دائرة المعارف البريطانية قولها: "لقد صادف محمد النجاح الذي لم ينل مثله نبي في زمن من الأزمنة"، ثم يقول: نفر منذ صباه من عبادة الأوثان وهي آلهة آبائه، ومصدر عزتهم في جزيرة العرب كلها، وكان منذ صباه الصادق الوفي، المحبوب المبجل في قومه، فسماه قومه الأمين.
ولما وقف لأول مرة على الصفا يدعو عشيرته إلى دينه قال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً.. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.
كان قبل الرسالة أشد الناس نفوراً من الظلم، وهضم حقوق الضعفاء، فما تحمس لعمل في الجاهلية تحمسه لحلف الفضول، وهو أشرف حلف في العرب..
وفي هذا الحلف يقول محمد صلى الله عليه وسلم بعد الرسالة: لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو ادعى به في الإسلام لأجبت، فنصرة الفقير والضعيف هما أحب الأمور إلى نفسه..
ويمضي المؤلف في حديثه إلى أن يقول:
"تلكم نفس محمد، يتجلى في كل صورة من صورها حب الحق والثبات عليه.. لقد سألت مرة -ونحن في قطار في لندرة- أحد كبار العلماء المستشرقين: هل تظن أن محمداً كان يقول قولاً لا يؤمن به..؟ فقال: لا، إن أمراً واحداً لا ريب فيه، وهو أنه كان صادقاً مؤمناً إيماناً كاملاً بما يقول وبما يدعو إليه..
تلك هي الصفة التي لا ينكرها على محمد صلى الله عليه وسلم عدو ولا صديق. فالحق في ذاته هو الغاية التي دأب وراءها وخاصم وابتلى، وهاجر وقاتل لها.. والناس جميعاً طلاب للحق، أو يجب أن يكونوا كذلك، وقد ضرب لهم محمد صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى..
* * *
ثم ينتقل المؤلف إلى الحديث عن شجاعة الرسول الكريم "تلك الشجاعة المنقطعة النظير" يقول: جاء محمد لقومه بدعوة في قبولها قلب حياتهم رأساً على عقب.. لم تكن تلك الدعوة تتناول دينهم وحده، بل شملت حياتهم في جميع مظاهرها: في السياسة، وفي الاجتماع، وفي المال، وفي البيت، ولم يكن طبيعياً ولا مألوفاً أن ينكروا ما وجدوا عليه آباءهم وبلادهم طواعية فكان -إذن- لا بد لهم من رد هذه الدعوة وقهر صاحبها، ليرجع إلى الصف الذي خرج عنه.. فيعظم حرماتهم التي يعظمون..
ثم يقول: صدمت الدعوة إلى التوحيد والبعث دين قريش وعقلها فسخرت من الداعي، ثم هبت إلى الإيذاء والعدوان!
لم يكتف محمد بدعواه هذه الغريبة -في رأي القوم- بل زاد عليها أن دعا إلى تحريم الخمر والزنا والميسر والربا، وقريش لا تستغني عن هذه الأربعة ففيها متعهم، وفيها تفاخرهم، وفيها غناهم وثروتهم..
إلى أن يقول: لم يكتف محمد بالتوحيد والبعث وتحريم بعض ما طاب لنفوس القوم، بل دعا كذلك إلى غريب مستنكر لديهم، ذلك هو حق المساواة.. وهم الذين قضوا أعمارهم في التفاخر بالأحساب والأنساب، فما بال محمد يخرج عليهم بالمساواة بين السادة والعبيد ويجعل الناس سواسية كأسنان المشط.. إنها للكبيرة التي لن ترضى قريش أن تقره عليها.. قريش التي آنفت أن تسوى بالناس، فحرفت لذلك دينها، وأبت أن تقف على عرفة، وأن تفيض كما يقف الناس ويفيضون، وهي تعلم أن ذلك من شعائر إبراهيم وفرائض الحج.. قريش التي ألزمت العرب ألاّ يطوفوا بالبيت في أثواب جاؤوا بها من البدو، فطافوا عراة.. قريش التي كانت تختص بأنواع الامتياز التي جعلتها لنفسها كما تشاء.. كيف ترضى لمحمد أن يدعو للمساواة المطلقة.. وأن يقول لعشيرته: يا بني هاشم لا يجيئني الناس بأعمالهم وتجيئوني بأنسابكم..
بل من الغريب أن محمداً، وهو في بيت الرياسة من قريش، وفي طليعة الممتازين، رفض في الجاهلية ضروب هذا الامتياز، وسوى نفسه ببقية الأمة، قبل أن يكون رسولاً يوحى إليه..
* * *
لم تستطع قريش صبراً على الدعوة إلى المساواة، فبطشت بالعبيد، وقست على المستضعفين الذين وجدوا في قول محمد صلى الله عليه وسلم إنصافاً..
ولم يكتف بأن عاب أوثانها، وأنذرها ببعث وحساب شديد، وقوض جاهها، وسلطانها، وحرمها شهواتها والاتجار بالربا، وسوى بينها وبين العبيد والمستضعفين، بل قام يطلب لهؤلاء العبيد والفقراء وأبناء السبيل حقاً في أموال الأغنياء "والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم" يؤخذ منهم قسراً ويضرب عليهم ضريبة، وما كان أبغض إلى نفوس القوم من ضريبة يؤدونها مفروضة، فلما مات الرسول صلى الله عليه وسلم كانت تلك الضريبة أول ما عصوا عليه..
ذلك مجمل من القول يصور حالة المجتمع، الذي قام فيه محمد صلى الله عليه وسلم داعياً إلى الله، وإلى نظام سياسي واجتماعي بغيض إلى القوم، وقد صور ذلك القرآن في أبدع إيجاز بهذه الآية وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ (القصص: 57)..
إذا تصورتم هذا كله، أدركتم ما ينبغي لمثل هذا الكفاح من الشجاعة والصبر.. والشجاعة والصبر هما عماد البشرية، يمسكانها على الأرض كما تمسكها الجبال أن تميد بمن عليها.. وقد ضرب الأبطال والشهداء للناس أمثلة في الشجاعة هي النور في تاريخ الحياة.. ويهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم.. وقد امتحنت شجاعة معلم الأبطال صلى الله عليه وسلم طول حياته.. فما تطرق إليها وهن.. هذه الشجاعة لازمته منذ الصبا، فهو فيها المجلي في الجاهلية والإسلام.
* * *
وعلى هذا النسق من سمو البيان وإشراقة التعبير يواصل المؤلف الجليل حديثه عن أبرز صفات رسولنا محمد صلوات الله عليه فيتناول في ما يتناوله من هذه الصفات الكريمة وفاءه، وزهده وقناعته وتواضعه وتياسره، ورحمته وبره، وفصاحته وبلاغته وحسن سياسته وحكمته في تصريف الأمور، وأثره في التربية العسكرية.
في حديثه عن زهده وقناعته.. يقول: "زهده وقناعته صلى الله عليه وسلم قد ضرب فيهما المثل الأعلى للناس جميعاً: للراعي والرعية، والأفراد والجماعات، انظروا إلى العالم الذي نعيش فيه فإنه يشكو الجشع الذي أصاب أهله؛ فلا الغني قانع بآلافه وملايينه، ولا الفقير راضٍ بالكفاف من العيش..
ثم يقول: هل ترون إلاّ صراعاً بين أمم اتخذت حب المال والغلب عليه غايتها، فهو لها الأول والآخر، والظاهر والباطن؟ وهل ترون إلاّ طبقات من الأمم تتطاحن، ليس لها مطلب إلاّ السبق إلى المتاع، واختطاف بعضها ما في أيدي البعض؟
جاء بطل الأبطال صلى الله عليه وسلم والناس على مثل هذه الحال.. لا يعرفون فضلاً إلاّ للأموال والأحساب، ولا يدركون من لذة التقوى ومتاع الروح شيئاً، فضرب مثلاً من نفسه في القناعة والزهد واحتقار الدنيا".
ضرب محمد عليه السلام المثل من نفسه في فقره وغناه، وضعفه وقوته، ضربه وهو محاصر مع أهله في الشعب، وضربه وهو ملتجئ إلى المدينة، وهو يقيم دولة الإسلام فيها، وبعد أن أقامها وبعد أن ملك الأموال والرقاب في جزيرة العرب كلها، فكان يهب هبات الملوك، فيعطي الغني، ويرجع إلى داره وفراشه فيها الحصير، وطعامه خبز الشعير..
كان بطل أبطال في زهده وقناعته مثلاً كاملاً، صوّر لنا كيف يتأتى للرجل أن يعيش كريماً، يضع تسعين ألف درهم على حصير أمامه.. فينفقها جميعاً، وينام بعد ذلك على حصير يؤثر في جنبيه فإذا أرادوا أن يتخذوا له وطاء قال: ما أنا والدنيا إلاّ كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها.
وفي حديثه عن تواضعه وتياسره يقول: صفة بينة لبطل الأبطال صلى الله عليه وسلم، كانت ولا تزال على مر الأجيال بادية واضحة في طبعه الكريم، تلك هي التياسر والتواضع.. فيهما كان محمد صورة صادقة لكرامة الإنسان، يؤثرها من صميم نفسه، ولا يصطنعها مما يحيط به من مظاهر خادعة متكلفة..
إلى أن يقول: وكان محمد صلى الله عليه وسلم يكره كذلك الخيلاء والتفاصح والتأثير في الناس بالقول المزخرف، ويقول: إن من أحبكم إلي، وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقاً وإن أبغضكم إلي، وأبعدكم مني يوم القيامة، الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون. قالوا: يا رسول الله وما المتفيهقون..؟ قال المتكبرون والثرثارون هم الذين يكثرون الكلام تكلفاً والمتشدقون هم الذين يتكلمون بملء أفواههم تفاصحاً وتعاطفاً.. وكان يكره الخطيب الذي يسلب بفصاحته ألباب الناس، ويملك حواسهم، قال صلى الله عليه وسلم: من تعلم صرف الكلام ليستبي به قلوب الرجال لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً، وكان يقول: "هلك المتنطعون.. ويكررها بغضاً منه في التعمق والتفاصح.. كان كل ذلك نفوراً بطبعه الميسر المتواضع، عن التظاهر والرياء والتكلف"..
يقول السير وليم موير في وصف تواضعه وتياسره: "كانت السهولة صورة من حياته كلها، وكان الذوق والأدب من أظهر صفاته في معاملته لأقل تابعيه؛ فالتواضع والشفقة والصبر والإيثار والجود صفات ملازمة لشخصه.. فلم يعرف عنه أنه رفض دعوة أقل الناس شأناً، ولا هدية مهما صغرت، وما كان يتعالى ويبرز في مجلسه، ولا شعر أحد عنده أنه لا يختصه بأقواله وإن كان حقيراً".
وفي عفوه يقول المؤلف: عفوه وصفحه -صلى الله عليه وسلم- عمن أسرفوا في إيذائه، هو الخلق الكريم الذي أدبه به القرآن، قال تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (الأعراف: 199)، وبين الوحي معناه بقوله:  أَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَكْرَمِ أَخْلاقِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، أن َتَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حرمك، وتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ، فالعفو عند المقدرة مرآة تتجلى فيها أحسن صور النفس، ويتجلى فيها سمو المقصد، وبعد الغاية، والترفع عن الشهوات، وتبدو البطولة في أروع صورها.. ولن تجد في تاريخ الأبطال بل تاريخ البشر كلهم مثل محمد صلى الله عليه وسلم ظافراً ناجحاً، مؤيداً، يعطي من حرمه ويعفو عمن ظلمه..
ويقول في حديثه عن رحمته وبره عليه الصلاة والسلام: "جانب عظيم من جوانب شخصية محمد صلى الله عليه وسلم وهو جانب رحمته وبره الذي لا يدانيه فيه أحد".
".. كانت رحمته تسع الناس جميعاً، وكان بره يصل إلى المؤمنين والمشركين، وكان الفقراء والضعفاء أقرب الناس إلى قلبه الكبير، وعطفه الشامل.."..
".. كانت حياته موصولة بالفقراء، وكان ما في بيته ويده لهم"..
"لقد عمل محمد بما آتاه الله، وما أودع فطرته من الرحمة، على رفع شأن الفقير، وإكرامه والأخذ بيد الضعيف، وأرسل بره في هذه الطبقة، حتى قلب نظام المجتمع الذي ظهر فيه في سنين قليلة وجعل من الفقراء المستضعفين أمة دان لها المشرق والمغرب في ما بعد".
* * *
"وكان صلى الله عليه وسلم يجاهد لتحرير العبيد ولرفع قيمتهم، فلم يدخر مالاً ولا سلطاناً ولا دعوة في سبيلهم وكانت نفسه تفيض بالرحمة عليهم والبر بهم، وأظهر مثل ما كان منه مع مملوكه زيد بن حارثة الذي خير بين سيده محمد ووالده.. فاختار محمداً في الوقت الذي كان لا حول له ولا قوة، بل كان موضع أذى قريش وسخريتها، وهو الذي جعل معتوقه هذا القائد الأعلى للمهاجرين والأنصار حين وجههم لغزو الروم. فاستشهد في موقعة مؤتة.. ولما استأنف النبي غزو الروم بعد الفتح أمر شاباً ابن رقيق، وهو أسامة بن زيد هذا وهو حدث في العشرين ومشى أكابر الصحابة وأشراف قريش والنبي في موكبه"..
ويمضي المؤلف في إيراد العديد من الشواهد والأمثلة مما اتصف به الرسول الكريم من رحمة وبر وسعت العدو والصديق، والقوي والضعيف والحر والعبد والحيوان.. وفاض بها قلبه الكبير.. فكانت في فمه بشراً وفي عينه دمعاً، وفي يده جوداً، ثم يقول: "تلك الرحمة التي وسعت الجميع هي أبرز صفات محمد، وهي التي يتسابق الأبطال إليها فيردون عن هذا المدى.. ويبقى رسول الله المثل الكامل، والقدوة العظمى، وحقاً كان كما قال عن نفسه صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة" وكما قال القرآن الكريم: وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (الأنبياء: 107).
* * *
ومن أبرز صفات محمد صلى الله عليه وسلم: حسن سياسته وحكمته في تصريف الأمور.. يقول المؤلف في هذا المقام: "هذه الناحية من حياته يبدو فيها محمد صلى الله عليه وسلم مثلاً عالياً لرجال الدولة، وسترون بها ميزة على من سبقه من الأنبياء والرسل والأبطال.. ولقد كانت أكثر وضوحاً في المدينة حيث استلزمت الأحوال أن يكون نبي الأمة وزعيمها وقائدها، وحيث أخذ التشريع الإسلامي يتناول الحياة السياسية والاجتماعية بتوسع وتفصيل أكثر مما كان في مكة حيث كانت الدعوة لا تزال في بدايتها متجهة بكل قوتها إلى تعريف الناس بالله وإنذارهم بحسابه وعقابه.. ذلك الفرق بين مظهري الدعوة في بيئتين مختلفتين، جعل بعض كتّاب الملل الأخرى يحاولون أن يصوروا محمداً في شخصيتين: مكي ومدني.. يقولون هذا نبي.. وهذا رجل دولة وصاحب سلطان..
لو أن الذين يظنون هذا الظن كانوا بعيدي النظر لرأوا محمداً الواعظ في مكة هو محمد الناسك في المدينة، الذي تتورم قدماه من كثرة الوقوف بين يدي الله، وهو الذي يموت -وهو رأس الدولة- ودرعه مرهونة عند يهودي.
"لو أن هؤلاء الذين جعلوه نبياً في مكة، ورجل دولة في المدينة لاحظوا كيف وضعت نواة الدولة في أيام المحنة في مكة لما حسبوها من غرس يثرب.. بل علموا أنها نتيجة محتومة للصراع العنيف الذي دام ثلاث عشرة سنة، ونتاج للدعوة من وقت أن قال الله عز وجل: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (الحجر: 94).
وما قامت الدعوة في يثرب إلاّ على أيدي تلاميذ النبي في مكة ممن هاجروا في سبيل الله إلى الحبشة أولاً وثانياً، ومن هاجروا إلى يثرب بعد ذلك، وعلى سواعد الأنصار من أصحاب البيعة الأولى والثانية عند العقبة في مكة.
أولئك هم نواة الأمة النموذجية التي غرسها الرسول في المدينة وشاد عليها الدولة المحمدية.. ثم ظهرت "الإمبراطورية الإسلامية" على صورتها في ما بعد..
كان محمد في مكة والمدينة من ساعة أن استيقظ على صوت الرفيق الأعلى في "حراء"، إلى أن استجابت روحه لذلك الرفيق في بيت عائشة، واضح الهدف متعدد الوسيلة.. راجح العقل.. حسن السياسة..
قبل في مكة أن ينتفع بعرفها فطلب في عودته من الطائف جوار المطعم بن عدي، فدخل مكة في حمايته وهو مشرك ولذلك قبل الاستفادة من نظم أهل الأوثان، ليقهر الأوثان في مكة.. وقبل في المدينة أن ينظم أهلها ويعاهدهم، ويستعين بهم، ويقودهم إلى النصر، ليحمي نفسه وصحبه، ويقضي على الأوثان..
موهبة واحدة، ووسيلة واحدة لغاية واحدة في أحوال شتى، أخطأ هؤلاء الكتّاب في تصويرها.
وإن كان يبدو في المدينة كثير التشريع والتنظيم والتصريف لشؤون الحياة فليس ذلك برهاناً على تغيره، بل على تفوقه، وأنه فياض الموارد، خصب العقل..
فذات الرسول التي وقفت في وجه المشركين ثلاثة عشر عاماً بمكة لا تعجز ولا تهن.. ولا تيأس، هي ذاته التي فاضت في المدينة على شؤون الدنيا، فدلت على ما فيها من الحيوية والقوى التي جعلتها أهلاً للتغلب على كل معضلة في وقتها ومناسباتها..
ويتابع المؤلف حديثه الرائع في هذا الجانب من جوانب شخصية رسولنا العظيم صلى الله عليه وسلم.. إلى أن يقول:
ثلاث عشرة سنة قضاها في فم الأسد، دون أن يستطيع الأسد أن يطبق عليه أنيابه، وعشر سنين في المدينة يحاول فيها الأسد أن يمسك بالفريسة، وفي هذه وتلك يبدي رسول الله من حسن الرأي وبارع السياسة والصبر، وسعة الصدر والتدبير ما يوقع الأسد في شبكة الفريسة، فإذا ما انتهى إلى النصر الحاسم المعجز وبهت الذين كفروا.. قالوا: لو أنه لم يقم دولة ولم يقد جيشاً لكان النبي الخالص من الشوائب..
لو أن الذين يأخذون على محمد صلى الله عليه وسلم أنه لم يقتصر على حياة الوعظ، وظنوا أن الأكمل له أن يقف عند الجهر بالدعوة حتى يقتل، فكروا في مصير الدعوة نفسها، لشاركونا في الإعجاب به مرشداً، وواعظاً، ومنظماً وفاتحاً..
ثم يقول: لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم أبعد الناس نظراً وأرجحهم عقلاً؛ فمنذ أن وصل إلى المدينة أخذ في إعداد العدة لحماية الدعوة من قوم لا يحترمون غير القوة ولم يفلح فيهم النصح ثلاثة عشر عاماً.. إلى أن يقول: والحق أن محمداً صلى الله عليه وسلم في حياته بالمدينة وبقيادته للأمة، وتوليه الحكم، أدى الرسالة التي اختصه الله بها أحسن أداء.. فأرانا بالفعل لا بالقول ماذا يجب أن يكون عليه الحاكم في كل المناسبات والأحوال..
"كان في المدينة على مفترق طريقين: طريق يريده له بعض كتّاب الملل الأخرى، وبعض قصار النظر ممن يحلو لهم الكلام، ويعجزون كل العجز إذا اعترضتهم عقبات الحياة، وسخافات البشر وسنن الوجود؛ وطريق آخر هو الذي سلكه لأن الله أرشده وأعده ليكون المثل الكامل في القول والعمل.. أما الأول فهو الطريق السلبي، وأما الثاني فهو الطريق العامل. ففي الأول كان عليه أن يكتفي بالإقامة في المدينة كما كان في مكة واعظاً مرشداً، معولاً على حماية من عاهده من أهل المدينة منتظراً ما تفعل قريش، ومن حول يثرب من أعراب؛ فإن أحسنوا وتركوه في عزلته كان لهم الفضل، وإن جاؤوا فقضوا عليه كانت له الشهادة ولهم فخر النصر.. وأما الطريق العامل فهو أن يدرك هذا الخطر ويعمل على منعه ويقوم على دعوته.. مناضلاً مجادلاً مجاهداً حتى يفوز بغايته، ويضمن للذين آمنوا ونصروا والذين هاجروا معه السلامة والعزة..
لم يكن محمد من الوعاظ الذين يمرون على الحياة يلقون إلى الدنيا كلمة الخير، ثم لا ينظرون أذهبت مع الريح أم بقيت.. فهو بمقتضى رسالته ومروءته ورجولته الكاملة شخص آخر.. هو الجد في صورة رجل، والإيمان العامل ينسف الباطل نسفاً!!
* * *
ثم يتحدث عن "الناحية العسكرية في بدر" وعن "دفاعه عن حرية العقيدة" وعن "مثل من سياسته" وما كان من آثار دعوته المحمدية ورسالته الخالدة في الحياة الإنسانية عامة.. وهنا يقول:
أصبح الناس بالدعوة المحمدية سواء.. لا شريف ولا وضيع، خيرهم أحسنهم عملاً.. وسيدهم أنفعهم.. وأكرمهم أتقاهم.. يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (الحجرات: 13).. انظروا إلى محمد صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع، يعلن هذه المساواة للعرب على أنها للبشر كافة: يأيها الناس كلكم لآدم، وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى..
تلك هي الكلمة الخالدة التي كانت دستور الحكم في ما فتح العرب من الأرض فجعلت الفتح العربي بعيداً من رفعة قوم أو جنس.. فلم يصبه ما أصاب غيره من الفتوح، وبقيت آثاره خالدة في المشرق والمغرب..!
وقد عبر العلامة "هيل" في كتابه "حضارة العرب" عن أثر الدعوة المحمدية بهذه الكلمة القوية:
"إن جميع الدعوات الدينية قد تركت أثراً في تاريخ البشر، وكل رجال الدعوة والأنبياء قد أثروا تأثيراً عميقاً في حضارة عصرهم وأقوامهم، ولكنا لا نعرف في تاريخ البشر أن ديناً انتشر بهذه السرعة، وغير العالم بأثره المباشر، كما فعل الإسلام.. ولا نعرف في التاريخ دعوة كان صاحبها سيداً مالكاً لزمانه ولقومه كما كان محمد..
لقد أخرج أمة إلى الوجود ومكّن لعبادة الله في الأرض، وفتحها لرسالة الطهر والفضيلة ووضع أُسس العدالة والمساواة الاجتماعية بين المؤمنين، وأحل النظام والتناسق والطاعة والعزة في أقوام لا تعرف غير الفوضى".
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1391  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 2 من 49
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعيد عبد الله حارب

الذي رفد المكتبة العربية بستة عشر مؤلفاً في الفكر، والثقافة، والتربية، قادماً خصيصاً للاثنينية من دولة الإمارات العربية المتحدة.