شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
نظرة في الحب (1)
بقلم: أديب بارز لم يشأ ظهور اسمه (2)
ليس بين عواطف الإنسان عاطفة أبعد أثراً في حياته الفكرية والنفسية من عاطفة الحب، وهي أكثر عواطفه تعقداً وغموضاً. والناس من الحب في ائتلاف واختلاف، شأنهم فيه، كشأنهم في مذاهب الحياة وألوانها، ونظراتهم إليه متعارضة تارة، ومتفقة أخرى.
ويستحيل على الباحث في الحب أن لا يكون موضوعه الجمال وتأثيره، لأن صلته بالحب من أوثق الصلات وأؤكدها. ولكن بعض المفكرين يعتبرون الجمال صفة من صفات الحب العارضة، يجوز أن يتجرد منها، وأن يبقى بعدها حباً حقيقياً لا ينحرف في شيء عن مسلكه الطبيعي في صميم الحياة، وأعماق النفوس. وقد يستشهدون بولع الإنسان بأشياء في الطبيعة، وأشياء من الفنون، أو بحبه صوراً لا يجدون للجمال أثراً فيها. وهذا الرأي خليق بأن يكون صواباً، لو كانت الحياة في أفكار الناس وميولهم تسير على قاعدة مطردة، وقياس معين، أما والجمال نفسه اعتباري؛ ومياسمه والإحساس به، وتذوقه، مما لا يتهيأ اتفاق الناس فيه، وإجماعهم على أمثلة ومعايير خاصة له، لا يند فيها مثال عن مثال -فإن من السهل اكتشاف الضعف والاضطراب في هذا الاعتبار.
والجمال منذ كان، موضوع الحب، بل شركه المنصوب، وشباكه المبثوثة، والتأثر بالجمال قد يكون إعجاباً هادئاً، وتقديساً صامتاً، أو حباً ثائراً عنيفاً. ومن لا يرى آثار ذلك الإعجاب الهادئ في الرسوم والتماثيل والشعر والموسيقى، مولولة؛ نائحة، وباسمة طروبة، كما يراها في دموع العشاق، وابتساماتهم، وفي سعادتهم وشقائهم؟؟..
والناس يجهلون من أسرار الحب وبواطنه، ما يجعلهم يفيضون عليه من صور القداسة والجلال والخيال ألواناً خلاّبة. فلندعهم يقدمون إليه القرابين، ويهيمون في آفاقه وظلاله الساحرة، ولننظر إليه نظرة مجردة، لا ندعي فيها فضل الابتكار والسبق، ولا نزعمها تقليداً أو نقلاً، بل تقول إنها نظرة نشأ الإحساس بها في العقل والنفس، وألقت عليها نظرات الناس وتجاريبهم ضوءاً سابغاً، وقامت من تجاريبنا الكثيرة، وتفكيرنا المستقل، على أساس قوي.
والآن نسأل؟ ما هي مطالب الحب في أضيق حدوده وأوسعها؟ أليست الاستمتاع بالجمال وإرواء العواطف بتذوقه، والاستغراق فيه، والشعور بامتلاكه؟ فهذا الميل إلى الاستمتاع بالجمال، والهيام به، رمز صريح إلى الحس الجنسي في الإنسان.
ونعتقد أن الإحساس الجنسي سائق الحب الخفي، وحافزه الملح.. ويخطئ من يظن أنه لا يتخذ في سيره إلاّ اتجاهاً واحداً لا يتحول عنه أو يخطئه، وفي نظريات علم النفس ما يرد كثيراً من عواطف الإنسان وميوله، واتجاهات ذهنه إلى الغريزة الجنسية وحدها.
قد يكون من الصعب أن نعتقد، أن حب الموسيقى رغبة جنسية متحولة عن طريقها المعروفة وقد يجد الكثيرون في أشباه هذا القول فلسفة غامضة، أو خيالاً عميقاً، وهي في الحقيقة نظريات ثابتة تستمد قوتها وصحتها من الواقع المتكرر، والدراسة الدقيقة.
ولسنا نغض من قداسة الحب بهذه النظرة، ولكن نريد أن نصحح بها وهماً شائعاً، حتى بين الطبقة المستنيرة، ونعلم أن طهارة الحب ونزاهته لا تحتاجان إلى أدلة تثبت وجودهما في حياة الإنسان منذ وجدت الدنيا إلى أن تزول.
وفي رأينا أن الذي يدفع الأفكار إلى رفض هذا الاعتقاد، أن مطالب الإحساس الجنسي محصورة عندها. في صورة واحدة لا يمكن أن تعدوها إلى سواها. وهذا خطأ غريب. ويضاعف شعور النفوس بشذوذ هذا الرأي خفاء مطلب الإحساس الجنسي في نفوس المحبين ورغباتهم. ومن المحقق أن خفاء الشيء ليس دليلاً على عدمه. وعاطفة الحب عندما تطغى على المحب تلهيه عن كل ما عداها فيستغرق فيها استغراق من لا يحس بأن في الحياة شيئاً يعنيه بعد هذه الصورة التي تجذبه إليها دواعٍ قوية منها ودواعٍ قوية من نفسه.
ونظن أن الحس الجنسي -في أصدق صور الحب الطاهر- لا يفتر عن تحقيق رغباته الطبيعية بوسائل صريحة أو خفية، ورب فترة يستهوي العاشق فيها خيال لذيذ، أو ذكرى مطيفة أو منظر مستعاد، أو موقف ماثل، تكون في مجموعها وتفاصيلها مطلباً جنسياً يحققه الخيال في أبسط صوره وإرواءها لظمأ النفس ونزوعها.
ولا ينكر أن الجسد أول مطالب الحب والهيام، وقد يهيم الإنسان بفكرة أو بمبدأ، ولكن هيامه لا يكون حباً ومصدره القلب، والأرجح أن يكون غراماً فكرياً، ما تخشى أن يحتج علينا به معترض، فالجسد مصدر الإغراء، ومرآة تجلو لعين عاشقها أسباب الفتنة، وما نحسب أن عاشقاً، يكتفي من تذوق الجمال وطلابه وامتلاكه، بوقفة المتأمل المعجب، تكفيه النظرات يخيلها فيه، ويطلقها حوله، كما يفعل أي إنسان أمام تمثال بديع لا تبلغه يداه.
وإذا كانت نظرة العاشق واستغراقته تحقيقاً خفياً لمطلب الغريزة الجنسية، فأولى أن يكون العناق والتقبيل تحقيقاً أوفى له. وما نجد دليلاً على صحة هذا القول أبلغ من خفوت عاطفة الحب، أو هدوئها، كلما كانت أسباب الاتصال فيه أشفى للعاطفة، وأنفى لنزوات الوجد والقلق.
وقد يظن العاشق المدله أن مجرد الإيمان بأن مرد عواطف حبه، إلى الغريزة الجنسية، خروج بالحب عن أقدس معانيه وأطهرها، فتراه يزور لنفسه دائماً مطالب غريزته متخذاً لسترها أدخل الصفات في الروح، وأبعدها عن مطالب الجسد. ولكنه في هذا إنما يعبر عن مقاومة عنيفة لإلحاح غريزته الخفي، وإنما يقاوم بعقله وإرادته دوافع نفسه وطبيعته.
ولسائل أن يسأل؛ أفلا يعد الكبح والمقاومة لإلحاح الغريزة ودوافع النفس فضيلة تقي الحب شر الحيوانية الشرهة؟ ونقول كلا! لأنه إنما يعبر بهذا الكبح عن حرصه الشديد على دوام لذة الحب ووحيه وخياله، فشأن الاستجابة لمطالب الجسد أن تنتهي بالحب إلى درجة من الفتور والكلال، يحرم معها أقوى دواعيه، وحوافزه، وأضمنها لبقائه، وأعونها على تجديد اللذة، وتلوين الخيال. وقد كان يكون فضيلة لو اقتصر على رياضته للنفس وكبح الشهوة في مطلب لا تتطلع من ورائه النفس إلى مستقبل ممتد، ولذة مقبلة، ترجو دوامها واستمرارها.
والحب على أن مرجعه الغريزة الجنسية، لا تسلكه نسبته هذه في عداد الرذائل؛ فهو أدق مظهر لأعمق معاني الأنانية في الإنسان. وأول صفاته الميل إلى الاستئثار بالمحبوب والغيرة العمياء عليه، ولكنه إلى ذلك مجلى التضحية والإيثار في أكثر المعاني منافاة للأنانية ومجافاة للمنطق.
وبعد، فهل ترانا وفقنا بهذه النظرة المحدودة إلى جلاء غامض، أو فك مغلق، من أسرار الحب؟ وهل ترانا أرضينا النفوس التي اعتادت أن تقيس خوالجها بمقاييس عواطفها ونزواتها؟ أم ترانا أرضينا الواقع والعقل فقط؟...
وإنّا لنخشى أن تكون نظرتنا مثار جدل. فما لنا على احتماله قدرة. وإنا لنرجو أن تمر مر النسمة الضعيفة لا يشعر بها إلاّ مكدود مرهق يترقب مثيلاتها، ولا يواتيه نشاطه على الصيال.
مكة
 
طباعة

تعليق

 القراءات :466  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 18 من 71
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج