شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
دُرْ بالدولاب..
أو دعه يدور بك!
وهذه إحدى رسائله الفلسفية إلى صديقه الأستاذ محمد عمر توفيق وزير المواصلات السعودي والأديب المعروف.
أخي محمد عمر:
الكلام على الحياة وعينها بهذا الأسلوب في رسالتك اليوم كلام معقول أو هو أولى بأن يكون الكلام "الدكر"!
هذه هي الحياة يا صديقي، ولا شيء بعد ذلك دوامة إعصار.. دولاب دائب الدوران، قطار مزدحم بما ومن تعرف وتجهل، من الحوادث والحركات والناس، يسرع تارة حين يكون الإبطاء ضرورياً، ويبطئ عندما ينبغي له أو لك أن يسرع، لا يبلغ بك حيث تريد بالضبط ولا بالتقريب! وإنما حيث توجهه التحويلات.. وهو مختلف عن نظام القطارات بأنه يمشي إلى الوراء أحياناً.. ويكتفي "بالكسكسة" أحياناً، وقد "يبلّط" بك حيث يكون "التبليط" خطراً غير محمود العاقبة ولو بتفويت غرض من أغراضك.. وفي أنك لا تملك النزول منه عندما تشاء، وإذا بدأت الرحلة عليه، فلا بد أن تتمها.. وتمام الرحلة ما يراه هو، لا ما يراه راكبه.. فإذا "بلّط" بك دون غايتك أو بعدها فقد حقق بما أخلف منها، غاية آخرين.. الراكب فيه على المجاز، مركوب على الحقيقة أو الراكب فيه، مركوب عليه في الوقت ذاته.
وتنظر يمنة ويسرة وفوق رأسك، وتحت قدميك.. فلا ترى إلاّ أمواجاً آدمية تتدافع متقابلة ومتدابرة ومتواكبة أو متقاطعة.. لا عرف ولا نكر.. وهناك صرخات تبدد السكون أو تهتز بعض المشاعر في بعض الراكبين المركوبين، ولكنها لا تهز القطار.. ولا تسرع به، ولا تبطئ، ولا تقف به.. إنها صرخات الضحايا يتكفل بها الهواء كما يتكفل بهم التراب..
وصرخات أخرى رتيبة هي زفرات الشاكين.. المنكرين.. المكلفين بأن يعرفوا لهذا.. أو لكل شيء فيه، معنى.. تذوب في هذا الصخب بين عجلات القطار وقضبانه، وبين هدير هذا البحر الآدمي المضطرب.. هي صرخات الذين ضاقوا بهذا العبث.. وبهذا الجنون، إنهم يصرخون.. ولكنهم يسيرون بالسرعة نفسها التي يسير بها القطار.. ولو سكتوا لما تغير شيء.. ولكن كيف يسكت المتألم.. إن الصراخ صوت تفجر الآلام والمتاعب في النفس.. أو في العقل.. لماذا لا يكف القطار عن الجلجلة؟
هذا هو مبدأ الرحلة، ومداها، وختامها.. وليس هناك شيء آخر فيها.. إنه قطار يعيش فيه الناس إلى أن تنتهي أعمارهم.. قطار كبير يجر وراءه عربات لا عدَّ لها، بعضها محجوز.. يدخله من تشفق الحياة على أعصابهم المترفة من الضجيج والزحام.. والاختلاط المزهق.. يعيشون فيه.. وينسلون نسلاً سعيداً يرث هذا الميراث فينقمون به أو يحرمونه إذا انتقلوا إلى عربات أخرى.. لماذا؟ ينبغي أن لا تسأل؟ إنه منطق القطار.. تبدأ الرحلة عليه في عربة محجوزة.. فيدفعك الضغط.. أو يثني غيره.. إلى عربة من عربات الخليط.. لا تصرخ.. إن الصراخ لا يجدي.. أو لا تسأل.. فليس ثمّ من يجيب.. ولا من يقف ليصغي.
هذا كل ما في الأمر.. أنت سائر على كره أو رضا.. وسائر ما وقفت أو تحركت.. بقوة الدفع من خلفك وجانبيك فأنت مدفوع.. ولكنك دافع.. تدفع ما أمامك.. أنك دافع، ولو لم تتحرك.. فعليك أن تعمل إذن، عملاً يعطل الدفع من ورائك.. وعملاً يضع الطريق لك أمامك.. وستظل دافعاً مدفوعاً.. إنك لا تلقي بنفسك من النافذة حتى يدفعك إليها ضغط القطار ثم إلى خارجها.. فإذا أنت قد انفصلت من القطار. إنها مأساة لا يقف لها القطار.
هذا مبدأ الرحلة.. ومداها وختامها.. إكراه لا خيار فيه.
عرفت من خطابك هذا الأخير أنك في حالة صراع.. لقد عرفت بالتجربة أنه لا حل لمثله إلاّ بأن تسلم جسمك للتيار يمضي بك.. إنك لن تبلغ ما تريد بمجرد الجهد والإرادة ولكنك واصل على كلِّ حال سليماً أو معطوباً إلى دون ما تريد.. أو فوق ما تريد.. أو ما تريده تماماً!.. أما ما تريده بالضبط!.. فلا -لأنه السعادة التي لا يستحقها النقص لبشري.
إن الإحساس رزء.. ولذا كانت زيادته.. جنوناً.. أو شذوذاً.. أو انحرافاً والإنسان مرتبط بمصيره من أول الخط إلى آخره.. كما يرتبط راكب القطار به، في المثال.. فإذا لم تنقص كمية الإحساس -إن جاز التعبير- فلا أمل لذي إحساس في الراحة.
إني أعرف طريقة واحدة للتراجع بهذه الكمية تدريجياً.. هذه الطريقة.. هي العمل الثقيل.. الكالح.. المغثي.. بآليته المميتة.. وبوارداته الكريهة المريرة، وبامتحانه القاسي العنيف للجسد، وللنفس، وللعقل، وللمشاعر، والوجدان.. إنها عملية تبليد تنتهي إلى التبلّد.. ونسيان الفقدان.
إن عمل الإحساس شبيه بعمل الذاكرة.. متى فقدت الذاكرة زال ما يؤلم.. ولم يبق ما يفرح.. وها أنت وقد أُتيحت لك التجربة.
إن العضلات لا يضفرها إلاّ النصب الشاق الكريه.. لكل شيء ثمن وثمن الراحة القناعة والقناعة حرمان!!
لقد تقدمت أساليب الاقتصاد والتبادل في ماديات الحياة.. أما في معنوياتها.. فما تزال الطريقة السائدة هي المقايضة تريد الخيال الذهبي المجنح؟ حسناً.. أتقايض عليه بنصيبك من الواقع؟ شيء بشيء.. على القاعدة الفطرية: الأقوى رغبة.. أضعف موقفاً: إنه العرض والطلب، إنه القانون في نظام الحياة الواعية.
والآن أتراني قلت شيئاً يسر أو يقنع، أو يحل إحدى عقد الصراع القائم في نفسك؟ كلا.. إنما هي وصفة من وصفات (دبل) صديقنا القديم الثرثار فما عليك إلاّ أن تصفح عني.. وتدع القلق.. وتبدأ الحياة.. در بالدولاب أو فدعه يدور بك. أأزيدك أم أقف؟.
ليتك تعيد إليَّ هذه الرسالة لأقرأها فإني الآن أكتبها ولا أقرأ منها حرفاً. أكتبها كما كنت أتكلم إليك في جلسة من جلساتنا التي ضيَّق مساحاتها أنك بعيد.
إن رأسي ينوء.. والضوء الذي أكتب الآن عليه.. يتراقص ويتقطع في عينيّ.. والغرفة تميد بي كما تميد أمواج البحر بالغريق. ولولا هذا لمضيت بك على هذه الوعورة إلى غير غاية.
أيها الصديق.. كان الله لك فيما تعاني في نفسك مما فيها ومما في خارجها.. إن الحياة تسمم طويل الأمد لكل من يحمل صك آدميته في يده وهبنا الله الثبات.. ووقانا الزلل.. وقادنا إلى الهدى وأنار ضمائرنا بالصلاة، وأنقذنا من مهاوي الضلال للطاعة، وكتب لنا سلامة العقبى، وخاتمة الخير، مؤمنين به، غير راضين عن أنفسنا وأعمالنا، مؤمنين برحمته.. وعفوه.. وكرمه.. وغفرانه.. إيماننا به، آمين.
وبعد فما أود أن يحول استغراقك في مسؤوليات عملك بيني وبينك فاجعل الصلة بيننا عادة تحمل نفسك عليها حتى تعتادها.. في كل أسبوع مرة أو في كل شهر مرة.
وإلى اللقاء يا صديقي.. وأعف عني في ما أثقلت عليك به من هذا الهذر.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1024  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 42 من 169
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

ديوان زكي قنصل

[الاعمال الشعرية الكاملة: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج