شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة فضيلة الدكتور محمد لطفي الصباغ ))
- الكلمة الآن لفضيلة الدكتور الشيخ محمد لطفي الصباغ:
- بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
الحقيقة أن من يأتي دوره في الكلام متأخراً يجد أن السابقين قد خطفوا منه الكثير مما كان قد زين في نفسه أن يقول، لكنني كتبت بعض الخطرات وأستميحكم معذرةً إن وجدتم فيها تكراراً ولكن على كل حال سترون اختلافاً في الأسلوب، ولقد كنا قبل أن نأتي إليكم كنا في زيارة الشيخ علي الطنطاوي وقد رجانا أن نعتذر إلى أخينا الأستاذ زهير لأنه لم يستطع أن يحضر بجسمه قال: وإن كنت أنا حاضراً معكم بقلبي، نسأل الله تعالى أن يبارك في عمره وأن يحفظه للمسلمين.
أيها الإخوان الكرام: أبدأ كلمتي بأني أحمد للأستاذ الشيخ عبد المقصود هذه السنة الحميدة في تكريم الرجال فالوفاء للرجال وتكريمهم وهم أحياء نبل مشكور وفضل غفل عنه كثير من أصحاب الامكانات المادية والفكرية، فكثير من العلماء الأفذاذ والمفكرين الأجلاء الذين أدركناهم لم يعرف الناس فضلهم إلا بعد أن طواهم الموت وغاب كثير من معالم حياتهم معهم؛ فهذه السنة الحميدة تستحق أن تذكر ويحمد لصاحبها فعلها..
وفي هذا التكريم إضاءات لحياة كثير من هؤلاء الكبار الذين تركوا أثراً في حياة الناس، وبياناً في جوانب حياتهم، إن هذه الأمسية في نظري وأمثالها سجل لتراجم رجال كانوا أهلاً لأن يُكرموا وإن أعرف الناس بحقيقة الرجل هو نفسه فعندما يتحدث عن نفسه أو يجيب عن الأسئلة التي تقدم إليه معلومات هي في غاية الأهمية، وهذه المعلومات هي أصدق ما يمكن أن يقف الباحث عليه في حياة الرجل، ولا تفقد هذه المعلومات دِلاَلَتها حتى لو أن المسؤول جانب الصراحة وتهرب من ذكر الحقيقة والتوى إجاباته، وأشكر للأستاذ الفاضل أن أتاح لي هذه الفرصة لأتحدث عن أخ كريم وصديق عزيز استمرت صداقته نحواً من نصف قرن ولا تزال.
أيها الإخوان الكرام إن الحديث عن الكبار بحضورهم أمر صعب أن ألزم المتحدث البعد عن المجاملة، فكيف إذا كان الكبير زهير الشاويش، إن الحديث عندئذ صعب جداً ذلك لأن صاحبنا رجل مخيف، مخيف حقاً، سمعتم أنه لم يستطع الجن أن يقف أمامه، لست أنا الذي يقول هذا بل أنقل ما سمعته من صديقه الحميم وصديقي الدكتور عبد الرحمن الباشا رحمه الله، فقد قال مرة: والله إني لأخاف من صاحبك زهير وحق له أن يخاف، إنه مخيف لا على نحو ما ذهب إليه الشاعر:
أهابك إجلالاً وما بك قدرة علي..
لا.. ولكنه مخيف لأنه به قدرة على البطش، ومع ذلك سأغامر الليلة وأحدثكم عنه حديثاً بعيداً عن المجاملة ملتمساً الحماية من جمعكم الكريم، وأحسب إن شاء الله سأكون من الآمنين.. عرفته شاباً مطربشاً يضع نظارةً نحيف الجسم ممشوق القامة كثير الحركة متقد النشاط لا يكاد يستقر في مكان، وكان يمشي كثيراً وقد يستخدم في تنقلاته وسائل المواصلات المعروفة في ذلك الحين كالترام والعربة التي تقودها الخيول، وقد جمعتني بهذا الأخ الكريم أكثر من علاقة، فأنا وهو من أبناء حي واحد هو حي الميدان، من أحياء دمشق، نشأنا فيه، وحي الميدان حي المروءة والكرم والجهاد والتدين يعرف أبناؤه بعضهم بعضاً معرفة وافية.
وكانت كل حارة من حاراته كأنها أسرة واحدة، فرح واحد منهم فرح للجميع، وحزن واحد منهم حزن للجميع، يتعاونون ويتكافلون ولا يحس الواحد منهم بغربة، إذا توفي واحد من الحارة سارع أكثر من واحد لفتح داره لاستقبال المعزين ويشاركونه حزنه ولا يتظاهر أحد من الجيران بالفرح ولا يفتح مذياعاً في تلك الحارة على غناء أو موسيقى، وإذا غاب رجل عن بيته، تفقد أهل الحي أخاهم حتى يعرفوا حقيقة غيابه، وإذا سافر أحدهم قام جيرانه برعاية أهله في كل ما يحتاجونه، وإذا مر غريب راقبته عيون يقظة مؤدبة فإن كانت له حاجةٌ سعوا في مساعدته وإن كان مريباً وقفوا في وجهه وأخذوا على يديه، وأحسب أن هذا الوضع الاجتماعي كان في معظم بلاد المسلمين قبل أن يتأثروا بحضارة الغرب.
والعلاقة الأخرى التي كانت سبباً في توثق العلاقة بيننا التزام كل منا بالإسلام والحمد لله، ومحاولة الدعوة له والنظرة للأمور من خلال مبادئه، وقد توثقت صلتي بوالده أبي أحمد رحمه الله الذي كان وجهاً من وجوه الحي، وقد قامت بيني وبينه صداقة على التفاوت في السن، ولا أذيع سراً إذا قلت لكم إنه كان يشكو إلي ابنه زهيراً المحتفى به، يشكو إلي مشاكسته وبعض تصرفاته ظناً منه أنني قادر على تقويمه، ولكن ذلك كان حسن ظن من الوالد فقط، لأن صاحبنا كما سأذكر لكم كان مشاكساً حقاً.. ويستعصي على الانقياد لأحد، وكأنه يتمثل قول ذي الإصبع العدواني في نونيته:
إني أبي أبي ذو معارضة
وابن أبي أبي من أبيين
لا يخرج القسر مني غير مأبية
ولا ألين لمن لا يبتغي ليني
ولعله سيذكر لكم هو أنه بسبب هذه المشاكسة لقي عقوبة من أستاذنا الطنطاوي حفظه الله، كان صاحبنا منذ نشأته متميزاً بصفات ينفرد بها، فطلاب المرحلة الابتدائية عادة يشترون بخرجياتهم التي يأخذونها من آبائهم بعض المآكل والألعاب، ولكن صاحبنا كان وهو في تلك المرحلة يشتري الصحف ويطالعها وقل ما من كان يقرأ الصحف من الكبار في ذلك الوقت، وقد وسعت هذه القراءة مداركه، فكانت نظرته للأمور تتصف بالشمول، وكان حفظه الله بالإضافة لاتصافه بالمشاكسة متمرداً على كثير القيود التي يخضع لها أقرانه، ويبدو أنه ضاق ذرعاً بالاقتصار على المدرسة وهو يريد ما هو أوسع منها وأشمل، وقاده هذا التمرد إلى الخروج من قيودها وطلب العلم أفق أرحب وإن كان يتعلل هو بعلل أخرى ولكنه التمرد..
إنكب يقرأ ويطالع وكانت قراءاته متنوعة في السياسة والأدب والتاريخ والتفسير والحديث والفقه والفرق والشعر والطب، وبدأ منذ وقت مبكر من حياته ينشىء لنفسه مكتبةً وشرع يتردد على حلقات العلماء؛ ولكنه لم يكن مريداً لواحد منهم ولا مداوماً على ذلك التردد، والشيء الذي لم يكن يتخلى عنه هو المطالعة الدائمة، ومهما يكن من أمر فإن هذه الصفة التي سميناها التمرد التي كانت ولله الحمد في دائرة الشرع لا تجاوزه ما زالت حتى بعد أن أدركه الكبر، وكان إذا علم أن أحد إخوانه يبحث في موضوع سارع إلى اهدائه أو إعارته ما يحتاج إليه من الكتب ولو لم يطلبها، إني لأذكر أنه أهدى واحداً من كبار فقهاء الشافعية في بلدنا كتاباً ثميناً كان يتطلع إلى إقتنائه ولا يجد السبيل إليه، وهو السنن الكبرى للبيهقي الذي قيل فيه إنه ما لأحد جاء بعد الشافعي إلا وللشافعي في عنقه منة عليه إلا البيهقي فهو الذي له المنة، لأنه في كتابه هذا جمع الأدلة المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته للأحكام التي قررها الشافعي وتلامذته.. أهداه إياه وهو لم يطلبه منه..
وأذكر على سبيل المثال أيضاً أنه أهدى أحد إخوانه كتاب صحة الأسرة للدكتور أحمد حمدي الخياط رحمه الله عندما علم أنه مقدم على الزواج، وكم بذل من المال والجهد لتأمين مخطوطة لباحث يبحث في موضوع يتصل بتلك المخطوطة، وكان يتمتع بذاكرة قوية، فقد يسمع من إنسان أنه مهتم بموضوع معين وتمضي الأيام فإذا وقف على شيء يفيد صاحبه إتصل به ودله عليه، وقد أعانته هذه الذاكرة على أن يكون سريع الجواب مستعيناً بما اختزن في ذاكرته في إفحام من يجادله والتغلب عليه.. ويمتاز المحتفى به بذكاء حاد، يشهد له بذلك كل من عرفه عن قرب وقاده ذلك إلى إعتزاز شديد برأيه وإصرار عليه، وهو صاحب دعابة لطيفة وقد يوظف هذه الدعابة لتحقيق ما يريد.. كنا في رحلة ضمتني وإياه والشيخ أديب الصالح وكنت أصغرهم سناً فشرع حفظه الله يوزع المهمات، فكان له أن يجلس لإعداد الطعام، وكلف الشيخ أديب بمساعدته في بعض الأمور البسيطة، أما جلب الأغراض وغسل الصحون والأعمال الشاقة فكان يقول: أصغرنا سناً هو الذي يقوم بهذه الأعمال وقد أرهقني هذا التوزيع، ولكنه كان بغلاف من المرح والدعابة، وكان شديداً على المنحرفين يجادلهم بالحجة والبرهان ولكنهم إن اعتسفوا خاطبهم بما ينبغي أن يخاطبوا به، ولذلك كان مخيفاً..
كان مرةً في مجلس فسمع ملحداً يهذي ويقول: إن أبا جهل يتصف بالأصالة العربية وقوة الشخصية أكثر من أبي بكر، رضي الله تعالى عنه، فما كان من أخينا المحتفى به إلا أن قام إليه يحاول إفهامه باللغة التي لا يفهم إلا بها ولا يستحق أن يعامل إلا بها وما أنقذه منه إلا أن هرَّبه صاحب الدار، وكذلك فقد كان موقفه شديداً من دجال يهودي يمارس الطب في حيناً وليس بطبيب كان يحقن الإبر ويداوي الناس لقاء أجر يسير، وكان الفقراء يترددون على غرفة استأجرها يحملون إليه مرضاهم وقد يدعونه إلى بيت المريض إن لم يستطيعوا حمله إليه، وكان هؤلاء الناس بطيبتهم يحمونه من مداهمات الحكومة التي تطارد المتطببين الدجالين ويحسنون معاملته، حتى بعد أن اغتصب اليهود بلادنا فخالف صاحبنا ما ذهب إليه أولئك الناس وكان يدعو إلى إخراجه، وقد هم أكثر من مرة في التعرض له وما أدري إن كان أصابه بشيء من الأذى أم لا..
وكانت قضية فلسطين شغل جيلنا الشاغل، ولم تكن هناك في حياتنا واهتماماتنا قضية أكبر منها، ولما أتيح للشباب أن يشاركوا في مجاهدة اليهود تقدم نفر منهم إلى ميادين فلسطين يبذلون أرواحهم للدفاع عن بلاد المسلمين التي لا يملك أحد التصرف بها وإعطاءها لليهود، وكان منهم صاحبنا المحتفى به، وكان موقف والده موقف الشهامة والبطولة والصدق فقد قدم إليه البندقية وقال: أمض في طريق الجهاد حقق الله الخير والنصر للمسلمين، وهذا نادر في أيامنا فقد كان موقف غيره من الآباء المخالفة والوقوف في وجوه أبنائهم، وذهب زهير الشاويش في كتيبة الجهاد مع إخوانه الذين استشهد بعضهم، وعاد بعضهم بعد أن دبرت مؤامرة الهدنة ودخول الجيوش العربية لغرض كان خافياً عن أنظار الناس يومذاك، ولما عاد إلى دمشق تابع مسيرة العمل العام.
ولصديقنا غرام بالكتب فمكتبته تعد من أعظم المكتبات الخاصة في بلادنا العربية، فيها نفائس المطبوعات النادرة وفيها المخطوطات والمصورات والدوريات والوثائق ذات الشأن، ومن مزاياه أنه كان يجمع الوثائق والمصورات وأحسب أنه ينفرد بتملك عدد كبير من وثائق العمل الإسلامي والسياسي في العصر الحاضر فيما يتعلق ببلاد الشام خاصة والبلاد العربية عامة، وكم أتمنى أن يفيد منها أبناء هذه الأمة فإن الناشئة يا أيها السادة في حاجة ماسة إلى أن يبصروا بحقائق التاريخ الحديث التي لا يعرفون منها إلا القليل المبتور، والإعلام المضاد ماض في خطته التي تقلب الحق باطلاً، والباطل حقاً، وتستولي على عقل الجيل والرأي العام وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وهو يبذل حفظه الله هذه المكتبة للعلماء وطلبة العلم، وما زلت أذكر أن أحد طلبة العلم نزل في قرية من مصايف لبنان فحمل إليه خزائن وملأها بالكتب التي يحتاج إليها، وكم مرة زرته في دارته ببيروت فوجدت بعض الدارسين يرجعون إلى دوريات وكتب تلبي حاجاتهم في مكتبته، وكان لمكتب النشر - وأنا سأترك هذا الكلام للأستاذ دولة - وكان لمكتب النشر الذي أقامه أولاً في دمشق ثم امتد إلى بيروت أثر كبير في إذاعة العلم وتيسيره تأييد مذهب السلف فهناك عدد من المراجع الضخمة التي كانت حبيسة خزائن المخطوطات طبعت في هذا المكتب لأول مرة، وحققت وخدمت وأصبحت في أيدي طلبة العلم، أذكر منها كتاب روضة الطالبين للإمام النووي، وكتاب شرح السنة للإمام البغوي، وكتاب زاد المسير للإمام ابن الجوزي، مع العناية بتخريج الأحاديث غالباً، وقد كان لهذا المكتب فضل في أن تخرج فيه عدد من المحققين مارسوا العمل فيه وما زالوا يعملون فيه حتى أتقنوا صنعة التحقيق العلمي وأضحى بعضهم من كبار المشتغلين في هذا الموضوع، ولم يكن في بلاد الشام قبلهم من يعمل في هذا المجال على هذا المستوى المتقن، وكان الاتجاه في تحقيق التراث هو الغالب على المحتفى به، وإننا لنرجو أن يتابع المكتب أداء الرسالة التي التزم بها وألا يعفي صاحبه نفسه من المسؤولية والإشراف بعد أن بلغ السبعين من العمر، ذلك لأن خبرة بضع وأربعين سنة لا يجوز أن تتوارى.
وأخيراً فلقد كان صاحبنا سلفي النزعة في وقت مبكر، وقد كان عوناً لنا ونحن طلاب في الجامعة على حماية مسجد الجامعة من عدوان المبتدعة، فقد أقامت لجنة المسجد، مسجد الجامعة السورية، مسجد الجامعة بعيداً عن البدع التي كانت في المساجد فجن جنون المبتدعة، كيف يقوم مسجد لا بدعة فيه، فحاولوا إرسال نفر من أتباعهم ليحدثوا فيه ما ألفوا من البدع، وبلغ صاحبنا الخبر أنهم كانوا عازمين على إثارة فتنة عمياء في المسجد، فقام صاحبنا في صباح تلك الجمعة بتصرف فيه قوة وحمية فخوف هؤلاء القوم وهددهم، وذلك عندما ذهب إلى رأس مدير من رؤوسهم وحمله المسؤولية واصطحب معه واحداً من أعضاء اللجنة دون أن يخبره بما هو عازم عليه، فخشي القوم وانطفأت الفتنة دون أن يفلحوا واستمر المسجد على ما هو عليه من الاستقامة على السنة.
وبعد فإني أسأل الله أن يبارك لأخينا في عمره وأن يمتعه بالصحة والعافية، وأن يختم لي وله بالحسنى، والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
- الحقيقة الكلمات كثيرة، وطبعاً قليلة في حق سعادة ضيفنا حفظه الله، ونتمنى على من تبقى لديه كلمة أن يختصر حتى نستطيع أن يكفينا الوقت:
 
 
طباعة

تعليق

 القراءات :510  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 144 من 187
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي

الكاتب والمحقق والباحث والصحافي المعروف.