شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(31)
ومشت طلائع الصباح في صفحة الأفق خيوطاً حمراء، وانعكست أشعتها برّاقة متلألئة على قمم الجبال في جنبات وادي مزدلفة، وبدأ ضجيج المزدلفين يستأنف حركته بعد هدأة الليل الأخيرة، وبدأت قوافل الحجاج تتقاطر مولية وجهها نحو منى، وأرتال السيارات تتعاقب مدوية أبواقها في الفضاء، وبدأ القوم من رفاق (( فكرة )) يعدون رحالهم استعداداً للازدلاف إلى منى.
عندئذ مالت (( فكرة )) على أذن سالم، وأسرَّت إليه في صوت يشبه الهجس الخافت وقالت:
- لعلّك تذكر أنني، فيما حدثتك عن نشأتي، أخبرك أن في إطلاق كلمة أبي، على فقيه القرية العجوز الذي رباني.. شيئاً من التجاوز، وأن همسة من الشك تساور بعض النفوس في قريتنا فيما له علاقة بمولدي، ولعلّه فاتني أن أخبرك، أن عجوزاً في القرية أسرَّت إلى صاحبة لي، بأنها ترجِّح أن عائلتي من مكة، وأنني وُجدت متروكة في قيعة من الأرض، في طريق القوافل المارة من مكة إلى الطائف!!
وأزيدك اليوم، أنني التقيت مصادفة بسيدة في عرفة من عائلات مكة، وأنها ذكرت لي أنها تعرف عائلة تفقَّدت ابنتها في الثانية من سنها في طريق القوافل إلى الطائف، وقد ذكرت لي عنوانها في مكة، وطلبت إليَّ أن أوافيها في منزلها في مكة، لتجمعني بهم، لعلّنا نجد في الظروف والأدلة التي تحيط بالحادث، ما نتعرف منه حقيقة الأمر.. فما الذي تراه في هذا؟ وأية فكرة تشير بها عليّ؟
أنِس سالم لحديثها، وعاطفة غريبة لا يفهم سرها، تتجاوب بين حناياه.. كان يشعر أن كلماتها تتفتَّح لها نفسه، وأن ناحية مظلمة فيه تشرق لحديثها، ورأى نفسه يضع كلتا يديه على رأسها، ويطبع عليه قبلته، ثم يربت على كتفها ويشجعها ويرجو لها أطيب التمنيات.
واستوى أصحاب (( فكرة )) على رحالهم، وصاح صائحهم بها فأناخت ناقتها وهي تميل إليه هامسة في أذنه:
- ستراني بعد هذا مخطوبة إلى من تسرك مزاياه، فكن واقعياً أكثر ممّا يجب، وأبقِ على إخائي.. إبقاءك على الوفاء لزوجك وولدك!!
ولم تمهله لتسمع إجابته.. بل كانت أسرع إلى مكانها من الرديف، ثم أشارت إليه أن يمتطي الرحل، فأبى عليها وشرع يُبدي اعتذاره عن استئناف السير معها بحجة أن له رفاقاً لا بد من البحث عن مكانهم في مزدلفة. ومدت يدها تودِّعه فوضع فيها يداً متخاذلة وأشفعها بكلمة فاترة لم تُطاوعه حروفها على النطق، ثم تركها تدلج في عير قومها، وتختلط بغمرة المزدلفين وزحامهم.
جمد في مكانه كما تجمد الصخرة في معترض السيل، لا يحس بنفسه، ولا يشعر بالزحام الذي يصطفق، والجماهير المتدفقة حوله تدفق السيول في مدارج الوديان.. لم يكن يعنيه زملاء ضائعون، وليس عليه ما يلزمه البحث عنهم، كما ادّعى أمامها، وإنما كان يعنيه ثورة مبهمة اضطرمت في نفسه، ووقدة من الحمّى اشتعلت في جسمه، وخفقة من الاضطراب، مشت في جوانحه اهتز لها كيانه، وتخبطت فيها حواسه.
- إنها تزف إليه بشرى خطوبتها ممّن تسره مزاياه، وإنها بعد هذا تريده أن يكون واقعياً أكثر ممّا يجب!.. وأن يُبقي على إخائها إبقاءه على الوفاء لزوجه وولده!! إنها خطوة جبار لا تعنيه شجون النفس، ورقّة الحساسية، ونبل العاطفة بقدر ما يعنيه الواقع.
أي واقع هذا يتجنى على سعادة الغير ويصادر هناءتهم، ويضغط على مَواطن الإِحساس من قلوبهم ويدوس بأقدامه العريضة على أفئدتهم.. ثم يتركها وليس فيها نأمة تنبض بالحياة؟! إنه واقع جلف جبار تأباه الأرض، وينكره مَن فيها!
واستولى عليه الوهن، وعاودته نكسة القلب، وشعر بضغط شديد في صدره؛ فتخاذلت رجلاه، وسقط في مكانه من الأرض هامد الجسم فاقد الحركة!
ولم يثب إلى نفسه إلاّ بعد لأي، فعجب لهذه النزوة من نزوات الشيطان.. كيف تستأنف سيرتها معه.. بعد أن نفض يده من كل ما له علاقة بضعف القلب ووهنه، وبعد أن آلى أن يحتقر العبث، ويعيش قوياً بنفسه سعيداً بزوجه وولده؟!
ومضى في طريق المزدلفين وهو يقول في نفسه:
- ليس في مثل هذه النكسات إلاَّ النزق الذي لا يليق برجل يحترم كرامته.. وليس في (( فكرة )) ما يعدو الإِخاء الصادق والود البريء، ولا في تصرفاتها ما تؤاخذ عليه كفتاة نبيلة تنظر بعين الواقع إلى علاقتي بها كزوج لأم أطفال.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :334  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 36 من 186
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي

الكاتب والمحقق والباحث والصحافي المعروف.