شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(22)
ما انطلقت من مكانها حتى انطرح على نفسه متساقطاً، وافترش الرمل بقامته منهوكاً.. وكان النسيم فاتراً رقيقاً، وصفحة السماء مزدانة بقطع من الغيم؛ تتماوج في مثل ألوان البنفسج، وبرز القمر من ثنايا سحابة دكناء، فتكسَّرت أضواؤه فوق أكناف الروابي، ورؤوس النخيل، ثم ذابت بين ثنايا السهل المترامي.. فأرسل بصره إلى مطلع القمر من الغمامة الجون، وابتدر يناجيه:
- ألك حبيب أيُّها القمر؟
وحبيبك هل يشجيك ويسبيك، فتحمل نفسك على الشجو والسبي؟
وحبيبك هل يترع لك كأس الهوى دهاقاً، ويسقيك حميا الجوى سلافاً، فيثملك وينشيك؟
إنك إذن مثلي أيُّها القمر.
ولكنك مشرق الديباجة، وضَّاء الجبين.. ولم أكن أكثر من ورقة صفراء عصف بها الريح، وأذبلها الهوى.
ألك حبيب أيُّها القمر؟
وحبيبك هل يملك عليك طيّتك؟ ويمسك دون زمامك؟ ويغريك عن موطنك؟ وينسيك أهلك وولدك؟
إنك إذن مثلي أيُّها القمر.
ولكنك مقيم جوَّاب، تنعم بالقرب أنَّى جدَّ بك السُّرى، وتهنأ بالجوار مهما شطَّت بك أعناق السحاب.
وأنت أيُّها الجبل السامق، والنجود الصامتة، والهضاب الوعرة الذرا، والكهوف الضاربة في أجواف الصخور. هل رأيتنّ في هذا التيه الفدفد ضائعاً قبلي برَّحت به الأنواء، وطوَّح به الهوى، فغدا في غير طية، وخبط في غير رشد؟..
لتبق ذكراي في معارجكم زبوراً يقرأ، وقصة تتلى، وأنشودة يحدو بها الركبان كلما ارتفع بمطيهم نجد، أو اطمأن تحتهم سبيل.
قولوا: هنا افترش الأرض ماجن أضلَّه الغي؛ وعصف به الهوى الضال.. هنا تساقط على نفسه منهوكاً لا يدري!! أسعيد هو بشجو الحبيب وإغرائه، أم شقي بضيعته وشتاته؟
واستنام لمناجاة القمر، ومضى في هواجسه وأفكاره؛ حتى تناصف الليل، فشعر أن جلبة الصاخبين في الوادي يخفت صوتها، وحسبه أحد المارة نائماً، فأقبل عليه يوقظه؛ حتى استوى جالساً، ورآهم يمدون السماط عليها جفان الثريد في منبسط السهل، فانضم إلى إحدى حلقات الأكل، وتبلَّغ ما طاب لنفسه أن تتبلَّغ، وجيء إليه بأكواب الشاي والقهوة في غرار الشاربين، فاحتسى ما لذَّ له الاحتساء، واستأنف الرقص واللعب حلقاته، فقام يتحامل على نفسه؛ حتى وقف عند كل جماعة، واختلط بكل زمر، وسمع من تراتيل المنشدين ما أثمله وأشجاه، ثم دلف إلى جماعة المتساجلين، وكانوا خليطاً من ثقيف وقريش، فشاقه بيانهم المرتجل على طريقتهم، وراقته العذوبة تسيل بها معانيهم.
صوت من ثقيف:
أيامنا تأتي لها فوجات
ما أعرف لها خبلاً ومجنونةْ
واللّي حصل في أيامنا صكات
تلقى قرون إبليس مقرونةْ
صوت من قريش:
تقليبها من قَلْبَة النيات
شِي متباينة وشِي مدفونةْ
وإذا اخزِيت إبليس نام وبات
وإذا كسرت النفس ملعونةْ
وطال تجواله، فنال منه التعب، فاستأنف عودته إلى مكان الميعاد، فافترش الرمل ودار بعينيه إلى ناحية القمر لا يرينُ عنه، وكان قد سفر نصفه وغاب النصف الآخر في غمامة دكناء.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :303  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 27 من 186
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج