شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(13)
كانت الشمس قد أوفت على الاستواء، ترسل أشعتها من خلال الغمائم المتكاثفة فاترة هزيلة؛ وكانت رؤوس الجبال على جنبات الوادي تبدو حالكة السواد، طاعنة في الفضاء بقرونها في خيلاء وزهو.
وكنت ترى في زاوية من الأفق، من ناحية الشرق، بقعاً أرجوانية تلمع في صفحة السماء.. كأنها بحيرات صغيرة تصطفق فيها أمواج من الدم.
وكان الدخان الساطع من المنازل الريفية المتناثرة فوق النجود الصغيرة المجللة بأشجار التوت والأثل، يتلوّى قبل أن يسامت رؤوس الجبال، وتنعقد حواشيه في غمائم رقيقة شفافة، وكانت النغاري تثب وتنتقل مغردة في ثنايا الوادي بين شطآن وخلجان تتعرج، وتندغم، وتنبسط، تكتنفها عرائش العنب وأشجار الرمان والخوخ، بينما تنحدر أمواج من السيل في أخاديد كأنها الشلالات، ثم تعرج وتلتوي بين الغياض والبساتين والمروج المخضلة.
وكان سالم ينصت في إطراقة المأخوذ بروعة حديثها، ويقدم لها كوباً من اللبن الطازج الذي أعدَّته لهما العجوز.
قال وقد اعتدل في جلسته:
- إنَّكِ أوفيتِ البحث ولم تتركي فيه منفذاً لمعترض.
- أبداً.. فالبحث في مكانه لم أستوفِ إلاّ جانباً فيه، وثمة جانب آخر أحق من سابقه بالتفنيد والشرح.. إن ما أسلفته لك مصبوباً جميعه على قواعد سنّها للحياة عقلاء كانت كل أخطائهم لا تتجاوز أنهم متأثرون بعوامل محيطهم، ولكن ما رأيك في طغمة من أصحاب الرأي الفطير، والفكرة الفاشلة تناولوا الحياة بحكم منازلهم فيها من الجاه أو السلطة أو الثراء. فأوسعوها سنناً وقواعد، وخلقوا لنا فيها أرتالاً من النظم والفروض، تغطي آلاف المرات على ما وضعت الحكمة وسن العقل!!
بكل هذه الأرتال انتظمت الحياة، وأصبحت بمرور الحقوب والأجيال قواعد لها حكمها، ولها قداستها وحرمتها، رغم ما فيها من آراء خطيرة.. أصبحت، بحكم انتظامها في الحياة حقباً طويلة وأجيالاً عدة، نظماً في الحياة وقواعد ثابتة لها، وأصبح الخروج عليها كفراً ومروقاً وجنوناً.
- وما شأن الطغام من هذا النوع بالتشريع يقتحمونه؟
- إنه شأن الناس قبل أن يكون شأن هذه الطغمة منهم.. فالناس في كل زمان جُبلوا على تقدير خاصتهم من أصحاب الجاه والحياة لضعفهم عند أصحاب القوة، فالتمسوا لذلك شتّى وسائل الإغراء والتزلّف، فتركوا مثل هذه المخلوقات تنسى لمجرد سموِّها، وعلو كعبها، عن مستوى الأرض من أنها محاطة بالزيف والكذب وجعلوها تنسى مواهبها، وتلغي عقولها، وتمضي في شططها مطلقة العنان، مقدسة في كل ما ترى، عظيمة في كل ما تشير، نزيهة في كل ما تنطق.
وأغراها التقديس والتعظيم والتنزيه، فأمعنت في الغلو بنفسها، واستغنت عن وظيفة العقل فيها.. فشلَّت حركته، وعطَّلت نشاطه، وانساقت وراء الهوى.. تقتحم صفوف الفلاسفة، وتضرب في بيداء المتكلمين.. تلفظ الكلمة ليرتفع لها ألف صوت، وتقول الرأي فتعنو لها ألوف الجباه.. كلها تأمين وإجلال وتعظيم.
وتواتي الحياة بعض من تواتيه، وتقلب ظهر المجن لمن تقلبه منهم. فيعفي التاريخ ما أعفته الحياة، ويواتي من واتته، فيرهف أقلامه ويشرع صحائفه مفعمة بالكذب، طافحة بالبهتان ويأتي المحررون على أعقابهم ليختاروا لنا من آدابهم (جواهر) كاذبة، ومن عبثهم فلسفة فاشلة، ومن آرائهم الفطيرة قواعد ثابتة، لا تلبث أن تنتظمها الحياة وتحتضنها الأجيال، فتمسح عليها من قداستها، ويتوارثها الأحفاد كما يتوارثون كل مقدّس لا يخرج عليه إلاّ مارق أو مجنون!!
- لشد ما تتجنين على التاريخ!
- في سبيل الشيطان.. ألوف المجلدات ممّا زوَّر التاريخ وزيَّف، بجانب القليل الذي كان أميناً في نقله، نزيهاً في سرده.
- تُرى ماذا كان يفعل التاريخ (بهتْلر) لو أن الحياة شايعته يوماً واحداً على أبواب العلمين؟ وتركت جيوشه تمضي في فتوحها إلى نهاية الحرب؟ أتظن صفحة واحدة ممّا تخرجه مطابع أوروبا كانت تكون خالية من ذكره، والثناء عليه بشتّى النعوت والألقاب؟؟
مع هذا فليس هو اليوم أكثر من مجموعة مثالب، سيظل التاريخ يتلكأ في ترديدها، حتى يغمرها النسيان فيطويها كما تطوي اللجة أقذار الشاطىء!!
- هو ذاك. ولست على هذا القياس بمجنونة ولكن..
- ولكن تريد أن لا يتشعّب الحديث، وأن لا يخرج عن غَرضك. وعندي صبابة في البحث لم أتلمظها بعد. رأيت العظمة والتأليه في بعض بلاد الأمبراطوريات يأخذ أشكالاً.. يكفي لتعطيل ملكة عقلك بصفتك إنساناً أن تنحدر من بيت مجيد هناك. يحتضنك الدلال وأنت في مهدك طفل غرير، فلم تبدُ منك صرخة حتى تجف الأفئدة، وتهلع القلوب، وتجثو حولك الرؤوس عانية خاشعة. وتدرج بك الأيام، فتدلج إلى حديقة المنزل تشارك حاشيتك من صغار الفلاحين وخدم البيت لعبهم، فيشعرونك أنهم سوائم أعدت لإزجاء فراغك على ظهورهم إن شئت، أو أعناقهم، فيدخل في روعك أنهم من غير طينتك وأنك من غير هذا النوع.
وتلاحقك الأيام فتلحقها وأنت على جلد نمر في عربتك الجديدة، آخذاً طريقك إلى ما سمّاه الناس (( مدرسة ))، وسمّيتها أنت مملكة جديدة، بعد مملكة البيت، تعنو لمجدك، وتحنو على رغباتك.
وسط هذا الدَّل، وبين هذه الغفلة والانحلال التربوي. تقضي سني دراستك، فتمضي المدرسة بنظمها وتعليمها وما توجهه وتغرسه في ناشئتها. تمضي كلها في وادٍ؛ وتمضي أنت ودلّك وانحلالك في وادٍ آخر غير واديها، وتتخرج فيها وأنت أكثر غفلة ممّا دخلت، وأشد انحلالاً في تربيتك وأخلاقك وجهازك العصبي ممّا كنت. تخرج منها لتتسلم مقاليد وجاهتك، وصكوك أملاك آبائك، وتتقبل تهاني المزيفين، وكذب المخادعين من حاشيتك وأتباعك وعُبّاد جاهك وأموالك، فلا تدري أصفقتك خاسرة بما تدفعه مِن عقلك ومآلك ثمناً لما يحوط من خداع؟ ولكن الذي أدريه أنا ويدريه كل عاقل يومها في غير هذه الطبقة، أن الخسارة خسارة البلاد بما فقدته من حصافة أبنائها، ورشدهم وأموالهم، وأن الربح ربح الأجنبي الواقف عن كثب يرقب الأمور، ليضع آخر مسمار في نعش الأمة والدولة. ولقد كان!
كان ذلك يا صاحبي.. فقد جاء يوم كانت فيه رؤوس الدولة من هذه الأعصاب المحلولة. عنت البلاد لها، ووضعت مقدراتها بين يديها، فعمدت إلى شهواتها تشبعها من معين ظنته لا ينضب، وإلى رعونتها تدق بها كل عنق مفكر، وإلى طيشها توزعه أوامر (همايونية) على الشعب لا ترعى فيها عدلاً ولا مساواة وتقرِّب به كل ختّال كفور.
وحالت الخديعة، وحال الرياء دون استجلاء الموقف على حقيقته قبل فوات الأوان. اضطلع بذلك نفر من عبيد الأموال أخذوا على عاتقهم تلبيس الباطل وتزيينه وإبرازه حقاً صراحاً، وصارت الأقلام تؤيد النفاق، وتابعها الشعراء والأدباء كلهم يؤيدون المصلحة الخاصة ويشايعون المال. وجاء التاريخ فسن سننهم وترسم خطواتهم، فالتبس الأمر على أصحاب الأمر، وغدوا على شهواتهم يصبحون، وفي رعونتهم وطيشهم يعمهون!!
وكتب تركي يومها في صحيفة نمسوية ينعى هذه الغفلة، ويجدف على ترفيه أصحابها ويسأل: ((أليس الأخلق بحبيسي قصورهم العالية أن يتركوا الأقلام غير المأجورة أن تصر بما تشاء، إلى جانب المأجورة توسيعاً وتنفيساً للصدور؟؟)).
إنهم إن فعلوا ذلك أعانوا أنفسهم في محابسهم، وهيأوا لها جواً طلقاً يتنسمون فيه ما طاب لرئاتهم أو صدورهم أن تتنسم، وتكشفت أجواء قد يطيب لهم جدتها وطراءتها وليس ذلك بضارهم شيئاً إلاّ بإذن الله.
فآل أمره إلى شبه محاكم التفتيش، فحكمت عليهم قبل أن تحكم لهم. لأنها أدانته فأسكتتْه نهائياً، وأرضتهم فأفتنتهم في دينهم ودنياهم.
ولم يربح في الحالين إلاّ عدوٌّ يترصد الباسفور. مهيئاً دواليبه لتطحن البلاد في أول فرصة مناسبة من الحدود إلى الحدود. وقد فعل.
- وتطحنينني أنتِ كأنني عدو قاهر، ولم أكن طائشاً في حياتي أو أرعن!!
- ولكن، ربما كنت مجنونة!.. ما أظنك إلاّ أن تبحث عن أدلة جنوني من تصرفاتي.. إن كنت كذلك.. فأنت تتعرض لما يتعرض له كل عاقل وقع في شراك مجنون!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :326  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 18 من 186
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج