شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
وأهمَلْناهم.. فَأعْددناهم للسّجُون
كنتُ في حديث بالأمس مع صاحب لي.. تناولنا فيه رجال المهن عندنا، وما ينالهم إذا ضعفوا عن الكسب من هوان وذلة.
قال صاحبي: لقد رأيت بعيني رجالاً قضوا حياتهم في أعمال الطين والحجر حتى إذا شاخوا ودقت عظامهم وعجزوا عن الكسب راحوا يلتمسون العون من الناس، ويسألونهم المساعدة.
وقد ترفَّق صاحبي في الوصف لأني أعلم أن كثيراً من أصحاب المِهَن يضطرون إلى استعطاء الناس، وسؤالهم القوت إذا عجزوا عن التكسُّب لضعف أو مرض.. وهو ذنب لم يقترفه إلاّ أصحاب المِهَن أنفسهم فقد قضوا زمانهم جيلاً بعد جيل دون أن يفكر أحدهم فيما يضمن مستقبله وإخوانه، ويؤمن حياتهم فيه.
وضمان المستقبل لا يكلّفهم إلاّ أن يثبتوا وجودهم ضمن نطاق مهنتهم ويعترف بعضهم بحقيقة البعض الآخر.. فيضعوا أيديهم في أيديهم ويتعاونوا على العمل لصالح المهنة، وتأمين أصحابها.
إذا اتفقوا على هذا استطاعوا أن يؤسسوا لهم صندوقاً يسند ضعيفهم، ويقيم عاجزهم، ويتولى أيتامهم، وفقراءهم.. ولا يكلّفهم الصندوق إلاّ قروشاً ضئيلة يفرضها يومياً على كل فرد منهم ما دام كسوباً، قادراً على العمل في حدود تحتملها طاقته، ولا يعجز عن أدائها.
هذه القروش الضئيلة إذا تجمعت في صندوق النقابة لأي مِهنة من المِهن استطاعت الاستمرار، واستطاعت أن تكون مبالغ لها قيمتها، وأثرها الطيب في تكوين الجماعة، واستطاع أصحاب المِهنة أن يتَّخذوها ذخيرة لأيامهم القاسية؛ وأزمانهم.
ونظام الصناديق في المهن يمرن أصحابه على التعاون، ويُدربهم على التنظيم الجماعي، ويساعدهم على التعارف، وتبادل الآراء في المفيد النافع، ويجنبهم كثيراً من العبث الذي يزجّون به أوقاتهم الفارغة.
وهو وسيلة من وسائل المجتمعات الحية يستطيعون أن يهيئوا بواسطتها لهم كياناً له قيمته في الأوساط والمجتمعات على اختلاف طبقاتها.
ولا يُعد صندوق المهنة مُجدياً على أصحابه إلاّ إذا باشرته أيدٍ أمينة موثوق بأمانتها، وأشرفت على حساباته أقلام دقيقة تعرف من نظام التوريدات والنفقات ما تصون به كرامة الصندوق وتحفظ أمواله.
وليس من شك في أن سمعته السليمة، وسمعة القائمين بأعماله في نظافة وشرف ستسهِّل للمحسنين من أبناء الطائفة سبيلهم إلى الإحسان، وتنشِّط فيهم روح البذل، وتدفعهم إلى التسابق والتنافس بِراً بعشيرتهم الأقربين ورجال طائفتهم الأدنين.
ويستطيع الصندوق إذا صِينت أمواله، وضُبطت حساباته، أن يساهم في رقي البلاد فيؤسس مشروعات تُفيد البلاد وتعود عليه بالربح الذي يوسع على أصحابه، ويُغدق عليهم من خيره ومنافعه.
إذا ظفرت كل مهنة بمثل هذا الصندوق على مثل هذا الأساس القوي.. فقد ضمن أصحابها لأنفسهم حياة مؤمَّنة ضد الشيخوخة، والهرم والضعف، والمرض، وضمنوا لأولادهم -إذا تركوهم يتامى- جهة ترعاهم، وتُشرف على مصالحهم وتعليمهم.
حدثني صديقي عن صناديق النقابات في بلد متمدِّن، فقال: كنت أنزل ضيفاً على عائلة من أوساط الناس تتكوّن من أم وجدة وصبية صغار كان أكبرهم يبني قصوراً من الطين على ضفاف البحيرة، وقد لاحظت أنهم ميسورو العيش رغم فقد عائلهم فاستغربت هذا.. ولكن عجبي لم يطل عندما علمت أن والدهم كان يشتغل في السمكرة. فلما تُوفي عن يتامى وأمهم وجدتهم كفل صندوق نقابته عيش العائلة بموجب نظام الصندوق.. وبذلك أغناهم عن الحاجة وذل السؤال.
وأخبرتني الأم أن الصندوق سيظل كافلاً لهم حتى يستوي أولاد الابن الأكبر ويقوى على تحمل العبء تحت إشراف المهيمنين على النقابة.
هذه صورة مصغرة عن الحياة المضمونة التي تكفلها صناديق المهن في البلاد المتمدنة.. ولست أُغالي إذا قلت إن مثل هذه العائلة لا مندوحة لها من ذل السؤال وآلام الفاقة لو لم ترعها نظم ممتازة في بلد راقٍ حفي بنظام المهنة.
كم من عمال روَّعنا منظرهم وهم يمدّون أيديهم بالسؤال بعد أن بلغوا السن التي عجزوا فيها عن التكسُّب! فلم يشفق عليهم أناس استفادوا من شبابهم يوم كانوا أقوياء، ولم تهتم بهم بيوت غنية استفادت من سواعدهم لغناها، وبنت على كواهلهم كثيراً من أمجادها.
وكم من يتامى شوهدوا يذرعون الطرقات أسمالاً تؤلم الفؤاد، وتحزُّ في النفس.. وربما نشأوا مشرّدين ترهقهم الفاقه، ويسيء الحرمان سلوكهم فيُسيئون إلى بلادهم أكثر مما يُسيئها المجرم العاتي، ويصبحون عالة على أمنها ورقيِّها.. ولا ذنب لهم أو لبلادهم إلاّ أنهم فقدوا آباءهم العاملين ففقدوا بذلك مَن يعولهم، ويشرف على تهذيبهم، وتعليمهم، ولم يحفل بهم المجتمع، فتركهم لحرمانهم.. يقاسون من ذل الحاجة وسوء السلوك ما يؤهِّلهم للخطر ويعدُّهم للسجون.
وليس بين هؤلاء وبين استقامتهم كجنود نافعين في الوطن إلاّ أن يكفلهم المجتمع، ويتيح لهم حقوقهم في الحياة في صور إعانات ينظِّمها صندوق المهنة في ترتيب يكفل لهم العيش، والتعليم الذي يقيم أودهم.
ليس منّا إلاّ من يعرف جيراناً له أقارب أو أصهاراً يكابدون من أمراضهم أو ضعفهم ما يُبكي الفؤاد القاسي، وقد كانوا قبل ذلك عاملين في حقل الحياة، قادرين على التكسّب والربح.. حتى إذا امتص المجتمع دماءهم، واستنفد حيويتهم.. تركهم منسيين في زواياهم يستدرّون شفقة المتصدِّقين، ويسألونهم في إلحاح وانكسار.
فما يمنعنا ونحن أمام هذه المآسي المفجعة أن نعتبر بما كان، وأن نستفيد به كدرس عملي يفتح عيوننا على مبلغ ما تعانيه أيادينا العاملة... فنعقد العزم ابتداء من يومنا هذا على تأسيس صندوق المهنة، وتنظيم موارده بصورة تكفل إنقاذ هذه الطوائف المظلومة، وتُتيح لها نصيبها في الحياة السعيدة.
ما يمنعنا أن يقوم في كل مهنة مفكر واحد يدعو إلى سَنّ هذا النظام فيجمع حوله من يعتدُّ بإخلاصهم ومروءتهم، فلا تنفضُّ جلسته الأولى بهم حتى يكونوا قد أعدّوا طلب الترخيص بذلك من الحكومة، وسيجدون من الحكومة ما يشجعهم على مثل هذه الخطوة التي يضعون بها أقوى لبنة في صرح هذا التقدم.
أيُصدق مستمع أنه لا يوجد إلى اليوم بين المِهن الشائعة في بلادنا -وهي كثيرة- مهنة واحدة أدركت حاجتها إلى تأسيس مثل هذا الصندوق، وشرعت في العمل له رغم أن بين رجال المهن عندنا من تتَّسع آفاقه لأبعد من هذا المرمى، وبينهم من يفهم من حقائق الحياة الراقية ما لا يفهمه رجال من أمثالي؟
أيُصدق مستمع أن بيننا من المِهن كمهنة الطوافة ما يربو عدد أفرادها على الألوف، وأن من رجالها مثقَّفين تفخر بهم المجامع، ومجربين لا يقصر مداهم عن فهم حقائق الحياة، ومع هذا فإن مهنتهم كانت ولا تزال معرَّضة لأفظع المآسي شدة وألماً.. يتجلّى ذلك في عدد كبير منهم أدركه اليأس فحال دون نشاطه فلم تشفق مهنته على عجزه، ولم تشاركه الكفاح لعيشه.. ولو حظيت المهنة بصندوق يجمع فتات أغنيائها كقرض لازب لاستطاع الصندوق المقروض أن يقيم أود الطائفة، وأن يُعين فقيرها ويواسي محرومها؟
نعم إن لدى المطوّفين ما يشبه هذا الصندوق إلاّ أن موارده أضعف من أن تقوم بأود الطائفة، وتكفل شؤونهم الحيوية.. إنه صندوق محدود لا يقوى على شيء إلاّ أن يمد يده إلى الفقير بما تمده يد المتصدِّق في بضع ريالات لا تغني عن فقر، ولا تجدي إلاّ لأكلة دسمة تتمتع بها عائلته الفقيرة في يوم واحد.
إنه ذنب الصندوق، فإنه لم يؤسس يوم أُسِّس ليكفل تبعات لها قيمتها بين المطوّفين.. ولو فعل لألزم الطائفة مبالغ ذات قيمة فعّالة تترك أثرها في كيان الطائفة.. فتُعين الفقير على نفقاته السنوية، وتساعد الشاب على تأسيس مجال يضمن له الربح، وتقدم للأرامل والأيتام ما يغنيهم عن سؤال الناس، ويُهيِّئهم للدراسة والتعليم، والحياة الراقية الشريفة.
ولا يستوي لمثل هذا الصندوق أن ينهض بمثل هذه الأعباء، ما لم يراجع المؤسِّسون أو خلفاؤهم عليه نظام تأسيسه من جديد فيفرضوا له الأتاوات المُجدِية التي تُعِدُّه لتحمُّل الأعباء الثقيلة التي تواجه طائفته، ويُنظموا نفقاته في بنود واضحة تتكفَّل برواتب مستديمة تساعد العائلات الفقيرة، ويتسع اختصاصه إلى الإشراف على يتامى الطائفة، وتعليمهم، وتوجيههم، ولا تتوانى عن مساعدة شبابهم بالسُّلف أو الإعانات التي تفتح أمامهم مجال العمل المجدي.
إذا استطاعت مثل هذه الطائفة أن تؤسِّس مثل هذا النظام واستطاع أصحاب المهن غيرها أن يحذوا حذوها، فإننا سنُثبِت بأمثال هذه الخطوات أن نهوضنا الجديد نهوض عملي له ما بعده.. فهلموا نجرؤ على مثل هذه الخطوة..
ودعونا.. نمشِ!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :330  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 14 من 114
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور سليمان بن عبد الرحمن الذييب

المتخصص في دراسة النقوش النبطية والآرامية، له 20 مؤلفاً في الآثار السعودية، 24 كتابا مترجماً، و7 مؤلفات بالانجليزية.