شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الطبقات العاملة في الإسلام
من أروع ما يدهش له متتبع الآثار في الدولة الإسلامية القديمة نشاط الهيئات الدينية في خدمة علومها من سائر الأصناف.
ولا يعوزنا الدليل الملموس على هذا فإن نظرة واحدة إلى كتب التراجم المطولة تضع أيدينا على ألوان من الجهود الجبارة التي كان رجال السلف يبذلونها في سبيل استقرائهم لأحوال رجال الحديث وشرح المميزات التي أهّلتهم للرواية والحفظ.
لم يكن سبيل أصحاب التراجم سهلاً ميسوراً فقد انطوى جيل النبوة عن مئات الألوف ممن عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم وصحبوه وحفظوا عنه ثم تلتهم مئات الألوف كانوا معنيين بالنقل عمن سبقهم ليبلغوه إلى من خلفهم طبقة بعد طبقة وجيلاً بعد جيل.
فلما ندب أصحاب التراجم أنفسهم فيما بعد لتحري حقيقة المحافظين والناقلين كان عليهم أن يدرسوا أحوال هؤلاء فيضبطوا أنسابهم وتواريخ ميلادهم وأن يعنوا بأحوال كل شخص على حدة عناية تفرز حقائقه العلمية والأخلاقية والعقلية وتعين درجته من الجرح والتعديل ليستوي حكمهم على حقيقة ما نقل أو روي فاقتضاهم ذلك جهوداً عديمة النظير.
كان بعضهم يسهر الليالي الطويلة بين التنقيب والبحث وتكلف بعضهم الأسفار الشاقة بين الأقاليم النائية والبوادي البعيدة سعياً وراء الكشف عن حقائق الرجال من رواة الحديث وتعقيباً على خلة سمعوها عن أحدهم لها قيمتها في تجريحه أو تعديله.
تلك مشاق لم يسبقوا إليها في تأريخ الأمم وهي عناية لم تثبت لغيرهم في جميع الأديان والنحل.
استطاع المجدون من هذا النوع بما بذلوا من راحتهم وأوقاتهم أن يغربلوا ما تناقل إليهم من ألوان الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غربلة تعزز في درجاتها وتعطيها قيمتها من الصحة فابتكروا لها من الألقاب والكنى ما يعين حقيقتها فمن حديث صحيح إلى حسن إلى مرسل إلى غير ذلك من ألقاب تواضعوا عليها ليتفقوا على درجاتها من الكمال.
وتصدى بعضهم لأكثر من هذا فتعقبوا الأحاديث المختلفة وتفننوا في دراسة وجوه النقص فيها وبذلوا الكثير في استقصاء مواطن الضعف فيهم وإعلان ذلك في براءة ووضوح أفادت المشتغلين بعلم الحديث وساعدتهم على تصنيف الجيد والرديء.
وجاء المجدون من رجال اللغة العربية يقتفون آثار رجال الحديث ويقلدونهم في استقصاء رواة مفردات اللغة ويغربلون رواياتها ويبحثون عن رجال السند المتصل في الرواية الواحدة سعياً وراء الكشف عن حقيقة الناقل وتعيين درجته من الجرح أو التعديل.
كان المعنيون بهذا لا يبخلون بجهودهم في سبيل فنهم فرحل أكثرهم إلى الأطراف البعيدة في البادية وتوغلوا إلى منازل العرب على حدود الصحراء ليناقشوهم في كلمة مفردة أو لفظ مركب وكانوا يتعقبون رواة الشعر مهما نأت بلادهم ليحققوا أصول المفردات ويبحثوا عن رجال السند من رواتها كما فعل أصحاب الحديث.
وأغرم الخلفاء والأمراء بهذا اللون من الفن فكانوا يكلفون روادهم أو عمالهم أن ينقلوا إليهم أخبار الرواة أو يرحلوا إلى عواصمهم شخصاً بعينه إذا ظنوه مصدراً لرواية بيت من الشعر أو كلمة من مفردات اللغة فيطوي الرواية آلاف الأميال تلبية لنداء الخليفة وسخاء بما عنده من منقول وكانت العطايا تجزل لهؤلاء الملبين في أرقام خيالية تدل على مبلغ عناية الخلفاء بمركز اللغة العربية منهم.
وحذا عشاق النحو حذو هؤلاء وأولئكم فصنفوا أنفسهم في مذاهب قلدوا فيها البصريين أو الكوفيين أو غيرهم من أعلام النحو وراحوا في سبيل ذلك يتبارون فكانت كل طريقة تؤيد مذهبها وكل مذهب يأبى إلا أن يحقق قواعد ما رأى مستنداً على ما نقله من ثقاة العرب وما درسه من قواعد لسانهم ولم يدخروا جهداً في سبيل ما تعشقوا فقد ساهر بعضهم نجوم الليل مكباً على ما جمعه من فنون القول ونشط بعضهم للسعي وراء ما يحقق من أطراف الجزيرة إلى أطرافها.
ومضى الفقهاء بعد هذا مضي رجال الحديث واللغة والنحو فكرسوا جهودهم لاستنباط أمهات المسائل من الكتاب والسنة واضطرتهم مذاهب التفسير لما استنبطوا أن يتعقبوا رجال اللغة وأصحاب القول من النحويين ليستنتجوا ما يصح استنتاجه عندهم ويبينوا ما أدى إليه اجتهادهم على أسس صحيحة من لغة العرب وقواعدهم في الإعراب حتى برز منهم الفقهاء الأفذاذ والقضاة اللامعون وأصحاب التحقيق العلمي من مختلف الطبقات.
واتسعت آفاق النشاط في هذه الحقبة الطويلة من تأريخ الإسلام فامتدت عدواه إلى رجال المغازي والسير ومؤلفي التأريخ ورواة القصص من يجود بنفسه ويتبرع براحته في سبيل دراسة غزوة عن غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم أو تحقيق حالة من حالاتها تتعلق بتحقيق موقعها الجغرافي أو التأريخي وقد يتسع نشاطه فيأبى إلا أن يتعقب أسماء المشهورين من رجالها أو فرسانها فيترجم حياتهم ويسرد أنسابهم ويدرس مواطن القوة أو الضعف فيهم ثم يعلق على هذا بما تراءى له من أسباب وما ترتب على ذلك من نتائج.
ويتسع النشاط إلى أبعد من هذا فإذا أصحابها الحالون من جوابي الآفاق يتأبطون كراريسهم وينيطون محابرهم وأقلامهم إلى مواقع النطاق من أوساطهم ليسيحوا في أقاليم الأرض من مشرقها إلى مغربها ويطئوا قاراتها وأقسامها من التخوم ليدرسوا أصول البشر وأنواعها وألوانها ولغاتها ويتعرفوا عاداتها ودياناتها وطرائق حياتها ثم يسجلوا ما شاهدوه في فصول مبوبة لها قيمتها إلى اليوم عند علماء الجغرافيا وأساطين التاريخ ورجال البحث من المتخصصين في علوم الاجتماع.
وتمتد عدوى النشاط إلى طبقات أخرى من صفوف المسلمين فإذا بينهم من رجال الفلك من يعتد بجهوده في أحدث بيئة فلكية تعيش اليوم بيننا، وإذا بينهم من رجال التنجيم من ترك آثاراً لا يضاهيها مثلها، وبينهم من رجال الهندسة من شهدت قواعده بكعبه العالي، وبينهم من رجال الطب والصيدلة من بز أساتذته من اليونان والفرس وأدخل على ما ورث من مذاهب الطب طرائق لا يصدقها عقل.
وبينهم من رجال الوزارة والكتابة والحساب من تفنن وأتقن واخترع من وسائل الفكر والخيال والإبداع ما تدل عليه مخلفاتهم وتشهد به آثار أقلامهم.
لسنا عظاميين نريد أن نتكل على فخارنا بأمثال هؤلاء الأجداد فتلك خلال العاجزين.. إنما نحن هنا لنثير أمثال هذه الذكريات أملاً في أن نشحذ الهمم ونهيئها للعمل فيما يليق بها على ضوء هذا المجد الأثيل.
إننا هنا لنقنع الجاحدين ممن تنكروا لآبائهم وجهلوا خط أسلافهم من ألوان المجد وحسبوا أن أمتهم لا تملك من المؤهلات ما يعدها لمواجهة الحياة التي يعيشها معاصرونا اليوم.
إننا نريد أن نقول لأمثال هؤلاء إن أرضاً أنبتت قبل اليوم أمثال هؤلاء الروّاد لا يمكن أن تبخل اليوم بأمثالهم إذا صدقت العزائم وصحت النوايا.
إننا لا نبتدع جديداً ونحن نتطلع إلى حياة أفضل فقد أثبتت تجارب القدامى من أمتنا أن في خلالنا ما يهيئنا لأفضل ألوان الحياة وأسعدها.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :563  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 20 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتورة مها بنت عبد الله المنيف

المدير التنفيذي لبرنامج الأمان الأسري الوطني للوقاية من العنف والإيذاء والمستشارة غير متفرغة في مجلس الشورى والمستشارة الإقليمية للجمعية الدولية للوقاية من إيذاء وإهمال الطفل الخبيرة الدولية في مجال الوقاية من العنف والإصابات لمنطقة الشرق الأوسط في منظمة الصحة العالمية، كرمها الرئيس أوباما مؤخراً بجائزة أشجع امرأة في العالم لعام 2014م.