شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(13)
حظ معاكس
وأعلنتني أمي في ذات أمسية أن (الجنيهات) في العلبة أوشكت على النفاد، وأن الجنيه الذي ستنقدني إياه اليوم سيكون آخر جنيه يمكنها أن تقدمه إلي.
كان صوتها هادئاً رزيناً، وكانت كلماتها تؤدي معاني الصرامة والجد أكثر مما تؤديه من معان أخرى، فشعرت أن نبرات صوتها تلمس وتراً خفياً في أعماقي، وأن مشاعري بدأت تستيقظ على هول المفاجأة، وتحس بأحاسيس أمي.
وتناهى إلى سمعي صوت (ستي) من مصلاّها في غرفة أخرى وهي تبتهل في انكسار وخشوع -(إلهي يهديك يا أحمد يا ولد جواهر، ولا يشمِّت فينا عدو) فكان لابتهالها أثر السحر في إحساسي المتبلد، شعرت على أثره أنني أصحو من غفوة، وأن ضميري يهمس في سري: ((ماذا بعد هذا الجنيه يا أحمد؟؟ وهل في استطاعتك أن تشمخ بأنفك بين رفاقك إذا أعوزك النقد، وأصبحت خالي الكيس؟؟ وهل بين هؤلاء الرفاق من يتطوع بنجدتك إذا ألمت بك الحاجة، أو يرفع من هامتك إذا أذلك الفقر))؟؟.
أفكار ساورتني وأيقظت مواطن الإحساس من نفسي.. رأيتني بعدها أقرر شيئاً، وأنشط لتنفيذ ما قررت.
بكرت في صبيحة اليوم التالي إلى سوق الجملة للخضار والفاكهة (الحلقة) على أمل أن أضع الجنيه في بضائع بالجملة أستطيع توزيعها فيما بعد مفرقة فلم أجد زبوناً لما اشتريت إلا بأقل مما دفعت، فلم أيأس، وعاودت الكرة يوماً بعد يوم: فلم يكن حظي بأوفر منه في اليوم الأول.
واستأنفت نشاطي في سوق (الحراج) فشعرت أن (الجنيه) رأسمالي الوحيد يأبى إلا أن يفشل في التجربة الثانية كما فشل في التجربة الأولى.
وقيل لي أنك لو حاولت تجربة نفسك في بيع (الغاز) لكان أضمن لرأسمالك الصغير فجربته فأبى الحظ أن يواتيني في بيعه، ولاحظت أن الزبائن تزدحم على غيري بجواري دون أن تشعر بوجودي إلا في اللحظات القليلة التي تنفد فيها بضاعة هذا الغير.
وإني لأذكر الساعة تلك الأيام التي آلمتني فيها الصدف السيئة، وأذاقتني من عذابها ألواناً، وأسائل نفسي أكان ذلك هو الحظ العاثر بمعناه الشائع بين الناس؟ أم أن في الأمر مصادفة لا يربطها بخرافة الحظ رابط؟
ويسلمني هذا التفكير إلى البحث فيما قيل عن الحظ فأسائل نفسي: أهناك شيء يقال له حظ؟؟ أم هي تعلُّلات تخيّلها الفاشلون كتسلية يسرّون بها عن أنفسهم المثقلة بهموم الحياة.
الواقع أن (ستي) كأستاذة لها قيمتها في تربيتي الأولى كانت لا ترهق تفكيرها بمثل هذه الشكوك والمحاولات.. فقد كان الحظ في نظرها حقيقة لا محل للجدل فيها، وكانت تستدل على وجوده بآلاف الأمثال الناطقة في حياة من يحيط بها من المحظوظين والبؤساء.
وكان لا يكفيها أن تضيفه إلى بند المعنويات في الحياة، بل تجرؤ على اعتباره كائناً حياً، أو ما يشبه الحي؛ لأنه كان يصادفها في الكثير من أحلامها فتتعرف عليه وتفهم من أوضاعه في أيامها كل ما تريد أن تفهمه، وكانت تقول: إنه يبدو لبعض الرائين في أحلامهم في صورة عبد، وفي ذلك ما يدل على اضطلاعه بخدماتهم؛ كما يبدو أحياناً في صورة سيد مطاع.. وفي ذلك ما يدل على شقائهم بخدماتهم له.
كل هذه الخرافات كانت في نظر (ستي) حقائق من العبث أن تجادل فيها. فكنا لا نملك أمامها إلا التسليم بما في التسليم من نعومة بال وطمأنينة.
أما اليوم وقد فقدنا التسليم، واتسعت آفاقنا باتساع مداركنا.. فإننا نعاني من اضطراب البحث، ودقة أسراره ما حرمنا الطمأنينة، ونعمة التسليم.
نحن اليوم أمام مغيبات في الكون وأحاجٍ لا ينتظمها قانون. فهل نحيل فكرة (الحظ) إلى واحد من أنواعها؟ أم نتريث، ونأبى إلا أن نسميه خرافة فيتسع الخرق؛ ويتعين أن يسمى كل ما يخرج على نظام الكون خرافة؟
قد يصادفني إنسان ثقيل الظل فأعجز عن تتبع أسباب الثقل فيه، وقد يغريني التتبع بدراسة أخلاقه؛ لعلّي أجد فيها عيباً يبرر ثقل الظل الذي أشعر به فأجد أن عيوبه قد لا تزيد عن عيوب زيد وقد يكون هذا الزيد خفيف الظل جميل الروح رغم ما في أخلاقه من عيوب فمن أين كان الثقل في الظل؟ وكيف جاءت الخفة في الروح؟.. لعلها أسرار روحية دقيقة تتعذر دراستها كما تتعذر دراسة حقيقة الحظ؟ فهل أسلم بهذا أم أنكره؟ أم أواصل بحثي فيما يعجز عنه البحث؟؟
رحم الله ستي فقد كانت عقليَّتها المحدودة أدعى إلى الطمأنينة ونعومة البال!!
ولازمني سوء الحظ، أو صدفه السيئة كلما احترفت مهنة، أو حاولت عملاً حتى رق لحالي أحد أقربائي فهيأ لي دكانة صغيرة ومنحني قليلاً من المال، ونصحني أن أجمعه إلى ما بقي عندي من أنقاض الجنيه السابق.. فأنظم به بقالة محدودة؛ عساني أستطيع النجاح النسبي في ما يكون.
وبدت الفكرة وجيهة في نظري بعد أن يئست من محاولاتي السابقة، وبعد أن سئمت من مجاراة رفاقي.. الذين كنت أتعشق (شقاوتهم)، وضلال حياتهم.
بدت الفكرة وجيهة في نظري، لأني أملت أن أستقر في مقعد مقيم، وأن أربط حياتي بمستقبل الدكان، وألهو بأعماله عن جميع ألوان العبث والطيش؛ التي كانت تربطني برفقة السوء، في الحارة.
هيأت الدكان، وزوّدته بما أملك من إمكانيات، ورحت أدعو الله في سري أن يجعله نقطة فاصلة في حياتي، ولكن الله جلت عظمته كان قد أراد لشأني غير ما أريد، وهيأني لغير ما أعددت فلم تبدر علامة لنجاح الدكان، ولم أجد من إقبال الزبون ما يغريني بالثبات، أو يحملني على الاستمرار.
وكنت لا أميل إلى إفشاء أسراري. ولا يعجبني شيء ما يعجبني أن أجالد، وأن أتجمل أمام من يهمه أمري من عدو أو صديق.. فكنت أبدو أمام رفاقي القدامى تويجراً لا يعاكسه النجاح، وأبدو أمام ستي، وأمي رجلاً يخطو في مدارج الظفر، أما قريبي الذي وجهني إلى ما كان. فكان لا يعرف من حقائقي إلا ما يستحق التقدير والإكبار.
وكنت أقاسي في غمرة المجالدة والتحمل على هذا النحو ما لا يقوى على احتماله إنسان.
وكانت مكة تحتفل بعيد (المحمل) المصري والشامي فكان يحلو لي العبث بحراس المحمل ومشاكسة الحجاج الذين يتبركون به وكنت أقص طرفاً من أعمالي على ستي فتزجرني لأن المحمل عندها مركب السيدة فاطمة الزهراء فلا ينفعني الزجر.
كان المحمل كناية عن هودج تعلوه قبة عالية في شكل هرمي وكانت حكومة مصر ترسله سنوياً كرمز لقافلة الحج المصري فيدخل مكة على ظهر جمل خاص به تتدلى عليه الستائر المزركشة وتعزف أمامه فرقة من الموسيقى العسكرية وأخرى من أصحاب الزمر البلدي فتحتفي مكة باستقباله احتفالاً بهيجاً حتى إذا انتهى إلى باب المسجد طيف به عدة مرات في المسعى مما يلي باب علي ثم أنيخ الجمل ونقل المحمل إلى زاوية من زوايا المسجد ليبقى تحت رعاية حراسه إلى أن يحين موعد سفر الحجاج وكان أكثر الحجاج يتبركون به كأي شيء مزركش تعلموا الانتفاع من بركاته الموهومة.
وكان يحلو لي وبعض العيال من أمثالي أن نقلد المحمل فنعمد إلى بعض العصي نربطها من أحد طرفيها حتى تستقيم في شكل هرمي ثم نكسوه شالاً مزركشاً نستعيره من أحد بيوتنا ثم نحمله حتى نضعه على كثب من المحمل في المسجد ونحاول دعوة الحجاج ليتبركوا به لأنه محمل ابن فاطمة الزهراء الصغير.
فيصرخ بنا حارس المحمل ويستعدى علينا بعض خدم المسجد فيطردونا ولكننا لا نلبث أن نعاود الكرة فنعيد المحمل إلى مكانه ونستأنف دعوة الحجاج ليتبركوا بمحمل ابن فاطمة الزهراء فيصدقنا بعض السذّج ويضحك منا البعض الآخر ويزجرنا الأكثرون يساعدهم حارس المحمل.. ونظل على هذا حتى يتنبه خدم الحرم فيجلونا بقوة العصا.
كنت أحس شيئاً حاداً في كياني يثير أعصابي، ويدفعني إلى العمل.. عمل أي شيء فيه عبث أو (شقاوة!)، وأنا اليوم لا يعجزني تفسير ما كنت أحسه.. فقد تربيت على الكبت. فلما زال سلطان والدي؛ انفجرت بأقصى ما تنفجر به المواد. ولو عقل أبي -رحمه الله- عواقب الكبت لتركني أنفِّس عن شعوري في مجالَي اللعب بين الصبيان!! ولكن الحزم في معانيه الخاصة عند أبي كان يحرمني حقوقي في المرح، ويهيئني بعد الحرمان الطويل للانفجار!! فليت الآباء في كل زمان يقدرون أمثال هذه العواقب -إذن لاستغنت بلادنا عن عدد كبير من أشقيائنا ومجرمينا!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :369  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 87 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

عبدالعزيز الرفاعي - صور ومواقف

[الجزء الثاني: أديباً شاعراً وناثراً: 1997]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج