شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
يا رب
"قصة قصيرة"
دلج يهبط (الدّحادير) من جبل الفلق حتى انتهى إلى بيت الشيخ (البناني) فلمح الشيخ يتكفأ في لحيته الوقور مستنداً على عصاه الغليظة وسمعه يترنم: "إلهي أصبحت أشهدك وأشهد ملائكتك بأنك أنت الله".
وضمت به الجادة هيّنةً إلى قرارة المدحي (برحة القرارة)، فلاحت له خيوط الفجر تلمع فيما يحاذي (أبا قبيس) وترسل شعاعها على سطوح المنازل المتزاحمة على أكتاف الروابي البعيدة، وصافح أذنه صوت المؤذن يرسل ترتيله في صوت شجيّ، فندت عن صدره أنّة مكتومة: (يا رب).
إن نداءً حاراً أودعه كلَّ آلامه، وترك نفسه تسيل في جرسه صاعدة إلى مولاه في تبتل ورجاء: (يا رب).
كان شاباً ضاقت به الحياة، واصطلحت عليه أسباب الفقر، وكان المخاض يومها قد فاجأ زوجه المسكينة فلم يجد في بيته ما يوقد ذبالة، فترك زوجه لأمه العجوز وانتقل هارباً يشكو إلى الله في آهات صادرة عن قلب كسير.
وأسلمه الطريق إلى (باب الدّريْبة) من المسجد الحرام فرأى خطواته تسبقه إلى مزدحم الحجاج في عرضة بئر زمزم، وما كاد يخطو بين المزدحمين حتى لمست رجله شيئاً ما كاد يتناوله حتى تبين فيه همياناً محشواً بأوراق النقد فامتدت به يده إلى جيبه في حركة لا شعورية.
ولم تمض ثوانٍ حتى راعه صوت حاج يصرخ في توجع باحثاً عن (هميانه)، ورآه يلطم خده بكلتا يديه فأخذت الشفقة طريقها إلى قلبه ورأى نفسه يتقدم إلى الحاج ليسلمه (الهميان).
تسلم الحاج ضالته في لهفة الملتاع، وما زاد على أن شكره بكلمة مقتضبة، ثم أداره إلى الطريق صفاقة كمن يدله على سبيله فيها دون أن يجزيه درهماً واحداً.
فانطلق إلى مصلاَّه في المسجد بانكسار وهو يناجي مولاه في أعمق أعماق سره: (يا رب).
وعاد إلى بيته يحمل نصف أحزان الأرض، فما انتهى إليه حتى أشرف عليه من نافذتها قريب له معروف بالسعة والجود.. عرف أنه هبط عليهم الساعة من سفر له طويل، وأنه أدرك حاجة من في البيت، فأمدّهم بكل ما يحتاجون، فندت عن صدره آهة مكتومة: (يا رب).
وأخذت شهور العام بعضها برقاب بعض، حتى ندبه قريبه في مهمة له تجارية إلى بعض بلاد الشرق الأوسط، فمضى فيما ندب له حتى حط رحله في إحدى الليالي في بلدة لا يعرف فيها أحداً. وإنه لفي طريقه إلى أحد الفنادق، إذ صادفه مسجد فتذكر أنه لم يؤد مكتوبة العشاء الأخيرة، فتأبط حقيبته ومضى إلى المسجد، وكان قد غادره المصلّون إلاّ شخصين كانا يتناجيان في همس إلى إحدى سواريه فخطا نحو القبلة وشرع يصلّي.
ويبدو أن خشوعه في صلاته المطمئنة لفت أنظار المتهامسين إليه، لأنه ما كاد يسلم من صلاته حتى تقدم أحدهما إليه ليبادره في أسلوب رقيق الحاشية.
- حضرتكم غريب في هذا البلد كما أعتقد.
- نعم.
- لقد تفتحت نفسي لك أول ما رأيتك. ولا عجب فقد تجلّى لي في صلاتك روح التقوى والورع اللتين نفتقدهما في كثير من المصلين لهذا رأيتني أتمنى لو أفاتحك في أمر ذي بال ليس من السهل أن أفاتح فيه إلاّ من كان له مثل هذه السجايا الممتازة.
- أقدر لك حسن ظنك. ويسرني أن أسمع ما عندك.
- ما عندي هو المصلحة الكاملة التي أودّ أن أبرّك بها كهدية يستاهلها مثلك. فما قولك في عروس نجليها لك الليلة لتدخل عليها بكتاب شرعي حتى إذا أخذتم منها ما يأخذ الرجل من زوجه طلقتموها عند الصباح، وغادرتم البلاد بعد أن ننقدكم فوق هذا جعلاً يرضيكم؟
أدهشته المفاجأة، وبدا على محيّاه عجزه عن فهم الغرض من الموضوع، فأوضح الرجل له في صراحة ما خفي عنه وهو يقول:
- إن صديقي هذا الذي تراه مع وقع عليه يمين بات من زوجته، وإننا نرجو حل الإشكال عندك في عقد شرعي يبيح لك من المرأة ما يحللها لزوجها الأول.
استبان له الأمر واضحاً.. علم أنه سيندب للأمر كتيس مستعار، فكبر عليه الأمر، ولكنه ما كاد يرفع رأسه ليعلن الرفض حتى حانت منه التفاتة رأى فيها صاحبه الحاج بطل (الهميان) في عرضة بئر زمزم يوم ربت على كتفه وأداره إلى الطريق في صفاقة كأنما يدله على سبيله فيها دون أن يجزيه درهماً واحداً إذن هو اليوم صاحب الزوجة التي يريد تحليلها. فما يمنعه أن يعطيه وكل المحللين من أمثاله درساً لا ينسى.
شجعه على ما نوى شعوره بأنه أمام غريم (الهميان) بالأمس، لم يتبين شخصه ولم يذكر ما كان من شأنهما في المسجد، فلم يتمالك أن يمد يده إعلاناً بالقبول.
وقبل أن تبزغ تباشير الصباح كان عملاؤه بالأمس يستصرخونه لينجز الطلاق الذي وعد البارحة فخطا نحو صاحبه في هدوء. وأخذ يربت على كتفه ويديره إلى الطريق كمن يدله على سبيله فيها وهو يقول: إنها زوجي يا صاحبي وليس من العقل أن تطلباني طلاق زوجي.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :423  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 85 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعيد عبد الله حارب

الذي رفد المكتبة العربية بستة عشر مؤلفاً في الفكر، والثقافة، والتربية، قادماً خصيصاً للاثنينية من دولة الإمارات العربية المتحدة.